خطبة الجمعة (442) 5 ربيع الثاني 1432هـ – 11 مارس 2011م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: متابعة النبوّة والرسالة
الخطبة الثانية: ضريبة التحرك السلمي
إنّ أيّ شيعي يستبيح من أخيه السّني قطرة دم يكون قد أباح دم إخوانه من الشيعة، وإنّ أي سنّي يستبيح من أخيه الشيعي قطرة دم يكون قد أباح دم إخوانه من السُّنة، وهكذا يكون الجاني جانياً على الجميع، فليقف كل الشيعة ضدّ أيّ عدوان على السنّي كما أوجب الدّين أصلاً، ولئلا يُشرِّعوا القتل لأنفسهم، وليقف كلّ السنة ضدّ أي عدوان على الشيعي امتثالاً لأمر الله أساساً ولئلا يُشرّعوا القتل لأنفسهم.
الخطبة الأولى
الحمدلله العزيز الحكيم، الرّؤوف الرّحيم، العليم الخبير الذي اختار رسلَه من أصفياءِ خَلْقِه، وكُمَّلِ عباده، وأصدقِ أوليائه، وخاصَّة أهل معرفته، والأمناء بحقٍّ على وحيه، والثّابتين على الشّدائد في سبيله، والمخلصين في أداء كلماته؛ إنقاذاً من الضّلالة، وإيصالاً للهُدى، وقَطْعاً للحجَّة، وإتماماً للنِّعمة.
هو الله الحنّان المنّان ذو الفضل والإحسان المجيد الكريم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحقّ والهدى، وختم به الأنبياء والمرسلين، صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله الذي لا تحتمل سخطَه سماءٌ ولا أرض، ولا يمتنع من عقابه ممتنع، ولا يُنقِذ من أخذه مُنْقِذ، ولا مفرَّ من عذابه إلا بطاعته، وليس لأحد خيرٌ إلا من عنده، ولا حول ولا قوّة إلا به.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت الغفور الرّحيم، التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا العقل والدّين والحكمة والسّداد والرّشاد، وزدنا من خير التقوى، وبلِّغنا درجة اليقين، واجعلنا من أصلح الصَّالحين يا رحمن، يا رحيم، يا كريم.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات فالحديث عن تساؤل رابع من التساؤلات حول النبوّة والرسالة:
التساؤل الرابع:
كَونُ المعجز فوق المقدور البشري، ويمتنع على عقل الإنسان وتجاربه إنتاجُه يَجْعله دالاًّ على أنَّ من تحقّق على يده؛ فإنما تحقق له ذلك بتدخُّلٍ غيبي، ومددٍ خاص من الله عزّ وجلّ، وأنّ من جرى على يده قد أعُطي من الله سبحانه وتعالى ما لم يُعطَ غيره، ولا يتأتّى له لولا عناية الله الخاصّةُ غيرُ العادية به في مورد الفِعل الخارق للعادة الذي جاء به.
لكنّ هذا ليس هو المطلوب، بل المطلوب الأصلُ والأساسُ هو الكشف عن أنَّ صاحب المعجز المدَّعِي للنبوة نبيٌّ حقّاً. والمعجز فاقدٌ في نفسه لهذه الدلالة(1).
ولذلك قد يأتي المعجز على يد شخص لا تكون له النبوّة كما في المعجزات التي نُسمِّيها بالكرامات مما كان يحدث للأئمة عليهم السلام تفريقاً بينها وبين ما يجري على يد الأنبياء عليهم السلام.
ولو كان المعجز يحمل دلالةً في نفسه على النبوّة لكلّ من جاء على يده لثبتت النبوّة لكلّ ذي معجز، ولو لم يدّع النبوّة ولكنَّ الأمر ليس كذلك.
وانضمام دعوى النبوة إلى المعجز ممن جاء على يده لا يضيف شيئاً جديداً، ولا يُعدّ مثبتاً لها(2).
والجواب أنَّه إذا تحقَّق المعجز مع انضمام دعوى النبوة إليه كُنّا أمام أحد فرضين:
1. أن يكون هذا المدَّعي كاذباً في دعواه. وهذا الكذب من أقبح القبيح، وأفظع الفظيع، وأظلم الظّلم، وفيه فسادٌّ كبير.
