خطبة الجمعة (544) 18 ربيع الثاني 1434 هـ ـ 1 مارس 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : الرؤية الإسلامية للإنسان
الخطبة الثانية : ممنوع قانونًا أو بقرار – العنف – الاستفتاء – من يُعطّل الحوار؟ – مستَجَدٌّ إنسانيّ روعة – دم غالٍ، ودم رخيص، وكلمة مكلفة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يشغله علمُ شيءٍ عن شيء، ولا خَلْقٌ عن خَلْق، أو تدبيرٌ عن تدبيرٍ، أو تقديرٌ عن تقديرٍ. فكلُّ الأشياء معلومةٌ له أزلًا بلا غيابٍ لشيء منها عن علمه أبدًا، مقهورة بقدرته دائمًا مطلقًا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنّ أحدنا لا يساوي في النصيحة بين عالمٍ وجاهل، ولا بين ذي خِبرة ومن لا خِبرة له، وبين أمينٍ وخائن، ولا يردُّ نصيحةً لأهل السبق الكبير في العلم والخبرة والصِّدْق والأمانة.
فما لنا نتوقّف أمام أمر الله ونهيه، ويُراود النفس شكّ في الحكمة والنّصيحة منه؟! وما لنا نُقدِّم أمر غيره على أمره، ونهيه على نهيه؟! أعليمٌ كالله سبحانه؟ أخبير كالله عزّ وجلّ؟! أصِدْقٌ، أأمانة، أرحمة، أغنى كصدق الله، وأمانته، ورحمته، وغناه؟!
لبئس سوءُ عبدٍ قدّم هوى نفسه على طاعة ربّه، وتَرَكَ أمر الله سبحانه لأمرِ عبدٍ من عبيده، وارتاب في نصيحته وهو الكامل المطلق لنصيحةِ مَنْ لا سَداد له بتسديده، ولا عِلمَ له إلّا من عنده، ولا رُشْدَ له إلا من نعمته.
ألا أيُّها المؤمنون فلنتركْ كلَّ نصح لنصح الله، ولنُخالف كلّ نهي لأمر الله، ولنردّ كلّ أمر لنهيه فبالله الغِنى عن كلّ من عداه، ولا غنى بأحدٍ عن الله، وقد نَجَا من اتّقاه، وفاز من أطاعه، وخسر من عصاه.
ربّنا لا حول ولا قوّة إلّا بك، ولا هدىً إلّا من عندك، ولا توفيق لخير إلّا برحمتك، وما السَّداد والرّشاد والتوفيق للطاعة إلّا من فيضك فارزقنا هداك، وخُذ بيدنا للسداد والرشاد، وهب لنا توفيق الطّاعة، والنأي عن المعصية، وجنِّبنا كلّ ما تكره لعبادك الصالحين يا كريم يا رحمان يا رحيم.
اللهم افعل بنا وبإخواننا المؤمنين والمؤمنات كلّ خير، وادفع عنّا كلّ شر، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا ومن علّمنا علمًا نافعًا في دين أو دنيا من مؤمنٍ ومؤمنة وصلّ على محمد وآل محمد وارفع درجتهم، وارزقهم المزيد من فضلك وإنعامك وكرمك وإحسانك يا من لا يقصر إحسانُه، ولا يضيق كرمُه يا حميد يا مجيد.
الرؤية الإسلامية للإنسان:
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فكان الكلام في خصائص من خصائص النقص عند الإنسان، والنابعة من طبيعته وفقره الذاتيّ وإمكانه، وهذه تتمّة في هذا المجال:
صفة النسيان:
من نَسِيَ ما عَلم جهِل، وانبنى موقفه على جهله، ومن خَسِرَ ذِكْرَ تجاربه كان كمن لا تجربة له، وفَقْدُ التجارب يُوقع في الأخطاء والخسائر.
ومن استولت عليه لحظةُ الحاضر وحجزته عن دروس ماضيه خَسِرَ عطاء تجاربه مما لا غِنى له عنه، وعاد كأنّه طفل من ناحية فقد التجارب، وكان على ما عليه الطفل من فجاجة، وحاجة إلى التسديد والتوجيه والإرشاد، فإنّ التجارب عقل ثان – كما في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام – لا غنى عنه للإنسان، فقوّة الإدراك التي يتمتع بها هذا المخلوق لا تفي بحاجته بلا عطاء التجارب، فحيث يخسرها تُوقِعه خسارته هذه في النقص الذي يربك حياته، ويجرّ إليها الفوادح.
