خطبة الجمعة (572) 20 ذي القعدة 1434هـ 27 سبتمبر 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : البخل
الخطبة الثانية : لا حقّ ثمّ لا كلمة – أي حراك مثل هذا الحراك؟ – لا ظلم ولا عنف
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يقدمُه عَدَمٌ ولا وجود، وهو الدّائم الذي لا يعقبه شيء، ولا يعرضه زوال، المتعالِ الذي لا يُحيط به عقلٌ، ولا قلبٌ، ولا يصفه مقال.
محيطٌ بكلّ شيء، متصرِّف في كلّ شيء لأنْ لا شيءَ إلّا من خلقه، ولا بقاءَ له إلا بفيضه، ولا رزقَ في أرض أو سماء إلّا من عطائه، ولا حركة ولا سكون إلا بتدبيره. فكيف تغيب الأشياءُ عن علمه، أم كيف تستقلّ في وجودها عن إرادته؟!
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله عدوَّان إن لم يحترس منهما العبدُ أضلّاه، وأخذا به إلى طريق الهلاك؛ والحراسة منهما يجب أن تكون دائمةً ويقظة فهما لا يُفارقان الإنسان في ليل أو نهار، ولا يتخلَّيان عن الكيد به ما دام لحظةً من لحظات الحياة. عدوان مستكلبان لا يرحمان المرء: النفس الأمّارة بالسّوء والشيطان.
ولا حراسةَ منهما إلا بذكر الله، وتقواه، والمداومة على العمل الصَّالح، وذكر ما بعد الموت، وما ينتظر الإنسانَ لحظة الرحيل وما بعد الرحيل.
فليكن ذكرنا لله دائمًا، وتقوانا منه سبحانه بالغة، وعملنا صالحًا لنكون من هذين العدوّين اللدودين بمنجاة. ولابد لذلك من التوكّل على الله، وطلب هدايته، ونصره في المعركة مع النفس والشيطان؛ فلا حول ولا قوّة إلّا به، ولا هادي من دونه، ولا منقذ سواه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت اتواب الرحيم.
ربّنا الطف بنا وانصرنا على عدوّنا، وعلى النفس الأمّارة بالسّوء، وعلى الشيطان الرجيم، واجعلنا على ذكرٍ دائم لعظمتك، ولا تجعل من حياتنا شيئًا لغير طاعتك، وألزِمنا تقواك يا رؤوف يا رحيم، يا حنّان، يا منّان، يا كريم.
أما بعد فهذه حَلْقة أخرى في الحديث عن البخل:
من أين يأتي البخل؟
الإنسان بما هو إنسان، وحسب طبيعته، وبما أنَّه ليس الموجودَ الكامل، ويعاني في مرتبة وجوده من نقص، فلابد أن تكون لنقصه آثاره.
أمّا التخلّص من كثير من هذه الآثار فبابه مفتوح أمام الإنسان، وطريقه([1]) أن يتحمّل الإنسان مسؤوليته في الأخذ بنفسه وفي مجاهدة دائمة في اتجاه الكامل سبحانه، وأن يجعل مرضاته نُصْبَ عينيه فيما يأتي ويدعُ، ويلتزم المنهج الذي دعا إليه، ولا يغادر الصِّراط الذي دلّ عليه…. أن يتحمّل مسؤوليته في تربية نفسه ما دام حيًّا على هدى ربّه ليخرج من كثير من ضعفه، ويقوى بالقوّة العقلية والقلبية والروحية والإرادية التي تُخلِّصه من كثير من عيبه، وتعطيه التغلُّبَ على عوامل الانحطاط، ومشاقّ الطريق.
وأسبابٌ يرتكبها الإنسان تزيد من ضعفه، وتضاعف من عيوبه، وتحطّ من قدره.
فالبخل يأتي نتيجة لما نحن عليه في طبيعتنا من فقر وضعف، ومن أسباب وإهمالات نرتكبها بإرادتنا. وهكذا هو الشأن في بقية العيوب التي يُعاني منها الإنسان.
يأتينا البخل من مثل الآتي:
1- الطبيعة الإنسانية:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}([2]).
