آية الله قاسم مع عوائل الشهداء: أشد ما يحمي من موتِ المجتمعات أنْ تنزع عن نفسها خوف الموت وأنْ تعشق الشهادة

جمعية الوفاق تقيم الحفل السنوي لعوائل الشهداء
إنّ لشهداء الأمّة عليها لدَينًا كبيرًا، ومن وفائها لهذا الدَّين.. العمل الصالح تهديه لشهدائها، والانتصار لقضيّتهم وهدفهم النبيل الذي استشهدوا من أجله، ومتابعة جهادهم، وتربية الأجيال التي تحمل رايتهم، وتعطي كما أعطوا، وتضحِّي كما ضحّوا.. من أجل عزِّ الإسلام وإنقاذ الإنسان وتركّز قيم الحقِّ والعدل والحريّة، واستقامة المسيرة البشريّة على خط خالقها العظيم.
… ثم إنّه لا أُمّة، ولا دين ولا حرية ولا كرامة، ولا عزّة ولا أمن بلا شهادة. الأمة التي تفتقد روح الشهادة إنّما هي في طريقها إلى الذلِّ والهوان والموت والاستعباد والنهاية المخزية.

 لمشاهدة المقتطفات :

https://www.youtube.com/watch?v=tL0DSZD0qPg

 

نص كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حفظه الله في الحفل السنوي الذي تقيمه جمعية الوفاق احتفاءً بعوائل الشهداء

