خطبة الجمعة (440) 21 ربيع الأول 1432هـ – 25 فبراير 2011م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: متابعة موضوع النبوة والرسالة
الخطبة الثانية: الحركة الشعبية المباركة
إذا كان المطلوب للتحرّك الشعبي هو الديموقراطية فهي ديموقراطية لا تهمِّش أحداً، ولا تلغي أحداً، ولا تُقصي أحداً، ولا تضرّ بحقّ أحد، ولا تفرض وجهة نظر طائفة على أخرى، ولا تَمسّ هُويَّة مذهبيّة لأحد، ولا تتيح لهذا أن يأكل ذاك، ولا لذاك أن يأكل هذا، ولا تقوم على الصراعات والتناقضات.
الخطبة الأولى
الحمدلله أوَّل الوجود، والوجود الذي لا أوَّل، ولا منتهى له، ووارثِ كلِّ موجود، ولا وارثَ له، وغالبِ كلِّ شيءٍ ولا غالبَ له، والمحيطِ بكلّ شيء ولا إحاطةَ لِشيءٍ به، المفتقرِ إليه كلُّ شيء، ولا افتقارَ منه إلى شيء.
أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عبادَ الله ونفسي القاصرةَ بتقوى الله، وعندئذ يأمنُ بعضُنا شرَّ بعض، ويكفُّ عنه يدَه ولسانَه، وكلَّ آذاه، ويُعينُه في الخير، ودفع السّوء، ويكسِبُ بذلك مرضاةَ الله، ويعلو بذلك قدرُه. ولا مفازةَ غداً لغير المتّقين، {… وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}(1).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطّيبين الطّاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ادحرْ عنّا الشيطان الرجيم، ونجّنا من إضلال المضلّين، وكيد الظّالمين، وبغي الباغين، واجعلنا من المرحومين الهادين المهتدين، السُّعداء المكرمين يا مَنْ هو على كلّ شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
أما بعد أيها الطيبون من المؤمنين والمؤمنات فالحديث لا زال متواصلاً في موضوع النبوة والرسالة.
وقد انتهينا في هذا الحديث إلى شروط النبوّة والرّسالة وموانعهما، وبقي أن نَذكر أنّ من موانع النبوّة حتى مع قيام المعجز المؤيِّد وسلامته أن ينفيَ من ثَبَتَت نبوّته تعقبها من نبوّة أخرى بعده، وذلك للعلم بأنّ رُسلَ الله جلّ وعلا لا يتناقضون قولاً أو فعلاً(2)، إذ يرجع ذلك إلى التناقض في قول الله سبحانه وفعله الذي يرجعون إليه في كل ما يقولون عنه، ويفعلون بإذنه الذي تكشف عنه نبوتُهم ورسالتهم منه وهو المتعال(3).
وعليه لا يُثبِت المعجز على فرض تقديره نبوّةَ أيّ مدّع للنبوّة بعد الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، بعد نفيها منه النبي وهو الذي لا ريب في نبوّته(4).
تساؤلات حول الإعجاز والمعجز:
قد يُقال: إن المعجز ظاهرة من الظواهر، وحادث من الحوادث، وكلُّ حادث له علّتُه الخاصَّة. وهي علّة يمكن اكتشافها في وقت أو آخر، متقدِّم أو متأخِّر(5).
فالمعجز فعل من الأفعال التي يمكن لعقل أن يكون هو الأسبق في اكتشاف علّته، وبذلك يتحقّق على يده، وقد يأتي اكتشاف هذه العلّة نفسِها بعد زمن طال أو قصُر من آخرين، كما هو حال الظّواهر الأخرى العلميَّة التي يسبق عقلٌ إلى التعرّف على عللها لتلحق به في ذلك عقول أخرى تكتشف نفس العلّة.
وبهذا يفقِد المعجز دلالتَه الخاصَّة المتمثّلة في أنّ الله تبارك وتعالى خَصَّ به مدّعي النبوّة من بين النّاس ليدلّ على أنّه نبيٌّ أو رسول من عنده، وإلا كان كلّ عقل سَبَقَ إلى اختراعٍ معيّن لاكتشافه لعلّته ثبتت لصاحبه النبوة بذلك لو ادّعاها(6).
