العلاّمة الغريفي: هل للسِّياسة ضمير؟.. الاستهدافات الظالمة لآية الله قاسم
العلامة الغريفي: هل للسِّياسة ضمير؟.. الاستهدافات الظالمة لآية الله الشيخ عيسى قاسم
حديث الجمعة 308 | تاريخ: 11/10/2012م | الموافق: 24 ذي القعدة 1433 | المكان: مسجد الإمام الصادق(ع) بالقفول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
هل للسِّياسة ضمير؟
الضمير قوَّة في الداخل تحصِّن الإنسان في مواجهة الانزلاقات والمعاصي والجرائم والآثام، ولعلَّ هذا ما عبَّر عنه القرآن ب(النفس اللوَّامة) في سورة القيامة/الآية الثانية، فمتى ما مارس الإنسان ذنبًا أو جناية أو جريمة تحرَّكت النفس اللوَّامة لتأنيبه تأنيبًا قاسيًا، وهذا ما يُعرف ب(تأنيب الضمير) أو (محكمة الضمير).
وهذا سؤالٌ يطرح هل يتوقَّف عمل الضمير أو هل يموت الضمير؟
الضمير لا يموت، إلَّا أنّه يخفت صوته, ويتوقَّف عمله.
متى يكون ذلك؟
في حالاتٍ منها:
1. حينما تموت البصيرة, وتنقلب المفاهيم عند الإنسان, فيرى الحقَّ باطلًا, والباطل حقًّا، ويرى الخير شرًّا، والشر خيرًا، والعدل ظلمًا، والظلم عدلًا. هنا لا يبصر الضمير، ولا يمارس التأنيب.
2. حينما ينغمس الإنسان في المعاصي والجرائم والموبقات فيتخدّر الضمير، ويفقد فاعليَّته، ودوره.
بعد هذه المقدِّمة عن الضمير نطرح هذا السؤال:
هل للسياسات الحاكمة ضمير؟
لا شكَّ أنَّ السَّاسة والحكام هم بشر قد يزدهر عندهم الضمير, وقد يموت. فإن ازدهر عندهم الضمير السِّياسي مارسوا كلَّ العدل والإنصاف، وجانبوا كلَّ أشكال الظلم والجور والفساد، وإذا ما صدر منهم أيّ ظلمٍ أو جور أو عدوان تجاه شعوبهم ورعاياهم تحرَّك في داخلهم الضمير السِّياسي النظيف ليؤنِّبهم تأنيبًا قاسيًا، ويجرِّمهم تجريمًا شديدًا، ويدفعهم في اتجاه تصحيح سلوكهم السِّياسي وسياساتهم مع شعوبهم.
أمَّا إذا مات الضمير السِّياسي أو خفت صوته لدى السَّاسة والقادة ورجال الحكم فالويل كلّ الويل للشعوب والأوطان من جرائم سياسية مدمِّرة، ومن عبثٍ بالحقوق، ومن ظلمٍ يطال كلَّ شيئ، ومن فساد يستشري في كلِّ مكان، ومن قهرٍ وفتكٍ وبطش، وزهقٍ للنفوس والأرواح، وهتكٍ للأعراض، فترتفع صرخات المضطَّهدين، وآهات المحرومين، وعذابات المظلومين، واستغاثات المستغيثين، وتموت كلّ الصرخات والآهات، والعذابات والاستغاثات. لماذا؟
لأنَّ ضمير السَّاسة قد مات أو تخدَّر. وتتَّجه الشعوب تستصرخ العالم، وأنظمة العالم، ومنظَّمات العالم، ومؤسَّسات العالم، ولا جواب لأنَّ ضمير العالم قد مات أو تخدَّر.
وإذا وجدت الشعوب المظلومة أنْ لا صدى لصرخاتها وعذاباتها لدى الأنظمة ولدى العالم نتيجة موت الضمائر أو تخدّرها، فلا تجد الشعوب خيارًا أمامها إلَّا الثورة، لعلَّ الثورة توقظ ضمير السِّياسة والسَّاسة، وضمير العالم ومنظَّمات العالم.
إنَّ خيار الثورات لدى الشعوب هو خيار حينما تفشل كلّ الخيارات الأخرى، ربَّما يكلِّف هذا الخيار الشعوب أثمانًا باهضة من دماء وأرواح، كان بالإمكان توفيرها لو استيقظت ضمائر الأنظمة الحاكمة، واحتضنت آلام شعوبها، وانفتحت على عناءات أبناء أوطانها، واستجابت لصرخات المحرومين في بلدانها.
إذا ماتت الضمائر لدى الرعاة والسَّاسة ماتت الرحمة، وإذا ماتت الرحمة كان الظلم والبطش والقسوة هو النهج في التعامل مع الشعوب.
في كلمةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام ضمن رسالةٍ وجَّهها إلى واليه على مصر مالك الأشتر؛ وهذه الرسالة حافلة بأغنى التوجيهات في بناء سياسة الحكم ممَّا يصلح شأن الرعيَّة، ورغم تقدّم ديمقراطيات هذا العصر فهي عاجزة أنْ تجاري هذا النمط من المبادئ والقيم والسِّياسات.
جاء في هذه الرسالة قوله عليه السَّلام مخاطبًا مالك الأشتر –الحاكم على مصر-:
»وأشعِر قلبَكَ الرحمةَ للرعية، والمحبَّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليم سَبُعًا ضاريًا تغتنم أكلهم فإنَّهم صنفان إمَّا أخٌ لك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخلق«.
