خطبة الجمعة (543) 11 ربيع الثاني 1434 هـ ـ 22 فبراير 2013م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: تكملة لموضوع: الرؤية الإسلامية للإنسان
الخطبة الثانية: هل لهذا الشارع رأي؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا عُذرَ لمنكره، ولا حجّة لجاحدِ آلائه، ولا هُدى لمن عصاه، وتخلَّى عن طاعته. آياتُه ملءُ السماوات والأرض، وكلّ شيء زاخرٌ بدلائل قدرته وعلمه وحكمته، ومضاءِ مشيئته، ولا شيءَ من الكائنات إلّا وهو ناطقٌ بنعمته، ومتحدِّث عن فضله. أمرُه ونهيُه رحمةٌ بعباده، وطريقهم الوحيد إلى الكمال، وتجنُّب السّقوط والخَسار.
لا حاجةَ له لمن خَلَقَ ورَزَق، ومن بيده كلّ أمره، ولا خير له إلّا من عنده. لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضرّه معصية العاصين، لا يُعصى مقهورًا، ولا يُعانَد مغلوبًا، قاهرُ كلّ قاهر، وغالبُ كلّ غالب.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ما منّا مُستغنٍ عن عفو الله، فالإنسان خطّاء، وحقُّ الله لا يُوفّى، وقدرته لا تُحدّ، وبطشه لا يُطاق، وما أعدّه للعصاة من العقاب لا يُحتمل، ولا ملجأَ إلّا إليه، فلا سبيل إلى النجاة إلّا بالتوسُّلِ إليه برحمته، والتذلّلِ بين يديه طلبًا لعفوه ومغفرته مع البُعْدِ عن المعصية، ولزوم الطّاعة، والإخلاص في العبادة.
وليس لمستكبرٍ إلّا أن يستعدّ لمواجهة جبروت الله، وأخذه الشّديد، وأنَّى لعبدٍ مملوك منه وجودُه، وحياتُه، وكلُّ ما له من حَولٍ لخالقه ومدبّره من مقاومة أو مفرٍّ من حكم الله، أو تحمُّلٍ لسخطه؟!
علينا عباد الله بطلبِ رضا الله بتقواه، وصِدْق طاعته وعبادته، وإلّا فقد ساء المصير، وحقّ الخسران المبين، وكانت العاقبةُ هي العذاب.
اللهم دلّنا عليك، واسلك بنا سبل رضوانك، وانتهِ بنا إلى جنانك، ولا تكِلنا لأنفسنا، ولا لأحد من خلقك طرفةَ عين أبدًا يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم الطف بنا وبإخواننا المؤمنين والمؤمنات وبوالدينا وأرحامنا ومن علّمنا علمًا نافعًا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة، وأصحابنا، واغفر لنا جميعًا وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فلا يزال الحديث في موضوع:
الرؤية الإسلاميَّة للإنسان:
ومع العنوان الفرعي السابق(1).
لا يُنكر أنَّ الإنسان فيه قوّة وضعف، فيه ما يأخذ به إلى القِمة، وما يأخذ به إلى الحضيض، ما يدفع به على المسار الصَّحيح، وما ينحرف به. له خصائص من هذا وخصائص من ذاك لا تشتبهان.
خصائص ضعفه من نفسه، من طبيعته، من محدوديّته، من فقره وإمكانه(2). أمّا خصائص قوّته فمن غيره. من خالقه، ومالكه، وربّه، وسيد أمره كلِّه. فمن حيث نفسه هو ضعيف كلّ الضعف، فاقد كلّ الفقد، وكلّه فقر وحاجة، ولكن خالقُه كريم، ولا نقص في رفده، ولا قصور في فيضه، ولا توقّف في عطائه؛ فما تأهّل الإنسان لمزيد من عطاء الخير بما آتاه الله من قدرة الإرادة، ورصيد النِّعَم، ونور الهداية، وتعاليم المنهج الحقّ زِيْدَ، وما سعى إليه من كمالٍ السَّعيَ الذي دلّ الله عليه وُهِب.
