خطبة الجمعة (565) 24 شهر رمضان 1434هـ – 2 أغسطس 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}
الخطبة الثانية : هل يستوي إصلاح وإفساد؟ – السَّاحة العربية بين الاستئثار والمشاركة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يُعبد اعترافًا بحقّه، وحبًّا لجلاله وجماله، وشوقًا إلى كماله، وشكرًا لآلائه، ورجاءً في ثوابه وعطائه، وخوفًا من عدله، ولا يُعبد خوفًا من ظلمٍ لأحدٍ من خلقه، فهو الغنيُّ الذي لا يجد حاجةً لظلم، الكاملُ الذي لا يحمله نقصٌ على إجحافٍ وغَبْن. تعالى الله عن حاجة المحتاجين، ونقصِ الناقصين، ومحدودية المحدودين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ما أمّلتم من خير فهو دون ما عند الله، وما أعدّه لأهل طاعته وأوليائه، وما خفتم من عذابٍ فهو دون العذاب الذي رصده لأهل معصيته وأعدائه؛ فإذا رجوتم فلا يكن لكم رجاء كالرَّجاء في الله، وإذا خِفتم فلا تخافوا من شيءٍ خوفَكم من عدله، وإذا ضحَّيتم فلا تُضحّوا بمثل ما تُضحُّون به في سبيله، وإذا أجهدتم أنفسَكم فلا تُجهِدوها بمثل ما تجهدونها في السعي لمرضاته.
وإذا كان الخير لا يُطلب إلا من مالكه، وإنَّه لا مالكَ للخير إلا الله فلا تطلبوا الخيرَ إلّا منه، وإذا كان خوفُ الضرّ من القادر عليه وأنه لا قادر على ضرٍّ غيرُه، فلا تخافوا إلا منه.
اتقوا الله عبادَ الله تستدفعوا الشرَّ، وتنالوا الخير فهو الذي لا مالك لهما سواه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
هب لنا ربَّنا يقينًا بك لا يُبقي في قلوبنا تعظيمًا إلا إليك، ثم لمن عرفك وأخلص لك في طاعته وقَبِلتَه، وتوكُّلًا عليك لا يجعل لنا اعتمادًا على أحد من دونك، واطمئنانًا إلى رحمتك، وقدرتك، وحمايتك يُذهبُ عنا خوف غيرك، والوجلَ من غير عدلك يا حنَّان يا منّان، يا جواد، يا كريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فيقول سبحانه:{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}([1]).
كلُّ من دون الله عزّ وجلَّ وما دونه إنّما يُوجد بإيجاده، وكلُّ الأحياء تتلقّى حياتها من فيضه، وليس من شيء إلا تحت قهره، ولا أثر له، ولا نفعَ ولا ضرَّ إلا بإذنه، لأنّ كلَّ شيء من الخلق فقيرٌ في ذاته، لا يُخرِجُ نفسَه من عدمه المحض في ابتداء حدوثه، ولا يستقِلّ بوجوده طرفةَ عين بعد أن أُخرِج ابتداءً من عدمه.
ومن كان هذا واقعُه اعترف بالله أو أنكر، وشَكَرَ نِعَمَه أو كَفَر، فإنه لا يملك أن ينفع اللهَ أو يضرَّه بشيء. وكيف يملك ذلك وكلُّ ما لَهُ من قوة، وما لَهُ من أثر من فيض ربّه وتحت أمره؟! وهل لله عزَّ وجل وهو الغنيّ المطلق حاجةٌ فتُقضى؟! وهل به من نقصٍ وهو الكامل الذي لا يُحدّ كماله فيُسدُّ؟! وهل به من ضعف وكلُّ قوة من قوته، وكلُّ حول من عطائه فيُغلب؟!
الله الكامل بالكمال المطلق لا يجوز عليه أن يزداد كمالًا من نفسه، فهل يجوز عليه أن يستكمل بالناقصين وهم كلُّ من دونه؟!
