خطبة الجمعة (486) 19 صفر 1433هـ ـ 13 يناير 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: تتمة موضوع: الظنّ
الخطبة الثانية: سلطة واحدة لاسلطات ثلاث – مستقبل البحرين – لا دين هكذا
الخطبة الأولى
الحمدُ لله الذي لا يبلغ علمَه علم، ولا تصل قدرته قدرة، ولا تزن حكمَتَه حكمة، ولا يعدِل عَدْلَه عدل، وليس مثلَ إحسانه إحسان. هو الجليل الذي لا منتهى لجلاله، الجميل الذي لا تصوّر لجماله، الكامل الذي لا حدّ لكماله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والاستغناء به عمَّن سواه؛ فما من شيء يُغني عنه سبحانه، ولا فقر لمن أغناه. والمخذول من خذله الله، والمنصور من نصره، ومن عوّل عليه كفاه، ومن أمَّله أرضاه. ولا يليق بالعبد أن يسأل ربَّه وهو يعصيه، وأن يتقلّب في نعمه وهو يجحده، وأن يرزقه الله وهو يعبد غيره، وينصرف بطاعته إلى من عداه.
فلنحسن الطاعة لله، والشكرَ لنعمه، فنعم المدخلُ لسؤال المزيد من الإكرام والإحسان منه وهو الجواد الكريم أن نُخلص له الطاعة، ونشكر النعم.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نعوذ بك من كلّ ضلالة وغواية، ومن فساد العقل، وضياع الدّين، ونسألك العفو والعافية؛ عافية الدُّنيا والآخرة، وتوفيق الطاعة، وقبول العمل بمنّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه التتمة؛ تتمة للحديث في موضوع الظن:
اختبار العقل:
تقدّم أن النفس السيئة كثيراً ما يسوء ظنّها بالآخرين، وبهذا فكثرة سوء الظن قد تكشف عن نفس غزاها السوء، وانغمست في الشرّ فلا ترى في النَّاس إلاّ أنهم مثلُها، ولا يأتي منهم إلاّ من جنس ما يأتي منها.
يضاف إلى ذلك أن الظن ميزان للعقل؛ فما عليه الظنّ من دقّة، ومقاربة للصواب، وعقلانية في المناشئ، وسرعة تحقّق أو بطء، وتناسب منه وبين قوّة السبب مبرز لمستوى العقل، وصحّة التفكير، والتحرّر من الخيال والوهم، وغلبة العواطف.
وإذا كان الظن سيئاً أو حسناً مسرعاً إلى النفس، واجداً سبيله إليها لأتفه الأسباب، ولا يكاد يكون للعقل دور في محاكمته، واستجابة النفس إليه كان ذلك علامة على خِفّة وزن العقل، وضحالة التفكير، وتحكّم الوهم والهوى.
وفي هذا تأتي هذه الكلمات عن الإمام علي عليه السلام:
“ظَنُّ الإنْسانِ ميزانُ عَقْلِهِ…”(1).
“ظَنُّ الرَّجُلِ عَلى قَدْرِ عَقْلِهِ”(2).
“ظَنُّ ذَوِي النُّهى وَ الألْبابِ أقْرَبُ شَيْء مِنَ الصَّوابِ”(3).
ففرق بين ظنّ من عقل راجح، وعقل خفيف، وتجربة طويلة، تجربة لم يمر عليها زمن، وإن الظن ليأخذ قيمته من مستوى الفهم، ودقّة التفكير، وعمق البصيرة.
ويعتمد صدق الظن في جانب آخر على صفاء الرّوح، وطهر السريرة، ونقاء القلب، فإذا اجتمع عقل وإيمان جاء الظن وكأنه عن مشاهدة.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام:”اتّقوا ظنون المؤمنين؛ فإن الله تعالى جعل الحقّ على ألسنتهم”(4).
المؤمن الذي له عقل – والإيمان الحقُّ يكون معه دائماً عقل – عقله يقي من تضليل الخيال والوهم، وإيمانه يدرأ من كيد ووسوسة النفس، وبذلك يأخذ الظن طريق صوابه.