مَنْعُ الإنسان غيره من خيره الذي يناله، وله أن يناله، وبخله بالشيء الذي يملكه هو من طبيعته، وما ينتجه فقره في ذاته، وكونه لا يجد الخير من عند نفسه مما يجعله يخاف على ما في يده، وأن تعضّه الفاقة ببذله، وتفترسه الحاجة الضّارة بفقده.
وفقر الذّات الذي يعرفه الإنسان من نفسه كان لابُدَّ له من معرفته([3])، وتذكيره به حتّى لا يستكبر واهمًا، ولا يستعليَ مغرورًا، ولا ينسى حاجته إلى خالقه ومدبِّره ورازقه.
هذه المعرفة ضرورية له ليعرف موقعه، ولِتدُلّه على الاستمساك برحمة ربّه، والتوسّل إليه بطاعته، والانقياد في كلّ فعله وتركه لإرادته، حيث لا طريق له إلى سعادته غير هذا الطريق، ولا ينقذه توهُّمه الغنى في ذاته، والاستغناءَ عن ربه أن يخطئ شعوره، ويتصوّر أنه ربٌّ لا عبد([4]).
وفي ثقته بالله، واعتماده عليه، واطمئنانه إلى غناه وقدرته ورحمته نجاة له من الوقوع في الشحّ بما يرزقه تبارك وتعالى من رزقه، ويُعطيه الثقة بعدم الفقر بما يصل إليه من عطاء ربّه الذي لا يمكن أن ينقطع عنه لحظة من لحظات حياة قدّرها سبحانه له.
فصار خلق الإنسان مَنُوْعًا بناء على فقره في ذاته وعلمه بهذا الفقر مانعًا من غروره المضلّ له([5])، ومن التلاعب والعبث بالخير الذي يرزقه ربه، غيرَ مانع له من البذل فيما يحسن بذل المال فيه، وفيما يرضى به ربّه إذا استظلّ بظل الإيمان، واهتدى إلى الله سبحانه وأطاعه.
ومثل الآية السابقة هذه الآية {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُورًا}([6]).
لا غنى كان ما كان كما لو ملك الإنسان خزائن رحمة الله([7])، وهو مع ذلك الغنى ولأنه لا يملكه ملكًا ذاتيًّا لا يسمح له فقره الذاتي في حال لا ينظر إلى الله سبحانه ورحمته ويثق به بأن ينسلخ من بخله، ويخرج من خوف فقره.
2- وسوسة الشيطان:
في الطبيعة الإنسانية الفاقدة في ذاتها لأيِّ غنًى ذاتي سبب من أسباب البخل عند الإنسان حين يُترك وطبيعته، ولا يدخل مدرسةَ الإيمان التي تُفعمه بالشعور بالغنى بالله سبحانه.
وطبيعة الإنسان بما هو إنسان خارج إرادته، وإنما يتحمل مسؤولية بخله بإهماله لمعالجة هذا الضعف في كينونته حيث فتح الله عزّ وجلّ له باب معرفته، والغنى بالشعور بأنّ رزقه يأتيه من ربّه ما قدَّر له أن يحيى، وأنّ ما يشحّ به من مال لا يزيده لحظة في حياته، وما يملك أحد من الخلق أن يُنقص من رزقه([8]).
وسبب آخر لبخل الإنسان هو كذلك ليس من صنعه ولكنه يملك أن يتوقّى منه، ويسلم من شره وهو وعد الشيطان له بالفقر، ووسوسته له بعدم البذل.
ويستطيع الإنسان أن يحتمي من وسوسة الشيطان ويدفع عن نفسه شرّه بالاستعاذة بالله عزّ وجلّ والمجاهدة في طاعته.
تقول الآية الكريمة:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([9]).
وفي مقابل دعوة الشيطان للإنسان للسوء، توجد دعوة أخرى له للخير في داخله يتولاها ملك من أمر الله سبحانه فما عن الإمام الصادق عليه السلام:”لِلشَّيطانِ لَمَّةٌ ولِلمَلَكِ لَمَّةٌ؛ فَلَمَّةُ الشَّيطانِ وَعدُهُ بِالفَقرِ، وأمرُهُ بِالفاحِشَةِ، ولَمَّةُ المَلَكِ أمرُهُ بِالإِنفاقِ ونَهيُهُ عَنِ المَعصِيَةِ”([10]).