ولكن لأنَّ الكفر فيه شقاء العباد وهلاكهم وانحطاطهم وخسارتهم، وهم عباد الله الذين من خلقه وصنعه، ورزقُهم من عنده، وتدبيرهم من فيضه، وهم محلّ عنايته، وخَلَقَهم لرحمته، ولا يُريد بهم شرًّا، ولا يكِلهم إلى جهلهم وسفههم فإنه لا يرضى لهم الكفر شفقة ورحمة، وتفضُّلًا وامتنانًا.
ويُعطيك هذا المعنى من الآية الكريمة أنها بعد أن قالت {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ} لم تقل ولا يرضى لكم الكفر، وإنما اختارت أن تقول {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} لتجعل كونهم عباده علّةً لعدم رضاه لهم الكفر الذي فيه أكبر خسارة فادحة تُصيبهم، وأبشع سقوط يصير إليه إنسان.
ولأنَّ إيمان العباد بربّهم الحقّ، وشكرهم لنعمه بوضعها في موضعها الذي يُكمِّلهم ويُسعدهم فيه رحمةٌ حقيقية بهم يبلغون بها أسمى غاية تنتظرهم فهو يرضاه لهم، وقد دعاهم إليه، ودلّهم على طريقته، وبَعَثَ الرسل، وأنزل الكتب ببيانه، وهَدى الفطرة إلى الأخذ به.
وعَدْلُ الله لا يُحمّل أحدًا إثم أحد، ولا يُعاقب نفسًا بجرم أخرى. وكلُّ نفس راجعةٌ إلى الله مالكها الحق، وكلٌّ له جزاؤه عند ربِّه، وما من عمل عَمِلَتْه نفس كبر أو صغر، ظهر أو بطن، اجترحته جارحة أو قلب إلا وهو معلوم لله محفوظ عنده لا يمسُّه نسيان أو ضياع. وكيف تخفى على الله خافية من خلقه، وكلُّ خلقه، وما لهم من شيء أو أثر لا يتمُّ على خلاف تكوينه، ولا يكون إلّا به، ولا يتمُّ إلا تحت طائلة قدرته؟!
ونداء إلاهي آخر من منطلق الرّحمة والرأفة والعناية الخاصّة نجده بعد آيتين من الآية السابقة، وهو نداء موجَّه للمؤمنين من عباده الذين يجعلهم إيمانهم أهل كرامة خاصّة عنده، ويُلزمهم إيمانهم بما لا يصحّ لهم التفريط فيه {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}([2]).
إنهم عباد الله الذين خَلَقَهم ومنه تدبيرهم، وتحتضنهم كغيرهم من عباده رأفتُه ورحمتُه، ويعمّهم إحسانه وتفضُّله، ويُتحفهم بنصحه، ويدلّهم على ما فيه خيرهم وسعادتهم.
وهؤلاءآمنوا به، وأدركوا واجب العبادة له، وحقّه في الطاعة والانقياد فكانوا محلًا لعناية أكبر، ونظرٍ من الرّحمة أخصّ، ولذلك نُودوا بخصوص هذا النداء الكريم {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} في حين أنَّ إيمانهم يقوم قاعدةً لتقواهم ربهم، وموجبًا عقليًّا لطاعته.
وجاء أمرهم بالتقوى رفعًا لدرجتهم، وبلوغًا إلى أسمى غاية يتطلّع إليها أهلُ الإيمان، وأعظم كرامة تمتدُّ إليها أعناقهم، وهي الكرامة عند الله العظيم الجليل.
وجاء وعدهم بحسنة عظيمة في الدنيا من مثل، طُمأنينة القلوب ورضا النفوس، والشعور بالكرامة في ظلّ الإيمان، وحياة التقوى والعمل الصالح، وفي الآخرةحيث النعيم المقيم والسعادة التي لا شقاء معها.