الأحد | 12 شهر رمضان 1432هـ/ 13 أغسطس 2011 م | منطقة سار

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغويِّ الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد وعلى آله الطيِّبين الطاهرين..
أهلًا وسهلًا بكم أيّها الأحبة والإخوة الكرام في الله عزَّ وجلَّ..
أبدأ من أجل تركيز الرؤية الإسلاميّة لقيمة الشهادة والشهيد، من أجل أنْ نمتلك بقوّة تصورًا واضحًا، بصورة ما عن الشهادة من خلال نصوص قليلة، لا أقف عندها شرحًا وإنّما أسوقها من أجل أنْ نستلهم وأنْ نستذكر، وأنْ ننشد إلى قيمة الشهادة.
الشهيد حيٌّ غير ميت، وكلُّ خوفنا من الموت. القرآن الكريم يُطمْئن الشهيد بأنّه ليس بميت.. حيٌّ بحياة سعيدة، يشعر فيها بالشعور الكريم الآمن، ويرزق رزقًا حسنًا كريمًا من الله سبحانه وتعالى.
فإذا كانت الشهادة فيها تأمين من الموت، وهي بداية حياة سعيدة كريمة، فإذًا فليعشقها العاشقون. ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ {آل عمران/169}.
البرّ هو الخير، وقيمة الإنسان فيما يأتيه من خير. ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ {هود/7}.
فإذا كانت الشهادة هي البِرّ الذي ليس فوقه بِرّ، فأنت يا شهيد من أحسن الناس عملًا.. وكلّ اختبار الحياة وتحدّياتها إنّما من أجل أنْ تتجلّى الذات الأحسن عملًا من غيرها.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «فوق كلِّ ذي برٍّ برٌّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برٌّ». درجة أرقى من هذا البر لا توجد.
وقد تفرُّ النفس من الشهادة مخطئة، بتصوّر بأنّ فرارها من ساحات الشهادة يوفّر لها أيامًا تبقاها في هذه الحياة. يأتي الحديث عن الإمام علي (عليه السلام) ليعالج جنبة الضعف النفسي: «وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ، وَلاَ مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِهِ. مَنْ رائِحٌ إِلَى اللهِ كَالظَّمَآنِ يَرِدُ الْمَاءَ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي! الْيَوْمَ تُبْلَى الأَخْبَارُ! وَاللهِ لأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ»..
فالفرار من الشهادة لا يضيف إلى العمر شيئًا على الإطلاق. يومٌ ينتظرنا في ساحات الجهاد أو على الفراش! فلنختر.
من هذا الذي يريد أنْ يلقى الله، من هذا الذي يُفتِّش عن لقاءٍ حبيبٍ مع الله. من هذا الذي يشتري رحمة الله؟ ويود أنْ يقرب من لطف الله ومن عنايته، وأنْ يكون في حِماه وأمنه ووقايته وبحبوحة كرامته.. من؟ أتعشق؟ أتحب؟
هذه النفس التي هامت في حب الشهادة واستولى حب الشهادة على كلِّ أقطارها، وعشقتها كلَّ العشق، حتى صارت غايةً مطلوبةً لها، تُفتِّش عنها في كلِّ المسالك والدروب. نفس علي (عليه السلام) وأمثاله، يقسم وإذا أقسم إلّا صادقًا: «وَاللهِ لأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ».
الآخرون وقد توعّدهم الموت ورأوا شبح المنيّة، يشتدُّ شوقهم للرجوع للديار، أمّا عليٌ (عليه السلام) فهو أشوق إلى لقياهم ليستشهد في سبيل الله من شوقهم إلى ديارهم.
أتدرون أيّها الإخوة الكرام أنّ كلَّ مصيبتنا في تلوّث ذواتنا، وأنّ نقص الشعور بالسعادة لأيِّ نفس وراءه نقص في النفس، ولو طُهرت النفس من كلِّ أدرانها وأقذارها، لما شاب شعورها بالسعادة شَوب.
أتدرون أنّ غفران الله عزَّ وجلَّ يعني تطهير الذات وغسلها من كلِّ أقذارها، وإذا ما غُسلت ذات إنسان من الأقذار كانت تلك اللحظة التي تشعر فيها بالمعنويّة التامّة، وبالسعادة التامّة، وبالخلو من أيِّ مُكدِّر من المكدِّرات.
كيف لا وهي إذا خلت من الأقذار صارت ترى الله عزَّ وجلَّ، تنشد إليه، وهل تشعر نفس بالخوف وقد انْشدَّت إلى الله في رضا عنها؟ وهل تشعر بالفقر؟ أو بما يُهدّدها؟ هنا لا شعور بالنقص في ظلِّ الانشداد والارتباط بالله، وفي ظلِّ الشعور بمرضاته سبحانه وتعالى.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من قُتل في سبيل الله لم يُعرّفه الله شيئًا من سيّئاته»، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الشهادة تُكفِّر كلَّ شيءٍ إلّا الدَّين».. فإذا كُفِّرت الذنوب وغُسلت الذات من أقذارها تمّت مواقعة السعادة.
تمنّي الرجوع للدنيا من نوع واحد فقط من الناس، هو نوع الشهيد.. عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): «ما أحد يدخل الجنّة يحب أنْ يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء غير الشهيد! يتمنّى أنْ يرجع إلى الدنيا فيُقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة».
كلُّ أصحاب الجنّة لو عُرض عليهم الرجوع للدنيا، بأن يكون له كلُّ ما في الدنيا، لا يحبُّ الرجوع للدنيا، تسقط قيمة الدنيا بكلِّ قصورها وحقولها وثرواتها وجمالها، تسقط قيمته، تتلاشى وتذوب في النفس، ولا تساوي شيئًا. لكنّ الشهيد يكون له شوق للعودة للدنيا! لِمَ؟ هل لأنّ الدنيا كبيرة في نظره وقد استشهد وهو هازئ بها وهو مستعلٍ عليها؟ وقد سقطت قيمتها في نفسه حينما رأى الأخرى؟ ليس هذا المعنى الصحيح.. إذًا لما يودُّ الرجوع للدنيا؟ لكرامة الشهادة.. الشهادة أعطته كرامة خاصّة، أعطته منزلة مطمعة، جاءت بنتيجة فوق ما يتصوّر. إذًا، حقٌّ له أنْ يعشق ما به تلك الكرامة، وأنْ يتكرّر ما به ذلك الفوز العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «من جُرح في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك، ولونه لون الزعفران عليه طابع الشهادة، ومن سأل الله الشهادة مخلصًا أعطاه الله أجر شهيد وإنْ مات على فراشه».
فليكن الموت على الفراش، ولكنّ النفس إذا كانت مُتعلّقة حقًّا وصدقًا بالشهادة، وقد توجّهت إلى الله سبحانه وتعالى تسأله الشهادة في سبيله، فإنّها تُوفّى أجرها الكريم، بأنْ يُعطي الله عزَّ وجلَّ هذا الذي سأل الله الشهادة صادقًا أجر شهيد وإنْ مات على فراشه.