وللإجابة على هذا التساؤل لابدّ من بيان الفرق بين أمرين:
1. مبدأُ العليّة مبدأ مسلَّم، وواضح أنَّ لكلّ معلولٍ مرتبطٍ فقيرٍ في نفسه، حادثٍ بعد عدمه علّةً وراء وجوده الطارئ، وحدوثه المستجدّ(7).
وهذا الأمر لا ينتج لنا أن طبيعة العلة التي تقف وراء المعجز من نفس طبيعة العلة التي تقف وراء أي ظاهرة علمية أخرى، وأنّه متيسِّرٌ للعقل البشري أن يكتشف علة المعجز تيسر اكتشافه لعلة أي ظاهرة من الظواهر الكونية الأخرى؛ وإن كان هذا الاكتشاف قد يتقدم زمناً من عقل ويتأخر من آخر.
2. الأمر الآخر هو أن نسلِّم بأنّ كلّ علل الظواهر ومنها ظاهرةُ ما نسمّيه بالمعجز لا تختلف في طبيعتها، وأنها على حدٍّ سواء في إمكان اكتشافها من أكثر من عقل(8)، والعقلُ المكتشف لعلة شيء، الواجدُ لها ينتج معلولها. نعم يمكن أن يتقدم عقل على آخر زماناً في اكتشاف هذه العلة، وتحقيق معلولها.
وهذا التقدم أو التأخر في الاكتشاف ليس خاصّاً بالمعجز حتى يكتسب دلالة خاصَّة.
ولو تمّت المساواة بين علة المعجز وغيره في إمكان اكتشافهما بالأدوات المعرفية عند غير الأنبياء لسقطت قيمة المعجز حقّاً في إثبات أن صاحب المعجز نبي أو مرسل من الله سبحانه.
لكن لا دليل على الإطلاق على هذه المساواة فضلاً عن أن تكون أمراً بديهيّاً، فلا بديهية لهذه المساواة كبديهية مبدأ العليّة ولا دليل عليها من ناحية علميَّة.
فإذا كان للمعجز علّتُه التي لا تملك التجارب العلمية التي تعتمد عليها منجزات الإنسان في مجال الاكتشاف والاختراع أن تصل إليها؛ امتنع أن يقاس المعجز بالمنجزات البشرية في إمكان تحقّقه من غير الأنبياء المدعومين بالغيب دعماً خاصّاً للدلالة على نبوّتهم.
فالمعجز له علّة لكن لا يلزم أن تكون هذه العلة متاحاً للوسائل العلميَّة التي تملكها الطبيعة البشرية أن تتعرّف عليها.
ولم يحدث للتطوّر العلمي أن استطاع تكرار معجِز من المعاجز(9) التي جاء بها الأنبياء والمرسلون لإثبات نبوتهم ورسالتهم.
ويلاحظ أنّ معاجز الأنبياء جاءت مختلفة غير متكرِّرة وربما كان من الحِكمة في ذلك دفع هذا التوهُّم وهو أنّ المعجز ظاهرة من الظواهر التي كان سبق الأول فيها للثاني ليس إلا من حيث اكتشاف علّة المعجز.
تجدون أن إبراهيم عليه السلام لم تحرقه النّار، ويدعو الطيور الممزّقة مزقاً فتأتينه سعيا، وموسى عليه السلام تتحوّل العصا على يده ثعباناً فتلقف ما يأفكون، وعيسى عليه السلام يحيي الموتى من الناس ويبرئ الأكمه والأبرص، ومحمداً صلّى الله عليه وآله يتنزّل عليه كتاب يعجز كلُّ الإنس والجنّ بعده عن الإتيان بمثله.
فهي معجزات غير متكرّرة، كل نبي يأتي بمعجز هو غير ما جاء به النبي أو الرسول الآخر قبله، وربما كان من حكمة ذلك أن يقال للناس بأن المعجز ليس مما يملك النبي أن يكرره بقدرته الخاصّة، وبما أُوتي من عقل بحسب ما عليه طبيعة العقل البشري.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا عقولاً واعية، وقلوباً فاقهة، وصدوراً منشرحة للحقّ، وتصديقاً تامّاً بآياتك، واتباعاً كاملاً لرسلك وأوليائك، وأخذاً جادّاً بدينك، وأعذنا من الشيطان الرَّجيم، وجنده الغاوين، يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(10).
