خطبة الجمعة (424) 6 ذو القعدة 1431هـ – 15 أكتوبر 2010م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الصدقة
الخطبة الثانية: السياسة والإسلام
إذا أرادت السياسة أن تختطَّ لنفسها طريقاً آخر فعليها على الأقل أن لا تشوِّه مفاهيم الإسلام، ولا تكذب عليه، ولا تطمس رؤيته، ولا تُحكمَ القبضة على رقبته، وتتدخل في كلّ شؤونه، وتتحكّم في كلّ مفاصله، وتمسخ هُويّته.
الخطبة الأولى
الحمد لله البعيد بُعداً لا يُنال؛ فلا يُساوَى جلالاً، ولا يُلحق جمالاً، ولا يُدانى كمالاً، وليس كمثله شيء وهو الغنيُّ الحميد. أقربُ قريب حيث لا يفوت علمَه شيء، ولا يقومُ بغير قدرته شيء، ولا يمنع تصرُّفه شيء. لا تحولُ بين قدرته والأشياء قُدرة، ولا يحجز عن علمه حاجز، ولا يسبقه سابق، ولا يُعطِّل تدبيره معطِّل، ولا يفصله فاصل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين ولو كره المشركون.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله تُقاةً تخرج النّفس من سوئها، وترتفع بها عن حضيضها، وتُعلي شأنها، وتسمو بدرجتها، وتنقلها من الظّلمات إلى النّور، وتنقذها من الخسار والبوار. فمن اتّقى اللهَ حقّاً لم يأتِ سوءاً، ولم يغشَ قبيحاً، ولم يواقع رذيلة، وأبت نفسه إلا الزّكاة والسّموّ والصعود.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة، وتب علينا جميعاً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا ممن رضي النّفسَ الأمّارة بالسوء ناصحاً، والشيطانَ الرجيم دليلا، والهوى المضلّ قائدا، واجعلنا في منجىً من كلّ سوء، وحصن من كلّ ضلالة، واحفظنا من الزَّلل، ولا تبتلنا بالملل والكسل يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزّاء فالحديث في موضوع الصدقة:
الإسلام نظام شامل يستوعب كلّ قضايا الرّوح والبدن مما يدخل بيانُها على الوجه الحقّ الصّحيح في بناء سعادة الإنسان دُنياً وآخرة، وإقامة المجتمع الإنسانيّ الأخويّ المتماسك الناهض القويّ.
وللإسلام نظامه الاقتصاديّ العادل المتكامل والذي يُمثِّل حَلْقَة قويّة من حِلَقِ نظامه العامّ الشامل.
وهذا النظام الاقتصادي المتميّز تُسهم في انجاحه عقيدةُ التوحيد، واليوم الآخر؛ فعقيدةُ التوحيد تُنشئ هذا التصور الصحيح وهو أنَّ المال مال الله، وتصرُّف الإنسان فيه يجب أن يتبعَ إرادة المالك الحقّ العدل الرَّحمن الرَّحيم، والذي كلّ العباد عياله. وعقيدة اليوم الآخر تضمن لكلِّ إحسانٍ أجرا، ولكلّ بذلٍ ثوابا، ولكلّ عدلٍ جزاء لا يضيع عند الله عزّ وجلّ، وإن ضيّعه الناس.
وتؤدّي هذه العقيدة والرّوح العبادية النَّشِطة عند الإنسان المسلم دورا كبيراً في تنشيط أعمال البرّ والإحسان المتصلة بالمال والصّدقة والإيصاء بالثُّلُث، ورعاية الأيتام، وإعالة عدد من الأقارب(1) مما يُسهم بدرجة واضحة في إنجاح النّظام الاقتصادي المعتمِد على الإسلام إلى جنب الوحدات الأخرى في هذا النّظام كتوزيع الثروة الأساس توزيعاً عادلاً غيرَ معطِّل، ولا مسبّب لنظام الطبقات المتفاحشة التفاحش الواسع.