سوء الظن بين الأمر والنهي:
تقدّم النهي عن سوء الظن، ولكن هناك أحاديث أخرى تنصح به.
ذلك من مثل ما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”احترسوا من النّاس بسوء الظن”(5).
وما عن الإمام علي عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام:”لا يعْدَمُك من شفيق سوءُ الظنّ”(6).
وما عن الإمام الصادق عليه السلام ما يحذّر من الإفراط في حسن الظن، والانكشاف الكامل للغير، ووضع كل أسرار النفس بيد الآخرين حتى تكون النفس رهينة بإرادتهم “لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثقة، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال”(7).
والاحتراس من النّاس بسوء الظن(8) من معناه أن تبني أمورك على التحقّق، وعلاقاتك على درجة من التدقيق الكافي، لا على نظرة سطحية عابرة، أو كلمة مغرية، وابتسامة خادعة.
ولِتأتمنَ أحداً على دينك، على سرِّك، على أماناتك، على ما يعزّ عليك لابد لك من التحقّق والتبصّر، والدراسة والاختبار والتأني.
وإنّ لك من سوء الظن بمعنى الاحتراس من الدخول في العلاقات مع الناس من غير حساب ولا رويّة صفةً تقوم مقام الصاحب الشفيق عليك الذي يقيك كثيراً من الكبوة والعثار والخسار.
وإن الثقة المفتوحة، والانكشاف بكل أسرار النفس والأمر الخطير الذي يخصُّك وحتّى على من تراه أخاً لك ربما أوقعك في ورطة لا مخرج لك منها، ولا طاقة لك بأذاها(9).
فسوء الظن بمعنى عدم الاندفاع من غير تأمّل، وعدم الترسل والانكشاف بلا حدود مطلوب في العقل والحكمة والدّين، وليس بمعنى الإسراع في تُهَمَة الآخرين، وأخذ فكرة سيئة عنهم، وحملهم من غير تبيّن على محامل السوء.
الحكّام وحسن الظن:
نقرأ هذا النص من كتاب الإمام علي عليه السلام للأشتر لما ولاّه مصر:”اعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسنِ ظنِّ راع برعيّته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إيَّاهم على ما ليس له قِبَلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك؛ فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً.
وإن أحقّ من حَسُن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده”(10).
الحاكم العادل في شعبه، المحسن لهم، الساهر على مصلحتهم، الأمين على الثروة العامَّة، لا يدخله سوء الظنّ بالشعب، فلا يجد في نفسه ما يدعوه للتوجّس منه، والتخطيط ضده، والعمل على إضعافه، وإخافته. بل إنه بمقدار ما يُحسِن في معاملة الشعب، ويعمل في سبيل مصلحته يكبر حسن ظنّه بشعبه، وتتمتّن ثقته فيه؛ فيجد الفرصة الكافية للتفكير في التطوير النافع للأوضاع العامة والتقدم بها، وفي حماية حدود الوطن من أخطار الخارج ومفاجئاته.
أما الحاكم الظالم المسيء لشعبه فلا بد أن يسوء ظنّه به، ويرى فيه عدوّاً له مما يجعله يعمل على إنهاكه والإضرار به، وتفكيك كلمته ليأمن جانبه، ويطمئن لاستسلامه، وفقده القدرة على مقاومته.
حسن الظن بالله:
من أراد أن يستقصي حكمة الله في كلّ ما خلق، وأن يلمّ بكل أسرار تقديره، وما وراء كلّ تشريعه، وأن يصل إلى باطن ما أجرى من شيء أعياه ذلك(11)، ووقع في كثير من الخطأ، وأصيب بكثير من الحيرة، وانفتح عليه باب لسوء الظن بالله الذي لا يليق به سو ظن على الإطلاق(12).
ليس لنا أن نحيط تفصيلاً بكل أسرار التكوين والتشريع، ولو طلبنا ذلك لخسئنا، وأُصبنا بالضلال.