وقد تقدّمت بعض خصائص النقص الذي يُعاني منه الإنسان بطبيعته، وهذا بعض آخر:
الكفران:
يأتي وصف الإنسان في عدد من آيات الذكر الحكيم بالكفران بصيغة كفور التي هي من صيغ المبالغة، وفي أسلوب من أساليب التأكيد، ويأتي بصيغة تفيد أن هذه الصفة نابعة من شأنه وطبيعته.
نقرأ كل هذا في الآيات الكريمة الآتية:
{… إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ}(3).
تستخدم الآية صيغة فعول لإفادة قوة صفة الكفران في الإنسان، وتستخدم أداتين من أدوات التأكيد – إنّ، واللّام – في إثباتها له.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}(4).
وتعبير {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} يُستفاد منه أن الكفران مقتضى شأن الإنسان، ونابع من ماهيته الناقصة.
ونقرأ قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}(5).
والآية الكريمة تُوضِّح أنّ كفران الإنسان صفة ظاهرة جليّة فيه لا تحتاج إلى تفحّص لِتَبيّنها.
وتحمل الآية الكريمة الآتية تعجُّبًا من شدّة كفر الإنسان ومبالغته فيه:{قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}(6).
والكُفْر السّتر والتغطية، ومن ذلك سُمّي الفلاحون كُفّارًا بمناسبة إخفائهم البذور في الأرض وتغطيتهم لها بترابها.
وسُمّي الكفر كفرًا لأنّه جَحْدٌ للحقّ البيّن، وتغطيةٌ له بإنكاره، ومن ذلك الكفر بالله سبحانه وتعالى وهو نور السماوات والأرض:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(7).
ومنه كذلك الكفر بِنِعَمِه بترك شكرها، ووضعها في غير موضعها، وربما نسبها الإنسان إلى غير المتفضّل بها.
وهذا الكفر ظلم عظيم يوقع الإنسان في التعامل السّيء مع من لا يُطيق ردَّ أمر من أمره، أو يملك تعطيل قَدَرٍ من قَدَرِه، أو يتحمّل شديد عقابه وأليم عذابه.
ففي هذا الكفر هلاك الإنسان وخسارته وشقاؤه، فإنْ بقيَ مع هذا الوصف، وأقام حياته عليه تمّت شِقوَتُه.
الطغيان:
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}(8).
{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}(9).
لَكَمْ تُؤثِّر الظروف على نفسية الإنسان، وتنحرف بها، ولَكَمْ تفسد عقله، وتفقده توازن تفكيره.
وكثيرًا ما تلعب به ظروف السَّعة والضّيق، والرَّخاء والشدة، وتسلبه الانضباط، وتذهب بتفكيره بعيدًا عن الصَّواب، وتنأى به عن الهُدى في الرّأي والشعور النأيَ كلّه.
يستغني فينسى أنّ غناه ليس من نفسه، ويدخله من الشعور ما يَعمي بصيرته، ويُوقعه في غرور ليس فوقه غرور.
يُطغيه غناه إلى حدٍّ مفرط، ويتجاوز به إلى أقصى خيال من العظمة الموهومة فيتراءى له أنّه خرج عن حدِّ الحاجة لله سبحانه، والاستغناء عنه، وصار له أن يستقلّ عن ربّه سبحانه تمام الاستقلال، ويعتمد على نفسه.
ويزيد تطاول هذا المغرور، ويغرقُ في وهمٍ ليس مثلَه وهمٌ، ويكبر التعملق الجنوني في داخله صارفًا له وهمُه وجهلُه عن تذكُّر فقره ومحدوديته وإمكانه بحيث يرى أنَّ الله تبارك وتعالى فقيرٌ، ويرى نفسه الغني.
{قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}.
