خطبة الجمعة (498) 14 جمادى الأول 1433هـ ـ 6 أبريل 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الإيمان حب وبغض
الخطبة الثانية: إستشهاد الصديقة فاطمة الزهراء (ع) – الدم الفوّار – الخواجة: الموت يحدق بحياته
الخطبة الأولى
الحمد لله بجميع محامده كلِّها على جميع نعمه كلِّها. لا تنقطع آلاؤه، ولا تُحصى نعماؤه، ولا تُجزى مواهبه.
لا موجود إلا برحمته، ولا حيَّ إلا بنعمته، ولا خير إلاَّ من جهته، ولا قدرة لشيء إلاّ من قدرته.
لا يُنتقُصُ مُلكه، ولا يَنفَدُ حكمه، ولا يُحدّ سلطانه، ولا يُنقض أمانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله، والمسابقة إلى غفرانه فما من عبد يستغني بعمله عن مغفرة الله، ولا نجاة لأحد من غير عفوه؛ فمن الشاكر لله حقَّ شكره؟! ومن المؤدّي له تمام حقِّه؟! وفي مغفرة الله أمانٌ من العذاب، وفوز بالجنّة، وضمان للسعادة.
فما أحرانا بالاستجابة لكتاب الله الناصح في قوله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1).
وطريق العبد للفضل من ربِّه طاعتُه له، وطلبُ عفوه، والتعرّضُ بالعمل الصالح لمغفرته، والاعتماد على جوده وكرمه، والتعويل على رحمته ورأفته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من المسابقين في طاعتك، المجاهدين في سبيلك، الجادّين في طلب رضوانك، المعتمدين على جودك وكرمك، المتعلّقين بعفوك ومغفرتك يا غفور يا رحيم.
أمَّا بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا الحديث:
الإيمان حبٌّ وبغض(2):
ليس أجلى ولا أسمى في علائم الإيمان بالله عزّ وجلّ ومعرفته من أن يملأ القلبَ حبُّه، فمن وجد من حبِّ الله ما يملأ قلبه كان قلبه مليئاً بالإيمان، والمعرفة العالية.
والحبّ الصادق لله تبارك وتعالى يأخذ بقلب العبد في اتجاهه، وبكلِّ خطاه على طريق مرضاته، ويحميه من الانحدار، ويقي مشاعره من أن تسخف، أو تميل لباطل، أو تستذوق الفساد.
حبُّ العبد ربَّه الجليلَ العظيم يصوغه في ضوء أسماء الله الحسنى، ويتنزّه بشخصيته عن كلّ ما فيه انحطاط من جهل، وخلقٍ لئيم، ويزينه بما هو رائع وجميل مما فيه كمال الإنسان.
وفي قوله تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3) ما يدل على أن اختبار الحبّ بالعمل، فإذا صدق حبُّ العظيم أخذ بمحبّه إلى طريق العظمة، والالتزام بالمنهج الكريم؛ فمن أحبّ الله عز وجل أخذ بمنهج الله في تربية الناس، وهو الإسلام، وانقاد في حياته لتعاليم رسول الله صلّى الله عليه وآله لتنال حياته رضا الله، ويحظى بقربه إليه.
ومن أحبَّ الله حبّاً صدّقه عملُه أحبَّه الله سبحانه بأن زاد في إحسانه له، وطهّره، وزكّاه، وأجرى عليه من لطفه ما يغسل أدران ذنوبه، ويستر قبائحه، ويزيل القذارات العالقةَ بروحه.
حبّ الله العبدَ يعني تكفّله بإصلاحه، وأخذه له في الطريق الذي يوصله إليه، ويرفع مقامه عنده، ويستحقّ به الكرامة لديه.
فعن الصاد عليه السلام:”إذا أحبَّ الله عبداً ألهمه الطاعة، وألزمه القناعة، وفقهه في الدّين، وقوّاه باليقين، فاكتفى بالكفاف، واكتسى بالعفاف. وإذا أبغض اللهُ عبداً حبَّب إليه المال وبسط له، وألهمه دنياه، ووكله إلى هواه، فركب العناد، وبسط الفساد، وظلم العباد”(4).
وتضع الأحاديث بيد العبد مقياساً يعرف به مكانته عند الله سبحانه، وأنه محبوب عنده أو مبغوض، مبعد أو مقرّب، مكرم أو مهان، وهو مقياس واضح للنفس لا غموض فيه ولا ارتياب(5).
عن الصادق عليه السلام:”من أراد أن يعرف كيف منزلته عند الله فليعرف كيف منزلةُ الله عنده؛ فإن الله ينزل العبد مثل ما ينزل العبد الله من نفسه”(6).
