خطبة الجمعة (448) 17 جمادى الأول 1432هـ – 22 أبريل 2011م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: العصمة
الخطبة الثانية: رحيل عالم جليل – اصنعوا تاريخا غير هذا
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرّمه، وفضّله على كثير من خَلْقِه، ووهب له المواهب العظيمة، وفتح له أبواب الهدى، ويسَّر له سبل الكمال، وأنزل عليه الدين الذي به كماله، وتمام هداه، ونيل سعادته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله الذي بيده نواصي العباد، ومقادير الأمور، وتصرُّف الأحوال، وما يكون من شيء، ولا يمنع أحدٌ فضلَه، ولا يمتنع مخلوقٌ من أخذه، وكلُّ الخلق له، ولا شيءَ إلا وهو من خلقه.
ولنأخذ من الدّنيا التي لا تسلم لأحد من أهلها عِبرة، ولا ننخدع بغرورها، ولا نختر بيع أنفسنا عليها، ولنرجع لله عز وجلَّ في كلّ الأمور، ونتوكّل عليه في كل الشّدائد، وهو الكافي، ونِعم المولى، ونِعم النّصير.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أخرجنا من كلّ ما تكره إلى ما تُحب، ومن كلّ ما فيه ضلالنا إلى ما فيه هُدانا، ومن كلّ ما يؤذينا إلى ما يُريحنا، واحفظنا بحفظك، واكلأنا بكلاءتك، وأعزّنا بعزّك يا عزيز يا رحمان يا رحيم.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الأحباء في الله فالحديث في موضوع العصمة:
والكلام في الدليل النقلي المعتمد على القرآن الكريم المُثبِت لعصمة الأنبياء عليهم السلام.
ولابدّ من الالتفات إلى أنّ ثبوت كون القرآن من تنزيل الله سبحانه ووحيه لا يتوقّف على عصمة الأنبياء ومنهم عِصمة الرسول الخاتم صلَّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما اعتماده على الإعجاز، فإذا ثبت إعجازه ثَبَتَ أنّه من وحي الله عزّ وجلّ وتنزيله وأثبت النبوّة والرّسالة للرسول صلَّى الله عليه وآله(1).
وبذلك لا يأتي إشكال في الاستدلال بالقرآن على عصمة الأنبياء، وأنَّ إثبات كلّ منهما متوقّف على إثبات الآخر، وهو ما يُسمّى بإشكال الدور.
ولننظر ما يقوله كتاب الله العزيز الحكيم في موضوع العصمة:
1. {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(2).
فإبليس الذي أقسم بعزّة الله أن يُغوي الناسَ أجمعين وجد نفسه مضطراً إلى أن يستثني طائفة من الناس لأنّه لا يجد سبيلاً لغوايتهم لا لخير فيه وإنما ذلك ليأسه من غوايتهم لكونهم قد أخلصهم الله عزّ وجلّ برحمته لمعرفته، وعبادته، والإنصراف إليه بلا شائبةٍ لغيره في قلوبهم، ولا صارف لهم عنه، وليس أنهم إذا جاءوا بعمل أخلصوا فيه إليه فحسب، وإنما كلّ همّهم فيه، وتطلّعِهم إليه، وعملهم من أجله لا يشركون به شيئاً أبداً، ولا يعصون له أمراً ولا نهياً، ولا يتخلّفون عن طاعة.
وهذه هي العصمة.
وتجد هذا المعنى في قوله تعالى {… كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}(3).
فكون يوسف عليه السلام مخلَصاً يجعله مصروفاً عن السوء والفحشاء، محصَّناً بالعصمة عنهما، فلا سلطان لشيء من الغرائز والدوافع والمغريات والمُثيرات على من كان مخلَصاً بحيث يوقعه في المعصية، أو يُسبِّب له تخلّفاً أو تباطؤاً عن الطاعة.
2. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ…}(4) .
النّاس مأمورون بطاعة الرّسول، وعدم التخلّف عن طاعته، وطاعته إنما هي طاعةٌ لأمر الله، فلو كان الرسول يأمر بما هو معصية أو قبيح لكان الأمر بهما من الله عز وجلّ، فلا بد أن يكون ما يأمر به الرسول بعيداً عن الخطأ والمعصية، على أنَّ اتباع الرّسول ليس في أوامره ونواهيه فحسب، وإنما يشمل فعله وتقريره. وعليه فكلّ ذلك يجب أن يكون الرسول فيه معصوماً(5).
3. {… لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(6).
قوله سبحانه ينفي أن يكون عهده لأحدٍ من الظالمين، وكلّ مخالفة لأمرٍ من أوامر الله، أو نهيٍ من نواهيه وهو صاحب أكبر حقٍّ على العبد، وكلّ خيانة لأمانة من أماناته ظلم، والإمامة عهدٌ من الله، وإبلاغ الرِّسالة عهد، والرسول إمام أمّته فالرِّسالة لا تكون لظالم يقترف المعصية، ويتخلّف عن الطّاعة، ويخون الأمانة.
فتبيّن أنَّ الآية الكريمة تُثبت الملازمة بين الرّسالة والعصمة.
العصمة نسبيّة ومطلقة:
لكلّ إنسان عاقلٍ سويّ مقدار من العصمة في أمور الدّنيا أو الدّين، وإنْ كان يرتكب ما يراهُ ضرراً، أو ما يتراءى له أنه مصلحة وهو مفسدة في مساحة صغيرة أو كبيرة من حياته من جهة أخرى.
في العقل صيانة، وفي حُبّ البقاء صيانة، وفي الحياء عصمة، وفي الاعتزاز بالشّرف مانع.
النّادر هو من يُقدم على تناول السَّمّ متعمّداً انتحاراً، وهو يملك وعيه، وكذلك من يُلقي بنفسه في النّار مُريداً، ويمنعه من ذلك عقله، وتعلّقه بالحياة، ولا تكاد تجد متعرِّياً من كلِّ ملابسه في بيئة تستنكر ذلك، فحياؤه واعتزازه بشرفه يحول بينه وبين أن يفعل، وكثيرون هم من لا يعيشون حالةَ صراعٍ نفسي في سلب يتيمٍ لقمةً يحتاجها وهم عنها أغنياء. والأمثلة في هذا المجال لا تكاد تُعدّ ولا تُحصى(7).
وهذه هي العصمة النسبية؛ فهي عصمة محدودة تثبت في مورد أو أكثر، وتكون معدومة في موارد أخرى.
فأصل العصمة، والعصمة بصورة إجمالية أمرٌ معاش في حياة الإنسان العادي بشكل واضح مكشوف، ولا غرابةَ عند أحدٍ فيها.
وما يستغربه المستغربون ويستكثرونه هو العصمة الشّاملة المستوفية لكل جوانب الحياة والفكر والشعور عند الشّخص، وهي العصمة الثابتة للأنبياء وأئمّة الدّين المُصطَفين من الله سبحانه وتعالى.
وأنت لو قارنتَ بين العصمة العملية لشخص وآخر من غير الأنبياء والأئمة عليهم السلام لوجدتَ الفرق واسعاً جدّاً في بعض الأمثلة؛ فشخصٌ لا يكاد يستمسك أمام رغبة من الرغبات، ودافع من الدوافع، وشخص آخر قلّ ما تقع له على زلة أو خطأ.
وإذا وجدنا من هذه الفوارق الكثير، ووجدنا من بيننا صالحين يعسُر العثور على زلّةٍ لهم فكيف نستكثر على من اختارهم الله عز وجلّ لأن يكونوا قادة البشرية للكمال الذي يرتضيه، وأن يبلغوا القمة في العصمة، وأن تكون عصمتهم شاملة؟!
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ونسألك العصمة من زلّة القدم، والثباتَ على الطريق الأقوم، والرشد في أمور الدّين والدنيا، والخاتمةَ التي ترضاها، والمصير السعيد الذي وعدت به أولياءك، والصّالحين من عبادك يا أكرم من كلّ كريم، ويا أرحم من كلّ رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(8).
الخطبة الثانية
الحمد لله واسع الرَّحمة، شديد العقاب، لا يُخلِف وعدَه، ولا يُطاق وعيدُه، ولا يُعطِّل أحدٌ فضلَه، ولا يمنعُ من أخذه، لا يُنقض له أمر، ولا يُرَدّ قضاء، ولا سببَ إلاّ من عنده، ولا سببيَّة إلاّ من فيضه، ولا خارج من علمه، ولا مخلصَ لشيء من حاكميّته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولنحسن العمل، ويكن عملنا خيراً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}(9)، ولنحذر الشرّ كلّ الشرّ {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(10).
وعمل الخير والشرّ يُرى في النّفس طيباً أو خبثاً، وطهراً أو رجساً، وفي حياة المجتمعات راحة أو تعباً، وسعادة أو شقاء، وفي الآخرة نعيماً أو عذاباً، وكرامة أو هواناً. عمل الخير يعقب خيراً، وعمل الشرّ لا يستتبع إلا الشرّ، وكلٌّ ملاق عمله، وواجد نتيجة سعيه، وقد يتأخّر الجزاء ولكنّه عند الله لا يضيع.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من الأخيار، ولا تجعلنا من الأشرار، ربنا اجعلنا من أهل الجنة لا النّار، اللهم لا تجعلنا ممن يشتري الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، وقنا سوء المصير، إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلّم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: اللهم صلّ على الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب إمامي الهدى، وعلى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه النقاط:.
