خطبة الجمعة (435) 24 محرم الحرام 1431هـ – 31 ديسمبر 2010م
مواضبع الخطبة:
الخطبة الأولى: النبوة.
الخطبة الثانية: ذكرى استشهاد الإمام السجاد عليه السلام/ أقوياء ولكن/ إيمان وإرادة/ من هو رامسفيلد؟ من هو السيد السيستاني؟
ليس شيء من بعد ذلك إلاّ أن تُعدِّل الأنظمة الرسميّة من سياستها وتعترف بحق الشعوب وحرّيتها وإنسانيتها وكرامتها، وأن ليس لها أن تحكم إلا بصفة النيابة عن الشعوب، والنيابة لا تتم إلا بالرِّضا ابتداء وعلى مستوى الاستمرار.
الخطبة الأولى
الحمدلله مالك كلِّ نسمة هواء، وقطرة ماء، وكلّ بذرة ونبتة، وكلّ شجرة وثمرة، وكلّ ما تضمّه الآفاق، وتكُنُّه الأرض، وتزخر به البحار، وكلِّ بدن وروح، وكل ما في الكون من شيء، وما بعد الكون. ولا حدَّ لملكه، ولا منتهى لقدرته، ولا غاية لسلطانه، ولا مزاحم له في ملك، ولا مضادّ له في سلطان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله إلاّ من استغنى عن الله، وأرضه وسمائه وتدبيره ورزقه، واستقلّ بوجوده وحياته عن قدرته وتقديره، وملك كلَّ شيء من أمره، واستطاع أن يردّ أمر ربِّه وقدره؛ فمن وجد ذلك كلّه فلا حاجة له لتقوى الله، ولكن من يجد شيئاً من ذلك، وما السبيل إليه؟! وإذا كان الكلّ محتاجاً إلى الله، قائماً بقدرته، راجعاً في وجوده وحياته إلى قدره، منتهياً للحساب بين يديه فلا عقل يقضي بالاستكبار عليه، والخروج عن أمره ونهيه، ومضادّته، وإهمال دينه، ولا نباهة مطلقاً في مكابرته، ولا مصلحة ولا رشد ولا حكمة إلا في تقواه، والانقياد إليه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا تسلبنا شيئاً من نعمك واحفظها علينا جميعاً خاصّةً نعمة الدِّين والتقوى، وهب لنا ذكرك وشكرك، وتفضّل علينا بقربك ورضاك، ولا تزلّ لنا قدماً، واجعل لنا في طاعتك عزماً، وَسَْيرنا إليك قُدُماً، وارزقنا إخلاص النيّة، وصِدْق الطّاعة، وعطاء من عندك فوق ما نتمنّى، ويخطر لنا في بال يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فالحديث في موضوع النبوة:
النبيُّ لفظ مأخوذ من نبأ أو من نبا وعلى الأول سُمّي أنبياء الله كذلك لتلقّيهم النبأ من الله سبحانه، وعلى الثاني لارتفاع قدرهم الذي أهّلهم لذلك.
وما من رسول من رسل الله عز وجل إلا وقد تلقّى نبأ ما أرسل به منه سبحانه.
وأشهر الروايات في عدد الأنبياء والمرسلين هي رواية أبي ذر عن النبيّ صلَّى الله عليه وآله كما يذكر ذلك صاحب الميزان وهي:”إن الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألفِ نبيٍّ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نبيَاً(1).
أما أولو العزم وهم سادات الأنبياء فهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلَّى الله عليه وآله وعلى جميع أنبياء الله ورسله الطاهرين.
حاجة البشرية إلى النبوَّة:
لعل أول سؤال يناسب طرحه في مجال الحديث عن النبوة والرسالة هو حول حاجة البشرية إلى ذلك.
وحتّى تستغني الأرض عن هدايات السماء لإنسانها في سيرته الإرادية على مستوى الفرد والمجتمع، ولا يتنزل وحي بغض النظر عن ذلك لابد من أمور:
1. أن يعرف الإنسان نفسه وغيره من النَّاس بكامل أبعاد تكوينه ودقائق وجوده وحياته لأن من لم يعرف أيّ موضوع لا يعرف حكمه. وهذه المعرفة لا يدّعيها أحد من الناس، وكبار العبقريات البشرية تُمضي حياتها كاملة للتعرف على زاوية من زوايا الذات البشرية، أو زوايا الكون العريض، فلا تنتج يقيناً شاملاً نهائياً ثابتاً مشتركاً لا تختلف عليه في تلك الزاوية.