لكن يكفينا لأن نبعد بسوء ظننا عن الله سبحانه، وأن ننزهه عن كل سوء أن نعلم أنه إنما يحتاج إلى الظلم الضعيفُ، وأنما يسيء الناقص(13). ولما كان لله تبارك وتعالى كل الجلال، والجمال، والكمال، ولا حدّ لجلاله، وجماله، وكماله امتنع أن يصدر عنه ظلم أو جهل، أو شيء مما فيه نقص، ويتنافى مع الكمال.
فما ظنّ ظن سوء بالله إلا جاهلٌ واهم، وبئس المعصية سوء الظن بالله، فعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”أكبر الكبائر سوء الظنّ بالله”(14).
والله عند حسن ظن عبده المؤمن به فعن النبي صلّى الله عليه وآله:”والذي لا إله إلا هو، لا يَحسُنُ ظنّ عبد مؤمن بالله إلاّ كان الله عند ظن عبده المؤمن؛ لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبدُه المؤمن قد أحسن به الظن، ثم يخلِفُ ظنّه ورجاه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه”(15).
ومن أحسن في الله الظن، فليحسن الطاعة له سبحانه، فهذا الذي يناسب حسن ظنّه به، ولأنّ حسن الظن لا ينفي خوف العدل، وشكر النعم، وطلب القرب.
والله عند حسن ظن عبده المؤمن به فعن النبي صلّى الله عليه وآله:”والذي لا إله إلا هو، لا يَحسُنُ ظنّ عبد مؤمن بالله إلاّ كان الله عند ظن عبده المؤمن؛ لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبدُه المؤمن قد أحسن به الظن، ثم يخلِفُ ظنّه ورجاه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه”(16).
فما ظنّ ظن سوء بالله إلا جاهلٌ واهم، وبئس المعصية سوء الظن بالله، فعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”أكبر الكبائر سوء الظنّ بالله”(17).
ويتمثّل حسن الظن في الله سبحانه في ما دلّ عليه ما عن الصادق عليه السلام:”حسن الظن بالله أن لا ترجو إلاَّ الله، ولا تخاف إلا ذنبك”(18).
فكيف يرجو غيرَ الله من لا يعدل بالله أحداً في الغنى والرحمة والجود والكرم؟! وكيف يخاف عبدٌ من الله ظلماً وهو يراه العدل العليم الحكيم الغني المتعال؟!
ويتمثل حسن الظن في الله في ما دلّ عليه هذا القول عن الإمام علي عليه السلام:”حُسْنُ الظَّنِّ أنْ تُخْلِصَ العَمَلَ، وَ تَرْجُو مِنَ اللّهِ أنْ يَعْفُوَ عَنِ الزَّلَلِ”(19). حسن الظن بالله تبارك وتعالى يجعلك لا تشرك في عملك الصالح غيره استغناء به سبحانه، ولا تيأس من عفوه اعتماداً على جوده ورأفته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا حسن الظن بك، والخوف من عدلك، وإخلاص الطاعة لك، ورجاء عفوك ورحمتك، والعمل الدؤوب في سبيلك، والفوز بقربك ورضوانك يا حنّان، يا منّان، يا جواد يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(20).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي مالك أمر كلّ شيء من خلقه، وإرادة كل عبد من عبيده، وأمة من إمائه، ولا يملك أحد من أمره شيئاً، ويخافه كلُّ شيء، ولا يخاف من شيء، ولا شيء إلاّ وهو مفتقر إليه، و لا فقر له لشيء. عزيز جبَّار قهَّار، رؤوف رحيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والصبر على طاعته، وعن معصيته، وعلى ما ابتلى به عباده؛ فإنه لا يظلم أحداً، ولا يفعل عبثاً، ولا يُضيع عمل عامل، ولا يأمر إلاّ بحقّ، ولا ينهى إلا عن باطل، ويَجزي