الخطبة الثانية
الحمدلله الذي لا مبدِّل لكلماته، ولا ناقض لِقَدَره، ولا مغيِّر لفعله، ولا رادّ لأمره، ولا استمساك لشيءٍ أمام إرادته، ولا تغييرَ ولا تبديلَ إلاّ بإذنه. وكلُّ شيء في قبضته، وخاضع لسطانه، ومقهور لمشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ومن لم يتّق الله فهو من الغافلين، ومن استكبر فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً. وكلُّ تكبُّر بغير حقٍّ جهالة، وعاقبته الهلاك، وأجهل ما يجهل متكبّر، وأهلكُ ما يُهلِكُ أن يتكبّر متكبّر على الله، وهو المملوك له، المخلوق بقدرته، المأسور لعزّه، وقهره وجبروته وكبريائه.
ولا يخلو التكبُّر على عباد الله من التكبّر على الله سبحانه لما فيه من نسيان المتكبِّر لعبوديّتِه لخالقه ومالكه، وعدم مراعاته لحرمة من أوجب الله حرمته.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:”… ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمِّه(11) من غير ما فضل جعله الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد(12)، وقدحت الحميَّة في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكِبْر الذي أعقبه الله به الندامة…”(13).
اللهم إنّا نعوذ بك من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن حياة يتصرّف فيها الشيطان، ومن سوء المصير.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى أئمة الهدى، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الجمع الكريم فالحديث في الحركة الشعبية المباركة:
أولاً: وقبل كلّ شيء أدعو الله الكريم بأن يرفع درجة شهدائنا عنده، وأن يَشفي الجرحى والمعلولين، وأن يرزق عوائل الشهداء وذويهم الصبر والاطمئنان والرضا، والشعور بالفخر والاعتزاز، وأن لا يستكثروا على الله ما يُعطون.
وأزفّ سلامي وتحيّاتي وتقديري وشكري للمحتشدين في دوار اللؤلؤة بروح وطنيّة عالية مسؤولة حريصة على مصلحة الوطن وسلامته وتصحيح مسار السياسة فيه وكلّ ذلك قربة إلى الله سبحانه، وأشكر لهم هذا التقيّد الدقيق بالأسلوب السلمي الذي لا يجيز لنفسه أن يهدِر قطرة دم من إنسان، أو يُتلف ما هو بقيمة فلس واحد من ثروة الوطن. وهكذا يُطلب لهم أن يكونوا باستمرار.
ثانياً: يُعتبر إطلاق السجناء حقّاً ثابتاً، وضرورة ملحّة من قَبْلِ اليوم، وقد تمّ إطلاقهم بفضل الله، ثمّ إنّه عطاء لحركة الشارع، وبركةٌ من بركات دم الشهداء.
ثالثاً: كلّ التحرّكات الإصلاحية والثورات التغييرية في الساحة العربية منطلقها الروح الوطنيّة التحرُّرية، ومبعثها الظّلم والتهميش واحتقار إرادة الشعوب الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة، وموقفنا مع هذه التيارات والثورات والتحرّكات لأنّها صادقة ووفيّة ومخلصة ومخلِّصة.
ومن الظّلم الفاحش أن يُعترف بكلّ هذه الثورات والتحرّكات بإخلاصها ونزاهتها واستقلالها وضرورتها، وأنّها شريفة وعادلة ومحِقّة وإنسانية ووطنية ومشروعة ولها موجباتها الموضوعية الواضحة كما هو الحقّ ثم يستثني مستثنٍ التحرّك السلمي الحضاري المقاوم في البحرين من كلّ ذلك، ويتّهمُه بالطائفي، ويثير حوله غبار التشكيك والتخرُّصات التي يعلم زيفها، وهو على علم بمعاناة هذا الشعب الكريم وعذاباته، والعنتِ الذي يلاقيه على يد النظام.