أهناك طغيان يبلغ هذا الطغيان؟! أهناك تجاوز لحدّ مثل هذا التجاوز؟
من تجاوز به وهمه إلى هذا الحدّ، وأوقعه في هذا المستوى من الطغيان سَهُل عليه كلّ طغيان، وكلّ تعدٍّ، وكلّ تجاوز.
أتبقى قيمة من القِيَم، حرمة من الحرمات، حقّ من الحقوق، حدّ من الحدود لا يتخطّاه طغيان هذا الطّاغية، ويكسره، ويتعدّاه؟!
وماذا يفعل القاصر، الناقص، المحدود بنفسه حين يقيم أمره واهمًا على أنه قادر على كسر كلّ القيود، وتجاوز كلّ سدّ وحدّ وقانون؟!
أليس يحفر قبره بنفسه، ويسعى للقضاء على ذاته، ويرسم طريق المصير الأسود الذي ينتظره؟!
يُكتفى بهذا وللحديث تتمة.
والحمد لله ربّ العالمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبنا لك ذاكرة شاكرة، وأجرِ ذكرك وشكرك على ألسنتنا، وارزقنا عمل الذاكرين الشّاكرين، واجعلنا ممن لا ينسى التوبةَ ولا يُسوِّفها، ولا يفارق الاستغفار، وهب لنا من لدنك رحمة نستغني بها عن رحمة من سواك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(10).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يخافُ مَن آمنه، ولا يأمنُ من أخافه، ولا يفتقرُ من أغناه، ولا يغنى من أفقره، ولا يصيب ذلٌّ من أعزّه، ولا يعِزّ من أراد له ذُلًّا، ولا يهزم من نصره، ولا ينتصر من أراد به هزيمة. لا شيء يخرج عن قدرته، ولا أمر يجري بلا إرادته.
لا يتأخر موعوده، ولا يُردّ وعيده، ولا يبدِّل مبدِّل تقديره. كلّ تقدير محكوم لقدره، وكلّ مشيئة خاضعة لمشيئته، وكلّ شيء في قهره وجبره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمًدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلامًا.
عبادَ الله ما أشغل نفسًا همُّ غيرها ما أشغلها همُّها، وما وجدت راحةَ اطمئنان كما تجد من راحة اطمئنانها، وما ضايقها شعور سيء، ولا أَنِسَت بشعور كريم كما هي في ضيقها أو أُنسِها بما ينتابها من شعور سوء، أو تغنى به من شعور كريم.
النفس أَمَسُّ بنفسها من أيّ نفس أخرى، وأسعدُ بما سعِدت به، وأشقى بما وقعت فيه من شقاء(11). وماذا يُغيّر من شقاء نفس أن تسعد كلّ النفوس، ويوم القيامة لا تشقى نفسٌ في سعادتها أن تجد من تجد في النّار(12).
فلا يَغُرّنّ أحدًا عن نفسه أن يضِلَّ الضّالون، ويلهوَ اللاهون، وينحرف من ينحرف، ويطغى من يطغى؛ ولا يُنسيّنه ذلك شأنَ نفسه، وما تصير إليه يوم تُلاقي عدل الله.
وليكن أحدُنا أطلبَ للعمل الصّالح ممن يُحِبّ له أن يعمل هذا العمل، فإن لكل يد ما كسبت، والحسنات لا يُسخى بها(13)، ولا تنازل من أحد عن درجته في الآخرة لأحد(14).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من أعمال نتيجتها الخسار، ومن حياة منتهاها النّار، ومن فضيحة العار، ومصير الأشرار.
اللهم اجعل حياتنا سعيًا إلى رضوانك، ووفاتنا منقلبا إلى جنانك، وهب لنا أعالي الجنّة يا متفضّل يا محسن، يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطبين الطاهرين، اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على وليّك أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فالموضوع تحت هذا العنوان:
هل لهذا الشارع رأي؟
الموجود على الأرض معارضة سياسيَّة وحقوقيَّة من شارعٍ أو نُخبة؟ القائم فعلًا معارضة نخبة وشارع عريض واسع برهن على سعته وكونه أغلبيّة سياسيّة لأكثر من مرّة، وأكّد ذلك في أكثر من مسيرة آخرها مسيرة الخامس عشر من فبراير لهذا العام، وهي مسيرة قِوامها المواطن لا غير، وبلا مستأجَرين ولا خليط.