الصابرين أجر صبرهم، والمحسنين إحساناً، ويضاعف الإحسان، ويزيد في المثوبة، وعذابُه لمن عاداه شديد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أقبل بنا على طاعتك، وانأ بنا عن معصيتك، واعمر قلوبنا بحبك وذكرك، وطهّر سرائرنا من شوائب الشرك بك، وعاملنا بعفوك ورحمتك، واختم لنا بمرضاتك يا خير من سُئل، وأجود من أعطى، يا رؤوف، يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وصلّ وسلّم وزد وبارك على أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتا مقيما دائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فهذه بعض عناوين:
سلطة واحدة لا سلطات ثلاث:
طلباً للتوازن، وتخفيفاً للقبضة الحديدية المشدَّدة للسلطة الواحدة البعيدة عن قاعدة القيم الدينية، ورادع التقوى من الله، وتقليلاً للتحكم المطلق لهذه السلطة في مصائر الناس ومصالحهم، وللحدِّ من غلوِّها وتغوّلها أخذ بفكرة السلطات الثلاث التي تستقل كل واحدة منها عن الأخرى، مع رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية التي تتجمع بيدها القدرات الهائلة للبلد الذي تتولى إدارة شئونه العامة مما يمكِّنها من التلاعب بحياة الناس ومصالحهم متى أرادت فيما لو ترك لها الأمر، وأمنت من المراقبة والمحاسبة، مع فقد الضمير.
ويوجد في البحرين مصطلح السلطات الثلاث على مستوى التسمية فتسمع عن السلطة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، أمَّا على مستوى الواقع فلا وجود إلاَّ لسلطة واحدة… الوجود الفاعل هنا للسلطة التنفيذية لا غير.
ما يسمى بالمجلس النيابي بغالبيته العظمى تابع للسلطة التنفيذية، مشجع لها على سياستها، متخندق معها ضد الشعب وحريته وأمنه وحتى لقمته. ويظهر التقرير الصادر عن لجنة تقصي الحقائق وما بعده حقيقة تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية في توجهها وما تقتضيه سياستها من تشدّد أو تخفيف، وتبرئة أو إدانة.
ويختفي في البحرين تماماً اليوم طريق الانتخاب الحر، ومرجعيةُ الشعب، وكونُه مصدر السلطات، وكأن هذا الوطن ليس من عالم اليوم، ولا صلة له به.
ولا إصلاح لهذا الوضع الفاسد حَسْبَ ما استقرّ عليه عالم اليوم إلاّ بأن يكون الشعب هو مصدر السلطات، ولا تعبير عن ذلك بصدق من غير دستور من وضع الشعب لا من وضع النظام.
وغريب وضع البحرين كل الغرابة؛ فكيف يستحق هذا الشعب أن يشارك قبل أربعين سنة بدرجة من المشاركة في وضع دستور بلده، ثم بعد القفزة العالية التي حققها في مستواه الفكري والثقافي والإرادي، وبعد تطلعاته النامية الكبيرة، وبعد القفزة العالمية في تحرّر الشعوب، وتقدم الوضع الديموقراطي، وبعد الربيع العربي، والصحوة العامة لأبناء الأمتين الإسلامية والعربية يُفرض عليه أن يُحكم بدستور من وضع إرادة منفردة، لم تشارك فيه إرادته بحرف واحد؟!
منطلق الإصلاح اليوم إنما هو دستور تضعه الإرادة الشعبية الحرّة، لا مجموعة من الإجراءات الشكلية البعيدة عن روح الإصلاح، ووظيفته، وأهدافه.
مستقبل البحرين:
ما هو المتوقع لمستقبل البحرين السياسي؟
تجربة أول مجلس تأسيس في البحرين أتاحت فرصة لمشاركة شعبية في رسم الخطّ السياسي لها، وأنتجت دستوراً فيه بعض بصمات للإرادة الشعبية.