في الإسلام..
نعم للشهادة، لا للعنف المنفلت، ولا للإرهاب المجنون.. لسنا ممّن يتوعّد، ولسنا ممّن يتهدّد، ولسنا ممّن يخاف الوعيد والتهديد.
لسنا ممن ينشر الرُّعب في الأرض، والرعب إذا انتشر في الأرض لا يُزلزل أقدامنا.
لسنا دعاة فتنة، وإذا أشعل الآخرون الفتنة فإنّنا لا نسحب يدنا من إيماننا وقضيّتنا وإنْ كبُرت الفتن.
نحن طلّاب سلام، وسلام لمن؟ نطلب السلام لكلِّ أهل الدنيا، نطلب الخير لكلِّ الدنيا، وهذه هي رسالتنا في الحياة.. هي رسالة الإسلام.
وقد كان يشقُّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انحراف منحرف، وضلال ضال.
العنف ليس خُلُقنا، والإرهاب ليس من سيرتنا، ونحن أبناءُ مدرسة تتّقي الله، وتُقدّر الدم وقيمته، وتحفظ للإنسان حرمته، ولا تُطلُّ قطرة دم إلّا بحساب شرعيٍّ دقيقٍ.. لا يتعدّى حدود الله سبحانه وتعالى.
إذا كان يوجد في الأرض من تهمّه دماء المسلمين ودم الإنسان على الإطلاق.. فنحن أكثر من يهمّه هذا الأمر، وأشدُّ من يحافظ على أيِّ قطرة دم أنْ تسيل ظلمًا في الأرض.
نعم للشهادة، ولابد من التأكيد على الشهادة، ولا حياة إلّا بالشهادة، ولا عزّة ولا أمنَ ولا دينَ إلّا بالشهادة.
ولا شهادة إلّا في طاعة الله. لا تصدُق الشهادة إلّا أنْ يكونَ الموتُ في طاعة الله تبارك وتعالى. ولا طاعةَ له سبحانه إلّا بحقّ، من جاء بالباطل فهو غير مطيع لله عزَّ وجلَّ.
لا موارد لطاعة الله في باطل، كلُّ موارد طاعة الله هي موارد حقٍّ، فلابدّ من الالتزام بالحقِّ، والحقّ بعد ما عليه إلهام الفطرة، وإرشاد العقل.. إنّما يبحث عنه في الشرع، في الموارد التفصيليةّ وفي المواقف الجزئيّة، لا يُتعرّف على الحقّ إلّا بمراجعة الشرع.
ولذلك لا شهادة إلّا في ضوء حكم الشريعة وشروطها، فإذا كانت نفسٌ تعشق الشهادة، فلتبحث عن مواطن الشهادة في سطور الشريعة.