وعندئذ يكون تزويد الله عزَّ وجلَّ لهذا الكاذب بما يؤيّد دعواه تغريراً بالعباد، وإيقاعاً لهم في حبائل كذبه، والمتابعة في ما يريد بهم من الفساد، والضَّلالة.
وهذا التغرير والإيقاع في متابعة الكاذب المفسد مساعدة على القبيح، واشتراكٌ فيه. وهو ممتنع على الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
وبذلك يبطل فرضُ أن يكون صاحبُ المعجز المصحوب بدعوى النبوَّة منه كاذباً.
2. إذا امتنع فرضُ أن يكون كاذباً، تعيّن فرضُ صدقه لأنَّ النقيضين لا يجتمعان(3). وهو المطلوب.
ونقرأ من الآيات الكريمة ما يُبيِّن بشاعة القبح في دعوى النبوة من الكاذب، والظلم الشديد في الافتراء على الله عزّ وجلّ:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(4).
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ…}(5).
والآيات في هذا المعنى متعدِّدة.
وعن عدم دعم الله عزّ وجلّ للكاذب المبطل من المدّعين للنبوة، وعن خذلانه له، وأخذه أخذاً شديداً حتى لا يقع الناس في تغريره وفساده بتفريط منه سبحانه يقول الكتاب العزيز:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}(6).
وأمام هذه النّتيجة الحتميّة بصدق دعوى النبوّة المصحوبة بالمعجز المؤيِّد لها مع انتفاء المانع من ثبوتها يكون دليل الإعجاز دليلاً عقليّاً مُلزِماً لا مجرّد سببٍ عاديٍّ للإقناع، ومقرِّبٍ يُعطي للنّفس اطمئناناً بصدق دعوى النبوّة(7).
معجزة القرآن:
للرسول صلَّى الله عليه وآله أكثر من معجزة يستعرضها الباحثون في نبوّته لكنَّ المعجزة المعاشة ما دامت الأرض، والتي لا تتحوّل إلى تاريخ يحتاج التصديق به إلى تواتر، أو يتمُّ الانقطاع عنه بِبُعد الزمان هي القرآن الكريم الذي لم يزل ولا يزال ينادي في الإنس والجنّ بأن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
والقرآنُ بهذا التحدّي الصَّارخ الدائم يُمثِّل صمتُ العالم أمامه وعجزهم عن مجاراته، أو المحاولات اليائسة للردّ عليه دليلاً عامّاً على إعجازه، وصِدْقِ نبوّة الرسول صلَّى الله عليه وآله ورسالته التي ينادي بها، ويدعو إلى التّسليم بها.
فالنّاس إما مختصٌّ مبدع في الأدب وفنون التعبير وإحكامه ودقّته وروعته وسموّه وفصاحته وبلاغته، ويجد نفسه وكذلك أمثاله وعلى مرّ القرون عاجزين عن الإتيان بمثل الكتاب الكريم، بل بعشر سور أو سورة واحدة من مثله فيضطر للإذعان عقلاً بإعجازه، والتسليم بالنبوّة التي يُثْبتها لمن أتى به على أنه مُوحَىً إليه من عند الله، ودليلاً له على نبوّته.
وإمَّا غير مختص ولا معرفة له بفنون التعبير وأساليبه ولا قدرة له على التمييز بين مستوياته. وهذا القِسم من النّاس يكشف له عن إعجاز القرآن عجزُ كلِّ أصحاب الفنّ في أجيالهم المختلفة عن الرَّد عليه، والإتيان بمثله مع توفُّر الدواعي لهذا الرد؛ حيث إن الحرب على الإسلام لم تفتُر في يوم من الأيام ولا زال الذين يشنُّون هذه الحرب يدفعون ثمناً باهظاً في سبيلها، ويتكلّفون الكثير من المتاعب، بينما يُغنيهم عن كل ذلك، ويُسقط الإسلام بصورة كاملة أن لو أتوا بمثل القرآن(8)، أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثل سوره. فليس لعدم الرّد إلا سبب واحد وهو العجز، وأنَّ القدرة البشرية لا تملك أن تُنتج هذا القرآن، أو تكرِّره، أو تُثنَّيه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أتباع رسلك، وحملة كتابك، وخَدَمة دينك، ومحيي شريعتك، ومبلِّغي رسالاتك، والدَّاعين إلى سبيلك، والمجاهدين ابتغاء مرضاتك، وأيّدنا بتأييدك، وانصرنا بنصرك، وأعزّنا بعزّك يا رحمن يا رحيم يا قويّ يا عزيز. يا فعّالاً لما يشاء، يا من هو على كلّ شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}(9).