2. أن يعرف كل بيئته من إنسان وغيره، وكلّ شيء في الكون يؤثر على أي بُعد من أبعاد ذاته، وسيرته، لأنه غير مفصول في كل ذلك عن محيطه، ومؤثرات الأرض والسماء الكثيرة المعقّدة.
وأين البشريةُ كلها فضلا ًعن أبعاضها من هذه المعرفة الممتنعة؟!
3. أن يعرف علاقته بالله، وشأن الله، وما لله عليه، وكيف يؤدّيْه، وكيف ينالُ رضا ربّه. والاختلاف يبن النّاس في هذا دائم، وبعض هذه الأمور غيب يستحيل على الإنسان التوفر عليه، والإلمام به.
4. أن يعرف غاية وجوده، والهدف الرئيس من حياته الذي عليه أن يكرّس حياته في سبيل الوصول إليه. وكان النّاس ولا زالوا يعيشون الانقسام الواسع الحادَّ في غاية الوجود والحياة للإنسان.
5. أن يعرف المصير بعد الموت بكلّ تفاصيله، والآخرةَ المرتَقَبة بكل دقائقها، لأنّه لابدّ من موت، وأكفر كافر لا يستطيع أن ينفي احتمال الآخرة نفياً كلّياً لا حِسّاً ولا عقلاً. وعلى الإنسان إمّا أن يملك يقين أنّ الآخرة أمر خيالي وهو يقين متعذر، أو أن يضع لها حساباً في منهج حياته، وكيفية تصريف عُمُره.
6. أن يعرف تأثير أحداث الماضي وإن بَعُد عن حاضره، وما سيأتي به المستقبل وإن طالت بينه وبينه المسافة مما سيواجهه، ومَنْ مِن أهل الأرض من يحيط بكل ما حمله الماضي، ويغيِّب المستقبل الغامض المكنون؟!
7. أن يعرف كل مصالح الأفعال ومفاسدها، ووزن كل مصلحة ومفسدة، ويملك مقارنة دقيقة بين كل مصلحة ومفسدة، وبين المفاسد فيما بينها، وبين المصالح كذلك ليختار المصلحة ويتجنّب المفسدة، ويدرأ المفسدة الأكبر بالمفسدة الأصغر عند الضرورة، ويتوفر على المصلحة الأعظم بالتضحية بالمصلحة الأقل عند التزاحم. وما أكثر اختلاف الناس حتَّى نخبهم في كل ذلك!!
8. ويحتاج الإنسان ليستقلّ بوضع منهج الحياة وما تحتاجه من تشريعات وأحكام فردية، وأسرية، واجتماعية، عامة، وأممية أن يتجرد من حبِّ الذات الضاغط لرعاية مصالح الشخص نفسه، والقبيلة والوطن، والقوم والأمة مما ينتمي إليه على حساب الآخر. ولا إنسان بمعصوم في نفسه هذه العصمة بكاملها.
كلّ هذه الأمور مجتمعة هي التي يقوم عليها استغناء الإنسان عن منهج السماء وتشريعات الله، وتنزُّلِ الوحي لهدايته وقيادة حياته، ووضعِه على طريق غايته. وواضح جدّاً أن ليس كلُّ الطُّرُق وإن تباينت وتعارضت وتهافتت مؤدية إلى الغاية الحميدة الواحدة، والسعادة المنشودة(2).
ولو تمّ إيمان الإنسان بحاجته إلى الهدايات التشريعية من الله، والمنهج العليم من عنده، ولكن عَلِم مع ذلك أن الله سبحانه مهمل له، متخلٍّ عنه، لا رحمة له به، أو لا علم له بأحواله، وما يصلحه، وما يفسده، وينفعه ويضرّه، وما يتناسب مع تكميله، ويتنافى معه، أو لا يريد كماله، أو لا قُدرة له ولا طريق لإيصال منهجه، وتبليغ أحكامه، أو إيجاد النّفوس القادرة على تلقّي وحيه، وحمل رسالته، وأداء أمانته؛ فإنّ للإنسان حينئذ أن لا يتطلع نحو السّماء لعلاج مشكلته، وأن يدخل في كل المحاولات الفاشلة طلباً في الحلّ اعتماداً على نفسه، وأن يستسلم لواقع القصور والجهل الذي لا يجد مفرّاً منه.