ومن عظيم ما يحمله الوعد الإلهي الصّادق للصابرين على طريق الطّاعة والتقوى أنّهم لا يُوقَفون لحساب، وجزاؤهم فوق ما يعادل عملهم.
هذه المضامين المتقدِّمة يُمكن أن يُستأنس لها في ضوء الآيتين الكريمتين مما يحقّ معه ألا تتوقّف نفسٌ عن الاستجابة لأمر الربّ الكريم الرؤوف بعباده، وألا تألوَ جُهدًا في السعي إليه، وطلب مرضاته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ولأولادنا وأزواجنا وأصدقائنا ومن علَّمنا علمًا نافعًا في دين أو دنيا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعيه برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا نرى في كتابك الكريم ملاذنا الأمين من الضلال، ومأوانا الحافظ من التيه، وأكسبنا من نوره نورًا يطرد عنّا كلَّ ظُلمة، ويحمينا من كلّ ضلالة، وأعطنا من هداه هدى لا تغيم معه علينا الطريق، ولا تشتبه الأمور، ولا تصيبنا حَيرة يا حنّان يا منّان، يا هادي، يا رحمان يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([3]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا تمنع القلوبَ من رؤيته إلا آثامُها، ولا تحجبه عن مشاهدته إلا سحبُ ضلالها، ولا تحمي منه قوّة، ولا يضِلّ علمُه، ولا تخلُّفَ لحكمته، ولا حدودَ لقدرته، ولا مُعقّبَ لحكمه، ولا من يقوم لسخطه، أو يحتمل غضبه، ولا يأسَ من رحمته، ولا شبيهَ لفضله وكرمه.
أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله من أراد لنفسه كرامةً فليُكرمها عن معصية الله، فإنّه لا تهبِط نفس بشيء هبوطها بمعصيته، ولا تخِسّ بشيء خِسّتها بمضادَّته، ولن يُذلَّها مُذِلٌّ كذُلِّها بدخول ناره.
ومن طَلَبَ لنفسه العِزّةَ فإنَّ عزّة النفس وكرامتها لا تُحقّقها إلا طاعةُ الله، وكلّ عزة من دون طاعته غرور، ولابُدّ أن تظهر لصاحبها ولو من بعد حين أنها هَوان، ولابد أنْ يتبيّن له أنها وبال. ويتجلّى للنفس يوم تموت، ويوم تُحشر أنّ الأمر كذلك، وقد ينكشف للنفس زيفها في هذه الحياة.
من أين العِزَّة لطالبها من غير الله والعزّة كلُّها لله، والقدرة كلها له، وبيده أمر الخلق كلّه، وكلُّ شأنٍ من شأن المخلوقين، وأَثَرٍ من آثارهم؟!
يا طالبَ النجاة، يا طالب الفوز، يا طالب العزّة، يا طالب السعادة اطلب كلَّ ذلك بتقوى الله وطاعته، والتقرُّب إليه، ولا تُخدَعَنَّ بغير الله فغير الله فقير مسكين مستكين له ليس له من شيء إلا من عنده سبحانه.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطاهرين، اغفر لنا ربّنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم. اغفر لنا ربنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا وأزواجنا وأولادنا وكل من كان منا بسبيل من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن علّمنا علمًا نافعًا في دين أو دنيا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة والمؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم برِّئنا من شرك الفكر، وشرك الشّعور، والعمل، وأخلص توحيدنا إليك، وأصدق توكّلنا عليك، ونوّر قلوبنا بذكرك، وأحيها بشكرك، واصرفها إليك، ولا تجعل لها أملًا في خلقك، ولا تُضعِف أملها في عفوك ورحمتك وإحسانك، وأكمل خشيتها منك، وأدِمْ أُنسها بك يا جميل، يا جليل، يا متفضّل، يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض كلمات:
هل يستويان؟
هل يستوي إصلاح وإفساد؟
هل يستويان خلفيةً عقلية، أو دينية، أو خُلُقُية، أو قانونية؟! هل تستوي الدعوة لهما كذلك. هل يستوي إصلاح ودعوة إليه، وإفساد ودعوة إليه حبًّا للوطن، وبناءً له، وحفاظًا على وحدته، ورعايةً لقوَّته، ونتيجةً إيجابيّة أو سلبية تلحقُه؟!
