مدرسة الشهر الفضيل ( آية الله قاسم )
مدرسة الشهر الفضيل (شهر رمضان)
آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
شهرٌ واحدٌ قمريٌّ في كلّ سنة، هو شهر رمضان المبارك. اتّخذته الشريعة الإسلامية مدرسةً عباديةً للناس، قِوامها الصوم بنيّة مخلصة لله سبحانه.
الطلاّب:
طلّابها كلّ مؤمنٍ بالغٍ قادرٍ عاقلٍ متوفّرٍ على بقية الشروط.
المدرّس:
والمدرِّسُ فيها لكلّ طالبٍ هو الطالبُ نفسُه، وهو المراقبُ لسير عملية التربية التعليم لذاته.
المنهج:
أمّا المنهجُ التربويُّ لهذه المدرسة فهو صياغةٌ إلهية مُتعالية فوق كلّ صياغة.
الأجواء:
أجواءها في البلاد الإسلاميّة الملتزمة تعمُّ كلّ جنبات المجتمع وأوقات ليله ونهاره؛ حيث التلاوة والدعاء والمناجاة والذكر والصلاة، والدرجة العالية من الانضباط في السلوك.
الهدف:
الهدفُ أن تُغمَر القلوب بالتقوى، فتشفّ وتنقى وتزدهر وتتألّق وتصلح وترقى؛ وحين إذٍ تستقيم النفس، وتنشط في الخير، وينفك ارتباطها بالشر، وتصلح كلّ الأوضاع وتهنأ الحياة، ويكون الناس على طريق الغاية، وينتهون إلى العاقبة الحميدة وسعادة الأبد.
فالدّورة التربويّة قصيرة – شهرٌ واحِد -، أمّا عطاءها فضخم، ونتاجها يفوق كلّ حساب، ولا انقضاء له مع الزمن، ويظهر أكثر ما يظهر لكلّ نفسٍ بعد هذه الحياة.
وإذا كان ذلك هو الهدف، وكان لهذه المدرسة كلّ ذلك العطاء والنتائج، فصوم شهر رمضان بهدفه المذكور وعطائه الضخم، لا بدّ منه لتلبية حاجة الحياة، وحاجة الإنسان، حاجة دنياه وآخرته؛ صحّة أوضاع الحياة، سلامة بُنية المجتمع، إقامة مجتمع القسط والعدل والإحسان والتعاون في الخير ودرء الشرّ، مجتمع الأخوّة والمحبّة والمودّة والصفاء والصدق والإخلاص والعمل الصالح، لا يتمُّ شيءٌ منها إلاّ بأن يكون وراء حركة الحياء في الأرض قلوبٌ مصنوعةٌ تلك الصناعة التي تُحقّقها مدرسة الصوم والصلاة والعبادة، فتُخرّجها قلوبًا هاديةً مهديّة، نقيةً زكيّة، راشدةً واعية، نورانيّة مُشعّة، لها رقيٌّ وسُمو من صلتها الدائمة بالله، وتعلّقها به، وزاد تقواها منه، وعشقها لجلاله وجماله وكماله.
الحاجة:
وكما للإنسان حاجاتُ حياةٍ بأن تستقيم أوضاعه فيها، ويبني مجتمعًا يشكّل بيئةً آمنةً وصالحةً لنموّ الأفراد وتقدّم الأوضاع، مفعمةٍ بالمحبّة والمودّة، فإنّ له حاجة النجاة يوم الآخرة والفوز فيها والتمتّع بالسعادة الأبديّة، وأن تَبني له حياته على الأرض المستوى الذي يُأهّله لملاقاة يوم القيامة، ويُعدُّه لنيل سعادتها التي لا تتحقّقُ إلا إلى ذاتٍ نقَت وسمَت، لا تعرفُ غير الاستقامة، ولا تميلُ إلى فعل شرٍّ على الإطلاق، وهذه الحاجة لا تفي بأدائها إلاّ مدرسة الصوم والصلاة والعبادة.
ذلك هو الهدف، وتلك هي الحاجة الذاتيّة في وجود الإنسان، والحاجة الدنيويّة والأخرويّة التي يطلبُ سدّهُما.