رحيل عالم جليل:
لا يُحيي الأوطانَ كالعلم والإيمان، ولا تنضبط حياةُ النّاس، وتأمن، وتشفُّ، وتطهر، وتسلم المجتمعات من أشرار جاهليتها إلاّ في ضوء علم الدين الحقّ، والإيمان به، وفهمه على ما هو عليه من حقيقة صادقة، وهدى، ونور، وخير، وانفتاح، وبتطبيق هذا الدين التطبيق الصادق الأمين.
وعلماء الدين الصالحون، ودورهم في الهداية والإرشاد والتعليم والتربية والإصلاح ركيزة لابد منها من ركائز المجتمع الصالح.
ولقد كان الأستاذ العلامة الجليل السيد علوي الغريفي من أبرز هؤلاء العلماء في السّاحة الخليجية في زمننا الحاضر ممن خدموا حركة العلم والإيمان والوعي، وأسهموا في بناء المجتمع الصالح، وأمضوا حياتهم على هذا الطريق؛ فجزاه الله خير الجزاء، وتغمّده برحمته، وجعله من أهل جنّته ورضوانه.
ما أعزّ النفس المؤمنة وما أغلاها!!.
النفس العزيزة هي النفس التي لا يُذلّها ظرف، ولا يُغيّرها ظرف. أما النفس التي تعِزّ بالغنى، وتذِلّ بالفقر، وتقوى بأسباب الخارج، وتضعُف بفقدها، وتفقِد قيمتَها عند الخوف، ولا تجدها إلا في ظلّ الأمن، فليست هي النّفس العزيزة في ذاتها، وإنما ما يتراءى لها من عزّةٍ في وقتِ الغنى والأمن والقوّة ما هو إلا الشّعور المستعارُ من هذا الظّرف أو ذاك، المنتهي بانتهائه.
وعِزّةُ النفس التي لا تنقلب ذُلاًّ بتحوُّل الظّروف تحتاج إلى منبع دفّاق من داخلها تقوى بعطائه رغم ما يلمُّ بها من الخارج من ظرف عصيب.
ولا تجد نفسٌ هذا المنبعَ من ذاتها، ولا تكتسبه إلاَّ بإيمانٍ راسخ قويّ بمصدر العِزّ والقوّة، ووليّ العطاء والمنع، والاطمئنان إليه، وصِدق العبودية له، والثّقة به، وعُمق التوكّل عليه.
وهذه النّفس كما أنها عزيزةٌ وإن قسى عليها الزّمن غالية كذلك لا تُشترى، وليس لها ثمنٌ إلا رضوان الله والجنّة.
والذين يجدون هذه النّفس هُمْ الذين تركع وتسجد عقولهم وقلوبهم لله تبارك وتعالى قبل الظُّهور والجباه. هؤلاء يصنعهم الركوع والسجود أقوياء أعزّاء كباراً. أمَّا ركوع البدن وسجوده والعقول غافلةٌ، والقلوب لاهيةٌ، والنفوس مستكبرة فإنّه لا يصنع قوّة، ولا عزّة، ولا يُعطي النّفس زاداً تصمد به أمام التحدّيات.
فإذا أراد أحدنا أن يكون القويّ العزيز حقّاً فليجاهد النفس على الخضوع في داخلها لمصدر القوّة والعزّة الذي لا مصدر معه لشيء من ذلك على الإطلاق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
وإنَّ مَنْ عاشوا عزَّة الذات لِصِدْقِ عبوديتهم لله، وشعورهم بمعيّته لهم، لا يمكن أن يعدلوا بها شيئاً من عزّة الخارج بمال أو جاه أو سلطان وإن عظمت تلك العزّة الخارجية في عين ناظرها، ولا يمكن أن يستبدوا عن لذّة عزّتهم الإيمانية بأيّ لذّة أخرى. يقول القرآن الكريم عن النبيّ يوسف عليه السلام {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…}(11).
وكانت دعوة النّسوة إليه لِلَّذة المحرَّمة، ومعها حياة القصور والمال، وكان الحبُّ الشيطاني لزوجة الملك ليوسف عليه السلام سُلَّماً بيده للتسلّق إلى أعلى المناصب الدّنيوية لو أراد. إنها دعوة للدّنيا ولذائذها وعزّها الظاهري ومواقعها الكبيرة؛ لكنَّ عزّ الطاعة لله الذي كان يَغنى به يوسف عليه السلام، وذُلَّ المعصية الذي كان يحذره، يجعله يفِرّ مما عُرِض عليه من لذّة الدنيا وعزّها ومغرياتها، ويقدِّم ضيق السجن، وطول المحنة على تلك العروض(12)، ويلجأ إلى الله من الرّكون للمغريات والعزّ واللذائذ التي تفصله عن ربّه، وتحرمه ذكره، وتفقده الشعور برضاه، وتدخله في سخطه.