ولكنَّ الله تبارك وتعالى فوق كل المحتملات المطروحة، وهو أعزّ وأجلّ من كل ذلك، وهو العليم الخبير القادر الحكيم الرحمن الرَّحيم.
فتحتّم على ذلك أنه لا يتناسب مع جلال الله وجماله وكماله ورحمته ولطفه وحكمته وقدرته وعلمه إلاَّ أن يوحي إلى المصطفَين من عباده المنهج المنقذ للإنسان، والدِّينَ الحقّ، والأحكام اليقينية الصالحة التي تحقق للإنسان المسؤول عن الاستجابة لها ما يُطيقه وجوده من السّعادة في الدّنيا وفي الآخرة، ويريحه من الكثير الكثير من متاعب الحياة، ويحفظ له قيمة حياته، ويضمن له غايتها.
ولأن النظام الناجح، والمنهج القادر لا يكفي وحده لحلّ المشكلة البشرية في الأرض في غياب القيِّم المستوعب للمنهج، الأمين عليه، المخلص له، الكفوء للقيام بمسؤولياته، غير المتخلف عنه أسند الله هذا الأمر للقادة من رسله المصطفين، وأئمة دينه المنتجبين حيث لا يقوم مقامهم أحد من الناس بلحاظ حجم المسؤولية ومتطلباتها وما تفرضه من تأهّل.
أمَّا مع تعذُّر قيادتهم الفعلية لظلم أهل الأرض، فتكون القيادة من مسؤولية وصلاحية الأقرب إليهم وإلى الرسالة التي كلّفوا بها مستوى في كل الأبعاد.
والحديث في الموضوع متتابع إن شاء الله.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا الإيمان الحقّ الكامل الدائم بك وبأنبيائك ورسلك وأئمة الهدى الذين اخترتهم لعبادك، ودينك الذي ارتضيته، وصراطك الذي أقمته، وهداك الذي مننت به، واجعلنا أنصاراً لدينك لا نعدل عن نصرته، ولا نختار شيئاً عليه، ولا نتخلف عن أمر أمرت به، ولا ندنو من نهي نهيت عنه، وهب لنا الظفر على أعدائك وأعدائنا يا قوي يا عزيز، يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(3).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يُعطي ابتداءا تحنّناً منه وكرماً، ولا ينتهي جوده وكرمه، ويُغضبه اليأس من نواله لأنه لا يليق بجلاله وجماله، ولا يغلق الباب أمام مسترفدٍ ولا تائب، ولا يعطي عن خوف أو طمع، ولا يمنع من بخل أو شحّ، ولا يرجئ النوال عن عَوَز، ولا يُحدّ ملكه، ولا تنفد خوائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرماً. عمّت آلاؤه وتباركت نعماؤه، ودام عطاؤه، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولنتجنب ظلم أنفسنا {… وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ….}(4) وكيف لا يكون ظالماً لنفسه من أوقعها في ما نهاه عنه ربُّه، وتخلَّف عما أمره به؛ وأمر الله ونهيه لعباده لا يكون إلاّ عن علم وحكمة وإحاطة وتقدير ورعاية لمصلحة العبيد، ودرءاً للمفاسد عنهم، ورحمة بهم، وشفقة عليهم، وهو الغنيّ مطلقاً ولا عائد عليه من أمرهم ونهيهم، ولا تنفعه طاعتهم، ولا تضرّه معصيتهم؟!
ومن تعدّ عن حدود الله فلا هادي له، ولا مُرشِد يُرشده، ولا منقذ ينقذه، وكان إلى ضلال، وضياع، وتيه، وشقاء ونار وعذاب.
ومن بعد هذا كلّه كيف لا يكون قد ظلم نفسه؟!
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا تسلمنا لسفه الرأي، وسوء الاختيار، ولا تترك للشيطان والنفس الأمارة بالسّوء أن يأخذا بنا عن طريقك، ويوقِعانا في مخالفة أمرك ونهيك، وتعدِّي حدودك، واستحقاق سخطك، ونسيانِ واجب ذكرك وشكرك، وخسارة ما وعدت به الصالحين من عبادك من جميل رحمتك ورأفتك، وعظيم أجرك وثوابك، ونعيم جنّتك، وفي مصيبة العذاب الأليم، والشّقاء الجسيم الذي توعّدت به العصاة من عبيدك، والنّاسين لِنعمك، والمستخفّين بطاعتك. اللهم افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيِّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أمّا بعد أيها السامعون الكرام فإلى عدد من العناوين:
ذكرى استشهاد الإمام السجاد عليه السلام:
هذا اليوم هو يوم ذكرى وفاة السجاد عليه السلام.