وفي ما يَمسّ الإنسان من ضُرٍّ، وما ينتابه من مصائبَ يَشْعُر معه بالحاجة الضَّاغطة إلى الله، المجلّية له ضعف نفسه، وأنْ لا شيء منها أو من غيرها من دون الله عزّ وجلّ له القدرة على إنقاذها من المأزق، والخروج بها من الورطة، والإنقاذ لها من الهلاك أغنى التجارب وأعلاها وأثمرها وأكبرها جدوى حيث تنقل النفس من الضَّلال إلى الهدى، ومن التّيه إلى الطّريق، ومن الملتوِيات إلى الجادّة، وتعتِقُها من كلّ سوئها وبلواها.
ومما عليه طبيعة الإنسان، وبمقتضى نقصه، ومحدوديّته وفقر ذاته أن ينسى هذه التجارب من تجارب حياته، فيخسرَ عطاءَها الثرّ، ويذهب من قلبه نورها فيضلّ ويغوى ويستسلم لجاهليته من جديد.
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}([1]).
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}([2]).
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}([3]).
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}([4]).
هذا النسيان القتّال صفة ذاتية في الإنسان تُؤكّدها آيات القرآن الصّادق، ويحتاج الإنسان للتخفيف من غلوائها، وأثرها السّيء على حياته ومصيره، وصحّة رؤيته وتقديره وموقفه وهُدى نفسه إلى اتّباع المنهج الإلهي الهادي الذي جاء لإنقاذه، وإلّا غَرِقَ في الجهل والأخطاء والكوارث.
ترى الإنسانَ ينسى الله سبحانه وقدرته وحاجة نفسه وكلّ شيء آخر إلى رحمته وعطائه وتدبيره، وينسى تضرّعه إليه، وتشبُّثه عند الشدّة بأذيال كرمه، وانقطاع أمله إلّا من فضله وجوده أنْ خوّله الله النعمة التي كان يفتقدها، وأخرجه من الكربة التي كان فيها، وأنقذه من الهَلَكَة التي تعرّض إليها فصار ينسب النعمة إلى نفسه، ويتبجّح بعلمه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}.
إنّه يفرح، ويفخر، ويعتدّ بذاته، ويعظُم كِبْرًا وكذبًا في نفسه حين تتبدّل كربته إلى فرج، ويجد من مصيبته المخرج، وتذهب سيئة ضرّه ومرضه وفقره.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ([5])، إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}([6]).
هذا هو شأن الإنسان أمّا النَّاجون من هذا النسيان الذي يُعيد صاحبه إلى كفره بعد إيمانه، وإلى جاهليّته بعد هداه، وإلى التنكُّر إلى ربّه بعد دعائه وتضرّعه إليه فهم الآخذون بمنهج الله، الذين صاغوا أنفسهم في ضوء هداياته، وأنوار دينه، وأحكام شريعته {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا على ذِكرٍ دائم منك، ومن نعمائك، وحاجتنا إليك، وأنْ لا غنى لنا إلّا بك، ولا خير عندنا إلّا منك، ولا مخرج لنا من سوءٍ إلّا برحمتك، ولا تجعل من ضرّاء مسَّتنا سببًا للسّخْط على قضائك وقدرك، ولا من سرّاء نالتنا سببًا لنسيان فقرنا إليك، واستكبارٍ نستحقّ به سخطك يا أرحم من استُرحِم، وأكرم من سُئِل، وأجود من أعطى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}([7]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله غيرُه، ولا مخلوقَ من غير خلقه، ولا مرزوقَ إلّا برزقه، ولا عِلْمَ إلّا بتعليمه، ولا تدبير إلّا بتدبيره، ولا خير ولا شرّ إلّا بإذنه، ولا مُقدّم ولا مُؤخّر إلّا بإرادته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ما من دين حقّ يُبيح دم الأبرياء، وإزهاق النّفس لأيّ إنسان من غير ذنب مُوجِب، وعدوان مستحق، وما اتّقى الله من استباح الدَّم الحرام، وما أقام أحدٌ لدينِ الله حقَّ وزنه ما لم يراع حرمات النّاس، وما أجرأ نفسًا على انتهاك حقّ الله سبحانه في إقدامها على قتل مؤمن، وما أشدّه من فسادٍ أن يَشيع القتل بغير ما أنزل الله، وما أظلم من برّأ القاتل، أو جرّم القتيل، أو رضي بقتل بظلم.
