خطبة الجمعة (541) 27 ربيع الأول 1434 هـ ـ 8 فبراير 2013م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: تتمة لموضوع: الرية الإسلامية للإنسان
الخطبة الثانية: نظرة على الحوار
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يَضِلُّ مَنْ هداه، ولا يشقى أهلُ طاعته، ولا يسعَدُ أهلُ معصيته، ولا يُهزِمُ من نَصَرَه، ولا يُذلّ من أعزّه، ولا يُصيب السّوءُ من وقاه، ولا يَربَح معاندوه، ولا يخيب قاصدوه، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله للإنسان نورٌ من فطرته التي فطره الله عليها من عقلٍ بريءٍ من مسِّ الهوى، ووجدانٍ طاهرٍ لم تُلوِّثه الذنوب، ما أبقى عليهما اهتدى، وما قضى عليهما باتباع الهوى، وغلبة الذنوب ضلَّ وعمي، وخسر معرفة الحقّ، وبَعُدَ عن الصواب.
وما خسِر عبدٌ كخسارته النورَ في داخله، وما ارتكب ظُلمًا في حقّ نفسه كسدِّ منافذ قلبه على النّور في خارجه، وفِقْهِ آيات ربّه فعاش ظُلمةً في ذاته لا مخرج له منها، ولا مُنتهى إليه بها إلّا إلى النار.
فما أشدّ حاجةَ العبد إلى مُجافاةِ الهوى، والنّأي عن معصية الله، والإقبال على طاعته إبقاءً لنور فطرته، واستزادةً للهُدى من آيات ربّه؛ فما سَعِدت نفسٌ استولت عليها الظلمة، وما شقِيت نفسٌ ما فارقها النور.
فالتقوى التقوى عبادَ الله ففيها الملاذ برحمة الله من الظُّلمة، وخسارة النفس، والعذاب المقيم، وفيها الطّريق إلى الجنّة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تبتلنا بمعصيتك، ولا تحرمنا طاعتك، ولا تسلُبنا نور معرفتك، ولا تُنسنا ذِكرك وشُكرك، وزدنا طاعة وتقوى، وهدى، ونورًا من فضلك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
أمَّا بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث تحت عنوان:
الرؤية الإسلامية للإنسان:
وهو حديث تتمة.
رؤية الإسلام للإنسان تتوفّر على الرُّقيّ والواقعية، فهي أكرمُ رؤية للإنسان لا تخرج به عن حدِّه، ولا تُغرِقه في الخداع الكاذب، وهي تُريه نفسَه وواقعَه، وقوّته وضعفه من غير أن تبخسَه قيمته، أو تُحابيَه فتخدعه.
تقدّم أنَّ الإنسان في النظرة الإسلاميَّة مخلوقٌ كريم، فضّله ربُّه على كثير ممن خَلَقَ، وتكريمُه وتفضيلُه في جانب ما أُعطي من نِعَمٍ معنوية ونِعَمٍ مادية فقد أُعطي العقل والإرادة وكُرِّم بهما، وأُعطي امتيازات في خلقته المادّية، وقدرته على التفنّن في طرق إعداده لأكله وشربه ومسكنه وملبسه، والكثير من نواحي حياته.
وكلُّ ذلك من ناحية النِّعَم المفاضة عليه من ربّه، والاستعدادات التي توفَّر عليها في خلقته.
أمّا من حيث النتيجةُ لسعيه، وما تنتهي إليه حياته، ويصير إليه مصيره من كمال أو نقص، ورفعة أو خسّة، وشرف أو وضاعة، وسعادة أو شقاء، ونعيم أو عذاب فيتبع نوع تعامله مع النعم الإلاهية المفاضة عليه، والمنهج الرباني الذي فيه كمالُه، وسعادته(1).
فإساءته في استعمال النِّعَم، ووضعها في غير ما كانت له مما فيه صلاحُه، وخروجه على منهج الله الذي فيه بناؤه الصّحيح ورقيّه يُسبّب له الانحطاط والخسّة والانحدار حتّى عن مستوى البهائم.
