مع ذكرى المبعث ( آية الله قاسم )
مع ذكرى المبعث
آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
1) بعث (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولًا من عند ربه ليبعث في الإنسانية الحياة بعد الموت بإذن الله، فالإنسان هو المنطلق والغاية للبعثة النبوية الشريفة.
كل الرسالات جاءت لتضع هذا الإنسان على خط كماله، وليس له من خط لكماله إلا أن يعبد الله، ويتلقى كل تشريعات حياته من عنده {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. هذه العبادة المكملة للإنسان، الآخذة به إلى سمو، إلى رفعة وصعود، إلى قرب من الله الكمال المطلق.
لا تكثّر في خطوط الكمال إنما هو خط واحد هو الخط الصاعد إلى الله، وكل خط مما عدا هذا الخط هو خط هبوط وخط تسافل وخط للاندثار. الغاية الكبرى للرسالات كلها هو أن يصنع هذا الإنسان تشريعًا على عين الله كما صنع تكوينًا على عين الله وبعنايته.
2) بم تحيى الإنسانية وتتقدّم؟
{ربنا وأبعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}. البقرة:129. دعوة النبي إبراهيم (عليه السلام) لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، للأمة من نسله أن يأتي فيهم رسولًا منهم.
الرسول يتلو عليهم آياته، وتلاوة الآيات تقود إلى الإيمان، استماع الآيات يبعث روح الإيمان في النفس، ينفتح بها على الله يثير فيها مكنون الفطرة، والفطرة ناطقة في داخل الإنسان بتوحيد الله ومجرد استثارتها واستنطاقها لما تغبر، ولما تغبّر يعود بها إلى رؤية الله بجلاء وإلى الارتباط بالله سبحانه وتعالى بقوة.
{.. ويعلمهم الكتاب والحكمة..} منهجًا للحياة، منهجًا لتربية النفس، منهجًا تصحّ به السياسة، يصح به الاجتماع، يتقوّم به الاقتصاد تصحح به كل جنبات الحياة، علاقات الإنسان بالإنسان، يسود العدل تسود الرحمة يسود الإحسان، يسود العلم والمعرفة.
{.. ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم..}. التزكية تعني الإنماء الصالح، وليس مجرد الإنماء وأي إنماء إنما هو خصوص الإنماء الصالح، التربية الآخذة إلى علو، إلى صحة، إلى استقامة، هذه التزكية منهجها هو الكتاب الذي يعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته بمستوى معين، وقيادة الأمة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) بمستوى أعمق وأكمل وبصورة مستوعبة وشاملة لئلا أن يرتفع علم الكتاب بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأرض محتاجة إلى علم الكتاب حاجتها إلى المطر، إلى الشمس، إلى الحياة… فكيف يفارق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته بعلم الكتاب لتبقى وكأنها لم يبعث فيها رسول ولم تكن الأمة التي احتضنت خاتمة الرسالات؟!
{.. يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}: الوقفات سريعة
{كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}. البقرة:151. الآيتان الكريمتان تختلف في الترتيب بين تعليم الكتاب والحكمة وبين التزكية في دعوة إبراهيم (عليه السلام)، الآية تقدم تعليم الكتاب والحكمة على التزكية، وفي الآية التي تصف دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من ناحية عملية تطبيقية تقدم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة.
الآية الأولى تتحدث عن الترتب المنطقي، والترتب المنطقي يقتضي أن التزكية تتمشى في ضوء المنهج الصحيح اللآحب وهو منهج الكتاب والحكمة الإلهية المتعالية.