الوسيلة:
أمّا وسيلة هذه المدرسة في تربيتها للإنسان وتحقيق هدفها؛ فشيءٌ من جوع، وشيءٌ من عطش، وامتناعٌ من بعض الأمور لا يُعطّلُ حياة الإنسان ولا يشلُّ حركته، ولا يقفُ بعجلة إنتاجه، ولا يوقعُه في الضرر، ينطلقُ من إرادةٍ حُرّة، واختيارٍ رشيد، ورؤيةٍ سديدة واضحة، ووعيٍ للمُنطلَق والهدف وقيمة التكليف، واستحقاق الطاعة للآمِر وغِناهُ وحِكمته، ودقّة علمه وتقديره، وصوابيّة هذا العلم والتقدير، ورحمته وعظيم لُطفه وجليل ثوابِه.
وليس هو من الجوع والعطش والامتناع الاضطراري، ولا المُنطلق من تعذيب النفس، ولا الذي تسوق إليه العادة أو الذي يراعي ذوق الناس وأوضاع المجتمع ورضا المخلوقين، ولا ممّا نبتت القناعة به بتأثيرِ البيئة الموروثة والتقليد الموروث.
وعندما يكون المستهدف لهذه المدرسة صناعة الإنسان وإصلاحه وتغييره، وتصحيح وتطوير محتواه، والدفع بمستوى ذاته؛ فلا بدّ ان يكون خطابها لكلّ أبعاد التلقّي المُزكّي والموقِض، والمرتفع بمستوى هذه الذات.
وخطاب الصوم بما فيه من امتناعٍ عن تلبية بعض حاجات البدن، وهي الأكل والشرب بما لا يُفسدُ صحّته، وبعض شهوات النفس – كالنكاح وأمورٍ أخرى – في أرقى نيّة، وأسمى قصدٍ من امتثال أمر الله سبحانه والتقرّب إليه، وطلب رضوانه، وفي إخضاع إرادة النفس لأجلّ إرادةٍ وأنزه إرادة، إرادة الكامل سبحانه. هذا الخطاب؛ خطابٌ لعقل الإنسان وقلبه وجانبه الروحي ولإرادته، بأن تزيد في تعلّقها بالله سبحانه، وتواصل توجّهها إليه، وتشتغل بذكره، وتتقدّم في حركتها إليه، تلتزم صراطه، لا يشلّها شاغلُ عنه، تُنتج السلوك الذي يُرضيه، يكون خوفها منه، رجاءها فيه، حبّها وعشقها إليه. وفي هذا رشدُ الإنسان وسُموّهُ وكماله وسعادته.
التّأهيل والإعداد:
ولِدخول كلّ مدرسةٍ تأهلٌ وإعداد، وقريبًا يدخلُ المسلمون مدرسة الصوم في دورتها لهذا العام – فما هي إلاّ أيّامٌ وتتشرّف الأمّة بالشهر الكريم -. فاستقبالًا لهذا الشهر المبارك الفضيل، وإعدادًا للنفس للتّلقي من دروسه، والارتقاء إلى مستوى الاستفادة من عطائه، واستذواقِ موائده، وأداءِ شيئًا من حقّه، والخروج منه بحصولةٍ ممّا كان من أجله، لا بدّ من وقفة مع الذات قبل لحظة لقائه، ووصول لياليه وأيّامه.
وقفةٌ فيها مراقبة ومحاسبة ومُعاتبة، فيها تقويمٌ وتخليصٌ للنفس من العيوب، ومُطالبةٌ لها بالتراجُعِ عن الأخطاء، فيها انسلاخٌ من الذنوب، وأخذٌ بالنهوض، فيها تصحيحٌ ودفعٌ لها إلى الأمام على خطّ رُشدها وهُداها واستقامتها، وخضوعِها في هدفها وإرادتها ومُناها لإرادة بارئها العظيم.
وقفةٌ فيها وعضٌ للنفس، تذكيرٌ لها، تبصيرٌ بأهميّة الموسم وقيمتِه العالية عند الله سبحانه، ربحِه الخالد، والخسارة الجسيمة المترتّبة على إهمال شأنه والتقصير في معرفة مكانته والإساءة إليه أو التفريط في حقّه، وفي أن يخرج الآخرون بأعظم الربح منه واستحقاقِ الجنّة، وأن أخرُج منه بالربح الضئيل والحضّ الأدنى أو الوزر الثقيل أو بخُفّي حُنَين.