والنفسُ الواعية لا يمكن أن تشعر بعزٍّ ولا لذّة وهي محلّ سخط الله العظيم.
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة التائبين “إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي، وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي”( ). وكيف يكون المسكين عزيزاً؟! وكيف لا يكون مسكيناً من تباعد عن الله وهو مالك كلّ شيء، وكل شيء بيده؟!
إنّ من عِزّ نفس المؤمن بإيمانه بالله وطاعته له أنّه يقدِّم الفقر والخوف والمرض في طاعة ربّه، على الغِنى والأمن والصحّة وعلى كلّ كبير في نظر أهل الدّنيا في معصيته، ولا يصعب ذلك على من أنعم الله عليه بنعمة الإيمان الحقّ، والطَّاعة الصِّدق، فهنيئاً لتلك المستويات.
اصنعوا تاريخا غير هذا:
التاريخ الذي تصنعه الحملة الأمنية على هذه الأرض ولهذا الوطن؛ وهي حملة طال أمدها لا يمكن لأحد أن يفاخر به، أو يفرح له، على أساس دين أو عقل، أو حضارة.
هناك سفك دم حرام بغزارة، وفي غير مواجهة؟! وهدم لبيوت الله، وأماكن العبادة؟! هناك تمزيق لكتاب الله وبعثرته وتحريقه. هناك فتح سجون لربَّات البيوت، ومربّيات الجيل، ومختصات من طبيبات ومدرسات.!
أيُّ حرمات هذه التي تُنتهك؟! وأيُّ مقدّسات هذه التي تُهان؟! وإلى أين وصل الاستخفاف بالدّين والإنسان والأعراف الكريمة، والمواضعات الحميدة؟!
هذه صناعة لتاريخ مُخجل، ولصفحة سوداء كالحة من تاريخ هذا البلد، لا تُصنع إلا في غياب أمور بالغة الضرورة منها النّظرة البعيدة، والاحترام للدِّين والإنسان، ومواضعات المجتمع الإنساني.
كلّ مبررات هذه الفظائع ساقطة أمام كلمة الدين والعقل والحكمة وضمير الإنسان، وما تعارف عليه العالم من حقوق.
لو كان البلد مغزوّاً من الخارج لما صحّ أن يحدث كلّ هذا، فكيف يحدث على يد حكومة البلد نفسه؟!
إنَّ هدم المساجد ومهاجمة الحسينيات والعبثَ بمحتوياتها عدوان سافر، وانتهاك لحرمة الدّين، وإمعانٌ في الاستخفاف بالمواطنين. وكلُّ المسلمين يعرفون ما للمسجد والقرآن الكريم من حرمة لا تُمسّ؛ وأين نحن اليوم من رعاية هذه الحرمة؟!
والمسجد وقفيّتُه مؤبَّدة، وهدمُه لا يُلغي الوصف عن أرضه، وكل نقل لها باطل شرعاً، ومسؤولية إعادة البناء ثابتة على من هدمه.
نحن أمام صناعة تاريخية فاسدة، وستكون شيئاً محرجا لتاريخ هذا البلد، وعلى كلّ الجهات المسؤولة أن تُنقذ شرف إنسان هذا البلد، وتاريخ هذا البلد، وسمعة هذا البلد، وسمعة كلّ شيء فيه بالإقلاع السريع عن التمادي في مثل هذه الصناعة.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح كلّ ما فسد من أمور المسلمين، وأعزّ الإسلام وأهله، وأذلّ النفاق وأهله يا قويّ يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(14).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وهذا قبل أن تثبت عصمة النبيّ.
2- 82، 83/ ص.
3- 24/ يوسف.
4- 64/ النساء.
5- وإلا لأمر الله عزّ وجل بالخطأ والمعصية.
6- 124/ البقرة.
7- فالعصمة منتشرة في الناس جميعاً بنسبة وأخرى.
8- سورة التوحيد.
9- 7/ الزلزلة.
10- 8/ الزلزلة.
11- 33/ يوسف.
12- ويجد فيه لذّته في ظلّ إيمانه بالله، واتصاله برحمته.
13- الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين.
وانظر كيف يكون المسكين عزيزا
14- 90/ النحل