وعن الإمام علي عليه السلام:”من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب، كذلك تكون منزلته عند الله تبارك وتعالى”(7).
وعنه عليه السلام:”من أحبّ أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإنَّ كلَّ مَن خيّر له أمران: أمر الدنيا، وأمر الآخرة، فاختار أمر الآخرة على الدُّنيا فذلك الذي يحبّ الله، ومن اختار أمر الدّنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده”(8).
كيف يرتفع عند الله قدرُ من هان اللهُ عزّ وجلَّ عليه عند شهوته، وأمام إغراء الشيطان، وهوى النفس؟! وكيف لا يهون على الله من هان الله عليه عند دنياه؟!
وأيّ حبّ صادقٍ، وأي معرفة حقيقية بالله في قلب مملوك للشهوات الساقطة ذائب فيها؟!
القلوب المحبّة لله قلوب منزّهة رفيعة، لا ميل فيها لدنيَّة، ولا تستهويها المحرّمات، أما القلوب المأسورة للشيطان، المسكونة بالقبائح، الملوَّثة بالذنوب فلا تكون وهي كذلك مساكن لحب الله، ومستقرّاً لذكره.
ما يورث حبّ الله:
قيل لعيسى عليه السلام: علّمنا عملاً واحداً يحبّنا الله عليه. قال: أبغضوا الدُّنيا يحببكم الله”(9).
التعلّق بالدنيا يفسد القلب، ويجعله غير صالح لمعرفة الله، وذكره، وحبِّه، ويجعله مقفراً من الخير، لا نور فيه، وعُشّاً للشيطان، ملؤه القبائح، فلا ينال من حبّ الله شيئاً. وحتى يكون محبوباً للجليل تبارك وتعالى لابد له من التخلّص من حبّ الدنيا، وأن يقلوها، ويخرج من طاعة الهوى والشيطان لينفتح على ذكر الله وحبّه فيطهرَ ويزكوَ ويجمُلَ الجمال الذي يؤهله لحب الله.
وتوافيك الأحاديث بأكثر من سبب وسبب مما يُورِث حبّ الله، وهو أعلى طَلِبةٍ للمتقين.
عن الصادق عليه السلام:”قال الله تبارك وتعالى: ما تحبَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مما افترضت عليه”(10).
وعن الباقر عليه السلام:”… اعلم رحمك الله أنَّا لا ننال محبَّة الله إلاَّ ببغض كثير من الناس، ولا ولايته إلا بمعاداتهم. وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون”(11).
تستوجب محبةُ الله من عبده الابتعاد عن أخلاق الكثيرين، والتخلّي عن العلاقة مع الكثيرين، وإغضاب الكثيرين مما يُنشئ بينه وبينهم العداوة، ويسبّب له الأذى والمساءة، ويحرمه من فرص دنيوية، ومكاسب ماديّة، ولكن لا شيء من ذلك بشيء إذا كان لابد منه لرضا الله، ونيل محبّته.
وعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”من أكثر ذكر الموت أحبه الله”(12).
ذكر الموت يعظ النفس، يوقظ القلب، يردع عن السوء، يجافي بين المرء وبين القبيح، يتّجه بالذات على خطّ الاستقامة، يقودها إلى الصلاح، يُنقّيها من الرذائل فتكون المحبوبة لله العلي العظيم.
“في حديث المعراج: يا محمد وجبت محبَّتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبَّتي للمتعاطفين فيَّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيَّ، ووجبت محبَّتي للمتوكّلين عليّ”(13).
حبُّك أخاك المؤمن المطيع لله لما هو عليه من إيمانه، وطاعته، وحبّه لله وتوقيره وتعظيمه بلا شائبة من شوائب الدنيا، ولا غرض من أغراضها يرفع مقامك عند ربك، ويورثك محبّتته لك، كيف لا وقد سمت نفسك بسموّ حبك لأخيك المؤمن حبّاً خالصاً لله، لا نظر لك فيه إلى شيء من الدنيا؟!
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من أن تحجبنا الذنوب عن معرفتك، أو تتُحرَمَ قلوبنا محبّتك، أو يصرفَنا صارف عن طاعتك، أو يقودنا الأمل إلى من سواك، ونتعلق بغير رحمتك.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11).