يا أهل الشهادتين لا تعيدوها جاهلية لا تعرف حرمة لمال أو عرض أو نفس فتجدوا من الله ما لا تحتسبون. اتقوا الله الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يَردًّ بأسه رادٌّ من أرض أو سماء.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نجرأ على شيء ممّا حرَّمت، أو ندنو من شيء مما حظرت، أو نستهين بعقابك، ونستخِفّ بأليم عذابك، أو نستسيغ معصيتك ومخالفتك، أو نتخلّف عن طاعتك يا حنّان، يا منّان، يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلي علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
أمّا بعد أيها الأحبّة في الله فإلى هذا الحديث:
أولًا: ممنوع قانونًا أو بقرار:
الاعتصام في المنطقة الفلانية وإنْ لم يُعطّل المصالح العامة ممنوع قانونًا أو بقرار، تسيير مسيرة سلميّة في العاصمة ممنوع، كلامُ السّياسة في بعض المساجد ممنوع، الاجتماع للصّلاة في أوقاتٍ مختارة ممنوع، تشييع شهيدٍ في المنطقة الفلانية ممنوع، دفن شهيد لابد أن يكون في المكان الفلاني وغيره ممنوع.
وهكذا يمتدّ المنع ويتوسّع حتى يُغطيَ جُلَّ مساحة الحياة، ويسدّ المنافذ، ويسلبَ الهامش الضئيل من الحرية، ويُضيّق الأنفاس، ويشتدّ الضغط من غير حساب. ولكون الصّبر ينفذ حسب الطبيعة البشريّة عند سدّ كلِّ المنافذ، وأنّ النّاس يحاولون المستحيل للقفز على الحواجز لو أُغلقت عليهم كلّ الممرّات حتى لو توقّعوا أنهم بذلك يخسرون الحياة حيث إنَّ في ذلك فيما يرون المحاولة الأخيرة للاحتفاظ بالحياة كان من أخطر الخطر أن تسدَّ على النّاس كلّ المنافذ.
إنّ كثرة المنع تهدم المنع، وشدّة التضييق تدفع لكسر الطوق والتمرُّد على الواقع.
من العقل جدًّا أن لا تسدّ كلّ المنافذ، أن لا تضيق السّبل إلى الحدّ الذي لا يطاق([8]).
هناك واقع فوق الطاقة، وواقع لا يمتنع عليها ولكنّه يُمثِّل حالةً حرجية تضيق بها الصدور، وقد راعى الدين الحقّ أن لا تكون تكاليفه فوق الطاقة البشرية، وأن لا تتسم أحكامه بالحرج رحمة بالعباد، وتقديرًا حكيمًا لواقع الإنسان، وأنَّ حرج الأوضاع لا تصبر عليه النفس البشريّة، وأنّه يفتح الباب على مصراعيه لحالات التمرّد والانهيار.
فمن أراد لقوانينه وقراراته وسياساته أن يصبر عليها صابر فعليه أن لا يتجاوز بها حدَّ الطاقة عند النّاس، وأن لا تزداد طُغيانًا، وتحوّل حياتهم إلى جحيم، وأن لا تكون حياتهم بها حرجية.
العنف:
صارت إدانةُ العنف شعارًا حكوميًّا كَثُر ترديده من الحكومة ومن أتباعها في مطالبةٍ مستمرةٍ للمؤسسات السياسية المعارضة وللشّعب بتكراره، والحماس له، والمداومة عليه. والمعني بالتحديد هو إدانة هذه الجمعيات وكلِّ رموز المعارضة والشعب للعنف الذي تَنسِبُه السلطة للجمعيات والرموز والشعب([9]).
ولم يكفِ السلطة رفضُ العنف من أي طرف وشجبه المتكرِّر من القوى السياسيّة المعارضة والرّموز والعلماء. ذلك لأنَّ السلطة تريد أن تُبرّئ نفسها تمامًا من العنف والإرهاب مع الصورة المكشوفة للقتل تحت التعذيب، والقتل في المسيرات والمظاهرات، وفي الحالات الأُخرى، والذي يُمارَس على يد أجهزتها وميليشياتها مما سبَّب سقوط عشرات الضحايا من أبناء الشّعب حتى وهم داخل البيوت في مثل حالات الاختناق بالغازات السامة.