لا يستوي إصلاح وإفساد، ولا دعوة لهذا ودعوة لذاك.
الإصلاح حاجة طرف دون طرف؟! الإفساد ضرره على طرف دون طرف؟! رأيٌ قد يراه بعض، ولكن لا يراه راءٍ إلا تحت تأثير الوهم والغرور، وقِصَر النظر، وإيهام الظروف.
أمّا واقع حياة البيت الواحد، والبلد الواحد، والمجتمع الواحد، والوطن الواحد فمنطقه السَّاري على خلاف ذلك.
والساحة المحلية والعربية والإسلامية وكلُّ الساحات العالمية تؤدّي شهادةً صارخة بأنَّ الإصلاح خيرٌ للجميع، وأنَّ الإفساد فيه مقتلة للكل، وتدمير لمكوّنات المجتمعات، والأوطان.
ويذهب ذاهبون إلى نُصح السلطات في كثير من الأقطار المتعددة التي ينشب فيها الصِّراع بين طرف السلطات والشعوب من منطلق إلغاء الحقوق باعتبار ما تملكه هذه الجهات من أسباب التضييق والقوة والبطش والفتك بأن تبالغ في استعمال القوة المفرطة([4])، وتزيد من أساليب العنف، والخنق والتضييق والفتك ليتأتى لها أن تُسكِت الطرف الآخر، وتُمرِّر كل ما ترغب وتريد، وهي نصيحة لو تدبَّرتها السلطات في كلّ مكان لرمت بها في البحر.
وهذا الصوت الجاهلي الظالم([5]) قد أشعل فتيل النّار في كثير من بلدان الساحة العربية وألهبها، وخلق أوضاعًا مأساوية، وزلزل كثيرًا، وحطّم كثيرًا، وأعطى من النتائج ما أعطى مما يشهد على بلاهة هذه النظرة، وسُخْف هذا القول، وسَفَه هذا الرّأي.
وإن كنتَ قويًّا كلَّ القوّة حسب نظرك، أو حتّى حسب واقعك جدلًا، وقصدتَ مصلحة نفسك، ومصلحة الآخرين، ومصلحة الوطن كلّه، أو كنت لا تهمّك إلا مصلحة ذاتك دون الغير، فإنّ ذلك ليس في الإفساد ولا الاستمرار عليه، والبقاء على البغي والظلم، والاستئساد على المستضعفين، والقتل والحصد والإرهاب والعنف وإنما في العدل والإصلاح، والعودة لمقتضى الدّين والعقل والحكمة والتواضع.
وكم جنى أهلُ بطش القوة، والذين ساقهم غرورُها إلى البغي والظلم، وعدم الركون إلى الدين والعقل إلى خلاف ما كان يُزيّن لهم، ويعِدهم به هذا المنطق السقيم؟! وأمامك تجارب الأمم والشعوب والتاريخ والحاضر، وما يحمله الزمن كلَّ يوم([6]).
إن المجتمع الواحد محتاج بعضه إلى بعض حاجة أهل البيت الواحد بعضهم إلى بعض، وإذا سادهم الشقاق شقيت كلّ حياتهم.
السَّاحة العربية بين الاستئثار والمشاركة:
منذ ما حقّقه ما أُطلق عليه الربيع العربي من انتصارات على أنظمة سياسيّة في مواجهة لها لم تهدأ الساحة العربية ولا في منطقة واحدة من مناطق صراعها المحتدم الذي كان يستهدف الانتصار.
