خطبة الجمعة (456) 14 رجب 1432هـ – 17 يونيو 2011م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الحديث في العدل
الخطبة الثانية: القرآن الناطق – زينب بنت أمير المؤمنين (ع) – ظاهرة مشتركة.
الخطبة الأولى
الحمد لله العدل الحكيم الذي لا تضيع في عدله مظلمةُ مظلوم، ولا يفوتُه بظلمِه ظالم، ولا يُنقِذ منه منقذ، ولا منقذ لأحد من دونه، ولا استثناءَ من عدله، وبه تقوم السّماوات والأرض وما فيهنّ وما بينهنّ من شيء، ولا يبلغه عدلُ عادل، وليس له مماثل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أُوصيكم ونفسي الخطَّاءة بما أوصى به المخلِصُون من عباده من تقواه، وأخذ الحِيطة من عقابه، والاحتماءِ بطاعته من غضبه، فغضبُ الله لا يُطاق، وأخذه شديد، وعذابه لا يحتمله محتمل. وإنّ لله في الدنيا لعقوباتٍ مفاجئةً للظالمين في ليلٍ، أو نهارٍ، وفي أمنٍ، أو خوف فوق كل حساب. عقوباتٌ تذوب لها الأفئدة، وتذِلُّ لها الرِّقاب. وما عقوبة الدّنيا إلى عقوبة الآخرة إلاَّ شيءٌ يسير. ألا فليُشفق امرؤ على نفسه من غضب جبَّار السماوات والأرض ومن نقماتِهِ العاجلة والآجلة، ألا فلنطلّق المعصية، ونلتزم الطاعة، وننأى عن الظّلم، وإلاَّ فلنعدّ أنفسنا لحرب من الله قاضية.
أعذنا ربّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من معصيتك والدخول في معاندتك، ومحاربة دينك وأوليائك، والإعانة على المستضعفين من عبادك فنستحقّ بذلك مقتك وسخطك ونقمتك وطردك وعذابك، واجعلنا من أنصار دينك وأوليائك، والمظلومين من خلقك فنكونَ من أهل رحمتك وعنايتك ورضاك وكرامتك، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ولكل أهل الإيمان والإسلام ومن علّمنا علماً نافعاً في دين أو دنيا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة يا محسن يا حنّان يا كريم.
اللهم صلّ على حبيبك المصطفى الذي نقّيته وزكّيته ورفعت مَقامه عندك وعلى آله الأبرار وسلِّم عليهم جميعاً تسليماً كثيراً كثيراً.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في العدل:
أولاً: أوّل العادلين: الله عزّ وجلّ أول عادل، وأكمل عادل، وعدله لا يدخله خلل، ولا يتغير ولا يزول، ولا يغلبه على عدله غالب، ولا يصرفه عنه صارف، وهو نافذ في كل شيء ولا رادّ له، ولا يمتنع عنه ممتنع. وكل دينه ووحي من عنده، وكتابٍ من كتبه، وفعل من فعله من إحياءٍ وإماتة، ورزقٍ ومنع، وبسطٍ وقبض، ومرضٍ وصحة وما سوى ذلك صِدْق وعدل {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(1).
وقد أراد الله لعباده أن يُقيموا العدل، ويأخذوا بالقسط، ويقولوا الصدق، ولا يعدلوا عن الحقّ {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(2)، {… وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}(3).
ولا عدل في العدل بين المتفاوتين، ولا إنصاف في التفاوت بين المتساويين {… ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}(4).
فليس من العدل أن تساوي بين عظيم وحقير، وكفؤ وغير كفؤ، وظالم ومظلوم، وقوي وضعيف، ولا أن تقدِّم عِدلاً على عِدله، ولا مساوياً على مساويه(5).
ولا عدل بغير اتباع الحق وتحكيمه، وكل الحقّ في دين الله، ولا هدى إلاَّ في هداه {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(6).
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى…}(7) وكل ما قيل عنه هدى على خلاف هدى الله فإنما هو ضلال.
ثانياً: العدل الأساس:
بعدل الله كان الوجود. وبه قيامه ودوامه، وبعدل الله كانت الحياة نشوءها واستمرارها، ولا يقوم شيء، ولا يدوم إلا بعدله.
يقول الإمام علي عليه السلام كما عنه:”العدل أساسٌ به قوام العالم”(8)، وعنه عليه السلام:”العدل أقوى أساس”(9)، وعنه “العدل حياة”(10).
وفي ربطٍ واضح بين إقامة العدل، وانتعاش الإسلام وتقدُّمه في حياة النّاس، وتهيؤ الأجواء لظهور عظمته، والاقتناع به، واحتضانه تقول الكلمة عنه عليه السلام:”العدل حياة الأحكام”(11).