ولم تكتفِ السلطة بالإدانة عن طريق التصريحات والبيانات المختلفة ومنها الوثيقة الموقّعة من الجمعيات السياسية المعارضة في إدانة العنف، فجاءت المطالبة للجمعيات والرموز والعلماء بموقفٍ عمليٍّ صارمٍ حاسمٍ من العنف الذي يُراد إلصاقه بالشعب وجمعياته السياسية ورموزه وعلمائه.
وكأنّ المطلوب من الشعب أن يُكوِّن جيشًا من بين أبنائه لمواجهة حراكه الشعبي في مسيراته ومظاهراته واعتصاماته([10]).
وانتشرت تصريحات من الحكومة وأتباعها في الرّأي أنه لم يعد أسلوب الإدانة والشجب منكم لعنفكم يا جمعيات ويا رموز وعلماء كافيًا فلا بد أن تقيموا حربًا بينية في صفوف الشارع المعارض باسم القضاء على العنف.
وانتقل الأمر إلى أن تتحوّل القضية على يد المحاور عن السلطة إلى قضية شرط من شروط الحوار الذي يتحمّل مسؤولية إيقاف العنف الذي تُمارسه أجهزة السلطة.
ويأتي هذا الشّرط داخل الحوار لتوازيه أكثر من محاولةٍ للقتل العمد لأبرياء من أبناء الشّعب وهي محاولات لا ينقصها التوثيق ولا التعرُّف على هوية الجاني وتتجاهلها الجهات الرسمية المختصة لما فيها من إدانة للسلطة([11]).
الشرط المتبنّى داخل الحوار، والإرهاب المشار إليه والممارس في الخارج يتناصران من أجل هدم الحوار، ونسف الحوار، وتقويض الحوار.
الاستفتاء:
الكلُّ يعرف أنَّ على أرض البحرين شعبًا وسُلطة، وليس شعبًا فقط، ولا سلطة فقط، ولا سلطة في مقابلها جمعيات سياسيّة وبعض الشخصيات المستقِلّة فحسب.
والكلُّ يعرف أن المشكلة القائمة الحادة طرفاها الأصليان الشعب والسلطة.
والكل يعرف كذلك أنْ ليس من أحد لو تكلّم باسم السلطة من غير تفويض صريح منها وإنْ كان من بين أعضائها فإنّه يُمثِّل النظام والسلطة. وكذلك أن ليس من أحد لو تكلّم باسم الشعب وإن كان واحدًا من أبنائه أو عضوًا في جمعية من جمعياته من غير تفويض صريح فهو يمثلّه.
هذه قضايا ثلاث لا يُمارى فيها، وليس على شيء منها غبار.
وفي ضوء هذه القضايا الواضحة أيّ حوار يكون كِلا طرفيه أو أحدُهما لا يمتلك تفويضًا صريحًا ممن ينسب نفسه إليه من النّظام أو الشّعب فهو ليس حوارًا بين الطرفين الأصليين، وأنَّ نتائج الحوار في حكم العقد الفضوليّ، ولا يمكن أن يمضيَ في العدل والقانون إلا بإمضاء الطرف الأصيل الذي لم يُمثَّل في العقد بإرادته الصريحة.
هذا على مستوى لغة الشرع والمنطق والقانون والعرف.
ومن ناحية عمليّة تعالوا نفترض سقفين لنتائج الحوار، وما يُنهي إليه من إصلاح؛ سقفًا يرتفع مستوى إصلاحه إلى عشر درجات، وسقفًا آخر يبلغ مستوى الإصلاح الذي يُحقّقه عشرين درجة.
والسقف المرتفع نال الموافقة من كِلا طرفي الحوار لكنه لم ينلْ موافقة الشّعب لهذا السبب أو ذاك فهل سيُعطي التهدئة المطلوبة، ويُقارب المسافة بين الشعب والحكم، وهل سيُوقف احتجاجات الشّعب ومسيراته ومظاهراته واعتصاماته؟!
الجواب بنعم لا يأتي إلّا عنادًا ومكابرة.