الخطبة الثانية
الحمد لله قاصم الجبّارين، مبير الظالمين، مذلّ المستكبرين، معزّ المؤمنين، ناصر المستضعفين. لا شيء إلاّ وأمرُه بيده، ومنتهاه إليه، ولا فعل إلاَّ بإذنه، ولا حركة في أرض أو سماء إلاّ بتقديره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله لنحظى برحمته، ونكون محلاًّ لعنايته، ونفوز بالمعيَّة من عنده، وننال الجائزة من فضله، وهو القائل في كتابه الكريم:{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(15).
وكفى بمعيّة الله حارساً، وحافظاً، ومسدِّداً، ومؤنساً، وواقياً، ودليلا.
ومن اتّقى الله حقّ تقاته أحسن النيَّة، والعمل، ولم يفارق الطريق القويم، وانتهى إلى الغاية الكريمة النبيلة.
أمّا من عدل عن التقوى فهو آخذٌ طريقه إلى النّار.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تخلّ بيننا وبين أنفسنا في أمر كبير أو صغير، ولا تكلنا إلى أحد من خلقك أبداً، وافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، والطف بنا يا كريم يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائما قائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فإلى بعض كلمات:
استشهاد الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام:
أحسن الله عزاء المؤمنين في ذكرى وفاة البضعة الطاهرة الصدّيقة المعصومة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وعظّم أجرهم.
وكلّما مرّت ذكرى الطاهرة المعصومة عليها السلام كلما كان علينا أن نقتبس من مشكاة نورها وهداها، وأن نتشبّث بها قدوة على صراط الله العزيز الحكيم.
الدّم الفوَّار:
دم الشهادة دم فوَّار، فورانه في القلوب يثيرها، يوقظها، يحييها، يلهبها، يشعلها، يبعث فيها الحركة والاندفاعة على خطِّ الجهاد والمقاومة من أجل المبادئ والحقوق، والقيم الرفيعة، ويُقوّي فيها روح التضحية والفداء والصمود.
دم الشهادة دم منبت لروح العزّة والكرامة، ومنبت للوعي واليقظة، ومنبت للإحساس ببشاعة الظلم والعدوان، ومدى هوله في حياة النّاس، وواجب مدافعته، وسدّ منابعه، وغلق أبوابه.
ما أشدّ وهم وغباء من يحاول إسكات ثورات الشعوب، وقبر مطالبها العادلة بمزيد من سفك الدم الحرام بتصور أنه يردع الآخرين عن الإقدام على الشهادة(16).
الأمر على العكس فلا شيء يغذّي حركة الشعوب، ويلهب ثوراتها كما هو دم الشهادة، وفاعليته النافذة في العقول والنفوس.
وأقبح ما ترتكبه حكومة من جرم في هذا الأمر أن تبالغ في سفك دم شعب ملتزم بالسلمية في حراكه كما عليه الشعب هنا.
ما أشدَّ حرمة المؤمن في الإسلام، وما أهونها في يمنطق الحكم في هذا البلد!! ما أغلى الدّم الحرام في دين الله، وما أرخصه على يد هذا الحكم!!
حكم ينطلق في قتله المفتوح للأبرياء، واستباحته لدماء الشعب من أحد منطلقين: منطلق أن لا إسلام ولا مبادئ دينيةً وقيم، أو أن هذا الشعب شعب حشرات ضارّة لابد من أن تُباد(17).
هناك حالة استهتار في استخدام العنف من قبل السلطة، وتجاوز لأي إحساس بقيمة الإنسان، وحق المواطنة.
سحب من الغازات السامّة تغطّي المناطق السكنية في أي وقت من ليل أو نهار في حالة صمت تعمّ المناطق المستهدفة، والنّاس في منازلهم.
إنّه العبث بصحّة الناس، بحياتهم، بمشاعرهم، بأمنهم، بكرامتهم، بقيمتهم الإنسانية. سخرية بالدين، بالخلق، بالأعراف، بالقوانين، بكلّ المقدَّرات في الذوق العقلائي السليم.
إنه استهتار، لعب صبيان، تسلية أطفال ما يمارس من إغراق المناطق السكنية المسالمة بغيوم من سموم.
إنهم يريدون أن يقولوا إننا هنا… إننا أقوياء.. فرسان… أسود… أبطال أشاوس… خافوا(18).. ارعبوا… اصمتوا… اصبروا على الضيم… ايأسوا من نيل الحقوق… لا تفكِّروا في الإصلاح، لا تتطلعوا إلى ما تتطلع إليه كل شعوب الدنيا من الحرية والكرامة… إننا غزاة…. مرتزقة من أجل إذلالكم… قتلكم… تصفيتكم.
ظلّوا في بيوتكم قابعين خائفين مرعوبين… لابد أن تركعوا، وتستكينوا خانعين لأي حكم يصدر في حقكم، وتسلّموا تسليم العبيد(19).