وانظر إلى عظمة كلمة في المورد عن إمام معصوم آخر من أئمة آل محمد صلَّى الله عليه وآله، وهو الإمام الكاظم عليه السلام في قوله تعالى {يحيي الأرض بعد موتها}:”ليس يحييها بالقَطْر(12)، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل. ولَإقامة الحدّ لله أنفع في الأرض من القَطْر أربعين صباحاً”(13).
لئن كانت الأرض تحيى بالمطر، ويكثر به منها العطاء إلاَّ أن الظلم يعصف بكلّ خيرها، وينحرف بوظيفته، ليتحول سوءاً وشرّاً وأذى، وتردّياً، واستكباراً واستعباداً، وتمزُّقاً وفِتَنا، وبطراً وتيهاً، وضلالاً وفساداً وشقاء في حياة الناس.
أما العدل فيكثر به الخير خيرُ الأرض، وخير الناس، وتستقيم به النفوس، وتطيب القلوب، وتطهر الأرواح، وتنشط العقول، وتشتد العزائم، وتنطلق قوى الإعمار، ويعمّ الأمن، وتغزر البركات، وتهنأ الحياة(14).
وتقول الكلمة عن علي عليه السلام:”عدل السلطان خير من خصب الزمان”(1).
إذا لم يكن عدل واستطالت الثروة وكانت بيد فئة متنفّذة ضيقة عملت بالفساد في الأرض، وخَلْق الفتن والعداوات، وصارت تستطيل بها على الناس، وتصادر أمنهم، وتسرق منهم كلّ فرص النمو، وتغتال إنسانيتهم وأخلاقيتهم، وتحجبهم عن رؤية الحقّ، ومعرفته ربّهم، ونفسهم، وتُعمي قلوبهم، وتذلّهم في داخلهم كلّ ذلك من أجل أن لا تقوم لهم قائمة، ولا يستطيعوا أن يحدّوا من جشع الفئة المتنفِّذة، وحتى يبقى الطريق مفتوحاً لمزيد من التعملق المالي والشّهرة الكاذبة والترف الباذخ لنفوسٍ فارغة لا تفتأ تطلب من هذا المزيد لتملأ شيئاً من فراغ لا يملأه المال.
وملهاة المال عند هذه الفئة تشغلها عن إنسانيتها، وتُفرّغها من قيمها وأخلاقيتها، وتحوّلها إلى وجود مادي تافه في كلّ تفكيره ومشاعره وحساباته وتطلعاته وفيما يفعل ولا يفعل، وما يؤمن ولا يؤمن، وما يريد ولا يريد(16).
وفي ظلّ واقع الظلم والاستبداد تضعف الأكثرية، ويقل إنتاجها ويسودها كثير من الأمراض، وتشعر بملالة الحياة، وتفقد الأمل، وتشعر بعداوة الآخر، وترتفع عندها درجة التوتر، ولا تجد بداً من الصدام.
وستبقى الأرض في موات وإن كثرت خصوبتها، وفي فقرٍ وإن عظُم غناها ما دام يحكمها الظلم الذي يجاري طمع أهل السلطة والنفوذ، فإن طمعاً مفتوحاً من شخص واحد في الأرض كل الأرض لا تقنعه الدنيا وإن اجتمعت كلها بيده.
ولن تحيى الأرض، وتغنى الحياة، وينبسط الخير، ويجد كل الناس الكفاية وما يحتاجون، ويحصل على قناعتهم إلا بظهور الحقّ، وبسط العدل، وسيادة الدين، ودولة المتقين(17). عن الإمام العسكري عليه السلام لعمّته حكيمةَ بنت محمد بن علي بن موسى الرضا عليه السلام:”بِيتِي الليلة عندنا؛ فإنه سيولد المولود الكريم على الله عزّ وجلّ الذي يحيي الله عزّ وجلّ به الأرض بعد موتها”(18).
فبإقامته العدلَ، وأخذه بالحقِّ، وإشادته للدين، واتباعه للهدى ستحيى الأرضُ، والعقول، والأرواح، والنفوس، وعندئذ يطغى الخير، وتعظم البركات، وترتفع الشكوى، وتختفي الحاجة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أحينا ما أحييتنا خير حياة، وأحيي بنا دينك، وأظهر بنا شريعتك، ومكّن للصَّالحين من أوليائك في عبادك وبلادك لتحيى الأرض ومن عليها، وتكون في سلام وأمان، وهدى ونور وخير وبركات؛ إنّك فعّال لما تشاء إنك الجواد الكريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ).(19).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا شيء إلا وهو ينعم برحمته، ويعمُّه فضله، ويصونه حِفظه. وهو الرزّاق لمن آمن أو كفر، الكافي لمن أطاع أو عصى، الغفّار للمستغفرين، التوّاب على الأوّابين، منقذ المستضعفين، مهلك الجبّارين، مبير الظالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله، والعمل الصّالح والتّواصي بالحقّ، والتواصي بالصّبر؛ فما نجا إلا من آمن واتقى، وعمل صالحاً، ودعا إليه، وأخذ بالحق وهدى إليه، واستمسك بالصبر وحثّ عليه. وبالإيمان والتقوى تصلح النفس، وبالعمل الصالح تتأدى الوظيفة، وبالتّواصي بالحقّ يعمُّ الهدى، وبالتواصي بالصبر تتثبت الخطى، وتُتحمّل المحن الثقيلة، وتُواجه الشدائد الأليمة، وتُبلغ الرغائب الحميدة، والغايات الكريمة.