الخطبة الثانية
الحمد لله مُجري الأمور كما يشاء، لا كما يشاء غيره، النافذ في الأشياء كلِّها أمرُه ونهيُه، العليم الذي لا يَضلُّ علمه، الحكيم الذي لا تتخلّف حكمته، العدل الذي لا يُجاوَز عدله، القدير الذي لا حدَّ لقدرته.
كلُّ الملوك عبيده، وكلُّ السلاطين تحت أمره، آجالهم بيده، أرزاقهم بيده، ودولهم منتهية بحكمه، وذكرهم منسيٌّ بقضائه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله الذي لا نافعَ ولا ضارّ غيره، ولا خير ولا شرّ إلا بإذنه، ولا ملجأ إلاّ إليه، ولا مُعوّل إلا عليه(10).
ولنشترِ الكثير بالقليل، والراجح بالمرجوح، والباقي بالزائل… لنشتر الآخرة بالدنيا، ورضا الخالق برضا المخلوق، ولا يكن أمرُنا علينا في هذا الخيار غُمَّة، فما الذي يجعل الإنسان يحار في هذا الخيار؟! أيُقاس شيءٌ من الدنيا بشيء من الآخرة قِيمة وبقاء؟ وهل يستوي أحدٌ عظمة وغنى وقدرة مع الله حتى يجوز الالتباس؟!
أعذنا ربَّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من التباس الواضح، والعَمى عن الحقِّ، والعشى عن النّور، وزيغ البصيرة، وتزيين الشيطان، وسُبات العقل، وغَلَبَة الهوى، وغِشّ النفس، والوقوع في الضلال.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً، وارزقنا ابتاعه، والباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، وكبِّر الكبير في أنفسنا، وصغِّر الصغير فيها، واهدنا سواء السّبيل.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين أحياءاً وأمواتاً، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم على حبيبك المصطفى خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أما يعد أيّها الأحبّة في الله فالحديث تحت هذا العنوان:
ضريبة التحرّك السياسي:
الفساد وضع شاذّ، والظّلم والفساد وانحرافُ الأوضاع، وتراكم الخطأ، والاستمرار في البغي طريقُ الهلاك، وهو منتهٍ حتماً بالمجتمعات إلى الهاوية.
ولذلك انصبَّ صوتُ الشرائع السّماوية العادلة، والأخلاق المنبثقة من خطّ السّماء، وكلِّ الشرائع المتعقّلة على المناداة بالعدل ومحاربة الظّلم والفساد.
وكلما طال عمر الظّلم والفساد تعمّقت الأزمة، وتجذَّرت، واتّسع نطاقها، وزادت في شقاء المجتمعات، وصعب الإصلاح وكلَّف الكثير.
ولا إصلاح ولا تغيير من غير ثمنٍ وخسائر، والمسؤولية في ذلك إنّما هي مسؤولية الظّلم والفساد الذي لابُدَّ من مواجهته وإلاَّ مَحَقَ الحياة محْقاً بعدما يُحوّلها إلى شقاء.
وتصعب كُلْفة الإصلاح والتغيير وتتضاعف كلّما طال عمر الظّلم. ويرجع استمرار الخسائر والمتاعب التي تُرافق عمليّةَ الإصلاح إلى عدم الاستجابة إليه على ضرورته، والتمسُّك بخيار الظّلم والفساد.
والخسائر والمتاعب المرافقةُ للإصلاح لا تُمثّل إفرازاً لطبيعته، وإنّما هي من إفرازات الظّلم الذي يراد معالجته، ومن عطاءاته الصديدية السيّئة، وبسبب البُنية المتردّية للأوضاع والنفوس والمصالح الضيقة والحسابات الأنانية التي تُعطي ردّ فعلٍ معاكس من جِنس طبيعتها في مقاومةٍ شرسةٍ للإصلاح لا تعرف شيئاً من الدّين والخلق القويم.
وكلُّ المتاعب التي تتطلّبها عمليات الإصلاح وإن عظمت وآلمت لا تكاد تساوي شيئاً من المتاعب والخسائر والكوارث التي يجرّ إليها استمرار الفساد والانحراف(11).
وطالبو الإصلاح الحقيقيون يتحاشون أيّ خسارة وأيّ تعب لأيّ إنسان في مجتمعاتهم تضيفها حركة الإصلاح فوق ما تتسبّبه وضعيّة الانحراف التي يسعون لتخليص المجتمع منها، وإلاّ انحرفوا بما يضيفونه من خسارة عن خطّ الإصلاح.
والكلّ يتمنّى أن يكون التحرّك السّياسي الإصلاحي بلا أيّ أثر سلبي اقتصادي أو اجتماعي أو غيرهما؛ ولكن كما تقدّم إن حركة الإصلاح وهي تصطدم بإرادة الوضع المنحرف لابُدّ أن تتسبّب في شيء من الصّداع للمجتمعات، وهو الشيء الذي تُفرزه أوضاع الانحراف ومقاومتُها الشّرسة، ومكرُها السّيء، وألاعيبها وحِيلها الملتوية، وإنْ حَرَصَ كل المصلحين على النأي بالمجتمع عن كل الخسائر.
وبالإمكان أن يتقلّص حجم الخسائر ويقِلّ جدّاً، وأن يُتخلَّص منها نهائياً بسرعة لو بادرت كلُّ الفئات إلى الانضمام إلى صوت الإصلاح والوقوف مع العدل، ومناهضة الظُّلم، والقول عمّا هو حق بأنه حق، وعما هو باطل بأنه باطل من غير مواربةٍ أو لفّ ودوران.
وبمبادرة المسؤولين بالإصلاح، والاستجابة السّريعة له تتوقّف كل المتاعب والخسائر، فالضّغط كلّ الضغط إنّما يجب أن يوجّه إلى هذا الطّرف بالخصوص، لأنه الطّرف الذي يملك مفاتيح الحلّ، وبيده إمكانات حلحلة الأمور، ولم يؤخذ منه شيءٌ حتّى يُطالب الآخذ له بإرجاعه إليه(12).
نعم عليّ وأنا أطالب بالإصلاح أن أحسن الخطاب، أن أحسن التصرّف، أن أتجنب الإساءة، ألا أُثير الريبة، ألاّ أخالف حكما شرعيّاً، ألا أسيء النيّة، ألا أضمر ظلم أحد، أن أُحسِن الخُلُق، ثمَّ لا لوم بعد ذلك على من رفع صوته يطالب بالإصلاح واسترجاع الحقوق.
ثمَّ إنَّ الجماهير المحتشدة والمتظاهرة ما هي إلاّ مُطالِبة بالحقوق الوطنية وليست محاربة، وقد أبدت انضباطاً عالياً كلَّ هذه المدّة، وينبغي لها أن تتمسّك بهذا الانضباط، والنّأي بنفسها عن العدوانيَّة والشَّراسة، وعدم الاستجابة للاستفزاز، وهي بذلك لا تسجّل إلا عقلانية وتديُّناً، وحرصاً على الأخوّة الإسلامية، والمصلحة الوطنيّة مما يُحسب لها، وليس عليها. وبذلك تُسدُّ الذرائع أمام كلّ المشكّكين والمتقوّلين.
والمحاولات لن تكُفّ عن قسمة هذا الشعب، وإدخاله في حلبة الصراع الجاهلي البغيض حتى الحرب الطائفية ليتفرّج المستربح من هذا الصّراع والحرب، ويستثمر جراحات الشّعب وآلامه وآهاته لصالحه.