كان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يواجه الصدمة القاسية للبيت العلوي بعد مجزرة كربلاء، ليبقي على أصالة هذا البيت، وموقع القدوة التي كان يتمتع به، والشرف الرفيع الذي كان عليه، وأن يعالج حالة الانتكاس الذريع في نفسية الأمة وإرادتها، ويعمل على استنهاض تلك الإرادة الخائرة المأسورة للدينا لتتجه إلى الله بمقدار، ويحفظ الدين من الحملة المنظّمة للتحريف والتشويه، ويعود بالأمة إلى شيء من رشدها، وكل ذلك في وسط من الحصار الفكري والنفسي والأمني والسياسي، وحالة الرعب التي كان يفرضها النظام.
وقد استطاع الإمام عليه السلام أن يؤسس لحركة وعي جديدة وصحوة في فكر الأمة وضميرها ويمهد لحركة الإمام الباقر عليه السلام العلمية الواسعة، ويصون الإسلام من الضياع مستفيداً من حرارة دم سيد الشهداء التي لا تنطفئ، ومن إمكانات العصمة الهائلة. وما كان لتلك المآسي والتحديات من رجل يستطيع أن يعالج الوضع برغم كل ما كان تفرضه من ضغوط، إلا المعصوم عليه السلام.
أقوياء ولكن:
يصرُّ كثير من الحكومات في البلاد الإسلاميَّة العربية وغير العربية على أن تكون قويَّة بالغة القوّة، مهيبة شديدة الهيبة في صدور شعوبها، تملأ قلوبها رُعباً وهلعاً، نافذة الكلمة بلا نقاش، ماضية الحكم بلا إبداء ملاحظة، صارمة السّيف على الرّقاب، بطّاشة عند أي مبادرة احتجاج على ظلم فاضح.
ولكنَّ الشعوب تغيّرت بعض تغيّر بعد طول غيبوبة وسبات فلم تبقَ صالحة بما يُريح المتسلطين كلّياً كما كانت لأن تسمع من الحكومات وتنفّذ ما يراد منها دون أدنى مناقشة، وأن تُسرق وتنهب من دون اعتراض، وتُقتل وتعذّب من دون أن تثأر لنفسها على الإطلاق، وأن تباع ويباع معها دينها وعزّتها وانتماؤها وكلّ مقدّساتها لحساب الحكّام من دون أن تنبس ببنت شفة، وأن تُهدى أرضها وثرواتها لأعدائها من غير أن يكون لها رأي، وأن يتصرف فيها الحاكمون تصرّف المالك في ملكه ومن دون إرادة، وأن تَعتبر الحكامَ ملاّكاً حقيقيين وهي شيئاً من المتاع.
وإنّ الشعوب الإسلامية وبعد تعطيل طويل لشعورها بذاتها الحضارية وانتمائها الكريم للإسلام العزيز، وانفصالها الكبير في مساحة واسعة من حياتها عن خطّ هذا الانتماء، وذلك بفعل السياسات الطاغية الباغية التي سلكت بالأمة طريقاً غير طريق الإسلام بدأت ولجهد رساليّ متواصل وأحداث إسلامية ضخام لا تخفى يعود لها الشعور بالذات الحضارية الكريمة، والانتماء الأصيل لأعظم دين يعتني بالحقّ وروح العزّة والكرامة، ويقدِّر الإنسان أحسن تقدير. هذا في وسط عالمي بدأ رفضُه لظلم الحكومات الذي عانى منه طويلاً يشتد متعاظماً معبّراً عن نفسه بأساليب متفاوتة منها صالح وغير صالح، عقلائي وغير عقلائي، عادل وظالم.
وهذا الواقع الجديد في بعده المتصل بالأمة، وبُعده العالمي يخلق حالة من المفارقة والتباعد المتسع بين ما عليه الأنظمة الرسمية الظالمة، والغطرسة التي تتصف بها وما عليه الشعوب من إحساس مرٍّ بالظلم، والتهميش، والإهانة، وسلب الحقوق، والسحق والمحق.