اللهم اجعلنا ممن آمن بك، واتقى سخطك، وعمل صالحاً، وأحسن العمل، وكان من أهل الحقِّ الدّاعين إليه، ومن المتحلّين بالصّبر الناصحين به، الصادقين في ولايتك، الساعين في طاعتك، المخلصين في عبادتك، المشتغلين بذكرك، المتنعِّمين بمناجاتك يا حميد يا مجيد، يا عطوف يا رؤوف.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قائماً.
بعد أيها الملأ الكريم أمامي ثلاثة عناوين:br>
1. القرآن الناطق:
كان علي عليه السلام مع القرآن، وما كانت له كلمة ولا موقف غيرُ ناطق بفهم القرآن وعلمه وصدقه ووعيه وخلقه وهداه. فكان عليه السلام القرآن في نطقه وسيرته، ورضاه وغضبه، وحربه وسلمه. وكان تجسيده للإسلام تجسيداً كاملاً فكان حجّته(20) بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعالمه، والمرجع فيه، وحاميَه الأوَّل، ونورَه الأتم، وممثله الأحق.
وما سجل التاريخ بما في التاريخ من مراقبين، وما لعلي عليه السالم من أعداء مخالفة واحدة موثّقة له عن الإسلام في فهم أو عمل، ولا تخلُّفاً عنه في كثير أو قليل، أو تلكُّأ في تكليف من تكاليفه، أو تقاعساً أو تباطؤاً عن مهمّة من مهمّاته، أو مسؤولية من مسؤولياته.
وهذا ما تدلُّ عليه النصوص المتواترة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله في شأن علي عليه السلام. ومنها ما عن أمّ سلمة عنه صلَّى الله عليه وآله:”علي مع القرآن والقرآن معه، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض”(21).
وبقي عليٌّ عليه السلام يهدي الأجيال تلو الأجيال من أبناء الأمَّة والإنسانيَّة ويقود حركة العقل والروح والقلب والنفس والحياة إلى الله سبحانه، وسيظلُّ كذلك ما دام على الأرض إنسان يعشق الكمال.
2. زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام:
بنت من صناعة الإسلام في محضنه الأول الأمين، وشخصية صانعة للقوة.
فلا غرو أن تتميّز الزينبيات بالقوة في الوعي والإيمان والإرادة والصمود، ويُسابِقنَ الرجال في خُلُقِ القوّة، وساحات الجهاد، ومواقف البطولة والصّمود بما يليق بالمرأة في الإسلام، ويتمشّى مع السّيرة الزينبية العطرة.
3. ظاهرة مشتركة:
تَمثَّل الربيع العربي في عدد من الحركات والانتفاضات والثورات في طول الساحة العربية وعرضها، وعلى مستوى الكثير من دولها. واشترك كل هذا في ظاهرة بيّنة ثابتة. تلك هي أن المطالبات الشعبية تبدأ بأسلوب سلمي، وبسقف متواضع فتُقابل بقمع السلطة وإرهابها وإسالة دم أبناء الشّعب والجرح والقتل فلا يلبث سقف المطالبة أن يرتفع، وتتسع رقعة الاحتجاجات وتعمّ المظاهرات والمسيرات، وتحدث التمركزات الشعبية الكبيرة، ويزداد قمع السلطة، ويغزر سيل الدماء، وتعمل قوى الأمن الحكومية والجيوش على دفع جماهير الشعب إلى فقد الصبر، والخروج عن دائرة الأسلوب السلمي دفاعاً عن النفس لتتّخذ الجهة الأخرى من ردّة الفعل الشعبيّة مبرراً للاستباحة العامّة على حدِّ ما ينقله التاريخ من استباحة مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله في حُكم يزيد بن معاوية إلاَّ أنَّ الزمن في تجارب بعض الأنظمة العربية هذه الأيَّام يمتدُّ وضع الإستباحة لشهور طويلة في تنكُّرٍ تام لقيم الدين، وضوابط الشريعة، والقانون والعرف المحلي والعالمي، وكلّ المقدَّرات والمواضعات الإنسانية.