والتناول هنا إنما هو لموضوع الصدقة.
والصدقة منها واجب ومستحب وقد نال كلٌّ منهما اهتماماً إسلاميّاً كبيراً، وتناوله الحثُّ الكثير. والترغيبُ في مستحبّ الصدقة بليغٌ جدّاً فضلا عمّا هو واجب.
وللصّدقة دور واسع في قضاء الحاجات المستورة والطّارئة المستعجلة التي لا يطّلع عليها في العادة إلا القريب الحميم، والجارّ الملاصق، والصّديق القريب، وهي حاجات لا يتحمّل قضاؤها تريُّثاً، ولا يسمح بإجراءات رسميّة معقّدة، وسلسلة من الترتيبات الطّويلة، ورفعِ الخبر بها ودراسته.
وفي الصّدقة مواجهة لحالة الطّوارئ، وشُحّ الميزانية العامّة، أو شُحّ الحكومات، وحالةٌ من التكافل الاجتماعي الذي لا يُسلمُ محتاجاً إلى مسيس حاجته، وضرورات الحياة. ويبلغ من هذه الحالة أنَّ إسعاف الفقير بما يدفع الحاجة المهلِكة واجب اجتماعي لابُدّ منه وجدت زكاة واجبة أم لم توجد.
ولندخل البحث في موضوع الصَّدقة على ضوء النصوص:
الصدقة وصلاح الذات:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا…}(2).
ذاتُ الإنسان مبتلاة بالحِرص على الدُّنيا، والشُّحّ بها مما يصرفها عن طلب الكمال، ويُعطِّل في الروح القدرة على النضج والسمو، ويعيقها عن النموّ والازدهار، فتحتاج إلى تطهير وتنقية تتهيأ بها إلى النموّ والزّكاة.
وتفيد الآية الكريمة أن أخذ الرّسول صلّى الله عليه وآله بما أنه ولي الأمر من قبل الله سبحانه للصدقة الواجبة من أموال الأغنياء فيه تطهير لنفوسهم وإنماء وصلاح ورشد وزكاة لها.
إنَّه عملية انتشال لهذه النّفوس من سيطرة هوى المال، واتخاذِه ربّاً من دون الله، وموئلاً ومعتمداً.
الصدقة شرفاً وأثراً:
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ…}(3).
يُعطي الغنيُّ الصدقة للفقير الذي يتسلمها منه، بينما الآية الكريمة تقول عن الله عزّ وجلّ بأنه الآخذ للصدقة بلحاظ أنه الآمر بها، وأنها جاءت للفقير امتثالاً لأمره، وأنه متكفِّلٌ دون الفقير للجزاء عليها جزاءاً موفوراً لا يتعرّض لضياع من قبله سبحانه أبداً.
فالتعبير بأخذ الله الصدقات يفيد التزامه عزّ وجل بمجازاة المعطي، وطمأنةً له وبشرى بعظم الثواب وضمانه، إلى جنب التكريم الهائل الذي يُشعر به هذا التعبير لدافع الصدقة حيث كأنَّ الله تبارك وتعالى هو المتسلِّم لها من يده.
وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام:”إنّ الله تبارك وتعالى يقول: ما من شيء إلاَّ وقد وكّلتُ من يقبضه غيري إلا الصّدقة، فإني أتلقّفها بيدي تلقّفاً…”(4) كما جاء عن الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله:”خَلَّتان لا أُحبّ أن يشاركني فيهما أحد: وضوئي فإنه من صلاتي، وصدقتي فإنها من يدي إلى يد السائل، فإنها تقع في يد الرَّحمن”(5).
ومثل هذه التعابير المجازية ترفع من شأن الصدقة، وتُعلي من مكانتها، وتُكرِّم مُعطيَها فوق كل تكريم، وتطمئنه بأن تعامله مع أغنى غنيٍّ وأكرمِ كريم. (6)
وأما عن أثر الصدقة فقد جاء فيه:
عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أرض القيامة نار ما خلا ظلّ المؤمن، فإن صدقته تظله”(7).
وعن علي عليه السلام:”الصدقة جنّة من النار”(8).
وعن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور(9)، وإنما يستظلّ المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته”(10).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”الصدقة تدفع البلاء وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أُبرم إبراماً(11)، ولا يذهب بالأدواء(12) إلا الدعاء والصدقة”(13).
وكأن المعني بأنه لا يُذهب من العبادات(14) بالأمراض إلا الدعاء والصدقة، وإن كان لكلِّ العبادات أثرها الطيّب وشأنها الكبير، وثوابها العظيم، وخصوصياتها المتميّزة.
وعنه صلَّى الله عليه وآله:”الصدقة تسدّ سبعين باباً من أبواب الشر”(15) وقد يكون هذا الشر الذي تسدّ الصدقة بابه مرضاً أو فقراً أو أيّ نائبة من النوائب.
وعن الباقر عليه السلام:”البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين مِيتَة سوء”(16).
وهي آثار مُطمِعة، ويكفي في تحقيقها عند الإخلاص المبلغ الزهيد ممن لا يسعه الكثير(17).
وقد شدَّدت أحاديث كثيرة على أثرين بارزين مهمّين من آثار الصدقة هما مداواة الأمراض، ومعالجة الفقر وزيادة الرزق. وهذان مطلبان يأخذان من همِّ الإنسان الكثير، ومن جهده وسعيه ومحاولته، ويمثّلان له أمنية كبيرة.
وقد جاء عن علي عليه السلام:”استنزلوا الرزق بالصدقة”(18)، “إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة”(19)، وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”داووا مرضاكم بالصدقة”(20).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجميعن، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا اليقين، وخُلُق النبيين، واجعلنا من المحسنين، وأنظمنا في المكرمين في الدنيا ويوم الدين فإنّك الغنيّ الكريم، الرّحمن الرّحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رضي لعباده الإسلام ديناً، ولم يرضَ لهم عنه بدلاً، وأنزل الذِّكر وكان له حافظاً، وهو المظهِر لنور دينه ولو كره المشركون. الحمد لله الذي لا تنقضي آياتُه، ولا تنتهي بيّناته، ولا يُغلب على أمره، ولا يُمحى دينُه، ولا يقاوم قهرُه، وهو العزيز الحكيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنَّ التقوى دواء داء القلوب، وطبّ الأرواح، وعلاج النّفوس. ولا يسود الحقُّ في الأرض، ولا يقوم العدل في الناس، ولا تأمن السبُل، ولا تهنأ الحياة، ولا تستقيم الأمور، ولا تنبني الثِّقة، ولا تسلم الأعراض، ولا تُحلُّ مشكلات المجتمعات في غياب التّقوى.
ولا تقوى حين تُجفَّف منابع الإسلام، وتُقيّد كلمته، وتُغيَّب تربيته، ويكون أسيراً لأهواء السياسة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وأصحابنا ومن علّمنا علماً نافعاً في دين ودنيا من المؤمنين والمؤمنات، ومن أحسن إلينا منهم، وتب علينا جميعاً إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا تسلبنا نعمة الإيمان، ولا تحرمنا من زاد التقوى، ولا تجعل قلوبنا مرتعاً للشيطان، ولا مسكناً للفجور، واجعل حياتنا كلّها قائمة على التقوى، وتوجّهنا إليك، وحبنا لك، ورجاءنا فيك، ومراقبتنا لسخطك ورضاك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا قائما.
أما بعد أيها الإخوة الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات:
فإن أمر الدِّين ألزمُ أمر، والإبقاءَ على صفاء الإسلام وصدقه وأصالته أهمُّ وظيفة ولا يسع المسلمين أبداً أن يفرِّطوا في ذلك في حال من الأحوال ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وإنَّ الإسلام كما أراد الله سبحانه لسيدُ السياسة وهي تابعة له، لا أن للسياسة السيادة على الإسلام فيكون تابعاً لها. ومن قدم فهماً آخر لهذه العلاقة بين السياسة والإسلام فقد افترى، وهو إنما يتبنى فهماً يبرأ منه دين الله.