متى يكون الحاكم سَبُعًا ضاريًا على رعيته وعلى شعبه حينما تموت الرحمة من قلبه، ومتى تموت الرحمة حينما يموت الضمير.
فما أحوج الحكَّام والسَّاسة ورعاة البلاد والعباد إلى يقظة الضمائر التي تحاسبهم حينما يظلمون، ويقهرون، ويبطشون، ويسفكون الدماء، ويهتكون الأعراض، ويعبثون بالمقدَّرات، وينشرون الفساد في الأرض، ويستأثرون بالأموال والثروات.
قد يقال:
لماذا أنتم دائمًا تحمِّلون أنظمة الحكم مسؤولية الأزمات والأوضاع السيِّئة في البلدان؟
ولماذا لا تتحمَّل الشعوب المسؤوليَّة؟
ولماذا لا تتحمَّل القوى السِّياسية المسؤوليَّة؟
ولماذا لا تتحمَّل القوى الدِّينية المسؤوليَّة؟
صحيح إنَّ جميع هذه المواقع تتحمَّل مسؤوليَّاتها، ولا شكَّ أنَّ لها أخطاءَها الصغيرة أو الكبيرة، ولكن هذا لا يقارن إطلاقًا بسؤوليات الأنظمة الحاكمة، وأخطاء الأنظمة الحاكمة.
إذا صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية، وبيد الأنظمة الحاكمة كلّ القدرات والإمكانات لإصلاح الأوضاع، وتصحيح الأخطاء، فلماذا لا تبادر هذه الأنظمة إلى الإصلاح والتصحيح، وهذا هو الخيار الأسلم والأسهل والأقرب، والأقل كلفةً، ولماذا تُلجأ الأنظمةُ الشعوبَ إلى الخيارات الأعقد، والأصعب، والأبهض كلفةً وثمنًا؟.
الحكمة كلّ الحكمة، والعقل كلّ العقل أنْ تتصالح الأنظمة مع شعوبها.
قد يقال: ولماذا لا تتصالح الشعوب مع الأنظمة؟ أليست الشعوب هي الطرف الأضعف والأحوج، فلماذا نطالب الأنظمة وهي الطرف الأقوى، وهي الطرف المستغني أنْ تتصالح مع الشعوب؟ هذا الكلام ليس صحيحًا على الإطلاق.
فبقدر ما تكون الشعوب محتاجة إلى المصالحة فكذلك الأنظمة لا تقل عن ضرورة الشعوب إنْ لم تكن أكثر. وأمَّا أنَّ الأنظمة هي الطرف الأقوى، وطبيعي أنَّ قوة الأنظمة وقدرات الأنظمة لا تملكها الشعوب، إلَّا أنَّ هذا لا يعني أنَّ الشعوب ضعيفة وليس أمامها إلَّا خيار الاستسلام، المسألة ليست كذلك، هناك شعوب تملك من القوة والإرادة ما يجبر الأنظمة على الاستجابة لإرادة الشعوب، وهناك شعوب استطاعت أن تسقط أعتى أنظمة.
فالمعادلة ليست دائمًا أنَّ الشعوب هي الأحوج، وهي الأضعف، ومع ذلك لا مشكلة في أنْ تبادر الشعوب إلى خيار المصالحة مع الأنظمة إذا كان هذا الخيار يحقِّق مصالح الشعوب الكاملة، ويستجيب لإرادتها في أنْ تعيش حرَّة عزيزة كريمة، وأمَّا إذا كان هذا الخيار على حساب مصالح الشعوب، وفيه إذلالٌ لها، وسلبٌ لكرامتها وعزَّتها، فهو خيار يجب أنْ ترفضه الشعوب، وإنْ سعت إليه الأنظمة الحاكمة.
إنَّنا لا ندعو إلى خيار المواجهة والصدام والمقاطعة مع الأنظمة، ما دام خيار المصالحة قائمًا بشرط أنْ تكون مصالحةً مُشَرِّفةً لا مُذِلَّةً، مصالحةً تؤسِّس لواقع سياسي سليم لا لواقع مزوَّر، مصالحةً تعطي الشعوب حقَّها في الشراكة لا أنْ تكون مأسورةً لهيمنة الأنظمة، مصالحةً تنهي كلَّ الأوضاع الفاسدة لا أنْ تكرِّس الواقع الخاطئ، مصالحةً تَطمئِنُّ لها الشعوبُ كلَّ الإطمئنان، لا أن تكون أكاذيبَ وخِدعَ أنظمة.
وسوف يبقى نهجنا نهجًا سلميًّا، وخطابنا خطاب إصلاح، هذا ما أكَّده رمزنا الكبير سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم رغم كلّ ما طاله من استهدافاتٍ ظالمة، لم تُقدِّر لهذا الرجل جهودَهُ الصادقةَ، وعطاءاتِه الخيِّرة، وعناءاتِه المُضْنية، انطلاقًا من مسؤولياتِه الشرعيةِ والوطنية، وقد ذابت في حبِّه جماهيره الوفيَّة، كما ذاب هو في حبِّها، ولن تتخلَّى عنه هذه الجماهير في أيّ لحظة، ولن تسمح بأنْ يمسَّه سوءٌ أو أذى، وبقدر ما أعطاها كلَّ حياته، فسوف تعطيه كلَّ حياتها، حفظ الله شيخنا الكبير عنوانَ عزٍّ وفخر، وفيض عطاء، ونهج هداية، ورمز قيادة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين