خطبة الجمعة (414) 19 رجب 1431هـ – 2 يوليو 2010م
مواضيع الخطبة:
*حديث الآخرة *المال والديمقراطية *أمانة الأولاد
والشعب الذي يطالب بالديمقراطية ثمّ يقبل برشاوى الانتخاب يسخر من نفسه ويهزأ بها؛ فأي تمثيل شعبي إذا كان المال الحكوميّ وشبهه هو الذي يوصل أصحاب المواقع إلى مواقعهم؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بيده بدأ كلّ شيء ومصيره، وسيره وبلوغ غايته، ولا معدل لشيء عن سنّته وتكوينه، ولا يدَ لأحد في تدبير شيء غيره سبحانه، ولا هدي إلا من عنده، ولا توفيق إلا منه، ولا حول ولا حول قوة إلا به. له الأمر من قبل ومن بعد وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم محيط.
أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيرا.
عباد الله اتقوا الله، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون؛ فإنَّ من لم يتّقِ أفسد، وأول ما يفسد الفاجر والعاصي نفسه، وأوّل ما يوقع الخسارة بها، و أبين خطر لفجوره عليها، وأنّ ما ينال الحياة والناس من شرّه لخطير، وإنّ ضرره عليهم لبالغ. وإذا اتُّخذ الفجور قاعدة قوّض الأمن، وهدم الحياة؛ فالأمن والحياة يحتاجان إلى خُلُقٍ وضمير، ولا خلق ولا ضمير عندما تعمُّ المعصية، ويسود الفجور؛ والمعصية والفجور نفسهما تحطيم للضّوابط، وهتك للحرمات، وخرق للحدود، ونسف للحقوق. وأيُّ أمن ، وأيّ حياة حين يكون ذلك؟! ومغبّة المعصية والفجور من سوء المصير، وفجائع الحياة الأخرى يهوّن كلّ مآسيها الكبرى في هذه الحياة.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ممن يختار طاعتك على كلّ طاعة، ولا يساوي محبّة بمحبتك، ولا ولاية بولايتك، ويبيع كلَّ شيء من أجلك، ولا يرضى عنك بدلا، ولا يبتغي عنك متحوّلا، ولا يرضى إلا بما يرضيك، ولا يغضبه إلا ما يغضبك، ولا يقرُب شيئا مما فيه سخطك.
ربّنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلّ على محمد وآله يا أرحم الراحمين، وخير الغافرين.
أما بعد فهذا حديث من حديث الآخرة:
الآخرة يوم القيام، ويوم البعث، ويوم حشر الخلائق حيث يُجمعون جمعاً يُساقون إليه، ويُرغمون عليه، وهم على جمعهم الهائل الذي لم يُشهَد جمعٌ مثله لا يُغني أحدٌ منهم عن أحد شيئا، ولا يملكُ له دفعاً ولا منعا.
إنَّ جمع يومُ القيامة وهو أكبر جمع لا يُشكّل مجتمعا يعيش علاقات التعاون والتناصر ويقف الموقف الموحّد أمام الأخطار كما تعهده مجتمعات الدّنيا، فكلٌ يحمل ثقله بنفسه، ويعيشُ معاناتهُ وحده، ويشغله همُّه عن غيره، وتصرفُه مصيبته عمّن سواه.
إنّه اليوم الذي لا استظهار فيه لعبدٍ بقوّة، وليس فيه موقعٌ لغرور. إنّه يوم ضعف وتضعضع وذُلٍّ واستكانة واستسلام وخشوع، ولا أثر فيه لسُلطان موهومٍ غيرِ السُّلطان الحقّ الكامل الشّامل سلطانِ العزيز الجبّار القهّار.
يومٌ قال عنه سبحانه {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }(1).
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}(2).
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(3).
يومٌ لا مكان فيه إلا لقهر الله، ولا ظهور فيه إلا لسطانه، يومٌ يخلو من الجماعات المتّحدة، والكيانات الجماعيّة الموحّدة، والجبهات المقاوِمة، والاحتجاجات الصّارخة، والأصوات المعارضة {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}(4)، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}(5).
يومٌ تسقط فيه كل وسائل الإعلام والدعاية الكاذبة والزيف والافتراء، وتزويرُ الحقائق، ولا ينفعُ فيه إلا الحقّ، ولا يجري فيه إلا الصدق.
حشرٌ عام:
ويوم القيامة يوم الحشر العام؛ وهو حشر للمساءلة والمحاسبة والوزن والجزاء(6) ويتناول كل ذي شعور وشيء من الإدراك حسبما عليه درجة شعوره، ومستوى إدراكه.
حشرٌ يشمل كلّ دابة ووحش وطير فضلا عن الإنسان والجنّ بما هم عليه من مختلف درجاتِ موجِب التكليفِ ومقتضاه.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}(7).
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(8).
وحَشْرُ ما يدبّ، والطير والوحش ليس لمجرّد الاستعراض. إنّه يومٌ لا يدع توهّماً لأحد بأنّ مع الله ملكا، أو مع أمره أمرا، ومع نهيه نهيا، ومع تصرّفه تصرّفا، يوم تغيب فيه ملوكيّة كلّ ملك، وعظمة كل عظيم، وتظهر عظمة الله متجلية لكل مخلوق.
وهو يوم العدل الأكبر، والجزاء الحقّ الذي ينفي عن خلق الكون أيّ عبثية، وأيّ باطل وإهمال. وحسبما ينساق من وظيفة الحشر يوم القيام، وما يفيده سياق الآية الكريمة الثانية من ذكر المثلية بين عالم الحيوان وعالم الإنسان في صفة الأممية(9) وما يعطيه هذا السياق من ربط بين هذا الثماثل وقضيّة الحشر، ومن عدم تفريط الكتاب في شيء، وعدم خروج شيء عنه وقد يكون المعنيُّ كتاب الأعمال وحفظها، وما يدل عليه لفظ {يُحْشَرُونَ}(10) المستعمل في ذوي الإدراك والشعور يكون المعنيُّ من الحشر في الآيتين الكريمتين الحشرَ للحساب والجزاء.
وعلمُ الله لا يخطئ كبيرا وصغيرا، ولا يتجاوزه ظاهرٌ ولا خفيّ، وعدله لا يُكلِّف نفسا إلا ما آتاها(11)، ولا يحاسبها إلا على قدر ما أنعم عليها، ولا يعاقبها إلا بما جنت على نفسها.
وكما للحيوان وزنه وحسابه، ويدخله التفاوت، فكذلك الإنسان ليس واحداً في مستواه ومواهبه ونِعَمِه وفرصه. وحسابُ كل على قدَره، ولا عقاب إلا بما يستحقّه.
ولنتذكّر أنّه رغم هول القيامة الذي لا تثبت له نفس ولا يتحمّله قلب، وتذهلُ له كلّ مرضعة عمّا أرضعت فإن هناك فئة من الناس في أمن مِنْ مسّ ذلك الهول، وفي راحة وأنس واستبشار {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}(12)، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}(13)، {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(14).
وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله:”من عرضت له فاحشة أو شهوة(15) فاجتنبها مخافة الله عز وجل حرّم الله عليه النار وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(16)”(17).
ومن النّاس من إذا انفتح إليه باب فاحشة وشهوة محرّمة عدّ ذلك فرصة الحياة التي لا تُفوَّت فباع نفسه للشيطان، واشترى اللذّة الحرام بخلود النّار. وكان يمكنه أن يأمن من الفزع الأكبر، وأن يحرِّم عليه الله النار، وتكون له عند ربّه جنتان لو رأى بعقله أنَّ ذلك الباب باب شرٍّ وشؤم وخسار(18)، وأنّ تلك الفرصة فيها مضيعة الحياة، وغضبُ الله، وقبح المصير ففرّ منها منقذا نفسه، طالبا مرضاة الله.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وقراباتنا وأصحابنا وأساتذتنا وكل مؤمن ومؤمنة أحسن إلينا إحسانا خاصا، اللهم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اكتب لنا حياةً آمنة طيبة، ومماتاً طيباً كريماً، ومبعثاً حميداً سعيداً، وجنة من فضلك ورضوانا كبيرا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يؤيس من رحمته، ولا يؤمن مكره، ولا تُحصى نعمه، ولا تُعدّ آلاؤه، ولا يُطلب ثوابه إلا بطاعته(19)، ولا ينال رضاه إلا بتوحيده، ولا يقبل من العمل إلاّ ما خلص، ومن القلوب إلا ما طهُر، ومن النّفوس إلا ما زكا، ومن الأرواح إلا ما سما، ولا يُسأل الخيرُ إلا منه، ولا يُدرأُ السّوء إلا به.
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، والأخذ بالحيطة من سخطه، ولا يُسخط الله سبحانه إلا القبيح، وما فيه فساد النّفس وخسارتها، فمن اتّقى الله نجا بنفسه من الفساد، ووقاها من الخسارة، ودرأ عنها السّوء، ومن لم يتّقِ الله فإنّما أفسد نفسه، وأضر بها، وأوقعها في الهلاك. وإنّ الله لغنيٌّ عن العالمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تُرِ النّاس منّا إلا خيراً، واجعلنا عندك خيراً مما يرانا الناس عليه ، واقبلنا وارضَ عنا بمنّك وفضلك يا أكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين محمد بن عبدالله، وصلّ وسلّم على عليّك إمام المتقين علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد فهنا عنوانان:
المال والديمقراطية:
الديمقراطية اليوم ومن ناحية فعلية وفي مناشئها الأصلية إنّما هي حكم رأس المال والمتموّلين لا حكم الشعب. فرأسُ المال هو الذي يدير العملية الانتخابية ويتحكّم في اتجاهها، ويصنع الرأيَ العامّ بما يملكه من آلة إعلامية ضخمة، ويشتري خبراء الحملات الإعلامية، ويوصل مرشّحين معيّنين إلى المواقع المؤثرة، ويفرض سلطانه عليهم بعد ذلك، ويوجّه الخطوط العريضة لسياساتهم الرئيسة، ويتدخّل في حسم المواقف، ويضغط على أراء الساسة الكبار، ويسحب البساط من تحت أقدامهم عند المخالفة.
أما البلاد التي تحكمها سلطة الفرد، وتمارس لوناً من الانتخاب في بعض المساحات من باب النّفاق السّياسي، وتلميع واقع النظام فالديمقراطية في هذه الانتخابات محدودة ومضيَّقٌ عليها، ومثقلة بالقيود التي تراعي مصلحة الحكومات، وشكليّة في الأكثر أساسا، ثم تأتي متلاعَبَاً بها، ومحكومة للمال، وشراء الذمم، والأصوات، وإفساد الضمائر.
والمال الانتخابي مصدره إمّا المرشح الفرد، وإما الحزب أو الحكومة. والقدرة الطائلة هنا إنّما هي للحكومات التي تُغدق على مرشّحيها من غير حساب لشراء الأصوات، ثمّ للأحزاب ذات الكيانات الاقتصادية المتينة، وجماعات المال الغزير. وأما الفرد لو كان مستقلاً فعلاً وواجداً للمال فمهما نافس باستخدام عنصر المال ففي العادة لا يُنافس ببذل الكثير الذي يجعله خاسراً مادياً في مقايسته بين ما يبذُل، ويتوقّع من مردود على مستوى المال.
والحكومات تُحرّك كثيراً من المرشّحين بعنوان أنهم مستقلون، وتتحمل موازناتهم الانتخابية المالية الباهظة. ولا نقول بأنَّ كل مستقل هو كذلك.
ولتعِ الشعوب بأن الداعم للحملة الانتخابية لأي مرشّح هو الذي يملك صوته ورأيه وموقفه في المجلس النيابي أو البلدي أو غيره، أما الشعب فلا نصيب له في صوته ورأيه وموقفه إلا على مستوى كلمات النفاق والرياء والمخادعة.
والحكومات لا تدعم مرشحا إلا بعد أن تشتريه، وتضمن وفاءه بهذا العقد من البيع والشراء كما تشتري الصّحفي والكاتب والخطيب والعالم وغيرَهم.
وبذلُ المال الكثير من أي مرشّح يُظهر الاستقلال يَكشف عن أنَّ أمره ليس كذلك، وأنّه قد ترشّح لحساب جهةٍ معينة.
وقبول الناخب لبيع صوته بالمال تنازلٌ عن رأيه، وامتهانٌ لشخصيّته، وخيانة لدينه وشعبه ووطنه، وسحقٌ لكرامته، وإفساد للحياة السياسيَّة، وتكريسٌ لظلم الظالم، ومظلوميّة المظلوم، وهدرٌ لحقوق الشّعب، وبيعٌ لمصلحة الأمّة، وتعطيلٌ للمطالب، وتمكينٌ للفساد، ومشاركةٌ في الجريمة، وإقصاءٌ لأهل الصّدق والإخلاص والوفاء من المواقع المؤثّرة إيجاباً على صنع القرار، وإسكاتٌ لصوت المحرومين والمقهورين، وفتحٌ للطريق للانتهازيين والاستغلاليين وبائعي الذِّمم ليشاركوا في اقتسام غنائم الأمّة، وسرقة خيراتها، وجريمة النهب والغصب والإفساد في الحكم، ومحاربةٌ للحق، ومناصرةٌ للباطل. بيع الصوت بثمنِ كبير أو صغير يعني كلَّ هذا.
وهو حرامٌ ديناً، كيف لا وهو يفرز كلّ هذه النتائج؟!
والشعب الذي يطالب بالديمقراطية ثمّ يقبل برشاوى الانتخاب يسخر من نفسه ويهزأ بها؛ فأي تمثيل شعبي إذا كان المال الحكوميّ وشبهه هو الذي يوصل أصحاب المواقع إلى مواقعهم؟!
التّمكين لباذلي المال الانتخابي من مصادره المشبوهة متاجرةٌ بكفاح الشعوب ودمائها، وتضحياتها، وآلأمها، وطموحاتها، وحقوقها، وكرامتها(20)، وكلُّ ذلك بزهيد من المال الحرام.(21) وكل كبير من المال يُباع به الشعوب وقضاياها وتضحياتها زهيد وسحت وعار ونار.
ولا يُحصِّن الناس من الوقوع في هذا الإثم(22)، وارتكاب هذه الموبقة، وبيع القيم والوطن ومصالح المستضعفين إلا خوف الله(23)، ورجاء ثوابه، والإحساس بقيمة الذات. ومن احترم نفسه لم يبعْ صوته لغبي أو لطماع أو لمشبوه. وثقل الأمانة، واحترام كرامة الإنسان وحقّه، وتقدير العدل، والحرص على إقامة الحقّ وموازين القِسْط، والوعي بألاعيب السياسية(24)، ، والترفّع عن الخيانة، والإحساس بعذابات الناس والتّألّم لها يحول بين الإنسان وبين أن يتاجر بقضايا الأمم والمجتمعات .
لقد احتقر ذاته، واستخفّ بدينه، وهان عليه أمرُ شعبه، وخان وطنَه، وكَذَب في مطالبته بالحقوق، ورفعه لشعار العدالة، وضجيجه للظُّلم، وبراءته من أهله من باع صوتا انتخابيا في أيّ قضية من قضايا الأمم والشعوب بقليل أو كثير من المال، وبمعسول الوعود.