وعودة شريحة واسعة من الأمة الإسلامية إلى شيء من أصالتها ومفاهيم دينها وقيمه، والتمسك بالعزّة الإيمانية التي يوحيها، والحقوق الإسلامية والوطنية والإنسانية التي قررها يجعل المسافة بين تفكير الحكومات والتي تصر على الاستئثار والجشع ونهب ثروات الشعوب والمتاجرة بها واسترخاص قيمتها ومصادرة رأيها وكلمتها، ومضايقتها في أمور دينها ودنياها والسياسة العملية المركّزة لتنفيذ كلّ هذه المساوئ وبين الحالة المتنامية لوعي الأمة وإحساسها العميق بذاتها وكرامتها، وإيمانها الشديد بحقوقها مسافة شاسعة تزيد تباعداً كل يوم، لتتفاقم بصورة مستمرة ومتصاعدة من كل المشاكل والأزمات المترتبة على هذا التباين.
والأنظمة الرسمية عاجزة عن أن تعود بالأمة عن خطّ وعيها وشعورها بذاتها وقيمتها وأصالتها إلى الوراء، وعاجزة كذلك عن تصحيح نظرتها لطبيعة العلاقة بينها وبين شعوبها من أنها علاقة الراعي لحقوق الشعوب المؤمِّن لها، الساعي في الحفاظ عليها وتثبيتها، وليست علاقة القويّ الناهب للضعيف، والمتسلط الغاشم المستحلّ لكل شيء من أسيره، والسيد المطلق بالعبد الذليل.
وهل تعمد الحكومات إلى أن ترحِّل شعوبها أو تقضي عليها وتستبدل عنها غيرها من شتى بقاع العالم لتُبقي على سياستها؟ لو استطاعت لفعلت، ولو فعلت ما استقام لها أن تستمرّ على سياستها لأنك لا تجد شعباً واحداً من الشّعوب المتحضّرة بمستوى البهائم أو العبيد والإماء لا يرفض الظّلم والذّل والهوان.
وماذا بعد ذلك؟ ليس شيء من بعد ذلك إلاّ أن تُعدِّل الأنظمة الرسميّة من سياستها وتعترف بحق الشعوب وحرّيتها وإنسانيتها وكرامتها، وأن ليس لها أن تحكم إلا بصفة النيابة عن الشعوب، والنيابة لا تتم إلا بالرِّضا ابتداء وعلى مستوى الاستمرار.
وهذه الحكومات المستأسدة ضد شعوبها ضعيفة متخاذلة فاقدة للحيلة مستسلمة أمام إسرائيل وإرادتها.
كانت الأنظمة العربية تُكثر القول المكرَّر بأن فلسطين والقدس هما القضيّة الأولى للأمّة العربيّة. والقضيّة الأولى والمركزيَّة والثابتة لا يساوم عليها ولا تُضيَّع ولا تُنسى ولا تُقَّدم على حسابها التنازلات.
وقد توالت الانسحابات عن الالتزام بهذا القول، ودخلت الأمة رسميّاً في خارطة الطريق لسدّ الطريق، أو ليؤدي إلى تحقيق ما خططت له إسرائيل في هذه القضية، وبدأ التنازل بعد التنازل، والتبرير للتخاذل بعد التبرير، وسجَّلت الأنظمة على نفسها ضعفاً مخجلاً أمام الأمّة والعالم إن لم يكن خيانات واضحةً من البعض وتآمراً على الأمَّة.
وفي كل مرة من المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة تسدُّ إسرائيل الطّريق، وتتظاهر أمريكا بالضغط عليها ببعض الكلمات لتعلن للعرب من بعد ذلك بأنَّ الإرادة الإسرائيلية أقوى من أن تلين، ليستجيب العرب بتنازل جديد للإشارة الأمريكية لا ضغطها الذي لا تحتاجه في التعامل مع هذا الطرف الذي حكم على نفسه بخلوِّ اليد من كلّ الأوراق الضاغطة على إسرائيل والوسيط الأمريكي المخلص لها. وكأنَّ العرب لا نفط بيدهم، ولا موقع ذا أهمية استراتيجية تحتاجه أمريكا، وليست لهم مساندة تعتمد عليها في ما تريد الوصول إليه في قضايا الأمة، ولا يمثلون سوقاً رابحة لأمريكا في السلاح والبضائع الأخرى، ولا أرصدة لهم اسماً في المؤسسات المالية الأمريكية لتنشيط الاقتصاد الأمريكي وتغذيته. فالأنظمة الرسمية في الأمة أقوياء ولكن ضعفاء؛ أقوياء عليها، ضعفاء أمام إسرائيل.
إيمان وإرادة:
شيخنا العكري تمتّع بإيمان وإرادة؛ إيمان قوي بالإسلام، وإرادة ماضية في طريقه. وكانت حيويته كبيرة، ونشاطه نشاطاً دفّاقاً، وله نَفَسٌ طويل في العمل، وصبر على المقاومة.
رأى في الأمر بالمعروف والنهي عن النمكر وظيفة تستحق العناء والعَنَتَ والحياة. وواصل هذا الطريق بعد أن جرّب صعوبته، وذاق طعم تحدّياته، وتلقّى دروساً قاسية رآها حلوة مستساغة وهو يخوض معاركه، وإنما حَلَت له الدروس القاسية في ظل إيمانه ورساليته.
ومن شبّهه بأبي ذرٍّ في إقدامه وجرأته وإصحاره بالحقّ وصراحته لم يُخطئ التشبيه.
من هو رامسفيلد؟ من هو السيد السيستاني؟
سوءا ذكر رامسفيلد في مذكِّراته أنه اشترى موقفاً سياسيّاً من سماحة آية الله العظمى السيستاني أو لم يذكر ذلك، وسواء كذّب هو نفسُه ما نُسِب إليه أو لم يكذِّب فهو خبر لا يمتلك شيئاً من المصداقية، وفاقد للقيمة، ولا اعتبار له في نفسه.
رامسفيليد خادم أمين للسياسة الأمريكية يأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها، وهو مستعد لأن يقول ما تريد لأن فلسفته في الحياة من فلسفتها، وهي الفلسفة النفعية، وتقديس اللذّة الماديّة. وأمريكا لا ترى في فقهاء الإسلام المخلصين إلا سدّاً منيعاً دون تحقيق مآربها في بلاد المسلمين، ومن مصلحتها القضاء المعنوي على أي شخصيَّة مؤثرة من شخصياتهم. فاستهداف سماحة السيد السيستاني الذي عمل كثيراً على حفظ وحدة العراق، وأصرّ على أن يكون وضع الدستور العراقي من خلال العراقيين بلا تدخّل أجنبي منسجم جدّاً مع المصلحة الأمريكية، وتوجهات رامسفيلد نفسه(5).
ذاك هو رامسفيليد، ومن هو السيد السيستاني؟ هو آية الله العظمى المجتهد المتضلِّع في العلوم الإسلامية المقلَّد من الملايين الذين يرجعون إليه في الأحكام الشرعية في كل مساحة حياتهم، المتربّي على يد الإسلام، المتخلِّق بأخلاقه، المتفاني في خدمته، الذي جرَّبته أجواء العلماء الأعلام، وأجواء الإيمان والتقوى عمراً طويلاً فاختارته مرجعاً من أعاظم مراجع الأمَّة، وقائداً من قادتها الرساليين على ضوء خبرتها وتجربتها.
رجل تجاوز به العمر أن يفكِّر في لذائذ الحياة الماديَّة وزينة الحياة، وأن يدّخر لمستقبل الأيام شيئاً، وتحت يده ميزانية من أكبر ميزانية الحوزات، ولا رقيب عليه في تصرفاته فيها إلاّ الله، وحياته متقشِّفة، ومسكنه متواضع، وجِلسَته متواضعة، وهو حبيس بيته في الغالب.
رجل تذوّق حلاوة الإيمان والعلم، واستقى منهما، وانشدَّ إليهما، ووجد فيهما غنى عن حياة المترفين، واختارهما في شبابه على الدُّنيا، والأفواج تتدفّق على مجلسه تشرّفاً بلقياه.
رجل هذا وصفه بغناه النفسي والإيماني والاجتماعي والمالي وتاريخه الشخصي الكريم وزهده يسيل لعابه لمائتي مليون دولار، وينسى وزنه ووزن دينه وأمّته ووطنه وكل مقدّساته فيسرعُ لاحتضان رامسفيلد خاشعاً، ويقبّله تودّداً واستعظاماً، ورامسفيلد هو الذي طلب المقابلة، وتمنّى أن يستجاب لطلبه؟!(6)
حدّث العاقل بما لا يليق، فإن صدّق فلا عقل له.