وقام مقام الصراع السابق صراع آخر بين أطراف الانتصار المشترك، أو أن ما حدث أنْ أخذ الصراع السابق لونًا آخر، وصورة مستجِدّة على مستوى المواجهة وبقي المضمون هو المضمون أو متأثّرًا إلى حدّ بعيد بوضعية الماضي وخلفيّته.
ولا زالت الساحة العربية خاضعةً في صراعاتها الحالية لإرادة الخارج وتدخلاتها السّافرة.
ولا زالت روح الاستئثار، والتفرُّد بالحكم، والسيطرة المطلقة عند مختلف الأطراف هو الشيء السائد والمحرِّك الظاهر للصراع.
ولا زالت الدماء تنزف، والجراح تتعمَّق، والثروات تُهدر، والعداوات تتّسع، والقتال في استمرار، والمغالَبة محتدِمة، والبلاد تخسر على أكثر من صعيد.
ومع سيادة روح الاستئثار بالسلطة عند جميع الأطراف، وعدم التورُّع من استعمال القوّة لإخضاع إرادة الآخر، لا توجد قوّة الحسم الكافية بيد أيٍّ منها أو الجوّ العامّ المناسب والذي يسمح بصورة مطلقة بالاستخدام الحرّ لهذه القوة، والبطش المفتوح وإراقة الدماء من غير حدّ، والإسراف في سفك الدَّم.
وعلى هذا يُستبعد في ظلّ واقع الصّراع القائم، واستئساد كلِّ الأطراف، والمعادلات الرَّاهنة على الأرض من أكثر من جهة أن يتحقَّق الحسمُ لصالح الاستئثار بالسلطة، والتفرُّد بالحكم على يد هذا الطرف أو ذاك في كلِّ الساحات. هذا إن لم يكن مثل هذا الأمر مستحيلا عملًا في مستوى المدى المنظور.
وبذلك لا مخرجَ لأيّ من هذه الساحات من واقع الصراع المرير المكلف، ولتبقى بقيّة من قوة للبلدان التي تستعرُ فيها الأحداث الطاحنة، وبقيةٌ من مكانة، وفرصةٌ ما لحالة من حالات الالتئام، ومعالجة الأوضاع، ولملمة الجِراح، وتوقُّف حالة النزيف والاستنزاف، ومسلسل التدهور والدَّمار والخسائر الفادحة…. لا مخرج كذلك ولا حلَّ يمكن له أن يُحقّق صورة من التوافق القادر على الصمود على الأرض، والتمتّع بدرجة من الثبات إلا حلّ المصالحة القائم على الرّضا ولو تسليمًا للأمر الواقع.
ومن دون ذلك فالنتائج كارثية على الكلّ([7]) إلى حدٍّ بعيد جدًّا، ومن النوع الذي يُهدّد وجود هذه البلدان، ووجود الأمة، ويفتح أبوابَ الخطر غير المحدود على واقعها وهويّتها.
أرجع الله هذه الأمة إلى الرُّشد، وأخذ بها إلى طريق البناء والصلاح، وأنقذها من المسلك الذي صارت فيه والمؤدي إلى هلاكها.
الإمام علي عليه السلام على لسان ضِرار بن ضُمرة الليثي أمام معاوية([8]):
“كان والله بعيد المدى”().
إنّه بعيدُ المدى في تفكيره، وتأمُّلاته، وتعمُّقاته، ورؤيته الكونية، وفي كلّ فهمه وتقديره، وفي هدفه وتطلّعه، واشتغال روحه، وتعلّق قلبه، وفي تحليله وسَبره.
“شديد القوى”.
قوى عقل، وروح، وإرادة، وعزيمة، وصبر، وتحمُّل، وشجاعة وجَلَد وعزم، وحكمة، وعلم، وحلم، ومواجهة وحرب وبدن، وله من الدين ما لا يقوى عليه أحد مثله بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله.
“يقول فصلا، ويحكم عدلا”.