على من يذهب لهذا الاستثناء أن يراجع دينه وضميره في المسألة، وأن يقول كلمة الإنصاف القاضية بذكر ألف عذر ينفي الشبهة عن هذا التحرّك. والمعاناةُ من سوء الوضع ليست معاناة طائفة خاصّة، وإنما هي معاناة شعب كامل بدرجة وأخرى، ولون وآخر.
رابعاً: إذا كان المطلوب للتحرّك الشعبي هو الديموقراطية فهي ديموقراطية لا تهمِّش أحداً، ولا تلغي أحداً، ولا تُقصي أحداً، ولا تضرّ بحقّ أحد، ولا تفرض وجهة نظر طائفة على أخرى، ولا تَمسّ هُويَّة مذهبيّة لأحد، ولا تتيح لهذا أن يأكل ذاك، ولا لذاك أن يأكل هذا، ولا تقوم على الصراعات والتناقضات.
والبلد ليس بلد حكومة مذهبيّة على الإطلاق، ولا البلدَ الذي يتنكّر لهذا المذهب أو ذاك.
خامساً: أمّا مسألة الحوار فلا حوار من أجل الحوار، ولا حوار لتضييع الوقت، وتمييع المطالب، وامتصاص مشاعر الغضب بالتدريج، ومع طول الوقت.
لا حوار بلا مقدّمات عملية تفتح الجوّ للحوار، ولا مبادئ معلنة موافق عليها من قبل الدولة تُعطي وضوحاً كافياً لموضوع الحوار، وقيمةِ وإنتاجيّة الحوار، ومن غير ضمانات التزام بهذه المبادئ، وجدولةٍ واضحة جدّية تضمن تنفيذ منجزات الحوار.
لعشر سنوات والشعب يطالب بالحوار، فتواجه مطالبته بالسخرية والإعراض والاستخفاف والتسلّط، ولا زلنا نرحّب بالحوار ولكنّه الحوار الذي يحقّق مطلب الشعب بصورة مضمونة قاطعة تعطي للبلد استقراره العادل، وتحقّق آمال الشعب(14).
وإن الحوار الذي يستهدف حلاًّ شكليّاً لا يصلح اليوم أن يكون مهدّئاً وقتيّا فضلا عن أن يمتلك درجة من الوجاهة والثبات، وأن يُعدّ حلاً ولو لوقت قصير. لابد أن يكون الحلّ معالجة جذرية قابلة للحياة، مقنعة لروح التغيير، قادرة على البقاء، مستجيبة للمطالب العادلة. وقد قلت في خطبة ما قبل التفجّر الجديد للأحداث بأنه كلّما أعطى شعبٌ مزيدا من التضحيات ارتفع سقف مطالبه. وهو قول ثابت لا مجانبة فيه أبداً للصواب، وكلّ وقائع الخارج الخاصّ والعامّ تؤكّد هذا القول.
وأعود لأؤكّد على أنّ الديموقراطية المستهدفة لا خوف منها على طائفة من أخرى، ولا على فئة من ثانية، ولا على مذهب من مذهب، ولا حرمة أحد من أحد، وليست للتمزّق والتشظّي، وإنّما للائتلاف والالتئام.
سادساً: وإنّي لأحب لعقلاء الطائفتين، ومشايخ الدين فيهما، وخاصّة من سنّ السبعين والستين والخمسين ومن قارب أن تغيب عن ألسنتنا جميعاً لغة الشحن الطائفي، والدعوة السياسية الطائفية، وأن تحضر عندها(15) لغة المصلحة الإسلاميّة والوطنية العامّة. والطالب لمصلحة الإسلام والوطن لا يسعه إلا أن يختار اللغة الثانية على الأولى، ولا يعدل عن ذلك إلى ما فيه ضرر الإسلام وأهله، والوطن وأبنائه.
سابعاً: أعود لتحيّة المحتشدين في الدوّار، وأقول لهم مخلصاً بأن للنجاح أسباباً وشروطا لا يصح التفريط في واحد منها، وأكتفي هنا بذكر شيء يسير منها:
1. الاستمرار على ما اخترتموه والتزمتموه من أسلوب سلمي لا يهدر قطرة دم واحدة من إنسان، ولا يتلف فلساً واحداً من ثروة الوطن.