وإذا أرادت السياسة أن تختطَّ لنفسها طريقاً آخر فعليها على الأقل أن لا تشوِّه مفاهيم الإسلام، ولا تكذب عليه، ولا تطمس رؤيته، ولا تُحكمَ القبضة على رقبته، وتتدخل في كلّ شؤونه، وتتحكّم في كلّ مفاصله، وتمسخ هُويّته.
من المغالطة المضحكة جدّاً أن تتذرع السياسة في تدخّلها في وظيفة المسجد وشأنه الرّسالي باسم الحفاظ على الحريّة الدينية، وحماية الدِّين، والحفاظ على قدسيته والذّود عن كرامته، والحرص على أداء رسالته وكأنّ أئمة المساجد والقائمين على أنشطته شيوعيون متمحِضون للشيوعية أو علمانيون خالصون.
وكأنّ علماء المساجد أجهلُ فئات المجتمع بالإسلام ولذلك كانوا هم الأحوج لدروس السياسة في الدين، وتبصيرها وعظاتها.
ويوم أن تبع المسجدُ السياسة، وأحكمت السيطرة عليه، وفي مفصل من مفاصل تاريخ الإسلام كانت خطبة الجمعة تتولّى شتم خليفة من خلفاء المسلمين لا يشكّ منصف في أحقّيته للخلافة، لا يقدّم عليه أحد رجلا في التقوى وهو علي بن أبي طالب عليه السلام.
لقد فرضت السياسة شتم أمير المؤمنين عليه السلام وجعلت ذلك ركنا من أركان خطبة الجمعة لسنين متمادية. هذا ما تفعله السياسة في المسجد، ولو اقتضت مصلحة تلك السياسة لعن كل الخلفاء الذين أعقبوا في الحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله لما توقّفت عن ذلك.
والسياسة لا تثبت على حال، ومصلحتها دائماً في تقلّب، وصديق اليوم فيها عدوّ غداً، وعدو اليوم صديق بعده، وتدخّل السياسة الخارجيّة للبلدان المعادية للإسلام في شؤون السياسة الداخلية المحلية لكثير من البلاد الإسلامية اليوم ليس بالأمر الخفيّ، والاستجابة لهذه التدخّلات كذلك ليست قليلة.
إذا أريد لنعم السياسة أن تكون نعم المسجد، وللائها أن تكون لاءاً له احتجنا لمسجد من نوع آخر يتلوّن بلون السياسة، ويشرّق إذا شرّقت، ويُغرّب إلى غرّبت، ويبيح ما تبيح، ويُحرّم ما تحرّم. وكم من مباح في السياسة هو محرّم في الدين، وكم من مباح في الدين هو محرّم في السياسة، وكم واجهت السياسة من أحكام الدّين أشدّ مواجهة وأقساها؟!
وسيكون على المسجد إذا دخل في تبعيَّة السياسة، وأُخضع لها أن يمدح من تمدحه، وأن تذمّ من تذمّه وإن كان الممدوح عدواً من أعداء الإسلام من الخارج، وإن كان المذموم عالماً تقيّاً من علماء الداخل.
ومسجد هذا شأنه يبرأ منه الإسلام كلَّ البراءة(21).
المسجد ليس للفوضى الاجتماعية، ولا لفُرقة المسلمين، ولا لزعزعة أمن الناس، ولا لإشاعة حالة العنف، ولا لإحداث القلاقل، وهو من جهة أخرى ليس لإقرار أي انحراف عن الدِّين والذي قد تقع فيه السياسة، ولا لتأييد الظلم، ولا مباركة الفساد، والتمييز الجائر، ولا للموافقة على القوانين المخالفة للشريعة.