وذلك على عكس ما لو أحسن التعامل مع نَِعم ربّه، وأخذ بمنهجه سبحانه المعدّ لتربيته وقيادة حياته، والارتفاع بمستواه، فإنه سينتهي إلى كمالٍ يُرضيه ويُسعده، ويتجاوز به مستوى الملائكة كما في رأيٍ الكثير من علماء الإسلام، وكما عليه الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام كما تقدّم.
ومن الرؤية الإسلاميّة للإنسان أنَّ الله سبحانه خَلَقَ له ما في الأرض جميعًا، لنفعه وتربيته واستمرار حياته إلى الأجل المكتوب له، وإعداده، وتنمية إدراكاته، ومعرفته، وتوسُّع فهمه، وإيقاظ مشاعره، وفتح واعيته على عظمة ربِّه، ومن أجل أن يُنتج ويُبدع ويُقيم حضارة إيمانية على الأرض بإذن خالقه ورازقه ومُدبِّره.
وهذا شأنٌ ليس لشيءٍ من مخلوقات الأرض ما يُساويه ويعدِله أو يقاربه.
وهذا العطاءُ الواسع الذي يُعطي الإنسانَ سعةً في التصرف لما له من مواهب إلاهيّة تمكّنه من ذلك من قوة في الإدراك والشعور، وقدرة على الصُّنع والتطوير يرفع من مستواه، ويُعلي من مكانته، ويفتح له طريق التقدُّم إلى مسافات شاسعة في الأبعاد الكريمة من أبعاد إنسانيّته.
يقول الكتاب العزيز:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(2).
وعن الإمام عليّ عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال:”هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا لتعتبروا ولتتوصلوا به إلى رضوانه، وتَتَوَقَّوا به من عذاب نيرانه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أخذ في خلقها وإتقانها {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ولعلمه بكلِّ شيء عَلِمَ المصالح، فخلق لكم كل ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم”(3).
خلق لكم ما في الأرض جميعًا مما تقوم به حياتكم فيها، وتتوسّع تجربتكم عليها، وتتفتّق إدراكاتكم من خلال التعامل مع أشيائها، ومما تجدون فيه الإمداد الكافي لمحاولة التقدُّم بمستواكم، ومستوى حياتكم، ويُثير فيكم حسّ الحمد لله، وروح الشُّكر لنعمائه، ويدفع بكم على طريق طاعته وعبادته لما في ذلك من كمالكم وسعادتكم. وإنَّ الله لغنيٌّ حميد، وهو العزيز الحكيم.
ومن رؤية الإسلام للإنسان ومكانته في الخلق ما تذكره الآية الكريمة الآتية:{ اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(4).
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام:”الحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخَلْق، وأجرى علينا طيّبات الرِّزْق، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكلُّ خليقته منقادة بقدرته، وصائرة إلى طاعتنا بعزّته”(5).
وللإنسان انتفاع بالأشياء يصله منها بلا إعمال سلطنة منه عليها، ولا تصرُّفٍ إراديٍّ منها كاستفادة جسمه من أشعّة الشمس، واستفادته من الأكسجين الذي تعتمد عليه حياته(6).
وهناك ما هو فوق ذلك من التصرُّف في الأشياء ومطاوعتها لإرادته، واستجابتها لسلطانه، وانقيادها لأمره فالضّخم من الحيوانات ينقاد لإرادة الإنسان، ويدخل تحت سلطنته بفعل عقله، وما يُعطيه من قدرة الهيمنة عليه وقهره، والنبات والجماد يهيمن عليهما الإنسان وينقلهما من مكان إلى مكان، ومن وضع إلى وضع، ومن صورة إلى صورة، ومن تركيب إلى آخر، ومن واقع إلى ثان. فكلُّ شيء من ذلك مأمور له، مستجيبٌ لإرادته، داخل في طاعته بإذن ربّه، وتحت سلطانه، وبتسخير منه.
فهو السيّد المطاع لهذه الأشياء بإذن الله، والعبدُ الذي عليه أن يُطيع خالقَه وخالقَ كلِّ شيء ما عداه مما سخّره له، وكلِّ شيء مما يصله علمه أو لا يصله.