ما هي أرضيّة الشهادة؟
للشهادة أرضية واضحة إذا حصلت هذه الأرضية، حصلت الشهادة.
– صحوة عقل.. الشهادة ليس لها وارد في لحظات غيبوبة العقل وسباته.
– يقظة ضمير.. والضمير الميت لا يتجه للشهادة.
– سُموِّ روح.. الروح الهابطة بعيدة كلَّ البعد عن أفق الشهادة.
– طمأنينة قلب.. لله ولرحمته، إذعان من القلب لنعمه.. لواجب الطاعة له.
– إرادة خير قويّة.. صلبة، لا ترتدُّ ولا تنتكس.
– إيمان راسخ.. رؤية مستقبلية واضحة تكاد ترى الآخرة رأي عين، وأن منقلب الشهيد إلى الله وواسع رحمته، وكريم فيوضاته.
– ثقةٌ بالغة بالله. إكبار للآخرة، واستصغار لدنيا الذلِّ والهوان والتردّي والانحراف والمتعة الخسيسة وشهوات الحيوان.
لا أرضية للشهادة في الانفعال الغالب للإرادة، في الفوران العاطفي المُذْهِب للعقل.
ثم إنه لا أمّة، ولا دين ولا حرية ولا كرامة، ولا عزّة ولا أمن بلا شهادة. الأمة التي تفتقد روح الشهادة إنّما هي في طريقها إلى الذلِّ والهوان والموت والاستعباد والنهاية المخزية.
إنّ شجرة الحرية والعدل والحقِّ والكرامة، لا تذهب لها جذور في الأرض، ولا تترعرع في حياةِ أمّة إلّا بسقيٍ من دم الشهادة، وإنّ أشد ما يحمي من موتِ المجتمعات أنْ تنزع عن نفسها خوف الموت وأنْ تعشق الشهادة.
ولا حماية لمجتمع يحكمه الخوف، ويفرّ من الشهادة والاستعباد والاسترقاق وحياة الذل والمهانة. الأمّة التي لا تؤمن بالشهادة ولا تعشقها، ولا تضع نفسها على طريق الشهادة.. أمّة تكون قد اختارت لنفسها الذلَّ والهوان والموت.
نحن نعرف أنْ لا ارتفاع للكفر والطغيان في الأرض، وعلينا أنْ نعرف أنّه لا يُكافحُ كلّ ذلك إلّا بحب الشهادة وعشقها واسترخاص الموت في سبيل الله.
وما من أمّة إلّا وهي مَدينةٌ لشهدائها الأحرار الأبرار، فيما لها من عزّة وحريّة وكرامة ومكانة، وأمن وخير واستقرار واستقامة.
إنّ لشهداء الأمّة عليها لدَينًا كبيرًا، ومن وفائها لهذا الدَّين.. العمل الصالح تهديه لشهدائها، والانتصار لقضيّتهم وهدفهم النبيل الذي استشهدوا من أجله، ومتابعة جهادهم، وتربية الأجيال التي تحمل رايتهم، وتعطي كما أعطوا، وتضحّي كما ضحّوا.. من أجل عزِّ الإسلام وإنقاذ الإنسان وتركُّز قيم الحقّ والعدل والحريّة، واستقامة المسيرة البشريّة على خطِّ خالقها العظيم.
نعم.. للشهداء علينا حقٌّ ضخم، وهذا الحقُّ لا يُؤدَّى بالكلمات، وإنّما يُؤدّى بالعمل الجهاديّ والكفاح المستمر، وتربيةِ النفس على العطاء والبذل في سبيل الله، حتى ترخص النفس في سبيله.
وإنّ أهل الشهداء ممن يشاركونهم الخط والهدف والرؤية والهمّ والتوجّه مكرّمون في الأمة، ومحفوفون بعنايتها، ولهم الشرف والمكانة المحترمة العالية.
وهم من جانبهم متواضعون لله سبحانه وتعالى، لا يستكثرون ما أُعطوا وما تحمّلوا من آلام، ولا يتوجّعون لما بذلوا، ولا يدخلون مع أحد في مفاخرة دنيويّة بما قدّم أبناؤهم المجاهدون من تضحيات في سبيل الله، ولا يُمنُّون على مجتمعاتهم بذلك حتى لا يحبط العمل، ولا يذهب أجر الصبر عند الله.
إنّكم مأجورون كلَّ الأجر عند الله عزَّ وجلَّ أنْ قدّمتم فلذات أكبادٍ وإخوة كرام أعزاء في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي سبيل إنقاذ المجتمع من ظلمه وظلماته.
السمو والرفعة والغفران والرضوان لشهدائنا الأبرار، ولشهداء الإسلام والحقِّ والعدل في كلِّ مكان وزمان.
اللهم ارزقنا نيّة الشهادةِ الصادقة في سبيلك وشوقها، وارزقنا عمرًا مديدًا في طاعتك، واختمه بأحب الشهادة إليك لننقلب من هذه الدنيا منقلبًا حميدًا مرضيًا عندك يا كريم يا رحمن يا رحيم.
رحم الله من قرأ سورة الفاتحة وأهداها لشهدائنا الكرام وشهداء الإسلام جميعًا..
غفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: موقع جمعية الوفاق الوطني الإسلامية – 15 أغسطس 2011م

زر الذهاب إلى الأعلى