2. حسن الخطاب، نظافة الخطاب بلا تهديد، ولا توعّد، ولا تهافت، ولا شقاق.
3. كلّما كان الدوار ساحة جدٍّ وانضباط، وتوافق وانسجام، وكلما ارتقيتم بهذه الساحة في النظافة المعنوية والمادية، ونأيتم بها عن الشوائب المضرّة كلّما قدّمتم للعالم الصورة المشِعّة المطلوبة لتجمّعكم(16)، وكنتم مهيئين بدرجة أعلى(17) لتوفيق الله، ولطفه وعنايته، ورعايته، والعزّ والنصر من عنده.
إنّ من أخطر الأسلحة وأفتكها بقوّتكم والتي تحول بينكم وبين ما تطلبون أن تفرّقوا الصفوف بالتخوين والنيل من بعضكم البعض في تسرُّع وظلم.
وأمر آخر لقَوّتكم ونجاح حركتكم تجنّبوا أن تُنفِّروا حتى من كان خارج التحرّك (18) بالنيل منه واتّهامه وتجريحه. حاولوا ما استطعتم أن تكثّروا من أصدقاء التحرّك، لا أن توجدوا له أعداء يمكن أن يكونوا له أصدقاء اليوم أو في الغد القريب(19)، أو هو فعلاً من أصدقائه الذين لا تعلمون(20).
نحتاج في هذه اللحظات مع الشجاعة والصبر والثبات إلى عقلانيّة وتثبُّت، إلى رويّة وإعمال فكر، ونحتاج إلى تضامّ والتحام.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أخلص نيّاتنا، وسدِّد خطانا، وأنجح سعينا، وادرأ عنّا، ولا تُجرِ على ألسنتنا شيئاً مما تكره أو يُسيء لنا، ولا على أيدينا شيئاً مما نهيت عنه، أو فيه أذانا، وافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، يا عليّ يا قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 227/ الشعراء.
2- فلا يصير أن ينفي السابق نبوّة اللاحق بينما تثبت نبوّة اللاحق.
3- تعالى الله أن يصدر منه تناقض.
4- بعد أن نفى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يأتي نبي بعده، وبما أنه نبي ثابت النبوّة فلا التفات لأي معجز يأتي بعده مصحوباً بدعوى النبوّة.
5- الظواهر الطبيعية قد يكتشف عقل متقدّم علّتها فيستفيد من اكتشاف العلّة لإحداث المعلول، بحيث يستعمل العلة التي أوجدها الله عزّ وجلّ لإنتاج المعلول المرتبط بهذه العلة، فلماذا لا يكون المعجز واحدة من الظواهر الطبيعية التي قد اكتشف النبيّ الذي جاء على يده معجز علّة هذا المعجز؟ وكلّ ما هنالك أن هذا النبيّ بعقليته العبقريّة سبق اكتشافه للعلّة أي مكتشف آخر، وبذلك لا تبقى لهذا المعجز خصوصية تدلّ على عناية الله الخاصّة، وتأييده الخاص لهذا النبي، كما يتقدّم عالم من العلماء في اكتشاف قانون من القوانين الطبيعية الغامضة فيسبق في ترتيب آثار اكتشاف هذا القانون لا يستطيع غيره ترتيبها فكذلك يمكن أن يكون الرسول قد اكتشف قانونا من القوانين علّة من العلل التي أتاحت له أن يبرئ الأكمه والأبرص، وأن يفلق البحر بضربة عصا وما إلى ذلك من معاجز، لماذا لا يكون الأمر كذلك؟ هذا تساؤل، ويُجاب عليه.
6- فلماذا مثلاً آينشتاين لا تثبت نبوّته لو ادّعى النبوة لأنه جاء بجديد باكتشافه قانوناً غامضاً على العقول الأخرى؟!