ومما يُعطي مكانة عالية للإنسان في رؤية الإسلام له ما تنطوي عليه هذه الرؤية من غاية لخلقه، والتي تتمثّل في معرفة الله عزّ وجلّ معرفة واعية، واستكمال ذاته عن طريق عبادته، وتزيُّنها بتقواه، وصوغها الصوغ الإراديّ في ضوء أسمائه، والاقتباسِ من نور صفاته: صفات الجلال والجمال مما يمكن لها وبالقدر المحدود من جلالٍ وجمالٍ لا حدَّ له.
وهذا الطُّهْر والجمال الذي تزين به الذات الإنسانية عن طريق معرفة الله وتقواه وعبادته لا مفارقة له للذّات، ولا سعادة للإنسان كسعادته بالإحساس به، وهو طريقه للتمتّع بحياة أبديّة رغيدة، الشَّقاءُ بعيدٌ عنها كلَّ البُعد على امتدادها وفي كلِّ ما لها من أبعاد.
هذه الغاية المرتفعة على كلّ غاية يمكن أن يتعلَّق بها الإنسان، ويُنفقَ من أجلها حياته ترتفع بمستوى همّه وإرادته، وأخلاقه وسيرته، وكلِّ مشاريعه وإنجازاته، وتُنقذه من الكَسَل والملل، والنظرة المتشائمة للحياة، ونفاد الصّبر، واضطراب النفس، و الجشع في الدنيا، والذميم من المشاعر وصفات الرّوح والنفس، والسلوك.
والغاية التي يتحدّث عنها الكتاب الكريم لخلق الإنسان نقرأها في الآيات الكريمة الآتية:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ…..}(7).
لم يخلق الله النّاس لسدّ حاجة أو رفع وحشة وإنما خلقهم تفضّلًا منه سبحانه وَلِيُتِمّ عليهم رحمته.
وما هي أكبر رحمة بهم؟ أن تكمل ذواتهم لتسعَد.
وما هو طريقهم إلى كمال ذواتهم؟ أن يعرفوه ويعبدوه، ويطلبوا التقرُّب إليه باستكمال ذواتهم عن طريق عبادته(8)، واستضاءتها بأنوار صفاته وأسمائه، والتزيُّن بما تقدِر – وهو محدود – من العظيم غير المحدود من جماله وكماله.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(9).
وهدفُ العبادة كلّها أن تسموَ بذات الإنسان وتصنعه صُنعًا جيّدًا راقيًا، وكلّ ما فيها من حركات تؤدّيها الجوارح، أو معاناة جسد، أو جوع أو تعب، أو تضحية بالحياة هدفه ذلك، وقيمتُه في انفعال القلب بما يرمِز إليه من مضمونٍ توحيدي، وهدف قربي، وما يُترجمه من حب وعشق وخوف ورجاء في الله، وثقة به، واطمئنان إليه، وطلب لمرضاته، وما يُؤدّي إليه من تخلُّقِ النفس بأخلاق دينه، واقتباسها من أنوار أسمائه، واستضاءتها بمعرفته.
إنَّ المقصود الأول للعبادة كلّها صناعةُ داخل الإنسان ومستوى إنسانيته الصّناعة التي تبلغ به أرقى درجات كماله، ونُضْج ذاته.
ولنسمع ما تقول آيات الكتاب المبين:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(10).
{… كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(11).
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}(12).
{… وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(13).
تقوى العبدِ الربَّ سبحانه، طُهْرُ ذاته، زكاتُها، نماؤها الطيّب، كونُه على ذكر دائم من ربّه يثير فيه العِشق له، يشدُّ قلبه إليه، يأخذ به إلى التشبُّه به بالصورة المحدودة المستعارة التي يتّسع لها وجوده في علمه ورحمته، وعفوه وكرمه، وفعله الخيرَ، وعدله مثلًا؛ هذا ما تستهدفه العبادة التي أمر بها الإسلام وشرّعها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا ذكرك وشكرك، والجدّ في طاعتك وعبادتك. وبلغنا مرضاتك يا كريم يا رحمان يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(14).