وجاءت من بعدها تجربة المجلس الوطني، وكان للإرادة الشعبية حضور فيه مما اضطر الحكومة عندما اصطدمت إرادة نواب الشعب بإرادتها في تمرير قانون أمن الدولة المضرّ بأمن المواطنين، والمصادر لإرادتهم أن تتخلى عن دعوى ديمقراطيتها عَلَناً وتحُلَّ المجلس من غير أن تستطيع أن تمرّر كلَّ ما تريده باسم النواب كما هو متاح لها اليوم في عملية تزوير مفضوحة لإرادة الشعب(21).
والبحرين اليوم تعيش واحدا من أسوء أوضاعها، وحالة من أشد الحالات في تاريخها ظلماً وقهراً وإرعاباً، وإقصاءً للشعب، وتنكيلاً به.
فماذا عن المستقبل السياسي لهذا البلد؟!
والوضع السياسي هو الذي يحدد اتجاه بقية الأوضاع.
صور المستقبل السياسي أربع:
1. أن يكون متراجعاً عن ماضي تجربة المشاركة الشعبية الأولى.
2. أن يكون صورة من تلك التجربة، وفي حدودها.
3. صورة من الحاضر بما هو عليه من ظلم وقهر.
4. صورة جديدة ناطقة بالإرادة الحرة للشعب.
لا مكان لتوقع الصور الثلاث الأولى في المستقبل. ولا توقّع إلاّ للصورة الرابعة(22).
وذلك لأن التاريخ من صناعة الإنسان؛ من غير أن يعني ذلك أن إرادة الإنسان قادرة على فرض نفسها على إرادة الله، حيث أنه لا إرادة لمريد إلا بإقدار من إرادة الله سبحانه.
وإذا كان التاريخ من صناعة الإنسان فهو تابع في مستواه، وتقدُّمه، وتخلُّفه لمستوى الإنسان، مستوى علمه… وعيه… إيمانه… رؤيته… طموحه… نشاطه… إرادته.
وإنسان اليوم في هذا الوطن في تقدم مطّرد إن شاء الله… علمه في ازدياد… إيمانه في تعمّق… صحوته في انفتاح… رؤيته في توسُّع… طموحه في تصاعد… نشاطه في حيوية… إرادته في اشتداد… عزمه في توثُّب… بذله في سخاء.
وهذا الطريق لا يمكن أن يرجع بالأوضاع إلى الخلف، ولا يمكن أن يقف بها عند حد من التطور الإيجابي.
هذا الطريق هو طريق التصحيح، والإصلاح، والتغيير الإيجابي، والتقدُّم والبناء، والإبداع والإعمار. ولا يمكن أن تأتي نتائجه عكسيّة على الإطلاق.
وحركة الشعوب كلِّها اليوم إلى الإمام، ولا حركة للخلف…. كل الأنظمة الجائرة عليها أن تعدل… كل الحكومات المفسدة عليها أن تصلح؛ وإلاّ فلا مكان لها في المستقبل. هذا هو منطق الواقع الجديد لإنسان الأمة، وشعوب الأمة، وكل شعوب العالم، وهذه هي الحتمية المترتبة على الصحوة، والثورة العارمة في وعي الأمة وإرادتها، والمتولدة من وحي الحياة الجديدة في إيمانها بربها وإسلامها.
لا دين هكذا:
يعتدي مسلم على مسيحي في بلد مسلم أو مسيحي، أو يعتدي مسيحي على مسلم في بلد من البلدان، فيثأر هؤلاء أو أولئك في البلد نفسه أو غيره في صورة انتقام عام من أهل الدين الآخر، وإن كانوا أهل الدين الآخر أبرياء ولا يرضون بالجريمة. يثأرون بروح جاهلية جهلاء بعيدة كلَّ البعد عن موازين الدّين ومقرّراته، ومنطق العدالة.
إنه ليس من دين الإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية عدا ما افترى الإنسان على دين الله أن تزر وازرة وزر أخرى، وأن تؤاخذ نفس بما كسبت نفس آخر.