وعلى إرادة الإنسان أن تستجيب للمَّة المَلَك وهي الخاطرة الحميدة الذي تحدث للنفس من الملك، وتَنفِرَ من الخاطر الخبيث الذي يثيره الشيطان.
3- الكفر:
يقول كتاب الله العزيز الحكيم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}([11]).
الله عزّ وجل لم يخلق عبدًا من عبيده أو أمة من إمائه للعري والجوع والشقاء. واختلافُ الأرزاق، ووقوع البعض في الحاجة إنما جاء لاختبار كلٍّ من ذوي الفقر والغنى على أنَّ التشريع الإسلامي لا يأذن للمسلمين أن يُترك أحدهم جائعًا أو عاريًا أو بلا مأوى، وقد تكفَّل من خلال الفريضة المالية بتحقيق حدِّ الكفاية في معيشة الفرد المسلم من ذوي الحاجة مع العذر، وهي مسؤوليةٌ ملقاة عمليًّا على المجتمع المسلم. والدخول في الإسلام والأمة المسلمة من مسؤولية كل إنسان([12]).
ولكن الكافرين يُغفلون كل ذلك ويقولون {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ}.
والكفر بالله سبحانه معطِّل لأعظم سبب من أسباب البذل في سبيل الخير حيث لا رجاء للكافر في ثواب الله، ولا خوف عنده من عقابه، ولا تعويل في نفسه على كرمه وعطائه وتعويضه.
فالكافر لا يبذل حين يبذل إلا لمصلحة دنيوية منظورة ملموسة، أو متوقَّعة إلى الحد الذي يغريه.
وقد يبذل تحت ضغط العاطفة وهذا نادر([13]).
4- سوء الظنّ بالله عزّ وجلّ:
ليس كلّ ذي إيمان حسن الظن بالله، فمن درجات الإيمان ما هو هابط، ولا تصاحبه معرفة بالله سبحانه تضع صاحبها على طريق الخير الدائم، والتفاني في سبيله، وقد يصاب إيمان البعض بما يتنافى من التصورات والمشاعر كليًّا مع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ويعاكسها، ومن ذلك سوء الظن بالله سبحانه الذي قد يأخذ مكانًا في نفسٍ يرى صاحبها نفسه من المؤمنين([14]).
وقد يأتي سوء الظن للعبد المؤمن بقدر([15]) لم يكن يتصور أنه يجري عليه، ولا تحتمله نفسه لما سبب لها هو نفسه من خسارة تحمُّل، وخسارة وزن.
ويسوق سوء الظن بالله، وعدم الاطمئنان إلى رحمته إلى أن يبخل صاحب المال بماله الذي آتاه اله ورزقه.
عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”السَّخِيُّ إنَّما يَجودُ مِن حُسنِ الظَّنِّ بِاللّهِ، وَالبَخيلُ إنَّما يَبخَلُ مِن سوءِ الظَّنِّ بِاللّهِ”([16]).
وعن عليّ عليه السلام:”البُخلُ بِالمَوجودِ، سوءُ الظَّنِّ بِالمَعبودِ”([17]).
فالبخل بالموجود تعبير ناطق عن سوء الظن بالمعبود، بل هو سوء الظنّ يتحدّث عن نفسه بلغة فصيحة فاضحة. وإلّا فمن أحسن الظنَّ بالله ووثق بغناه وكرمه ووعده لمن يبذل في سبيله فدافعه للبذل في هذا السبيل الكريم غير قاصر، ولا يمنع مانع من تعطيله إذا وجد ذلك الواثقُ المطمئنُّ ما يبذله، حتّى يصل البذل في هذا الحال للإيثار([18]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.
ربّنا هب لنا إيمانًا بك عاليا، ويقينا ثابتا، ومعرفة جليلة، وخلّنا من صفات أعدائك، وحلّنا بصفات أوليائك، وزيّنا بزينة أهل قربك، ولا تخلّ بيننا وبين أنفسنا والشيطان الرجيم يا متفضّل، يا محسن، يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}([19]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا شبيه له ولا عديل يعادله، ولا نظير يناظره، ولا وزير يشاطره، ولا كفؤ له على الإطلاق، ولا يُناظره نظير، ولا منتهى لجلاله، ولا غاية لجماله، ولا حدّ لكماله، ولا يلحقه ضعف، ولا يطرأ عليه نقص، وكلُّ شيء راجع إليه، ومصير كلّ شيء بيده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله لا يستوي سخط الله وسخط عباده، ولا رضاه ورضاهم. سخطهم ليس بسخط مع رضاه([20])، ورضاهم ليس برضى مع سخطه.