ومن هو محمد جواد المهري الذي ادُّعي أنه وكيل السيد في الكويت وأنه الواسطة في نقل رغبة رامسفيلد في المقابلة، وهو شخص لا واقع له؟!
وأمَّا محاولة ترويج الخبر الكاذب، ونفخ الروح فيه لِتَعْدِلَ بالملايين التي تقلِّد السيد وتحبه وتحترمه عن شيء مما هي عليه فهي محاولة يائسة تعمل عليها أقلام وألْسِنَةٌ لها حقد على الإسلام عامة، أو على مذهب أهل البيت عليهم السلام. ومتى جُنَّ المؤمنون أو سفِهوا لهذا الحدّ الذي يجعلهم ينفصلون عن حماة دينهم لكلمةٍ من رامسفيلد على تقدير أنه قالها، أو تهريج من حاقدين يهمّهم استغلالها، ويتربّصون بالإسلام كل متربص؟!(7)
وأخطر كلمة قيلت في هذا الموضوع وأجرأها على حرمة المؤمنين ما عبّر به بعضهم عن سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني فيما يفهم من سياق حديثه بأنه أحد الرهبان. وهو إعلان لرأيه في السيد وكل مقلِّديه وطائفته المؤمنة بأن مذهبهم من مذاهب النصارى، أو إعلان عن علم اختصّ به هو دون غيره من كل الناس بارتداد هذا العالم التقي الورع القدوة(8).
ولا كلام لنا مع الشخص على الإطلاق، ولا نحرِّض على أحد أبداً؛ ولكن أين الدولة كلّها بما فيها من رقابة وجهات حريصة على الأمن ووحدة الشعب، وبمن فيها من مسؤولين كبار يحاسبون البعض على كل كبيرة وصغيرة؟!
ونقول بحكم العلاقة الخاصّة بين القائل والحكومة وسياستها بأنه استفزاز دولة، وهجمة دولة، واستخفافُ دولة، وعداء دولة، وحنق دولة، وتكفير دولة لطائفة كبيرة من المسلمين.
وإن السياسة الأمنية المبالِغة في التشدّد، والموجَّهة توجيهاً خاصّاً لتُشجِّع على خطابات البعض المتجانسة معها.
ويسأل ماذا يساوي حرق ألفِ إطار في شارع وهو أمر لا نرضاه من كلمة تتهم واحداً من أكبر شخصيات الأمة وتقتدي به الملايين من المؤمنين ويمثّل وجوداً دينياً عملاقاً بالارتداد من غير حقٍّ، وتفتح الباب بحسب طبيعتها لزلزالٍ مدمِّرٍ لا تُعرف حدوده؟!
كما يُسأل ماذا كان سيكون لو قال هذه الكلمة قائل لا تصادقه ولا تحابيه الحكومة فيمن ترضاه هي وتؤيده؟! على أنَّ هذه الكلمة وأمثالها مرفوضة منا أيّاً كان قائلُها، وأيّاً كان من قيلت فيه وهو بريء.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعزَّ كلّ من يعِزّ الإسلام بعزّه، وأذلّ كلّ من يذل الإسلام بعزّه، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدّين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين، وأبطل كيد كلّ من أراد بالإسلام سوءاً، وبالمسلمين إضراراً، وبأمة الإيمان الوقيعة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج2 ص141.
2- فصار أن لابد من تعميق الطريق الموصل إلى الغاية.
3- سورة العصر.
4- 1/ الطلاق.
5- فلو قال الكلمة لا نستغرب من قوله الكلمة. هتاف جموع المصلين بـ(الموت لأمريكا).
هذا وكما تعلمون بأن مكتب رامسفيلد في الكويت قد نفى نسبة هذه الكلمة إليه.
6- ما أكبرها من مفارقة.
7- وأقول بأن المستهدف ليس سماحة السيد وحده، وإنما المستهدف الدِّين، وكلّ حماته الحقيقين المخلصين من فقهاء وعلماء، ومجاهدين .
8- فهو في هذه الكلمات بعد أن كان آية الله العظمى صار راهباً نصرانياً! أو أنه بحكم مذهبه فهو نصاني أصلا.
9- 90/ النحل.