وكان جواب هذا الشعب دائماً وسيبقى أبداً بلا تغيير:هيهات منا الذلّة(20).
هذه السياسة الجاهلية الغاشمة الحمقاء صارت إلى تزايد لمؤشرين: مؤشر من قمة العرب تَمثّل في التغييب الكامل لقضية هذا الشعب، وكأنّها غير موجودة، أو كأن هذا الشعب غير موجود. هذا أو أن أذن أكثر العرب صمّاء عن كلمة الحقِّ، وعن استغاثة المظلوم، أو أن الظالم لا ينتصر إلاّ للظالم.
والمؤشّر الآخر من حامية الديموقراطية في العالم، ورائدة التحرّر للشعوب، التي تدفع بالجيوش والأساطيل الحربية لإنقاذ إنسان الأرض من قبضة الديكتاتورية المتسلّطة حسب دعايتها.
أمريكا التي تغزو بلدان العالم باسم الدفاع عن الديموقراطية وحرية الشعوب تعطي للديكتاتورية في البحرين أكثر من مؤشّر عمليّ، وأكثر من تصريح مطمئن، ودافع لممارسة مزيد من قمع الشعب لخنق صوته المطالب بالديموقراطية والحريَّة.
التصريح بأن الديكتاتورية في البحرين حليف استراتيجي لأمريكا حيث يطلق في الظرف الذي ينكّل فيه الحكم الحليف بالشعب، ويمعنُ في قهره وإذلاله، وقتل أبنائه، وخنق حريته، وقمع مسيراته السلمية، ومصادرة حرية التعبير عن معاناته مؤدّاه أن ألف شعب، وألف حرية، وألف ديموقراطية لا تساوي قلامة ظُفُر الحليف الاستراتيجي العزيز(21).
العودة إلى القتل بالرصاص الحي المتعمد وفي صورة اغتيال شخصي واضح لمصوّر يحمل آلة تصوير فقط لتوثيق ما يجري في المسيرة(22).
جاءت على أثر مؤشرين: من القمة العربية حامية الدين والحق، ببركة الضغط الخاص لتغييب مظلومية شعبنا عن جدول أعمال القمة، ومن أمريكا رائدة الديموقراطية والحرية في العالم حسب زعمها.
ومعروف لدى العالم أن الديموقراطية والحرية ورقة إعلامية تستخدمها السياسة الأمريكية لإسقاط حكومات وأنظمة لا تلتقي ومطامعها، والبحث عن أنظمة بديلة تحاول فرض هيمنتها عليها نجحت أو لم تنجح في ذلك، بغض النظر عن مدى ديموقراطية المستبدَل والبديل.
وتحرم الديموقراطية وحرية الشعوب في السياسة الأمريكية في البلاد المحكومة للأنظمة الديكتاتورية الموالية، الراضية بإمرة البيت الأبيض وسيادته.
تذكير:
أعيد التذكير بأن علينا أن نحرص على رصّ الصفوف، وتجنّب أي خطأ يحدث الخلخلة فيها، والنأي عمّا يوقعنا في شيء من المخالفة الشرعيَّة، والإخلال بالخلق الإسلاميّ الرفيع.
مما أخذته شريعة الله علينا ألا نرمي أحداً بسوء من غير علم، وألا نمَسَّ شخصية مؤمن من غير حقٍّ.
لك أن تحترس، أن تتوقّى، ألا تنفتح على من لا تعرف، أن تحتفظ بسرِّك عمن لم تحصل لك ثقةٌ تامّةٌ به، فضلاً عمن تجهله أو تشك فيه(23)، ولكن ليس لك أن تقضي على شخصية مؤمن اجتماعياً بإطلاق الكلمة غير المسؤولة فيه، وأن تحطّم سمعته من غير بيّنة ولا دليل.
وللكلمة في الشريعة حدود كما للعمل، فليس للمسلم أن يطلق الكلمة متى شاء، وكيف شاء من غير مراجعة هذه الحدود.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الناس ليسوا سواء في المستوى الفكري والنفسي والبدني، والإرادة والجرأة والإقدام، فالنّاس على درجات.
والحراك الشعبي لا يتقوّم بالأقوى فحسب، وإنما يتقوّم بكل المستويات وبكلّ الجهود، ولو بقي الأقوى وحده لما تحقّق على يده المطلوب. ولو أسقطتَ من هو الأقل منك دوراً، لحقّ لمن هو أكبر منك دوراً أن يسقطك.