إذا قال فلا قولَ بعد قوله، ولا تصحيحَ يُمكن أن يلحق ما يقول لتمام صدقه وصحّته وحقّانيته.
وما حَكَمَ به لا يخالط عدله ولا شائبة ضئيلة من ظلم، ولا يمسّه انحراف أو ميل يسير عن الدّين الحقّ الذي هو ميزان العدل، ولا يقربه شيء من هوى النفس والأرض والتّشهّيات.
“يتفجّر العلم من جوانبه”.
تشهد بذلك كلُّ كلماته، وما طال من كلامه وما قصُر، وفي كلّ مناسباته، وكلّ مقام مما جاء فيه، وكلّ قضيّة تعرّض إليها، وموضوع طَرَقَه.
“تنطق الحكمة من نواحيه”.
بلا تكلُّف، ولا حاجة للتأمّل، وتوقف فكري، وتريّث نظر. الحكمة في قلبه من الزاد الجاهز لمن يحتاجه والذي يملأ أقطار ذلك القلب الزكي، ويفيض عنه.
“يستوحش من الدُّنيا وزهرتها”.
لأنه أكبر منها، ومن كلِّ ما يغري كبارًا فيها، وهو منها في علوّه على مسافة شاسعة لا يطاله منها تأثير، ولأنه يعرف مالها من مصارع عقول وقلوب وأديان قد تتراءى منها صلابة ورفعة وشموخ ثم تسقط خاسرة أمام سحرها وما هي عليه من فتنةٍ وخداع.
“ويستأنس بالليل ووحشته”.
لماذا؟
لما يضيء ليل ذكره المنقطع الصادق لله سبحانه به من نور في قلبه، ويملأ عليه جوانبَه وكلّ ساحة فضائه، وما تنقله إليه مناجاته لربّه من معرفة حاضرة حيّة دفّاقة متوهّجة من محفلِ أُنسٍ تعيشه روحه، وربيع جمال ينشغل به وجدانه.
“وكان والله غزير العَبرة”.
من خشية الله، وشديد تقواه لمعرفةٍ منه بعظمة ربّه وجلاله وجماله وكماله، وعدله وقدرته وأخذه وبطشه، وإحسانه وإنعامه([9]).
“طويل الفكرة”.
لا عابرة، ولا قصيرة([10])، ولكن ماكثة وممتدّة لا يقطعها لهو، ولا تعترضها غفلة، ولا يفسدها تشتُّت ذهن. فكرة عابرة للزّمان والمكان متجاوزة للآفاق القريبة والمستويات البعيدة التي تقف بأفكار الكثيرين، لتعانق أبعد سماء للحقيقة مما يمكن أن يصِل إليه التفكير عند الصِّفوة الذين اصطفتهم عناية الله سبحانه من بين الناس.
“يُقلِّب كفّيه”.
لعلّه استغراقًا في التأمُّل والتدبُّر، وانفعالًا بعمق الفكرة، وبما تنفتح به عليه البصيرة، ويُطالعه به طولُ النظر وغزارته وصفاؤه من عظمة الحقّ، وهيبة الآخرة، وجليل شأنها، وضآلة الدنيا وحقارتها، وعظيم المسؤولية، وما يشاهده من مصارع الرجال أمام الشهوات، وسقوط الضحايا على عتبة النزوات.
لعلّ تقليبه كفّيه عليه السلام من انشغاله بالشوق المأخوذ له إلى الكمال، وتعلّق قلبه بالملأ الأعلى وعالم الملكوت.
“ويخاطب نفسه”.
محذِّرًا لها من أن تتوقّف لحظة عن رحلتها الجادّة الدّائمة إلى الله، أو يُصيبها على طريقه فتور، مباركًا لها خيارها الرشيد في تقديمها لله على كلّ شيء، مطالبًا لها بالحزم، والجزم، وعدم المهادنة لأيّ خاطرة من خواطر الضعف أو اللين للدنيا، وأي لمسة حريرية من لمساتها.