المطالبة بالحقوق السياسية أو غيرها مفصولة تماما أيها المواطنون الكرام عن الدعوة الطائفية ولا علاقة لها بها على الإطلاق، فالربط بينهما كما يحاول البعض بعيدٌ كلّ البعد عن الموضوعية والتعقُّل. فما علاقة المطالبة بالديموقراطية بالناحية المذهبية؟! إن الديموقراطية لا سنيّة ولا شيعيّة. وقد أكّدنا أن الديموقراطية المستهدفة لا تحمل معها تغوّلاً لطائفة على حساب الطائفة الأخرى، ولا تستبطن إقصاءاً أو تهميشاً لفئة على حساب فئة.
هناك مطالب سياسية وطنية إذا تحقَّقت تحققت للشّعب كله، وربِحها الشعب كلّه، وإذا أُحبطت خسرها الشعب كلّه، ولن تكون الديموقراطية المطلوبة خاصّةً بطرف دون طرف، فضلاً عن أن تكون لطرف على حساب آخر.
والرّابح في إبقاء ما كان على ما كان، أو إبقائه ليس بعيداً عن ما كان هو النظام وحده لا غير، ولا يوجد سبب موضوعيٌّ للصراع الطائفي المذهبي أو السياسي. وإذا وُجِد أي لون من ألوان هذا الصراع فهو صراع مفتعل؛ مارس الإعلام الرسميّ ولا زال يمارس التحضير الجدّي له، وفي هذا جريمة إضافية تُسأل عنها الحكومة.
وتُشير بعض الأحداث إلى أن ما حُضِّر له قد يكون بدأ تدشينه على الأرض. ولا جُرح يحدث، ولا روح تُزهق في هذا المجال إلا وتتحمّل الحكومة مسؤوليته، ويجب أن تتوجّه المحاسبة لها من غير دخول في أي مواجهة طائفية يُنكرها الإسلام، وترفضها المصلحة الوطنية، وحقّ الأخوّة، والجوار، والمصير الواحد، والتاريخ المشترك.
أقول: لا تكونن قابيل تقتل أخاك المسلم – وكلّكم مسلمون – فتبوء بإثمك وإثمه، وتصبح من الخاسرين. لا تكن قابيل تقتل أخاك السنّي فتدخل بقتله النّار، أو تقتل أخاك الشيعي فتدخل بقتله النّار، وأنت في الوقت نفسه تقتل نفسك.
إنّ أيّ شيعي يستبيح من أخيه السّني قطرة دم يكون قد أباح دم إخوانه من الشيعة، وإنّ أي سنّي يستبيح من أخيه الشيعي قطرة دم يكون قد أباح دم إخوانه من السُّنة، وهكذا يكون الجاني جانياً على الجميع، فليقف كل الشيعة ضدّ أيّ عدوان على السنّي كما أوجب الدّين أصلاً، ولئلا يُشرِّعوا القتل لأنفسهم، وليقف كلّ السنة ضدّ أي عدوان على الشيعي امتثالاً لأمر الله أساساً، ولئلا يُشرّعوا القتل لأنفسهم، ولا يُغرينّ أحدٌ سنيّاً على شيعي، ولا شيعيّاً على سنّي؛ فإنّ نار الفتنة العمياء لن تستثني هذا المحرّض على الشرّ بالخصوص.
وأنتم يا طلاب المدارس سنّة وشيعة إخوة، وأنتن يا طالبات المدارس أخوات، أخوّتكم جميعا إسلامية ووطنية، وأخوّة رفقةٍ وزمالة، ولكلّ هذه الأخوّات حقوق فارعوا حقوقها، ولا يكن بينكم شقاق. ومناقشة التجنيس ورفضه شيء، ومعاداة المجنّسين شيء آخر، فلا عداوة ولا تعدّي ولا جدال. صحيح أننا ننكر ظاهرة التجنيس، ونحارب التجنيس، وعلينا أن ندرأ عن البلد شرّ التجنيس، لكن لا يعني هذا على الإطلاق أن نستبيح من المجنّس ما لم يحلّه الله وكلّه حرام علينا، كلّ المسلم على المسلم حرام.
هذا بالنسبة للكبار، فكيف بصبيّة أو صبي؟!
ولي كلمةٌ لكلِّ العقلاء والمشفقين على وضع الوطن، والحريصين على مصلحته، والساعين للخروج من الأزمة في سلام، والمنادين بالصلح من مختلف الشرائح والتوجهات أن يستحضروا قوله سبحانه {… وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(13).