فليسخط العباد الذين لا يملكون شيئًا والربُّ المالك لكلّ شيء راض، وليرضوا جميعًا فلا نفع في رضاهم مع سخطه.
فلنطلب مرضاة الله وإن سخط من سخط، ولنفرَّ من غضبه رضي من رضي، وليغضب من يغضب. فبالله الغنى، وعنده اللجأ، وهو الكافي، ولا غنى بغيره، ولا مُلجئ من دونه، ولا يكفي سواه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربّنا اغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن علّمنا علمًا نافعًا في دين أو دنيا من المؤمنين والمؤمنات.
اللهم ارزقنا من معرفتك ما يُخلّصنا من كلّ شرك، ويُخلص طاعتنا إليك، ويجعلنا نستغني بك عمن سواك، ولا نُصغي لأحدٍ على خلافك، ولا نطلب إلا رضاك يا حنَّان، يا منَّان، يا أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وأرحم الرّاحمين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصُّلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات الأحبّة في الله فإلى هذه العناوين:
- لا حقّ ثمّ لا كلمة:
طال عمر الحراك في البحرين وموقف السلطة أن لا اعتراف بحقّ من حقوق الشعب المطالب بها.
أمّا اليوم فقد تمَّ الانتقال في موقف السلطة إلى أنه لا مكان للكلمة المطالبة بحقٍّ من الحقوق، ولا كلمةٍ دينيةٍ مؤثّرة على لسان عالم دين ومؤسسة دينية([21]). كلّ كلمة توقظ الوعي، وتُنبّه العقل، تبعث الفهم الديني، تُصحّح هذا الفهم، فيها إظهار لفكر الدين، مربية للمجتمع على أساس التربية الصالحة، معبّرة عن الإسلام في مساحته الواسعة التعبير الأمين الدّقيق حكم عليها بالحجر والمطاردة إن لم تكن العقوبة.
فبلدنا عليه أن يخلوَ من الوعي السياسي والمطالبة بالحقوق، ومن الكلمة الدينية الواعية الهادفة التي تستحضر عند الشعب العقلية الإسلامية الصحيحة.
نعم لتبق تلاوة الكتاب العزيز، ولتُجوَّد تلاوته، ولتفتح مراكز لتجويده، ولتطبع المصاحف بطبعة أو أكثر من طبعة أنيقة مدقّقة بما يكفي أو غير مدققة كذلك، ولتكثر منه النسخ المنمّقة في البيت الواحد، وليكن في الواجهة من المكتبات العامة، ولتدعم مراكز تعليم ألفاظه بسخاء، ولتُعلَّق منه تماثم وعوذات على الصدور وفي الأعناق، وليتبرّك من يريد التبرّثك به، ولتشتغل إذاعات متخصصة وقنوات فضائية مثلها ببثّ أشرطة تلاوته كلّ آنات الليل وأثناء النهار، ولتكثر المسابقات القرآنية والجوائز الثمينة للأحسن تلاوة، وللأكثر حفظًا للقرآن، ولتقدم الإذاعات والمحطات الفضائية لسامعيها ومشاهديها التفاسير التي تلتقي وإرادة السياسة ومشتهاها أو تلك التي لا تمسُّ السياسة القائمة بأقلِّ سوء، ولا تنالها منها خدشة بسيطة، وليكثر استشهاد خطباء الموالاة بآيات الكتاب الكريم مما فيه دعم السياسة القائمة بما يصادم فهم القرآن، وفي ما يحضُّ العامة من المسلمين([22]) الصبر على الفقر وشظف العيش وإن كان بسبب أثرة أهل السلطان، وأخطاء السياسة، وسرقة المال العام من المتسلطين.
ليكن كل ذلك، وهذا الإسلام موافَق عليه، وحرية الكلمة أمامه مفتوحة.