والمشارك بشيء من الجهد خير من غير المشارك، والمتعاطف خير من المعادي، والمحايد خير من المحارب.
شجّع على الخير ولا تهاجم من هو أقل منك جهداً، أو من كان له تعاطف، أو من يقف موقف الحياد فربما أسأت بذلك إلى الحراك، وثلمت من رصيده، بل وخلقت له أعداء كانوا معه على درجة من الصداقة.
الموت يحدق بحياته:
عبد الهادي الخواجة من المحكومين ظلماً بالسجن المؤبد حكماً قالت عنه التقارير كما قالت عن غيره من أحكام كل الرموز و العلماء والشباب بأنه قائم على باطل من تعذيب لا يُحتمل داخل السجون، واعترافات تحت الضغط المكثّف الذي يفوق طاقة الإنسان، وعقوبة لا موضوع لها حيث إنّ موضوعها التعبير عن الرأي السياسي الذي تكفله الدساتير وحقوق الإنسان والأعراف الدولية.
وتفيد الآراء الاختصاصية منضمّة إليها الحقوقية بأن الحالة الصحية لعبد الهادي الخواجهة بالغة الخطورة وأن الموت يحدق به(24). وفي ذلك ما ينذر بأزمة حقوقية ووطنية سيئة جداً. وانعكاسات الأمر السلبية لا تخفى.
وموته يمثّل جريمة من جرائم الحكم الذي لا تغتفر، وتدهوراً خطيراً جدّاً في الوضع الأمني للوطن.
وستبقى البحرين في دوّامة من المشاكل والأزمات المتلاحقة، وفي منزلق خطير حتى يستجيب الحكم للمطالب الشعبية العادلة.
وهذه الاستجابة لا تحتاج إلى تدخّل عسكري من أي جهة من الجهات، وفي أي تدخّل من هذا النوع مخاطر مضاعفة يرفضها هذا الشعب.
ولا حلّ في تجييش جيوش لإسكات صوت الشعب الذي لن يسكت إلاّ بحل مرضي.
استجابة الحكم في البحرين لما هو مقتضى العدل، وتحقيق مطالب الشعب يحتاج إلى ضغط جدّي من حلفائه الاستراتيجيين بدل الكلمات والمواقف المشجّعة له على عنفه وتعنّته.
هذا والأمر كلّه بيد مسبّب الأسباب، ومالك كل سبب. وما التعويل إلاّ عليه لا على من سواه. ومن بعد توفيق الله وعونه وتسديده الأمر يعتمد على مصابرة هذا الشعب وجهاده.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا خاذل لمن نصرت، ولا ناصر لمن خذلت، ولا مذلّ لمن أعززت، ولا معزّ لمن أذللت، نسألك النصر والعز والفوز برضوانك يا قوي يا عزيز، يا علي يا عظيم، يا رحمان يا رحيم.
اللهم ارحم شهداء الإسلام ومن قتل مظلوماً في سبيلك، واشف الجرحى والمعلولين والجرحى، وأطلق سراح السجناء والأسرى من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 21/ الحديد.
2 – الحديث هو في موضوع حب الله.
3 – 31/ آل عمران.
4 – بحار الأنوار ج100 ص26 ط3 المصححة.
5 – فإن النفس تعرف نفسها وما فيها.
6 – المصدر السابق ج68 ص156.
7 – الخصال للشيخ الصدوق ص617.
8 – ميزان الحكمة ج1 ص509 ط1.
9 – بحار الأنوار ج14 ص328 ط2 المصححة.
10 – الكافي للشيخ الكليني ج2 ص82 ط4.
11 – المصدر السابق ج8 ص56.
يعلمون ما قيمة الإنسان، وما عظمة الله عز وجل فلا يبالون بمعاداة من عادى، وبمصادقة من صادق، كلّ نظرهم أن ينالوا رضا الله.
12 – بحار الأنوار ج90 ص160 ط2 المصححة..
13 – المصدر السابق ج74 ص22 ط3 المصححة.
14 – سورة التوحيد.
15 – 128/ النحل.
16 – هتاف جموع المصلين بـ(بالروح بالدم نفديك يا شهيد).
17 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
18 – أنتم يا شعب.
19 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
20 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلّة).
21 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لأمريكا).
22- الشهيد لا يشارك حتى في رفع الشعارات، لا يحمل حتى حجراً صغيرا، تأتيه الرصاصة المتعمّدة لتنهي حياته في مأساة.
هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا شهيد).
23- لك كل ذلك، بل عليك كل ذلك.
24 – هتاف جموع المصلين بـ(نطالب بالإفراج عن الخواجة).
25- 90/ النحل.