ما هو قوام المعارضة الفعليّة الأهم جناح النخبة أو الشارع؟ لا شكَّ أنّ لكلِِ دورًا لا غنى عنه بالآخر. معارضة النخبة فيها دفع وتنشيط، ودورها ظاهر في التخطيط والتوجيه والترشيد والضبط، والتفاوض. أمّا الشارع فلا حياة للحراك بدونه وهو الوقود الأشدّ، وهو المبعث للصوت العالي لأيّ حراك في أي ساحة من ساحات الدنيا يمكن أن تساعد النخبة على إيصاله إلى بعيد.
وتخلّفُ دور النخبة يمكن أن يُحدِث للحراك الجماهيري جُملةً من الأخطاء الضّارة، والإرباكات المؤثّرة سلبًا، ويُضاعف الخسائر، ويعدِّد وجهات النظر الجزئية إلى حدٍّ مُفرِط، ويعطيها فرصة التفعيل المتضارب على الأرض، ويزيد من حجم الخسائر، ويُتيح فرص الاختراق.
أمّا تخلُّف دور الجماهير، وتخلّي الشارع عن الحراك فيقضي عليه، وينهيه، وتبقى قضية المعارضة قضية نظرية باردة أكثر منها ذات وجود عملي فاعل مؤثِّر.
وعلى هذا فإنه إذا كان هناك حوار أو تفاوض طرفُه السلطة فما هو هدفه من جانبها؟ كسب رضا أو موافقة النخبة أو الشارع؟
ماذا سيُعطي رضا النخبة دون الشارع؟ توقُّف التوجيه والترشيد والضبط والتحكُّم، وازدياد السّخط في الشارع، وانتشار الفوضى، وردود الفعل غير المحسوبة، وحالات من الانفلات التي لا يمكن أن يستقِرَّ معها وضع، أو تسلم سفينة.
إنّه إذا كان على نتيجة الحوار أن تكسب رضا النخبة أو موافقتها فإنّ عليها أولًا أن تنظر إلى رضا الشّارع، أو موافقته، وإلّا لم تُقدِّم هذه النتيجة خدمة لشارع ولا نخبة ولا سلطة.
ومن هنا تأتي أهميّة الاستفتاء الشعبي على نتائج أيّ تفاوض أو حوار، وعدمُ الغنى عنه لضرورة رضا الشعب أو موافقته على هذه النتائج لِتُمثِّل حلًّا أو جزءًا من حلّ، وتُهدّئ الوضع وإلّا كان وجودها كعدمها.
ماذا سيُوقف المسيرات والمظاهرات والاعتصامات وسائر الاحتجاجات والصرخات الجماهيرية؟ هل يوقفها أنَّ الجمعية الفلانية صار نظرها إلى الموافقة على نتيجة يرى فيها الشعب ضرره؟!
لابد أن يكون الهدف هو إنهاء الصراع، وتوجه كل الجهود إلى البناء المثمر المشترك، وإقامة علاقات جديدة قائمة على الثِّقة، وهذا يتطلب بالضرورة موافقة غالبية الشعب على الأقل على نتائج أي حوار أو تفاوض.
على أنَّ العلاقات القويمة والمستقِرة، والوضع الآمن والمتقدم، ووطن المحبّة والازدهار لا تُحقِّقه صدقا نتائج جائرة، وحلول مجزوءة منقوصة تركيزها على القضايا الجانبية، وأمور الهامش، والجانب الشّكلي في تجاوز ممجوج سافر للقضايا الأمّ كالدستور المتوافق عليه، والمجلس النيابي المستقِلّ بصلاحيات كاملة ليس عليها حقّ النقض ولا تأثير سلبيّ لأيّ مؤسسة أخرى، والحكومة المنتخبة، وكون الشّعب مصدر السلطات بصورة فعليَّة.