أما إسلام بفهم قرآني صحيح يتكفّل معالجة مشكلات الحياة، وغير مستعد لتبرير أيّ سياسة ظالمة أو خاطئة، ولا يبارك أثرة الحاكمين وحرمان أبناء الأمة وشعوبها من خيرات بلدانهم، ولا يرضى إلَّا بأن يتّجه الناس إلى عبادة الله سبحانه في كلِّ مساحة الحياة، ويحصر حق التشريع في الله عز وجل ويُصِرُّ على قيادة الحياة فهو إسلام غير مقبول، ولا حرية له على الإطلاق، ولا مجال أمام كلمته.
تُدفن منابعه، وتُطمس معالمه، وتُغيّب أنواره، وتُغلق أي مؤسسة تنادي به، تدعو إليه، توقظ العقول به، يُخرس كل لسان ينطق به.
الخطوط الحمراء أمامه كثيرة وكثيرة لا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة.
القوانين ضدّه متصاعِدة، الاحتياطات دونه مكثَّفة، العقوبات لمؤسساته قاسية ومشدّدة.
يُرحَّب بإسلام يتولّى دور مخادعة الجماهير وتدجينها التدجين الذي يخدم السياسة القائمة، ويأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها، ويُحلّ ما تُحلّ، ويُحرِّم ما تحرّم، ويدعو إلى ما تدعو إليها، ويكون الطيّع بيدها.
ولا مكان لإسلام يقابل هذا الإسلام ويُنكر عليه.
والسياسة الدنيوية المرتعدة من الدّين بتوحيده وعدله وإيقاظه للأرواح والقلوب والعقول كلّما استطاعت أن تُحارب الإسلام الحقّ في أبعد أرض عن أرضها حاربته حتى لا يجد أيَّ سبيل لأن يعبر الحدود، ويصل منه شيء إلى أرضها، أو ينالها منه أي تأثير.
ولا يرى الرَّائي غلق المجلس الإسلامي العلمائي إلّا من هذا الباب([23]).
ولكن هل يظن ظانّ أنَّ المئات من علماء الدين وطلابه في البحرين ستقبرهم بيوتهم، ويخلدون إلى غرف النوم لينسوا واجبهم الديني في تعليم الدّين وتبليغه ونشره والدعوة إليه وتبصير المجتمع بتعاليمه؟ هل سيقبلون أن يخسروا كلّ ما درسوا، أن يخسروا علاقتهم بالله، أن ينفضوا يدهم من يد ربّهم سبحانه وتعالى؟!([24]) أن يتقزّموا كل هذا التقزّم، أن يكونوا أبطل البطّالين من بين الفئات؟!
- أي حراك مثل هذا الحراك؟
أي حراك في الانضباط والعقلانية والسلمية مثل الحراك السياسي في البحرين؟
الرموز السياسيون المحكومون بالسجن لمدد تستوعب العمر أو طائفة عظمى منه لا زالوا يدعون الشعب من سجونهم للسلمية، خليل المرزوق من داخل زنزانته يدعو شعبه للسلمية، العلماء يدعون للسلمية، الجمعيات السياسية المعارضة تدعو للسلمية.
ذلك رغم ما واجهت به السلطة هذا الحراك وطيلة ما مكثه لحد الآن من عمره وقد تجاوز السنتين والنصف من عنف وشدّة وقسوة وتنكيل وعقوبات جماعية جمعت بين الجسدي والنفسي والمالي ونالت من الأعراض والعقيدة والمقدَّس مما على الأرض وفي النفوس.
وهذا الشعب لا زال وسيبقى يرفض بعلمائه ورموزه ومؤسساته السياسية والدينية لغة العنف، ويأبى لهذا الوطن العزيز أن ينزلق في منزلق الفتنة العامّة، والعنف والإرهاب المتبادل، وأن يساجل الحكومة في عنفها.
إذا كانت السلطة لا تُقدِّر للحراك السياسي القائم، – وعلى مستوى طابعه العام على الأقل – أخذه بالأسلوب السلمي، والتزامه هذا الأسلوب رغم طول المدة، ومرَّ المعاناة، وظلم السلطة أفليس على دول العالم أن تُقدِّر لهذا الشعب كل هذه العقلانية والاتّزان والحضاريّة والالتزام بخيار السلمية؟!