الخطبة الثانية
الحمد لله والحمدُ حقّه لجلاله، وجمال ذاته، وعظيم نعمائه وآلائه، وجميل فِعله حمدًا نستعصم به من المعصية، وننال به توفيق الطاعة، ونستدفع به الطَّردَ من رحمته، ونستمطر به العظيمَ من فضله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ما جاهد عبدٌ نفسه مستعينًا بالله، مخلصًا له فغلبه هواه، وما طلب أحد منه سبحانه الهدى فرُدّ خائبًا، وما سعى ساع بجدٍّ في التقرُّب إليه فأقصاه وأبعده.
فلنجاهد النفس عباد الله متوكّلين عليه، ولنطلب الهدى من عنده صادقين، ولنسعَ السّعيَ الشّرعيَّ الجادّ الحثيث المقرِّب إليه، ولنأخذ بالتقوى في كلِّ الأمور طلبًا لرضوانه، فإنه ما بُذِل العمر فَرَبِح صاحبه رِبْحَ هذا البذل، وما سما، وما سعِد دنيا ولا آخرة من وضع حياته على غير هذا الطريق.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من أن ينال منّا الشّيطان ما يهوى، وأن يُفسد علينا ديننا، وأن يغلبنا على شيء من أمرنا، ونعوذ بك من هوى النفس ووسوستها، ومن كلّ سوء وشرّ، وغمٍّ وكرب يا من هو على كلّ شيء قدير.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أمّا بعد أيها الأحبّة في الله فإلى هذا العنوان:
نظرة على الحوار:
الخلافُ السياسيُّ والحقوقيُّ في البحرين والذي بلغ حدًّا عاليًا من التوتّر والغليان والْتَهَمَ من الشعب أرواحًا وأموالًا، وسبَّب خسائر ضخمة، وخَلَقَ للوطن مشاكل جمَّة، وتخلخُلًا اجتماعيًّا مؤلمًا كما هو ليس خلافًا بين طائفتين فإنه ليس خلافًا كذلك بين الحكومة ومجموعة من المؤسسات السّياسية المرخَّصة أو غير المرخَّصة، وإنما هو خلاف بين الحكومة وشارع عريض مشترك برهنت بعضُ مسيراته على أنه شارع عريض فعلًا وأنه يُمثّل كتلة شعبية هائلة لا يُمكن للسلطة أن تُنكر حجمها الكبير جدًّا.
في بلد السبعين مليون إنسان، وثمانين مليون إنسان يحتشد مليونان منهم في مسيرة احجاجية يُعدُّ حدثًا ضخمًا، وصوتًا شعبيًّا واسعًا، ومطلبه مطلبًا شعبيًّا لا يمكن أن يُهمل أو يُتجاوز.
وفي البحرين تتواصل المسيرات لمدّة سنتين إلَّا أيّامًا وكان أنْ بَلَغَ بعضها في الحشد الواحد ثلث الشعب أو ما يزيد وردّ الفعل من جانب السلطة هو الإهمال، وتقليل الشّأن، والإمعان في العقوبة، وزيادة مستوى الضغوط بكلِّ أنواعها المؤلِمة.
والمسيرات المصحوبة بالعنف في مِصر تصل إلى قصر الرئاسة، وتستهدف إزالة الباب الرئيس له، ويسقط في المواجهة السّاخنة قتيل واحد في الحال ثم يرتفع العدد إلى ثلاثة فيُحدِث ذلك استنكارًا واسعًا، والمعارضة تُصِرُّ على القصاص، وتُحمِّل الرئيس المسؤولية السياسية.
وفي البحرين يسقط الشهيد والشهيدان في مسيرة سلميّة، وفي شارع جانبيّ، أو في قرية من القرى، ويضيع دمُ عشرات الشهداء ولكأنّهم لا شيء(15).
هذا ولم تتّسم المظاهرات في أيّ بلد عربي في طابعها العام بدرجة من السّلمية كمثل ما اتّسمت بذلك في البحرين، وهي مفخرة من مفاخر الحراك الشعبيّ فيها(16).
وكم من المسيرات الصاخبة في الأردن والمطالبة بالإصلاح والتغيير والتي لم يسقط فيها قتلى على ما مرّ في البحرين من تساقط الضحايا.