علينا قبل استقبال هذا الموسم العبادي الثّر، الذي صمّمتهُ العناية الإلهية لتزكية العبادة، والخروج بهم من ذلِّ الضعف إلى عزّ القوّة، ومن وهن العزم إلى قوّة الإرادة، ومن الخنوع للشهوة إلى الاستعلاء عليها، ومن عبوديّة الرغبة إلى الاختيار الحُر الرشيد، ولأن تسكب النفسُ زاد التقوى فَتَزينها في الدنيا وتقِيها العار والنّار في الآخرة، وتجعل مأواها الجنّة.
علينا قبل هذا الاستقبال، أن نقف تلك الوقفة مع النفس..
وبمراجعة النفس سنجد أنّ بنا ضعفا، وفي إرادتنا وهنا، وفي صدورنا أحقادًا وحسدا، وبيننا خصوماتٍ وعداواتٍ لا يرضاها الله سبحانه، وفي ذممنا حقوقًا لله، وحقوقًا للناس، وفي نيّاتنا سُقمًا وشوائب، ولا تخلوا نفوسنا من توجُّهٍ أو مَيلٍ لمعصية، وعندنا سوء خلُق فيما بيننا، وكذلك بيننا وبين الناس، وعدم تسامُح في موارد يحسُنُ فيها التسامُح، وتسامُحًا في موارد لا لينَ فيها، ونعيشُ تقصيرًا في حقّ المساجد وهي بالجوارِ منّا، وسنجدُ منّا عُبوسًا في وجوه المؤمنين مكان البِشر، وحالةً من الغضب والتعصُّبِ المُخرجة عن الحق، البعيدة عن موازين الدين، وإمعانًا في المجادلة من غيرِ وجهٍ صحيح.
سنجدُ عندنا تضييعًا للوقت الذي يملكهُ الله علينا، ولا نملكُ حريةً على الإطلاق في التصرُّفِ فيه، وسنذكرُ أنّ عندنا خلافاتٍ منزليةً يُسبّبُها جهلُنا بشريعة الله والتساهُلُ في الأخذِ بأحكامها، وهي خلافاتٌ تُمزّقُ أسرنا، ومجاملاتٌ ضارّةٌ على خلاف مُقتضى الدين، وتقصيرًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وغلَبة لسان تُسبّبُ لنا كثيرًا من الخطأ والغيبة والقول المُؤسِف، والوقوع في الهَلكات، وخُلوًّا أو برودًا في الهم الاجتماعي، وسلبياتٍ كثيرة يعيشُها داخلُنا وواقعُنا الخارجي، تتجلّى أمامنا لو درسنا النفس وما يصدُرُ عنها، ويترشّحُ عنه ما فيها من مضمون.
وكلّ هذا يُعطّل عملية الاستفادة من مدرسة الصوم والعبادة أو يُقلّلُ درجة الانتفاع بها، وينغلقُ بالذات عن هدايات هذه المدرسة وأنوارها، واستقبال إيحاءاتها وإشاراتها، والوصول إلى مالها من أسرار، وماهي عليه من كنوز.
نحتاج ونحن نستقبلُ هذا الشهر الكريم المِعطاء، إلى إعداد النفس لتتربّى على موائده، وتتزّكى بعطاياهُ من توبةٍ صادقةٍ نصوحٍ لغسلِ أدران داخِلِنا، وتجدُّده ليعود صالحًا كما كان حسب الفطرة، لتلقّي فيوضات الأنوار الإلهيّة، وهدايات السماء.
لا بدّ للنفس وهي تطمعُ في أن تخرُج بربحٍ ضخمٍ من هذا الشهر الكريم، أن تتخلّى ابتداءً عن الذنوب والآثام، وتتحلّى بالطاعات والقرُبات.
والحمدُ لله ربّ العالمين.
* خطبة الجمعة الأولى – العباديّة– [562] 25 شعبان 1434هـ / 5 يوليو 2013م | جامع الإمام الصادق (ع) بالدراز.