“ويُناجي ربَّه”.
والذي في مناجاته غذاء روحه، وأُنسه، وحياته، وسكينته وطُمأنينته، وقوته، وانتصاره، ومتعته ورضاه، ومنها مدده ورفده في كلّ مجاهداته ومعاركه وقضاياه.
“يُعجبه من اللباس ما خشن ومن طعامه ما جشب”.
لأنه يرى في ذلك أنه يمارس تحرُّره من أسر الدنيا، ويُحقّق تفوقه وانتصاره على تحدّيها، وانعتاقه من ربقتها، وأنها لم تنل منه ما تريد.
“كان والله فينا كأحدنا”.
لأنه لا ينسى ذُلَّ العبودية لله لحظة من لحظات حياته، وأنْ لا شيء له مما له من علم وقوة ومقام وكمال إلا من عطاء خالقه، ولا استقلال له في كثير أو قليل مما وهبه ربّه؛ فلا مورد للاستعلاء على أحد من عباد الله، وإنما عليه الشكر لما خصّه به واهبه.
“يُدنينا إذا أتيناه”.
استشعارًا منه عليه السلام بواجب الأبوّة للأمة، وحَدَبًا عليها، وتعليمًا لأدب الدّين لها وهو المسؤول الأول بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله عن تربيتها وتهذيبها وتكميلها، وصناعة القدوات العالية من أبنائها.
“ويُجيبنا إذا سألناه”.
لا يعوزه الجواب، ولا ينقطع منه الخطاب، ولا يحتاج إلى غمغمة ولا إلى فرار من مواجهة المسألة وملؤه فهمٌ، وكلّه علم.
ولعلمه أن النّاس بحاجة إليه، وأنّهم لا يجدون جواب كل ما يسألون عنه كما يجدون عنده، فليس لأحد مستوى ما عليه علمه بالقرآن وكنوزه، والسنة وأسرارها، وما عليه حفظه واستيعابه، وعمق فهمه، وسعة فقهه، ولا فوت لشيءٍ من الإسلام عما ينضمّ عليه صدره.
“وكان مع دنوّه منّا وقربنا منه لا نُكلمه هيبة له”.
لأنه وإن قرُب المكان إلا أنّ البُعد شاسع في المعنى؛ في العلم والإيمان والتقوى وصفات الكمال، ولأنَّ فارق النور الإلهي في تلك النفس الجليلة من الصعب أن تُحدّق فيه العيون، وتثبت على رؤيته صامدة.
هيبة يفرضها عطاءُ الكبير العميق من الخشية والتقوى، وما يشيع في ذات علي عليه السلام من نور العصمة الموهوب من ربّه، وما تزين به شخصيته من نزاهة وجمال وسمو أخّاذ يعمر به قلبُه المشدود إلى الله عزّ وجلّ، المتلقّي من هُداه، المسترفد من نوره.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد وزدهم تحية وبركة وسلاما، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب عليك إنك أنت التوب الرحيم.
ربّنا افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وانقلنا من سوء الحال إلى حسن حالٍ من عندك.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([11]).
[1]- 7/ الزمر.
[2]- 10/ الزمر.
[3]– سورة التوحيد.
[4]- هذه نصيحة يُقدّمها الكثيرون لكثير من السلطات.
[5]- الذي يحمل صورة النصيحة.
[6]- من دروس في هذا المورد.
[7]- في كلّ بلداننا العربية.
[8]- أُخِّر الحديث عن الإمام علي عليه السلام وهو المقدَّم.
كلمات أنقلها عن ضرار وأقف عند كل كلمة كلمة.
[9]- وكلُّ ذلك يخشع له القلب، وكل ذلك تدمع له عين الواعين من أهل البصيرة.
[10]- الفكرة عنده عليه السلام لا عابرة ولا قصيرة.
[11]– 90/ النحل.