ولكون الأزمة السياسيّة والحقوقيّة طرفاها الحقيقيان هما السُّلطة والشارع الجماهيري العريض من رجال ونساء هذا الشعب فلو كان هناك حوار حقيقي جاد فإنما طرفاه في الحقيقة هما السلطة وهذا الشارع العريض الذي لا يُمكن أن يُهمل، والتمثيل عنه لا يكون إلّا بإرادته، كما هو التمثيل من الطرف الحكومي تمامًا(17).
وإذا حاور الحكومةَ أيُّ محاور يتبنّى المطالب الشعبية في الحوار فلا بُد للنتائج التي يُنتهى إليها حتّى تُلزِم الشعب من موافقته عليها.
أمَّا كلّ من يتبنّى وجهةَ النظر الرّسمية في الحوار ويُدافع عنها وخاصّة إذا كان من تعيينها فهو جزءٌ من الطرف الحكومي فيه، ولا يمكن أن يُحسب على الشعب بحال من الأحوال.
ليس في عقل، ولا منطق،ولا عُرْف أن يُعيّن الخصمُ من يُمثِّل خصمه في أي حوار كبر شأنه أو صغر.
والهيكلية التي صمّمها مهندس الحوار بالنسبة للأطراف المتحاورة ثمانية تختارهم الجمعيات المعارضة من بين أعضائها، وثمانية تختارهم الجمعيات التي يظهر من كثير من تصريحاتها تبنّي وجهة النظر الحكومية في المسائل الرئيسة، وثمانية سمّتهم مستقلّين يكونون من تعيينها وهم من بين أصواتٍ تُصرّ على إبقاء ما كان على ما كان وربما أشدّ من إصرار السلطة وذلك من نوّاب وشُورَويين، ينضمّ إليهم ثلاثة ممثلين عن الحكومة، وتكون إدارة الحوار لوزير العدل. فنحن في النتيجة أمام حوار نسبة التمثيل فيه لوجهة نظر الحكومة حوالي الثلثين وللمعارضة الثلث.
والنتيجة محسومة سلفًا لو كان اتّخاذ القرار بالأغلبية.
وإذا كانت النتيجة ستعتمد على التوافق فهو صعب جدًّا في هذه الصورة، ولا يُمكن أن تتساوى الفرصة في بيان الآراء من قِبَل الطرفين في ظلّ هذا التفاوت الفاحش في التمثيل، ولا يُمكن أن يكون هذا الإصرار على هذا التفاوت خاليًا من أغراض مبيَّتة، وإلّا لكان الأولى لإظهار المخطّط لمشروع الحوار موضوعيَّته وعدالته وحُسنَ نيّته أن يُساوي بين طرفي الحوار في العدد، ولا يصيرَ بصورةٍ مكشوفة إلى هذا التفاوت المفضوح المؤثّر سلبًا على قيمة الحوار.
ولَكثيرًا ما تُركّز السلطة والأصوات الموالية لها على الرّفض لأي نتائج أو حلول تقوم على المحاصصة الطائفية، والسؤال هل وراء هذا الرفض نية حقيقية صادقة؟(18) أو هل النية المبيّتة هي أسوأ ألوان المحاصصة؟ وما هو الواقع القائم الذي تطالب كل المعارضة بتغييره؟
الأسس التي يُمكن أن تعتمدها السياسة في توزيع المناصب، والوظائف الرَّسمية كبيرةً كانت أو صغيرة، وفي توزيع الخدمات ومشاريعها بغض النظر عن صحّة هذا التوزيع وخطئه، وعدالته وظلمه منها المحاصصة الطائفية، ومنها المحاصصة القائمة على الولاء للحكم ودرجته، ومنها أساس المواطنة والكفاءة. والمحاصصة الطائفية ليست واحدة فهناك محاصصة تُلاحظ واقع النسبة بين الطوائف وتتعامل في المسألة السياسية وغيرها على أساس هذه النسبة، ومحاصصة أخرى إنما تأخذ بما يُمليه الغرض السياسي، أو روح التعصُّب. فما هو المعمول به من هذه الأسس عند السلطة حاليًّا؟(19)
مطالعة سريعة للوضع القائم على الأرض واستعراض لتوزيع المناصب والوظائف والخدمات كما تُبيّنه التعيينات الرسمية المعلنة من قبل السلطة، والتتبعات الاستقرائية التي تنشرها الجمعيات المعارضة بالأرقام ينكشف تمامًا وبكلّ وضوح أنَّ المقياس المعتمد للسياسة هنا في هذا التوزيع لدرجة الولاء أولًا ثم للطائفية في صورتها البشعة ثانيًا. أمّا المواطنة والكفاءة فلا وزنَ لهما ولا قيمة أمام قداسة المقياسين السابقين.