وأن ينظروا إلى مطالب الشعب بنظرة مجرَّدة، ويروا أنّها أقرب إلى الحقّ أو الباطل، والعدل أو الظلم، والصلاح أو الفساد، ليكون ضغطهم من منطلق صادقِ الدّين والضمير، مع المنادين بها أو ضدّهم(14)، ومعها أو عليها.
وكلّي إعجاب وتقدير لكل الشرفاء من الرجال والنساء الحريصين على التواجد في دوار اللؤلؤة، والمرابطين منهم بالخصوص خدمة للمطالب الشعبية العادلة النبيلة، وحرصاً على تحقيق مصلحة الوطن لكلّ أبنائه وبناته، وأجياله القادمة، وعلى التزامهم أسلوب السلمية الصبور، وتحرّرهم من ضيق الأفق الطائفي، وانضباطهم، وترفّعهم على ردود الفعل الانفعالية المرتجلة، مشدّداً في مطالبتي لهم بعدم التفريط في هذا الأسلوب، والتخلّي عنه، أو عن مرابطتهم ومصابرتهم، مع إخلاص النيّة لله وطهارة القلوب.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا ابتاعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم لا تجعلنا ممن يخذل الحقّ، ويتخلّف عن نصرته، ويعين على الباطل، ويُسرع لمؤازرته.
اللهم انصر من نصر الدّين، واخذل من خذل الدين، ولا تجعلنا في عداد الظالمين، وملأ المستكبرين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(15).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المعجز يدلّ على أنّه من الله، دعم من الله، أمّا أن يدلّ على هذا نبيّ، وأن الله قد ارتضى نبوّته، فذلك أمر أجنبي. قد يُقال ذلك.
2- المعجز في نفسه لا يدلّ على النبوّة، وانضمام الدعوى لا يضيف شيئاً، ولا يستطيع إثبات النبوّة.
3- إمّا فرض أن يكون هذا المدّعي كاذباً لما يلزمه من لازم باطل وهو تأييد الله لكذبه، وبعد بُطلان كذبه لابد أن يكون صادقاً لأن النقيضين لا يجتمعان.
4- 21/ الأنعام.
5- 93/ الأنعام.
6- 44 – 48/ الحاقة.
7- هو فوق الدليل الذي يوفّر الاطمئنان، هو دليل عقليّ ملزم لا يجد العقل مفرّا من الأخذ به.
8- حرب الاتحاد السوفيتي وأمريكا والعالم الكافر كلّه وما يبذلونه في سبيل هذه الحرب على الإسلام يُغني عنها أن يأتوا بمثل القرآن، وهناك عرب مختصّون في الأدب مسيحيون، يهود، وأمريكا تستطيع أن توظّف، روسيا تستطيع أن توظّف، وكلّ هؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
9- سورة النصر.
10 إيّاك، إيّاك، إيّاك أن تعتمد على قوّة في الأرض أو على أي قوّة غير قوّة الله تبارك وتعالى.
11- كلّف الإسلام كثيرا، ولكن كان الإسلام ضرورة، ويبقى الإسلام ضرورة، وقد وقى البشرية من هلاك محتّم.
12- الشعوب لم تأخذ شيئاً، الأنظمة هي التي تأخذ من الشعوب، وهي المدينة بالحقوق للشعوب.
13- 2/ المائدة.
14- كُنْ ضدّي إذا كانت مطالبي باطلة، وكن معي إذا كانت مطالبي من الحقّ. نريد من كل المنصفين أن ينظروا في هذه المطالب أهي حقّ أو باطل، أقرب إلى دين الله أو هي بعيدة عن دين الله عز وجل؟ قريبة من حقّ الشعوب أم غريبة عن حق الشعوب؟ المسألة ليست مسألة طائفية أبداً، المسألة مسألة سياسية. وإلا فالشيعيُّ الذي يصادق النظام سنّي، والسني الذي ينكر على النظام ظلمَه شيعي. المسألة ليست مسألة سنّي وشيعيّ، المسألة ظلم سياسة، ووقوف في وجه هذا الظلم.
15- 90/ النحل.