أما الآية الثانية فتتحدث عن الممارسة ممارسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطبيق دوره في الناس، وهنا والناس لا يقبلون بنفسيتهم الجاهلية المدبرة على فهم الكتاب فهمًا تفصيليًا وعلى فهم الحكمة فلا بدّ أن تزكى أخلاقهم أولًا، لا بدّ أن يعودوا بشكل ما إلى الطبع الإنساني، يبتعدوا عن حيوانيتهم، عن وحشيتهم، ليأنسوا الخلق الكريم ويأنسوا لونًا حضاريًا راقيًا على المستوى النفسي، وعندئذ سيكون منهم إقبالٌ على تعلم الكتاب، والحكمة والصبر على هذه العلوم الرفيعة السامية.
{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه عندهم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه – أي وقروه – ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}. الأعراف:157
القيم ثابتة على خلاف النظرة المادية الغربية العشوائية الضائعة، الآية الكريمة تقول: يأمرهم بالمعروف. هناك معروف تعرفه العقول، يعرفه عدل الله، يعرفه علم الله، يوافق عليه جمال الله وجلال الله، هناك خلق من هذا النوع، هناك خلق سافل يرفضه العقل، تمجّه الفطرة، ينهى عنه الله سبحانه وتعالى، تحاربه شريعته، ذاك معروف يجب أن يعرف لكل الأجيال، هذا منكر يجب أن تنكره كل الأجيال، ومسؤولية التربية التي تبدأ من الأسرة وتشترك مع مسؤولية المجتمع، مسؤولية كل أولئك، أن يعرفوا الأجيال القادمة بما هو المعروف وبما هو المنكر ولهم من داخل فطرتهم رصيد، يستطيعون أن يتلقوا من خلاله هذا الفهم بصورة دقيقة وكاملة.
وإن هناك خبائث وهناك طيبات، والحضارة التي لا تميز بين خبيث وطيب ولا بين معروف ولا منكر هي حضارة حيوانية منفلتة، هي حضارة متسيبة هي حضارة بلا إنسانية، هي حضارة لا تبني الإنسان ولا يمكن أن تحقق طموحات إنسانية الإنسان.
“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” الكلمة المعروفة…. القصد هو الإنسان، وكيف يصنع الإنسان؟ يصنع الإنسان خلقيًا.
3) الإنسان المثال: الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قد يطلق عليه النموذج أو الأنموذج، الإنسان المثال: {وإنك لعلى خلق عظيم}. هذه هي شهادة الرب سبحانه وتعالى في حق العبد الذي ارتضاه خاتمًا للنبيين والمرسلين، وكلفه أضخم رسالة في العالم، شهادته جل وعلا له (صلى الله عليه وآله وسلم): {وإنك لعلى خلق عظيم}. والخلق ليست الابتسامة الكاذبة وليست المجاملات، إنما الخلق مستوى نفسي شفاف رقيٌ في الذوق الإنساني، صحة في رؤية الفكر، ضمير طاهر، نية صالحة، مشاعر فياضة بالخير، ذات متألقة لا تند إلا بخير، لا يترشح منها إلا الهدى لا يترشح منها إلا العطاء الصالح، لا تتكلف حين تعطي صالحًا، إنما الصالح هو المترشح منها، هو إشعاعها هو فيضها… ذلك هو الخلق يا اخوتي الكرام.. {وإنك لعلى خلق عظيم}، وهذا الإنسان لا يترشح عنه إلا الخير.. صاحب الخلق الكريم.
وإشعاعه بالهدى والنور ذاتي بعد فيض الله سبحانه وتعالى، وهو ثمرة المنهج الإلهي القويم والتزكية في ضوء توجيهاته وتعليماته.
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صناعة القرآن كما جاءت بذلك الأحاديث أن خلقه القرآن، حين سئلن نسوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليست واحدة منهن فقط، وفي رواية سئلن نسوته (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدةً واحدة، فجاء الجواب مفاده “أن خلقه القرآن”.