هذا عن الوضع القائم، وهو الوضع الذي تُطالب المعارضة والجماهير المتظاهرة بالتخلُّص منه والأخذ بمبدأ الكفاءة والمواطنة.
وهل إعلان السلطة والموالاة الرّفض للنتائج والحلول التي تُكرِّس مقياس المحاصصة الطائفية جادٌّ أو أو أن الجد عندهما على خلافه؟
لو كان المعلن(20) هو المقصود فماذا يمنع السلطة من رفض هذا المقياس عمليًّا، ومن الأخذ بمقياس الكفاءة والمواطنة؟!(21). المعارضة هي التي تقف في وجه تحكيم مقياس الكفاءة والمواطنة وتصر على مقياس الموالاة والطائفية الذي يتسبّب في حرمانها وإقصائها وإنزال الضربات بها؟!!(22) حدِّث العاقل بما لا يليق فإن صدّق فلا عقل له.
وكيف تستهدف السلطةُ ومن معها في الرّأي حوارًا ينأى بالسياسة عن مقياس الموالاة والطائفية وهي تطرح مشروعَ حوارٍ من تصميم هذا المقياس نفسه(23)، ولا يؤدّي حسب التجانس بين المقدِّمة والنتيجة إلّا إليه؟! عجبٌ وألف عجب.
وإذا كانت طبيعة المقدِّمات دالّة على طبيعة النتائج كما هو الصّحيح والحقّ فإنما مطلوب مشروع الحوار وكلّ المحاولات الأخرى أن يبقى المقياس الذي يُفرز الواقع السيء الحالي هو المقياس، وما هو الأمر الرّئيس فيه، وهو الدرجة التي عليها الموالاة.
ثُمَّ أترى أن يخاف من المعارضة وجماهيرها أن تُرشّح مقياس الطائفية والموالاة؟ المعارضة تُصِرّ على أن تكون حكومة منتخبة ومجلس نيابي منتخب لا يحكم القرار فيه مجلس آخر ولا يشاركه في اتخاذه، وعلى دستور يقوم على إرادة الشعب، وأن يتساوى صوت المواطن مع أخيه المواطن في القيمة القانونية في كل هذه المجالات(24).
هذا الأمر الذي تأخذ به بلدان الديموقراطية المتقدّمة كما يسمّونها كأمريكا وانجلترا وفرنسا هل جاء اختيارهم له وعندهم طوائف متفاوتة في وزنها العدديّ من منطلق طائفي، ومن أجل تركيز الطائفية؟ لا أحد يقول ذلك(25).
نحن هنا نرفض مقياس الموالاة والمحاباة والعبودية للسلطة لأنه مقياس ظالم(26)، ونرفض مقياس الطائفية حتّى في صورته غير الجائرة لأنه يقسم الوطن، ويجرّ إلى البغضاء بين إخوة الدين الواحد والأرض الواحدة، ويثير روح الخصام، ويعطي للسُّلطة أن تلعب على الوتر الطائفي(27).
نحن لا نرشح إلا مقياس الكفاءة والأمانة والمواطنة.
ثم إنه لا يفوت الناظر ما أقدمت عليه الحكومة من الإعلان عن فصل الأطباء في أجواء دعوتها للحوار تعطيرًا لهذه الأجواء، وتقديمًا لوجبة مُشهّية للحوار، وتطييبًا لخواطر المواطنين، وفتحًا لباب التفاؤل بنتائج طيبة مترتبة عليه، وإبداءً لحسن النية.