أمّا الذين يروِّجون لمثل هذه الصّفقات الآثمة، ويقبلون أن يكونوا سماسرة للمرشّحين العبيد لأصحاب المال والجهات المتسلّطة فهم أشدّ إثما، وأحطّ قدرا، وأسفه رأيا، وأبشع خيانة.
أمانة الأولاد:
الأولاد بنون وبنات، وهم أمانة في عنق الآباء والأمّهات. وأمانة الأولاد من أكبر الأمانات، هذا إلى جنب أنّهم فلذات الأكباد، مما يجعلهم يأخذون من القلب مأخذاً أيَّ مأخذ، وحبهم منغرس في النفس بطبيعتها، فالعاطفة نحو الولد مشبوبة لا تحتاج إلى إيصاء أو دفع وإثارة وتهييج.
لكنّ العاطفة وحدها لا تكفي، وكم من عاطفة أضرّت بدل أن تنفع، وأفسدت بدل أن تُصلِح، وهدمت مكان أن تبنيَ وتشيد.
لابدّ من وعي وبصيرة، ودين، وتقدير دقيق للأمور، ومعرفة للأوضاع وملابسات الأحوال والظروف، من أجل حفظ أمانة الولد، والنأي به عن المنزلقات، ووضعه على طريق نجاحه وسعادته، وحمايته من ذئاب الآدميين، وأراذل النّاس، وذوي المطامع الخبيثة، والتوجّهات المنحرفة، والأخلاق الساقطة.
ونحن في زمن أصبح فيه الصبيّ والصبية، والشّاب والشّابة سِلعة تجارية، ومقضى حاجاتٍ وشهوات، وبضاعة مطلوبة لكثير من الجبهات المنحرفة، والجهات الساقطة، وأدوات يجنّدها قادة السّوء وأهل الشّر، والمتاجرون بالإنسان لأقبح الأغراض، وأشنع الجرائم، وأسوأ الممارسات.
والاستهداف للأولاد قائم طول السّنة، وتُعدُّ عطلة الصيف فرصة ذهبية لمحاولات الاصطياد والإيقاع بالصبية والشباب في شباك المفسدين.
في الصّيف في هذا البلد الصّغير في مساحته توجد مئات إن لم تكن ألوف المشاريع والأنشطة تحت عناوين مشاريع شبابية، أنشطة شبابية، ولقاءات شبابية، ترفيهات شبابية، سفرات شبابية، وعناوين كثيرة من هذا النوع. والأكثر من هذه المشاريع فيها سرقة وعي، وسرقة دين، وتفريغ من رجولة وفتوة، وتجفيف منابع شرف وغَيْرَة، وهدم خلق، وتمييع، وتدجين، وإفساد ضمير، وإلهاء وإغواء، وصرفُ نظر، ونَسْف قيم، وإبعادٌ عن الله، وتغيير انتماء، وتبديل ولاء، وإعدادٌ لمهمات خسيسة، وأدوار ساقطة، ووظائف شيطانيّة، وممارسات قذرة. يلد الآباء ويربّون ليُقدّموا أبناءهم سِلعة رخيصة لأصحاب الجشع والطمع والشهوات؟!
وكل هذه المشاريع تبحث عن الصّبية والصبيات، والشباب والشابات، ولها دعهما الهائل، ووسائلها المغرية، وخططها المعدّة، وأجهزتها الكافية.
في قبال ذلك بعض المشاريع المسجديّة المتواضعة غير المخطّط لها تخطيطاً جيّدا، ولا تمتلك الكفاءات العالية، والإمكانات الكافية تُحاول أن تنقذ بعض هؤلاء المستهدفين لقوى الانحراف وتضعهم على الطريق الأقوم، وتحافظ على إنسانيّتهم وكرامتهم، وتمدّهم بالبصيرة الدينية التي تعينهم على تبيّن الطريق، وقصد الغاية، وتقدّم خدمة مخلصة لهذا الوطن ومجتمعه الكريم.