فالرسول هذا العظيم الذي يمثل أقوى شخصية على كل الأصعدة والمستويات هو صناعة القرآن، القرآن يستطيع أن يصنعكم أمةً قادرة.. أمةً رائدة.. أمةً قائدة.. أمةً لا تقهقر أمام عدوان الكفر وأمام عدوان الضلال، عودوا إلى قرآنكم، لا تفتشوا عما يصدره الغرب والشرق لإنقاذكم أيها الأخوة، قرآنكم ألزموه، سنة نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم) تمسّكوا بها، تصنعون أفرادًا أفذاذًا وتصنعون أمةً راقية قوية سامية، منقذة للبشرية جمعًا.
4) إذن وبعد هذا.. إذا كان هم الإسلام، إذا كانت رسالة الإسلام، رسالة كل الأنبياء والمرسلين هي صناعة الإنسان، إذن أين الاهتمام بالتقدم الاجتماعي، بالتقدم السياسي، بالتقدم الاقتصادي، بالتقدم العلمي، بالتقدم والعبادي وحتى العبادي الخارجي؟؟
أقول لكم أيها الاخوةك كل ذلك وسيلة، حتى صلاتكم وسيلة، صيامكم وسيلة، حجكم وسيلة لصناعتكم، على المستوى الفكري، على المستوى النفسي، على مستوى الضمير، على مستوى المشاعر، على مستوى الأهداف والطموحات، لتتحولوا شيئًا وخيرًا أقرب ما يكون إلى الخير المحض، والخير المحض هو الله سبحانه وتعالى.
خطبة الجمعة (29) بتاريخ 2 شعبان 1422هـ – 19/10/2001م
لله تبارك وتعالى في عباده رحمتان وهدايتان: رحمة وهداية تكوينية، ورحمة وهداية تشريعيَّة. الهداية الأولى تعمّ كل الممكنات التي تخرجها القدرة الإلهية من ظلمة العدم إلى نور الوجود وترعاها. والهداية الثانية تخصّ من كان في معرض التكليف من الخلق.
ويوم المبعث النبوي الشريف هو يوم تنزُّل الهداية التشريعية الكبرى التي اكتملت بها الهدايات الإلهية من هذا النوع مما سبق تنزّله قبل خاتمة الرسالات.
والأخذ بهداية التشريع، والالتزام بمنهج الدين القويم في شؤون الحياة تقرأ عنه في الكتاب الكريم أنه شرط في تدفّق المزيد من الرحمة التكوينيّة، وإفاضة الكثير من البركات السماوية على مجتمعات الناس، وأن الانفصال عن منهج الله سبحانه لهذه الحياة يصيبها بالضيق والتأزّم والبؤس والشحّ والشقاء:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. فإما طاعة معها صحة الأوضاع، وإما معصية ومعها تردّي الأوضاع.
فالدين القويم والشريعة الغرّاء لهما دوران مترابطان: الأول: إعداد الإنسان في هذه الدورة من وجوده التي يعيشها على ظهر الأرض لأعلى المنازل الكريمة، والرتب الحميدة في الآخرة عن طريق التربية الخاصة والعامة وتهيئة الأجواء والمناخات المعنوية المساعدة التي تبلغ بإنسانيته على خطّ ربّه سبحانه إلى أسمى مراقيها وأرفع درجاتها.
والثاني: هو خلق أوضاع حياتية صالحة ومتقدمة على مختلف المستويات لتشكل البيئة المناسبة لتوفر الإنسان على ما يمكن له من سعادة على الأرض، وتجنّبه الهزّات العنيفة التي تعصف براحته أفراداً ومجتمعات، وتُقلقُ وجوده في الأعماق، وتشغله عن الغاية الأساس لهذه الحياة، وهي أن يُصنَع من خلال هذه الدورة من وجوده إنساناً صالحاً لأن يعيش أقصى درجات السعادة التي تهيؤه لها استعدادات داخله الموهوبة له من الله العظيم الكريم في اليوم الآخِر.