وصورة أحطّ من هذه الصورة أن تتوسع حكومة في العقوبات الجماعية لأن البعض قد عبر عن رأيه في الظلم، وطالب بالحقوق، أو أن تزرع جماعة باسم الإسلام الموت المفاجئ لجماعات المسلمين والمؤمنين الأبرياء في الطرق والمستشفيات والجامعات والأسواق، والمساجد، والمشاهد لأغراض سياسية دنيوية دنيئة، أو بلا غرض إلا ما كان استجابة لدافع الجهل والحقد الأسود الذي يرقد في الصدور.
إنه اختراق لقيم الدين، ونسف لموازين الشرع، واستخفاف بما حرّم الله، وما قضى عدله برعايته.
والإجرام الذي يرتكب باسم الدين من أكبر الظلم له، ومن أفتك سلاح بقدسيته، وأشدِّ أساليب الحرب التي تواجهه، وأقضى ما يقضي عليه.
لا يفعل ذلك إلا جاهل انقلب فهم الإسلام عنده رأساً على عقب، أو من لا يساوي الإسلام عنده قلامةُ ظفر، أو مريدٌ سوءاً بالإسلام.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا يقينا ثابتا بدينك الحق، وفهما صائبا له، وتحمّلا أمينا لمسؤوليته، ودقّة في الأخذ بأحكامه، وملازمته، والاهتداء بهداه، يا رحمن يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا، وموتانا، وجميع شهداء الإسلام والموتى المؤمنين والمؤمنات، وفك قيد أسرانا وسجنائنا، واشف الجرحى والمعلولين المرضى من المؤمنين، وادرأ عنّا، وأعزّنا بعزّك يا رؤوف يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (23).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص365.
2 – المصدر السابق.
3 – المصدر السابق.
4 – نهج البلاغة ج4 ص73 ط1.
5 – بحار الأنوار ج74 ص158 ط3 المصححة.
6 – المصدر السابق ص211.
7 – تحف العقول ص357 ط2.
لا يمكن التخلُّص منها. من الصعب أن تتخلص من عثرة يقود إليها الترسّل والانكشاف الكامل لكل أسرارك للآخرين.
8 – ماذا يعني رسول الله بسوء الظن هنا؟ هل يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله من أن نسيء الظن بالناس بأن نحملهم على المحامل السيئة؟ لا. بمعنى أن نبني أوهاما عن الناس ترميهم بالقبيح؟ لا.
9 – أبقِ من أسرارك لنفسك شيئاً، والانكشاف الكامل إنما يكون على الله، ونحن منكشفون له أردنا أو لم نرد.
10- نهج البلاغة ج3 ص89 ط1.
11- أنّى للإنسان أن يصل إلى حكمة الله في كل شيء.
12 – أنا إذا أردت أن أعرف حكمة كلّ قدر من أقدار الله، وأردت أن أعرف فلسفة كل ما يوجد الله عز وجل من قدر في الناس الكون، ولم أعرف، وأخطأت، ورأيت الصواب خطأً، الحكمة سفهاً، والعلم جهلاً، ولم يجد عقلي محملا من محامل الخير لهذا القدر، ماذا سأكون؟ سأسيء الظن في الله.
13 – وما يخطئ إلا الجاهل.
14 – كنز العمال ج3 ص135.
15 – بحار الأنوار ج67 ص366 ط3 المصححة.
16 – بحار الأنوار ج67 ص366 ط3 المصححة.
17 – كنز العمال ج3 ص135.
18 – شرح أصول الكافي للمازندراني ج8 ص229 ط1.
19 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص366.
حسن ظنّك يقول بك بأن الجزاء موفور، وأن عملك لا يضيع منه شيء، وهذا لابد أن يغريك بأن تحسن العمل. ثم بحسن الظن لا تيأس لأنك أذنبت، وإنما عليك أن ترجع إلى الرؤوف الرحيم فإن رحمته لا تضيق عنك.
20 – سورة الكوثر.
21 – أي قانون تريده الحكومة اليوم من السهل جداً أن يمرر باسم إرادة الشعب المزورة من خلال المجلس النيابي القائم، وهذا كان ممتنعاً في المجلس الوطني الذي كان لأول مرة.
22 – طال الزمن أو قصر.
23- 90/ النحل