ولو نال السقف الإصلاحيّ الأقلُّ مستوى رضى الشارع، وموافقةَ الشّعب لسبب وآخر بأن استُفتي بشأنه وأعطى له موافقته فهل ستُهدّئ هذه الموافقة الوضع، وتُنهي حالة التوتر والفوران، وتضع الوطن على طريق جديد بعيد عن الزلزال؟
نعم وبكلِّ تأكيد فهذا ما تقوله طبيعة الأمور إذا جاء الاستفتاء صادقًا أمينًا بلا التفاف ولا مراوغات ولا مغالطات.
إنَّ الاستفتاء على نتائج الحوار من أجل إلزام الشعب والتزامه بها، وفي لغة الشرع والقانون والعقلاء، ولغة الواقع، ولمن أراد هدوء الأوضاع، وانتهاء الاحتجاجات بكلِّ مظاهرها وفعالياتها أمرٌ لابد منه([12])، وبدونه لا يخرج الشعب من صورة القهر([13]).
من يُعطّل الحوار؟
يوم الإصلاح الجدّي يوم ينتظره الشعبُ وتنتظره المعارضة على أحرّ من الجمر، وإذا كان من حوار يُمكن أن يُوصِل إلى ذلك اليوم الذي هو مبتغى الشعب، ومبتغى المعارضة فالجانب الشعبي حريص عليه، وعلى استكماله، وإنجاحه أشدّ الحرص.
فإذا كانت السلطة لا ترى وجود مشكل يتطلّب الحلَّ فإنَّ الشعب محترقٌ بنار المشكل فلا يسعه أن يُوافق على إنكاره، وإذا كانت السلطة تؤمن بوجود المشكل وتُعاني من ضغطه ولكنّها لا تشعر بالحاجة الملحّة لحلّه، وليست مستعجلة في التخلّص منه، أو لا تُريد أن تعطي ثمن تعافي الوطن منه، وخروجها هي من تبعاته فإنَّ الشعب يشعر بالحاجة إلى الحلّ المتمثّل في الإصلاح الحقيقيّ، ومستعجلٌ في ذلك ولكن لا على حساب كفاية الحلّ وجدّية الإصلاح والتعافي الحقيقيّ من المشكل، وهو مستعدٌّ كل الاستعداد للتعامل الإيجابي مع إصلاحٍ غير هازل، ولا مهزوزٍ، ولا منقوصٍ، ولا منقوضٍ، ولا متحايَل عليه.
وفي ضوء هذا كله لا يُتصوّر في جانب المعارضة أن تستهدف عرقلة الحوار، ووضع العصا في عجلته، والعملَ على تبطئة سيره، فضلًا عن إفشاله.
استهداف المعارضة الداخلة في الحوار لشيء من هذا يمثّل سيرًا في الاتجاه المعاكس تمامًا لمرادها، فلا يمكن أن ترتكب وهي العاقلة الحكيمة هذه الحماقة.
فإذا كان هناك من يعمل على عرقلة الحوار وتعطيله وتبطئته وإفشاله فلا بد أن يكون في غير طرف المعارضة، والشاهد العملي في السّاحة الخارجيّة من محاولات قتلٍ عمديٍّ عن طريق الرّصاص الحيّ، والتصفية الجسدية بالسّيارة خير شاهد ودليل حيّ على ذلك.
مستَجَدٌّ إنسانيّ روعة:
ما هو هذا المستجَد الذي امتازت به ساحة هذا الوطن؟ ذلك هو سجن الأموات المقتولين عمدًا ظلمًا ليجتمع في حقّهم ظلم القتل عمدًا، وظلم المنع من الدّفن.
عَرَفَتْ الدّنيا وتميّز هذا البلد من بين ما تميّز من بلدان الدنيا في سجن الأحياء، وبدأ بلدنا مرحلة جديدة متطوّرة في مجال السجن بأنْ دخلنا مرحلة السجن للشهداء الأحرار على حدّ السجن للأحياء الأحرار([14]).
نحن بلد له أن يَفتخر بمسابقته البلدان الأخرى في أكبر عدد من السجناء الأحياء من مختلف الأعمار، وسجن النساء([15])، وسجن الشهداء إلى جانب مفاخر كثر من هذا النوع وأبشع. وهي مفاخر يتبرّأ منها الشعب.
رحمك الله محمود بن عيسى… أيّها الشهيد السّعيد برحمة الله… مضيت على طريق الإيمان والعزّة والكرامة واحدًا من سلسلة طويلة من شهداء هذا الوطن الممتحَن([16]).