وستأتي نتيجة فاقدة للمنطق ومن أغرب الغرائب إذا كان الصوت الرافض للحكومة المنتخبة، والاستفتاء الشعبي مطابقًا لوظيفته في التمثيل الشعبي(15)، فإن ذلك يعني تمامًا أن الشعب يرفض أن يشارك في رسم السياسة التي تعتمد حياتُه في مسارها على مقرراتها، ويرفض أن يستفتى في الأمر الذي هو من حقه، وأن يُسمع له رأي في ذلك(16).
وهل يُصدّق أن شعبًا من شعوب الدّنيا مهما انحطَّ في مستوى وعيه وثقافته، وشعوره بكرامته يذهب هذا المذهب، ويأخذ بهذا الخيار؟(17)
فأيّهما الواقع أن الرأي الرافض للحكومة المنتخبة والاستفتاء الشعبيّ على توافقات الحوار – خاصة مع كون المتحاورين لم يتم انتخابهم من الشعب(18) لهذه الوظيفة – لا ينطبق مع إرادة الشعب، ويُناقض رأيه، أو أنَّ شعبنا هذا رأيه الذي لا يقول به من له شيء من وعي، وشيء من إرادة، ومن شعور بالحرية والكرامة(19).
لا شكَّ أنّ شعبنا أكبر من هذا بمسافات ومسافات. فأليس هو الشعب الذي أعطى كل ما أعطى وضحى بكل ما ضحى من منطلق وعيه وشعوره بعزّته وكرامته وشدّة تمسّكه بحريته؟!(20)
ثم إنّه لغريب وليس بغريب أن تكون دعوةٌ للحوار وحثٌّ على الالتحاق به، وعملٌ موازن لهذه الدعوة على الأرض يدفع بقوّة للتخلّي عنه، وتوتير الأجواء المحيطة به، وكهربة الساحة كهربة أمنية من النوع الثقيل بحيث تقطع الطريق عليه.
كلُّ ذلك يصدر من جهات سلطوية أو تابعة للسلطة، والسلطة هي التي دعت للحوار وحثَّت عليه.
ولكن لدعوة الحوار حكمتُها وخلفيتها المدروسة للسلطة، وكذلك للعمل الناقض لهذه الدعوة حكمتُه عندها فلا استغراب ولا عجب.
الدعوة والحثُّ للإعلام والإحراج، والعمل الناقض للتخلّي عن الاستحقاقات.
وظاهر جدًّا أن المستبطن للسلطة أنه لا حوار ولا إصلاح. ويدل على ذلك واضحًا هذه الأجواء المشحونة بإرادة التوتُّر وروح التوتُّر، ونية التصعيد الأمني، والاستمرار في التنكيل بالشّعب من خلال مواصلة مسلسلات الإعلان عن الخلايا الإرهابية والانقلابية حتى وصل الأمر إلى الانطلاقة لتكوين جيش شعبي عرمرم على يد مجموعة شعبية منهم من لم تتعدّ شهادته الشهادة الثانوية ظاهرًا والذين تحوّلوا بقدرة قادر إلى عقلية عسكرية ضخمة وبسرعة فائقة إعجازية في مستوى عقلية القادة العسكريين الكبار، وبلغت ميزانيتهم المالية الملايين التي يحتاجها تكوين الجيش القاهر.