نعرف أنّ كلّ من شارك أو يشارك في هذا الحراك للسلطة عليه ذنب لا يغتفر، وهذا الذنب إنما هو المطالبة بالحقوق العادلة وفي مقدمتها الحقّ السياسي فهل هذا هو الذنب الحقيقي الذي يستحقُّ به شعب البحرين أن لا يُنصف بكلمة جادة صريحة لا تحتمل التأويل وغير محاطة بما يُذهب قيمتها من هذا العالم.
وقد قلنا ونكرر دائما أن هذا الشعب لا يتطلع إلى أي تدخلات خارجية تضرّ بأمن هذا الوطن وأي من مكونات وجوده، ونرفض أن تكون البحرين ساحة من ساحات الحرب، ونزيف الدم.
- لا ظلم ولا عنف:
هذا الشعب ومن منطلق دينه القويم، وضميره الحيّ، وشعوره الإنساني الغزير، واعتزازه بكرامته، وإدراكه لحقوقه، ولحضاريته يأبى أن يعيش مظلومًا، ويستسلم للظلم، أو لا يُنكره ولا يُقاومه. كما يرفض أن يُمارس الإرهاب والعنف والعدوان، ويركنَ إليه، ويختاره على السِّلْم وأسلوب الحوار الجادّ المثمر مما يستهدف العدل والإنصاف، وفيه تقدير لكرامة الشعب وحقوقه الثابتة.
وكل ذوي الحكمة من أهل النُّصح والإخلاص، والحرص على سلامة هذا الوطن وغيره من الوطن الإسلامي الكبير لا يُتصوَّر في أحد منهم إلا أن يكون مع خيار السلم، محذِّرًا من العنف والإرهاب.
وللأسلوب السلمي في معارضة الظلم صور وممارسات من أهدئها وأوضحها سلمية، وأقدرها على التعبير عن الرأي بصورة جماعية مؤثرة هي المسيرات السلميّة البعيدةَ عن كلِّ أشكال العنف، المتّسمة بروح الانضباط العالية، والشَّعارات التي تطرح القضايا المطلوبة في تعبير دقيق ومؤثّر، وفي أخلاقية كريمة سامية، على أن يتوحّد في الموقف الذي يراد التعبير عنه.
ومسيرة من ألف، غير مسيرة من عشرة آلاف، ومسيرة من مائة ألف، غير مسيرة من خمسمائة ألف، ومسيرة من شريحة واحدة، غير مسيرة من شرائح اجتماعية متعدِّدة، ومسيرة من أصحاب عمر الشباب، غير مسيرة من الأعمار المختلفة، ومسيرة من رجال، غير مسيرة من رجال ونساء([25]).
وعين السلطة المعنية بأي مسيرة، وعيونُ الدول الأخرى وشعوب الأرض، والمنظمات الحقوقية والإنسانية كلها مفتوحة على ما يعنيها من مسيرات في حجم عددها، ونوع المشاركين فيها، وحقَّانية واعتدال شعاراتها، ودرجة سلميتها وعقلانيتها، وتوحُّد مطروحاتها، ومدى انضباطها، وما نوع المشاركين فيها، وما يظهر من جدّيتها وتراخيها في مطالبها.
فلكلٍّ من المتقابلات في هذه الأمور من عدد صغير وآخر كبير، وتوحُّد في الشعار واختلاف فيه وغير ذلك مما ذُكِر تقديره الذي تراقبه العيون وترصده([26]). ويختلف أثره السلبي والإيجابي نوعًا وحجمًا عند المعادين والمناصرين.
كل مسيرة تُوزَن بوزنها حتى عند السلطة المعنية بها مباشرة وإن تعمَّد إعلامها الإنكار والتزوير والتشويش على ما جرى على الأرض في هذه المسيرة أو تلك وما حملته من دلالات وحقائق، وسجَّلته من حجم وواقع وجدّية أو التفاف حول المطالب العادلة المحدّدة.