دم غالٍ، ودم رخيص، وكلمة مكلفة:
في البحرين وعند السلطة بالتحديد دم غال وهو دم جندي أو شرطي – ونحن نوافق السُّلطة في ذلك ونشترك معها في الرّأي – ودم رخيص هو دم أيّ مواطن معارض ولا يشاركها في هذا الرأي دين ولا عدل ولا ضمير ولا عرف ولا قانون ولا ميثاق، وهناك كلمة مكلفة باهظة الثمن في ميزان السياسة المحلية هي كلمة حق تطالب بحقوق الشعب.
لغلاء الدم الأول تصدر أحكام بالإعدام وأحكام بالسجن المؤبّد أهمُّ خلفية لها اعترافات مأخوذة تحت التعذيب. ولرخص الدم الثاني تتوالى أحكام البراءة للقاتل عمدًا، وللقاتل تحت التعذيب إذا كان المقتول واحدًا من صفوف المعارضة شارك في مسيرة احتجاجية أم لم يُشارك وكان القاتل مرضيًا عند السياسة، وكلُّ الألوف التي ضمّتها جدران السجون وتضمّها، وكلُّ الرموز الذين صدرت بحقّهم أحكام بالسِّجن المؤبّد ثمَّ صار حكمهم السِّجنَ لخمسة عشر عامًا شهودٌ بمن مات منهم تحت العذاب في السجن، ومن قضى مدة سجنه، ومن زال في ظلمات السّجون على أنَّ كلمة الحق المطالِبة بحقوق الشعب شديدة الكُلفة باهظة الثمن، وثمنها الموت تحت العذاب.
ما هذا؟ هذا عدل، هذا نزاهة، هذا شفافية، هذا دين، هذا مثاليّة.
أعلينا أن نقول ذلك؟ نعم وبكلّ تأكيد وإلّا إذا سَلِمَ لسان من يقول عكس ذلك، وسَلِمَ رأسُه فهي نعمة من نِعَم السياسة، ومِنّة من مننها، وضَرْبٌ عظيم من ضروب التسامح والإحسان.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربَّنا إليك لجأنا، وعليك اعتمادنا وتوكّلنا، وأنت خير الناصرين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([17]).
[1]– 8/ الزمر.
[2]– 115/ طه.
[3]– 12/ يونس.
[4]– 49/ الزمر.
[5]– بما يفخر الإنسان؟ يفخر بما أنتجه، يفخر ما جرى له من خير على يده، وهل لإنسان أن يجري الخير له على يديه وبقدرته ومن ذاته حتى يفخر؟!
أهكذا الإنسان كلّه؟!
[6]– 10، 11/ هود.
التربية الإيمانية، المنهج الإلهي الصنّاع الذي يستقيم بالنفس البشرية على الخط القويم.
[7]– سورة العصر.
[8]– الله عزّ وجلّ حرّم ما بطن من الإثم وما ظهر، ولم يُحرّم غيره، ومع ذلك العاصون أضعاف الأضعاف من المطيعين لأمر الله عز وجل، فكيف بي وأنا البشر إذا لم أبق مساحة من المباح؟! وتوسّعت في قانون المحرّم حتى غطّى مساحة الحياة أو جُلّها، فهل أرتقب أن أُطاع؟!
[9]– أدينوا أنفسكم، أثبتوا الجريمة على أنفسكم، عاقبوا أنفسكم، اشهدوا على أنفسكم!
[10]– بقي أن نقتتل، بقي أن نحترب، بقي أن نتواجه مواجهة دموية باسم إدانة العنف. ولنكون قد اتخذنا موقفا عمليا في محاربة العنف!
[11]– اقتتلوا، احتربوا بينكم، لتبرهنوا على أنكم اتخذتم موقفا جدّيًا من العنف، في موازاة لهذه الدعوة يجري القتل للأبرياء من أبناء الشعب.
[12]– حتى يلتزم الشعب وتُلزم الشعب بنتائج الحوار خُذ رأيه، وإلا فكيف يلتزم وتُلزمه بنتائج لم يُؤخذ رأيه فيها، ولم يوافق عليها؟!
[13]– أن اتّفق طرفان أيًّا كانا.
[14]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
[15]– لنا هذا الفخر، لنا هذا الشرف!!
[16]– هتاف جموع المصلين (بالروح بالدم نفديك يا شهيد).
[17]– 90/ النحل.