7- هذا القانون المسلّم لا ينتج لنا مساواة المعجز بغيره من الحوادث الكونية والظواهر الطبيعية الأخرى. الذي يثبت لنا مساواة المعجز بغيره من الظواهر هو أن تكون طبيعة العلّة المنتِجة للظاهرة الطبيعية هي نفس طبيعة العلّة التي يقوم عليها المعجز، يعني نحتاج إلى مساواة طبيعة علّة المعجز وعلّة الظاهرة الطبيعية. لو تساوت العلتان في طبيعتهما فلا يبقى للمعجز مائز عن الظاهرة الطبيعية، لكنّ العلّتين قد تكونان مختلفتين من حيث الطبيعية.
8- لو أمكن اكتشاف علّة المعجز من أكثر من عقل، كما يمكن اكتشاف علّة الظاهرة الطبيعية من أكثر من عقل مع فارق التقدم والتأخر الزمني لسقطت دلالة المعجز على ما نريد أن نستدل به عليه من نبوة النبي ورسالة الرسول، لكن الأمر ليس كذلك فإن للمعجز علّة قد تختلف في طبيعتها عن علّة الظاهرة الطبيعية بحيث أن لا طريق للعقل البشري لاكتشاف علّة المعجز، وإن كان المعجز ليس بلا علّة، صحيح أن المعجز له علّة، والظاهرة الطبيعية لها علّة، لكن علّة الظاهرة الطبيعية ميسور للعقل البشري أن يصل إليها بينما علّة المعجز منسدّ أمام العقل أن يصل إليها.
علّة الظاهرة الطبيعية يمكن أن تصل التجارب إليها، بينما علّة المعجز لا يمكن أن تصل التجارب إليها، هذا هو لبّ الفكرة باختصار.
9- هذا من ناحية الخارج، التقدم العلمي لم يستطع في يوم من الأيام أن يكرر إحداث ما فعله الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا يستطيع هذا التكرار بطريقة الاعجازية التي كانت تجري على يد الأنبياء، بعيداً عن الإعتماد عن التجربة والوسائل العلمية والطبيعيه التي يمكن أن يتوصل إليها بالتعليم والتعلّم، ذلك من مثل دعوة طيور فرقت أجسادها مزقاً في أماكن مختلفة فيَقود لها بناؤها وحياتها وتأتي سعيًا بين يدي من دعاها.
10- سورة الإخلاص.
11- وكلّنا أبناء أمٍّ واحدة.
12- قد تكون أعلم، قد تكون أقوى لكنّ قوتك ليست لك، وعلمك ليس بيدك، ليس من عندك، فنحن مع تفاوتنا في القوة وفي العلم وفي المال إلا أننا على حدٍّ سواء في العبودية أمام الله سبحانه وتعالى، وما لا أملكه لا يصح لي الافتخار به، أنا لا أملك شيئا حتى أستطيع أن أفتخر بما أملك.
13- نهج البلاغة ج2 ص 141. وردت كلمة (الحسب) في كتاب ميزان الحكمة بالإضافة إلى كلمة (الحسد)، وتم الاعتماد على المصدر الأصلي وهو نهج البلاغة الذي لم تُذكر فيه كلمة (الحسب).
14- هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
15- أي عند ألسنتنا.
16- العالم يقرؤكم من خلال هذا التجمّع بما له من سلبيّات وإيجابيّات، وبما هو عليه من مستوى خلقي، ومستوى وعي، ومستوى التزام، وعقلانية ووعي، كل العالم يقرؤنا من خلال هذا التجمّع. وكلّما أجدتم في تجمّعكم كلما ارتفعتم في نظر العالم وكان التعاطف معكم.
17- وهو الأهم يا أخوان.
18- هناك داخل معكم في التحرّك قد تبقون عليه وقد تطردونه، وهناك خارج من هذا التحرك قد تجتذبونه وقد تبعّدونه. فأحسنوا التصرّف.
19- هو بعيد الآن لكن يمكن أن يلتحم بهذا التحرك اليوم أو في الغد القريب. وبفعلٍ ما، وبتجريحه ومهاجمته أنتم تبعّدونه.
20- هو خارج التحرّك الآن، وهو صديق التحرّك ولكن لا نعلم أنّه كذلك، وبمهاجمتنا نسيء إلى هذا الشخص وإلى أنفسنا.
21- 90/ النحل.