النّاس الذين يريدون أن يقولوا لكلِّ الآخرين بأنَّ المعارضة فيه هشاشةٌ وهزيلة ولا يُؤبه بها يتركون للمسيرة السلمية المعبّرة عن المطالبة بالحقوق أن تكون ضعيفة هزيلة لا قيمة لها أمام العالم، وهم بهذا الموقف السلبي إنما ينتصرون للظلم واستمراره واشتداده على أنفسهم وأهليهم وشعبهم ووطنهم([27]).
ومن أهمه شأن نفسه وشأن دينه وشعبه ووطنه وأراد له ولكلِّ المظلومين الخلاص من قسوة الظلم وإنقاذ وطنه لابد أن يدفعه ذلك لإعطاء مسيرة سلمية تأتي على طريق طلب الحلّ العادل الزَّخمَ الهائل المطلوب بمشاركته الشخصية كلما استطاع ودفع الآخرين للمشاركة([28]).
اللهم صلّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا من لا ينفع العون من غيره لمن لم يُعِنْه، ولا النصر ممن سواه لمن لا يريد نصره، ولا خيرَ من أحد إلى أحد، ولا غوثَ من أحد لمكروب إلا بإذنه، ومن عطائه وفضله وكرمه وبإرادته توجَّهنا إليك، وتوكّلنا عليك، ولجأنا لحمايتك، نطلب منك النصر، وثقتنا بنصرك وغوثك يا ناصر يا مغيث يا من هو على كل شيء قدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}([29]).
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([30]).
[1]– طريق التخلُّص والانتصار على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
[2]– 19-21/ المعارج.
[3]– لابد أن أعرض ضعفي وفقري.
[4]– عدم معرفة موقعي وهو موقع العبودية، وتعملق الشعور بالفرعونية في داخلي يجعلني أخسر حتما لأن في ذلك انصرافا عن الله عز وجل، ومن انصرف عن الله سبحانه وتعالى لم يجد أبدا خيرا.
[5]– جنبتان في خلق الإنسان ضعيفة أن يكون منوعا، أنا ضعيف فمحتاج لكل ما صار إلى يدي. وعلمي بهذا الضعف فيما ينبغي يجعلني مرتبطا بربّي سبحانه وتعالى. وكل الهلاك أن أكون ضعيفا ثم أدبر عن ربي سبحانه وتعالى.
[6]– 100/ الإسراء.
[7]– أبعد هذا الملك ملك؟ أبعد هذا غنى لو مُلِّك خزائن رحمة الله؟ طبعا لا شيء. لكن مع ذلك فإنّ فقره الذاتي يبقى مؤثرًا عليه.
[8]– غنى النفس بهذه المعرفة وهذا الشعور يغنيها، وفقده يفقرها مهما كان باليد من غنى ومال.
[9]– 268/ البقرة.
[10]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج7 ص155 ط1.
[11]– 47/ يس
[12]– فحين يأتيه البخل من منشأ كفره فإنما هو الذي يتحمّل مسؤوليته.
[13]– بعد غياب الضمير الديني الحي.
[14]– أتصوّر أنني مؤمن ولكن بتقصير من هنا وهناك ينشأ عندي سوء ظن بالله سبحانه وتعالى. يحدث هذا.
[15]– يعني بسبب قدر.
[16]– المصدر السابق ص156.
[17]– عيون الحكم والمواعظ ص18 ط1.
[18]– الذين يحسنون الظنّ بالله بدرجة عالية يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
[19]– سورة الهمزة.
[20]– سخطهم ليس بشيء، يعني لا قيمة له.
[21]– إلا في بعض موارد الاضطرار التي تقدّرها السلطة.
[22]– هذا ليس في بلد واحد، وإنما في كثير من بلاد المسلمين، وأنا أتحدث على هذا المستوى.
[23]– وهي السياسة التي سادت كثيرًا من البلاد الإسلامية.
[24]– هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
[25]– هذا واضح.
[26]– المسيرة بألف لها وزن في عيون الدول، وفي عين السلطة المعنية، والمسيرة من مائتي ألف وثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف وخمسمائة ألف لها وزنها الآخر، ولها تقديرها الآخر.
[27]– هذا خذلان للنفس، خذلان للوطن، للشعب، للدين.
[28]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا فقيه).
[29]– سورة النصر.
[30]– 90/ النحل.