ويا لها من فضيحة للسلطة من حوار دعت إليه، وتحاول جاهدة أن تفشله.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم يا من لا يخذل من توكّل عليه، وفوّض أمره إليه، ارزقنا صدق التوكل عليك، وتفويض أمرنا إليك، وحسن الجهاد فيك، ونصرة الحق الذي دعوت إليه، وسامحنا في تقصيرنا، ولا تؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا، وتجاوز عن سيئاتنا وهب لنا نصرَك وتأييدَك وفَرَجَك يا كريم يا رحمان يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، ورُدَّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (21).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – العنوان الفرعي في الخطبة السابقة هو: (الرؤية الإسلامية للإنسان)، وجاء تحتها بعض خصائص النقص في الإنسان، وذكر سماحة الشيخ في الخطبة السابقة بعض الخصائص وهي: الإنسان بين الضعف والقوة، الجهل، والإنسان والعجلة. ويستأنف سماحة الشيخ تكملة خصائص النقص في الإنسان في هذه الخطبة.
2 – كلُّ خاصيّة ضعف عندنا هي من هذا المنبع، من منبع ضعفنا الذاتي، فقرنا الذاتي، إمكاننا الذاتي.
3 – 66/ الحج.
4 – 67/ الإسراء.
5 – 15/ الزخرف.
6 – 17/ عبس.
7 – 35/ النور.
8 – 6، 7/ العلق.
9 – 181/ آل عمران.
10 – سورة التوحيد.
11 – نفسك نفسك، نفسي نفسي، فعليّ أن أنتبه لنفسي!
12 – ستبقى على سعادتك في الجنّة وإن دخل من دخل النّار.
13 – لن تتنازل يوم القيامة عن حسنة واحدة لأعزّ الناس عليك. يمكن أن تطلب من الله نجاته، أن تتشفّع له، لكن أن تعطيه من منزلتك، أن تخسر من رصيدك، هذا غير وارد.
14 – ما جاء عن الشفاعة أن الرسول صلّى الله عليه وآله وأولياء الله العظام يشفعون، لكن لم يأتِ عن أحد أنه يتنازل عن درجته في الجنّة لأحد.
15 – الرأي الذي يرفض الاستفتاء الشعبي، ويرفض الحكومة المنتخبة هل هو مطابق لرأي الشعب؟ إن كان مطابقا له فستأتي النتيجة غريبة جدًّا!
16 – هذا الرأي – رأي رفض الاستفتاء، رأي رفض الحكومة المنتخبة – لو كان مطابقا لرأي الشعب فماذا يقول الشعب عن نفسه؟ بهذا الرأي لكأنه يقول عن نفسه فوّضت أمري للحكومة، وأنا لست أهلًا بأن أعطي رأيًا في حياتي، ولا في مصيري، أنا قاصر كل القصور عن أن أشارك في رسم سياسة نفسي. أشعب يقول هذا؟! أهذا الرأي يمكن أن يمثّل شريحة واعية من شعب؟!
17 – يقول سلّمت نفسي أنا حيوان لا أفهم، أنا طفل لا أفهم!!
هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
كيف أجرأ أن أتقدّم باسم الشعب وأقول أن رأي رأي الشعب في حين أقول أن الشعب ليس له أن يشارك في رسم سياسة نفسه، ولا أن يعطي رأيا في حياته؟! هذه جرأة عالية جدا لا ينبغي أن تصدر من عاقل يا إخوان.
18 – المتحاورون لم يتم انتخابهم من الشعب، حتى جمعية الوفاق والجمعيات المعارضة مفاوضوها ومحاوروها لم يُنتخبوا من الشعب، هم معيّنون من جمعياتهم.
19 – أيّهما الصحيح؟!
20 – لماذا أعطى ما أعطى هذا الشعب؟ مسلسل من أضاحي الشرف والعزة والكرامة، ألوف السجناء، معذّبون، كل هذه الآلام، كل هذه الجراحات ليقول للحكومة فوّضتُ أمري إليكِ؟!
هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
يا إخوة يا نوّاب يا شورويون يا جمعيات سياسية تحملون الشعب على هذا المحمل أنه في كل حراكه، في كل تضحياته قام ولم يقعد من أجل أن ينتهي إلى نتيجة هكذا يقول فصلي لي ثوبي يا حكومة كما تشاءين؟!
21 – 90/ النحل.