وحقَّ لهؤلاء الأطباء أن يُفصلوا من وظائفهم جزاءَ إحسانهم بمشاركتهم في التخفيف عن الجرحى وإنقاذ المواطنين المعرَّضين للهلاك.
الجزاء أيّها الإخوة الأحبّة الأطبّاء عند الله سبحانه، وإنّ شعبكم عليه أن لا ينسى جميلكم الثابت الكبير، ومعاناتكم من أجله(28).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا صادقين في دينك، مخلصين في طاعتك وعبادتك، ولعبيدك وإمائك، ساعين بالإصلاح في أرضك، مُحبّين لأوليائك، مبغضين لأعدائك.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا وشهداء الإسلام وموتى المسلمين، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ليس معنى أن الإنسان قد كُرِّم في خلقته أنّه ينتهي إلى السعادة، ذلك أمرٌ يعتمد على إعمال إرادته في جانب الخير أو جانب الشر.
2 – 29/ البقرة.
3 – تفسير نور الثقلين ج1 ص46 ط4.
والغريب في هذا الإنسان أنّ ما خُلِق لصالحه يحوّله لمقتلته، لهلاكه، لسقوطه.
4 – 12، 13/ الجاثية.
5 – الصحيفة السجادية الكاملة ص26 (التحميد لله عز وجل).
يتحدث الإمام عليه السلام عن نفسه بما هو إنسان فيما يظهر، وليس بما هو إمام. 6 – هذه استفادة تلقائية.
7 – 118، 119/ هود.
خُلِقت أيها الإنسان لرحمة الله، من أجل أن تغمرك رحمة الله، وفيوضات الله، وترتفع بمستواك، وتصل بك إلى حياة السعادة.
8 – كيف نقرُب إلى الله عزّ وجلّ؟ اتصف بالعلم، اتصف بالرحمة، اتصف بالكرم، اتصف بالقوة، اتصف بالهدى بذلك تكون قريبًا شيئًا ما من جمال وكمال ليس لهما حد. هذا معنى القرب.
هذا القرب كيف نكتسبه؟ هذا التخلّي عن الذميم، عن الرذيل، والتحلي بالجميل كيف نصل إليه؟ عن طريق معرفة الله وعبادته.
9 – 56/ الذاريات.
10 – 21/ البقرة.
11 – 183/ البقرة.
12 – 17، 18/ الليل.
13 – 45/ العنكبوت.
14 – سورة التوحيد.
15 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
16 – وينبغي أن يستمر هذا الحراك محتفظًا بهذه المفخرة.
17 – هل تسمح الحكومة أن نختار عنها ممثلين حتى تُعطي لنفسها الحق أن تختار عنّا ممثلين من أعضاء شورى وأعضاء نواب مثلا؟!
18 – القوم يقولون لا نتيجة تعتمد على المحاصصة الطائفية، نرفض أي نتيجة تعتمد على المحاصصة الطائفية.
19 – الآن وقبل الحوار ما هو الأساس المعتمد لسياسة الدولة في قضية التوزيع؟ 20 – المعلن هو رفض المحاصصة الطائفية.
21 – هل تمنعها المعارضة؟ هذا مطلب المعارضة، مطلب المعارضة هو أن يكون المقياس الكفاءة والمواطنة. فإذا كان الغرض الجدي للسلطة هو أن تعمل بهذا المقياس ماذا يمنعها منه الآن؟ لا حاجة للحوار في هذه المسألة.
22 – يمكن هذا؟!
23 – نفس تصميم الحوار هو قائم على مقياس الموالاة والطائفية. مشروع الحوار مصمم هذا التصميم.
24 – هذا مطلب المعارضة.
25 – أمريكا حينما تأخذ بهذه الأمور؛ بحكومة منتخبة، بمجلس نيابي منتخب، بديموقراطية، بصوت واحد لكل مواطن، هل تبنّت كل هذه الأمور هي وفرنسا وانجلترا من أجل أن تركز الطائفية، وأن تنتصر لطائفة دينية على طائفة أخرى؟!
26 – هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام).
27 – هتاف جموع المصلين (إخوان سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه).
28 – هتاف جموع المصلين (شكرًا لكم).
29 – 90/ النحل.