إنّه لبيان الحقّ، وتعليم الدّين، والتربية على الإسلام، وتركيز القيم الإلهية، وترسيخ الأخلاق الكريمة، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتوجيه لما فيه رضى الخالق عزّ وجلّ، ولوحدة المسلمين وتراصِّهم واجتماعهم على الحقّ والهدى، وما فيه صلاح دينهم ودنياهم وقوّتهم وعزُّهم واستقلالهم وظهورهم.
والسياسة في واقعنا المعاش هي المسؤولة في عدد من بلدان المسلمين عن ممارسة المسجد الذي تضع يدها عليه لإثارة الفتنة في الأمّة، واستعداء بعضها على بعض، وإشاعة لغة التكفير والشتم واللعن للمسلمين، والمنادة بإباحة أموالهم ودمائهم(22).
والسياسة هي المسؤولة عن تحريك شخص هنا أو شخص هناك، من هذا المذهب أو من ذلك المذهب لإطلاق بعض الكلمات المفجّرة لأوضاع المسلمين، المعمّقة للفتنة، الملهبة لها.
الدّول التي تضرب بكلمة الدّين عرض الحائط إذا خالفت سياستها وقوانينها ومشاريعها وطموحاتها تكون هي المأمونة على المسجد، المحافظة على وظيفته الأصيلة، الحريصة على بلوغه هدفه الرسالي؟! علينا أن نؤمن باجتماع الضدين إذا أردنا أن نصدِّق بذلك.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا مؤتمرين بأمرك، منتهين بنهيك، قاصدين رضاك، موفّقين لطاعتك، داخلين في رحمتك، معافين من بلائك، راضين بقضائك وقدرك، فائزين بجنّتك والكرامة لديك يا حنّان يا منّان، يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، يارحمان يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وغير ذلك من مثل الوقف.
2- 103 التوبة.
3- 104/ التوبة.
4- بحار الأنوار ج93 ص 134 ط2 المصححة.
5- الخصال للشيخ الصدوق ص 33.
6- الرسول صلّى الله عليه وآله يحرص على أن يوصل الصدقة للفقير بنفسه ليكون تسلّم الله عز وجل لهذه الصدقة من يده صلّى الله عليه وآله، وبذلك يكسب شرفاً فوق كلّ شرف.
7- الكافي للشيخ الكليني ج4 ص3.
كل أرض المحشر ملتهبة، وكلّها لظى، فأين المفرّ؟ المفر إلى رحمة الله، ورحمة الله هنا في هذا الحديث من مواردها الصدقة. صدقة المؤمن في الدنيا هي مظلّته يوم القيامة، يوم المحشر.
8- وسائل الشيعة ج6 ص258.
9- حرٌّ ينال الرّوح والذوات، معنى الذات.
10- كنز العمال ج6 ص348.
11- هو إبرامٌ يتوقّف نقضه على دفع الصدقة، فإن دُفعت تم النقض، وإن لم تُدفع أنفذ القضاء. هو كامل من كل الجهات، كامل المقتضي، منتفي المانع، إلا مانع الصدقة، أو أن الصدقة رافع له.
12- أي الأمراض.
13- بحار الأنوار ج93 ص139.
14- هناك علاجات طبيعية، علاجات ماديّة، وهناك علاجات روحية. العلاج الروحي في العبادة للأمراض منحصر في الصدقة والدعاء حسب الحديث.
15- بحار الأنوار ج93 ص137.
16- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 141.
17- هذه العطاءات الكبيرة قد تترتب على مائة فلس صدقة؛ حيث لا يكون المنع من الأزيد شحّاً وبخلاً.
18- نهج البلاغة ج4 ص34.
19- نهج البلاغة ج4 ص57.
الإملاق: الإفتقار، الفقر، الإعواز. (معجم الغني).
20- الكافي ج4 ص3.
21- هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
22- أليست ممارسة المسجد الذي تضع السياسة يدها عليه هي هذه الممارسة؟!
23- 90/ النحل.