وفي النهاية قد يُصرع النظام كما في التجربتين التونسية والمصرية، وقد تطول المنازلة بين الطّرفين لتزيد خسائر الأوطان وتطول محنة الجميع، وتتكبّد البُنى التحتية في البلاد ما تتكبّده من تصدُّعات وشروخ خطيرة.
ومن الشعوب من لا يُخرجه عنف السلطة عن خياره السلمي، وقليل هو هذا النوع. وفي الثبات على الخيار السلمي رحمة بالأوطان، وحجة تدين الأنظمة، وإن تطلَّب ذلك صبراً كبيراً، وتحمّلاً للمعاناة المرة.
وقد سجَّل شعب البحرين تفوُّقاً ملحوظاً في هذا المجال، وبرهن على درجة عالية من الانضباط النفسيّ حقَّ له أن يفخر بها وينال لها الإعجاب، وإن كان قلب الحقائق من الإعلام الرسمي يعكس عن هذا الشعب الكريم صورةً أخرى مغايرة لا صلة لها بالواقع.
ولقد خَدَمَت كلمات المخلصين من مِثل سماحة الشيخ علي سلمان وكلّ العلماء والرّموز الأوفياء المدافعين عن الشعب التوجُّهَ السلمي عند الشارع في مطالباته واحتجاجاته ومسيراته واعتصاماته؛ وذلك بما أكّدت عليه كلمات الموجِّهين من الأخذ بالمنحى السلمي وترك العنف. وإلى اليوم وغداً لا أجد شخصيّاً نصيحة أقدمها لأبناء هذا الشعب الكريم قبل الالتزام بالأسلوب السلمي في كل مسيرته(22).
وبالنسبة لسقف المطالب عند الشعوب لا يوجد ما هو أقلّ من سقف إصلاح النظام السياسي، وما يبتني عليه من تصحيحٍ لمجمل الأوضاع التي طالها الفساد من فساد السياسة.
ولم يأت تحرُّك الشعوب للإصلاح الشّكلي، ولا يملك هذا النّوع من الإصلاح المزعوم قبولاً عند أيّ شعب من الشعوب.
ومن المستسخف جداً والممجوج أن ينزل سقف الإصلاح بعد الدماء والتضحيات عمَّا هو مطروح قبل ذلك. إنه ليس شيئاً عقلائياً بالمرّة(23).
وهل يقدم عاقل على تقديم المزيد من الجهد والتضحيات والمتاعب من أجل مزيد من التنازل عن المكاسب؟!!(24).
لا يُتعقّل من الشعب اليوم، ولا يدخل في الوهم أن يقبل بعد التعب والنصب، والبذل الكثير، والعذابات الموجعة، وعزيز التضحيات، ومرّ المعاناة أن يرجع بخفّي حنين، أو بما يفرح الصبيّ المغرّر به.
إنه يريد إصلاحاً مُجدياً مُقنِعاً يمكن أن يستريح الوطن في ظلّه، وتُحفظ حقوق المواطن الدّينية والدنيويّة، السياسية وغيرها، وتُصان في هذا الوطن الكرامة. وأن يجد هذا الإصلاح أساسه القوي، وقاعدته المتينة التي تحفظ له سلامته، وديمومته.
أما الإعلام وتضخيماته، والخطابات الواعدة، والوعود المعسولة فلا تعني شيئاً عند الناس، وإنّما ينصبّ نظرهم على الواقع ومُنجزاته.
ولا إصلاح والسجون ملأى رجالاً ونساءاً، وأرزاق أبناء الشعب مُحارَبة، والأعداد المفصولة من الموظّفين والعمال، والطلاب بالألوف، والشّعائر الدينيّة محاصرة، والإعلام التحريضيّ الكاذب مستمر.
أردنا ونريد لحياة البلد أن تكون حياةَ عدل، وأرادوا ويريدون لها أن تكون ظُلماً.
أردنا ونريد للمجتمع أن يكون مجتمع أخوة، وأرادوه ويريدونه أن يكون مجتمع تمزّق وعداوة.
أردنا ونريد للوطن أن يكون وطنَ سلم، وأرادوه ويريدونه أن يكون وطن حرب.
ولكنّ الله لا يخذل من أخلص عملاً.
اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، وأخرج أمَّةَ القرآن من سوء الحال إلى أحسن الأحوال، ومن الظلمات إلى النور، واكشف عنها الغمة، وفرّج الكرب، وعجل لها النصر يا قوي يا عزيز، يا رحمان يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام في كل مكان وزمان، واشف المرضى والمعلولين، وأطلق سراح المسجونين يا من هو على كل شيء قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 115/ الأنعام.
2- 90/ النحل .
3- 58/ النساء.