وإذا كان الانفصال عن منهج الله لأهل الأرض المتمثّل في دينه وأحكام شريعته مؤثّراً سلباً بأي درجة من درجاته على حياة الأفراد والمجتمعات بما قد يبين لناظر، ويخفى على آخر، فإنّ الدرجات الكبيرة من الانحراف عن خط الدين تهزّ أوضاع الحياة هزّاً عنيفاً بيّناً لكل ذي عينين، وتهدد جذور شجرتها بالاقتلاع.
أما لو تخلّى الناس كلّياً ولو لوقت يسير عن دين الله عقيدة ومشاعر ودوافع وغايات وقيماً وضوابط وأحكاماً وأصولاً خلقية وهدايات رئيسة لتفككت بنية المجتمعات الصغيرة والكبيرة من الأسرة حتى المجتمع البشري الأكبر، وعمّت الفوضى، وانتشر الفساد إلى حدّ القضاء على الحياة.
هذا كلّه حق ولكن أكثر النّاس لا يعلمون.
ومن هنا نعرف حاجة الإنسانية قاطبة لخاتَم الرسل (صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين)، وخاتِمة الرسالات، وأنّ أكبر خيانة يمارسها فرد أو جماعة أو حزب أو حكومة أن يعمل على تحريف دين الله، والصدّ عنه، وطمس معالمه، والكذب عليه، وفصل النّاس عنه، ومطاردته.
خطبة الجمعة (336) / 28 رجب 1429هـ /1 اغسطس 2008م
جاءت بعثة المصطفى محمدُ بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) وحياة الأبدان في جزيرة العرب في شُحّ وبؤس وفوضى واضطراب، وحياة الأرواح في كلّ الدّنيا قد تعدّت مرحلة الجفاف إلى الموت عند النّاس في الكثير، وشارفتْ الدّنيا على أن يغمرَها الظّلام.
فأنعشتْ بعثتُه (صلَّى الله عليه وآله) حياةَ البدن، وأخرجت الإنسان من بؤسه وفوضاه، وبعثت حياة الروح بعد موت، وأنقذتها من شدّة جفاف، وطارد نورُها الظّلمة في كلّ الأرض.
وستبقى حياة الأبدان مُرهَقة، وشؤون المادة في عُسرٍ وإن تيسّرت الوفرة، وطغت الثروة، واستطال المال، وسيعمُّ جفافُ الروح، وتموتُ إنسانيّة الإنسان، وتغرق الأرضُ في الظلام، وتلفّها الضّلالات، ويزداد السّوء كُلّما أدبر النّاس عن نور البعثة، وأعطوا ظهورهم للإسلام.
وستزهو الدّنيا وتستنير الأرض، وتحيى الروح، ويُبعث الإنسان، وتستقيمُ الحياة، وترقى الأوضاع، وتَهنأ الأحوال، ويغيب البؤسُ إذا كانت عودةٌ للإسلام، والتحامٌ بخطّ البعثة النبويّة، واهتداءٌ بأنوارها، واستقامةٌ على طريق هذا النّور.
خطبة الجمعة (415) / 26 رجب 1431هـ / 9 يوليو 2010م
مبعث رسول الله؛ محمد بن عبدالله (صلَّى الله عليه وآله) فيه بعثٌ لعقل الإنسان، وقلبه، وضميره، وإرادة الخير فيه بعد موتٍ أو سُقام شديد كاد يأتي على كلّ ما فيه من سبب خير، وعنصر قوة وامتياز، ومنبعٍ طاهرٍ، ووجود كريم، وإنسانية عالية.
وهو يُذكّرن بحاجة الأرض إلى هدى السماء، وكلمة الوحي، وشمس الرسالة، ونور الدّين، ويعلمنا وأنّ الأرض لا تحلّ مشكلاتها إلا بتطبيق أطروحة السماء، ولا منقذ للبشرية حقّاً إلا الإسلام، والاستسلام لله وحده.
خطبة الجمعة (458) / 28 رجب 1432هـ / 1 يوليو 2011م