مقال : عن استهداف قاسم.. والمكانة الدينية
عن استهداف قاسم.. والمكانة الدينية
عندما ألحّ الحاكم المدني للعراق بول بريمر على مقابلة المرجع الأعلى للشيعة آية الله السيد علي السيستاني (83 عامًا) رفض الأخير مقابلته، وقال كلمته المعروفة: “أنت أمريكي وأنا إيراني.. فلماذا لا ندع العراقيين يختارون مستقبلهم بأنفسهم”. ومن المعروف أن السيستاني، نسبة الى محافظة سيستان الايرانية، كان له الدور الأكبر في إخماد الحرب الطائفية في العراق بين الطائفتين السنية والشيعية في الفترة الحرجة بعيد سقوط نظام البعث.
المرجعية الدينية ليست وظيفة تُمنح، بل تكليف ديني، ومسئولياتها ونطاق تحركها لايحدده “فرمان” يصدر عن سلطان، أو رئيس “مخفر شرطة” بل هو فهم لتكليف شرعي يضطلع به المرجع وفق رؤية فقهية تحدد له أفق التحرك، ويتسم السلوك الشخصي للمراجع الدينية الكبيرة بالانصراف عن الدنيا، والزهد فيها، والانقطاع الى التحصيل العلمي مدة علمية تتجاوز النصف قرن في أغلب الحالات التي رصدناها لرموز المرجعية الدينية المعاصرة.
ما يميز المرجع الديني، أمران لهما الدور الأكبر في اتساع نطاق وشهرة وعدد مقلديه: علميته أو “أعلميته” من بين فقهاء عصره، والأمر الثاني: نزاهته الشخصية وزهده وتقواه، ويتعاظم في السنوات الثلاثين الأخيرة دور “الحركية الثورية” للمرجع ضمن تغير له مغزاه الدال في سياق تحولات الفكر الشيعي بعيد انتصار الثورة الاسلامية في إيران.
من الصعب عند الحديث عن المرجعية الدينية الشيعية ملاحظة البعد القومي لشخص المرجع، فالدين والمذهب عادة عابران لحدود القومية والجغرافيا، وما التعليل المذكور إلا بتأثير الدولة القومية نفسها التي أرادت لعب الورقة القومية داخل المذهب الشيعي في خلافها مع ايران تحديداً. الشيء بالشيء يذكر، فإن الامام الخميني نفسه (ت 1989) كان هندي الأصل، ليس ايرانياً أو فارسيا، بل من سلالة جد هندي نفاه الانجليز من كشمير!! فقد أبعدت السلطات البريطانية بالهند جده أحمد الهندي من كشمير في القرن التاسع عشر، واستقر به المقام بالنجف، وحصل أن جاءت جماعة من منطقة خمين الإيرانية لغرض الزيارة فدعته الى الاقامة بخمين، وهناك تزوج الجد وولد له مصطفى، الذي تزوج من ابنة أحد المجتهدين فولد “روح الله” وأخويه، وقتل الأب 1900. (فهمي هويدي: ايران من الداخل، ص 20).
كما أن المرجعيات الدينية في النجف الاشرف اليوم، يتقاسمها أربعة اقطاب علمية من مناشئ قومية مختلفة، السيستاني الايراني (83 عاما)، والعربي محمد سعيد الحكيم ( 79عاما)، والباكستاني بشير حسين اللاهوري النجفي ( 71 عاما)، والأفغاني محمد اسحق الفياض ( 83 عاما).
ومن المعروف أن العشائر العراقية الشيعية العربية، من محيط النجف والفرات الاوسط عموما، قلدت وتقلد المراجع غير العربية التي استقرت في العراق طيلة حياتها، مثل السيد أبي الحسن الاصفهاني (ت 1946) وابي القاسم الخوئي (ت 1992) وحالياً علي السيستاني.
الشيخ عيسى أحمد قاسم (79 عاما) يعد اليوم أحد أبرز الوجوه البحرينية الإسلامية المعروفة في مراكز الثقل الديني في النجف الاشرف وقم المقدسة، وله مع علمائها وعلماء منطقة الخليج علاقات إنسانية واجتماعية وعلمية واسعة الى جانب شعبيته العارمة في الداخل، وكلمته الفصل في الكثير من الملفات الوطنية، وهو و إن لم يطرح رسالة علمية تضم فتاواه الدينية، إلا أن الكثرة الكاثرة من البحرينيين يرجعون الى كلمته في المسائل الدينية وكثير من القضايا السياسية يطرحها على منبر الجمعة في جامع الامام الصادق (ع) في قريته الدراز .
مارس قاسم التعليم في الستينات، ثم توجه إلى النجف، حيث تخرج من كلية الفقه هناك، ودرس البحث الخارج على يد فقهاء منهم محمد باقر الصدر (أعدم 1980) وفي بداية التسعينات توجه إلى مدينة قم وواصل دراسته على يد أساتذتها الكبار كمحمود الهاشمي و كاظم الحائري و فاضل اللنكراني (ت 2007).
وما جرى من اقتحام لمنزل قاسم، لايمكن فهمه في الداخل والخارج، ضمن هذا السياق الذي أشرنا إليه من كون الدين عابراً للقوميات والحدود الجغرافية، لايشكل إهانة شخصية لابن الحاج أحمد الدرازي القابع في الدراز ، في حيّ بسيط، بل استفزاز اً لكتلة بشرية يوحدها الدين ويجمعها رابط المذهب.
وعندما تأتي هذه الخطوة التصعيدية الخطيرة، ضمن متلاحقات من الأذى المتواصل لمكون مذهبي أُستهدف لديه المجال الديني في أقدس مواضعه؛ الإنسان، والمسجد، وحرمة البيوت، وأعراض النساء، ولا يبدو أنه أخيراً انتهاك حرمة ومكانة “رجل دين” له مكانته الجليلة في نفوس الكثيرين في الداخل والخارج؛ فإنها لا تفهم إلا في سياق مسلسل الاساءة والانتقام لرمزية مذهب ديني واستهداف أتباعه وعلمائه ومساجده ودور العبادة التابعة له.
أخشى أن يكون هذا التصعيد الخطير، محاولة لطأفنة الأزمة، وجر الساحة الى ما لا تحمد عقباه عبر استفزاز المعارضة وجرها لاتخاذ مواقف تصعيدية تكلف البلاد والعباد الكثير وتعمق الازمة وتعقدها.
وأيّاً تكن النوايا التي دفعت لاتخاذ هذا الإجراء الطائش، فإن “البحرين” عادت مجدداً لتتصدر وكالات الأنباء العالمية والفضائية ولكن بأخبار “مخزية” .. كما كانت لعامين مضيا، بشكل أعاد للانتفاضة الشعبية التي لم تهدأ يوماً وهجها من جديد.
يقول الشاعر:
أتيت سروري إذ أردت مساءتي / وقد يحسن الانسان من حيث لايدري
إلى اللقاء.