ويتحمّل الآباء والأمهات مسؤوليتهم من جهتين الأولى: عدم التخلّي عن رعاية الولد من ابن وبنت في دينه، وخلقه، وتفكيره، وعلاقاته، وتعامله مع الحرام والحلال، وموقفه من الواجبات والعبادات. فالتخلّي عن المسؤولية في كل هذه الجوانب، وإيكال الأمر(25) إلى مشاريع التعليم والصلاة في بعض المناطق فيه تفريط واضح في حق الأولاد، وإخلال بالواجب الديني، وتقصير في تحمل المسؤولية أمام الله عز وجل الذي حمّل الآباء والأمهات أمانة تربية الأولاد ووقايتهم من النار {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(26). ونشاط مشاريع التعليم والصلاة مهما بلغ وأخلص وخدم إلا أنه لا يمكن أن يغني عن دور الأبوين والأسرة ورعايتهم ورقابتهم وتوجيههم وتعليمهم وتربيتهم.
ومن جهة ثانية فإن ترك الاختيار لصبيٍّ لم يبلغ، أو لشاب لم يستكمل نضجه في اختيار المشروع الذي يلحق به من المشاريع التي تملأ السّاحة ويكثر من بينها المشاريع المغشوشة بواجهات برَّاقة مع وجود ولي أمر مسؤول عن التربية، وقادر على التّوجيه والنّصح فيه تخلٍّ عن تحمُّل الأمانة، وتقصير كبير في حق الولد(27).
الصبي يختار له المشروع الموثوق في توجهه وتربيته، والشاب ينصح ويوجه، ثم يعاتب ويحاسب ويتشدّد معه إذا اختار ما يسيء لمصلحته ودينه وسلامة شخصيته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا تُغْفِل قلوبنا على ذكرك، ولا تعاقبنا بالصّرف عن طاعتك، والتخلية بيننا وبين ما تختاره النّفس الأمارة بالسوء، ويوسوس به الشّيطان الرجيم، ويُروّج له المفسدون في الأرض. اللهم ارحمنا، ولا تخذلنا وإلا كنا من الهالكين. اللهم قِنا من أن يستغفلنا عن ديننا مال أو جاه أو أي زينة من زينة الدنيا، وزخرف من زخارفها يارؤوف يارحيم ياكريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 6-8/ الزلزلة.
2 – 4/ القارعة.
3 – 94/ الأنعام.
4 – 108/ طه.
5 – 38/ النبأ.
ننسى ذلك اليوم، نلهو عن ذلك اليوم، تشغلنا الدنيا، ويشغلنا الإعلام الكاذب، والسياسات الزائفة عن ذلك اليوم وهو يوم المصير.
6 – إنه وزن دقيق لكل نفس، لكل ما فيها من خير وشر.
7 – 5/ التكوير.
8 – 38/ الأنعام.
9 – والأمة تتضمن علاقات يدخلها العدل والإحسان والظلم والتعديات.
10 – عبَّرب الآية الأولى عن الوحوش بأنها حشرت .أما في الآية الثانية فاستخدمت للجواب والطير ضمير جمع العاقل فقالت ثم إلى ربّهم بحشرون.
11 – ومن يزن النّملة وما تحتمل من تكليف؟ خالقها.
12 – 38/ 39/ عبس.
13 – 12/ الحديد.
14 – 103/ الأنبياء.
15 – وهذا زمن عمّ فيه البلاء فيه بتوافر فرص الفاحشة، وانفتاح أبوابها الواسعة، بلاء عام.
16 – 46/ الرحمن.
17 – وسائل الشيعة للحر العاملي ج15 ص209 ط2
أن يغلب الإنسان نفسه خمس دقائق، أقل من ذلك، يفر بدينه، فيفوز كل هذا الفوز، وينال كل هذا الجزاء. وإذا سقط، سقط من السماء إلى الأرض.
18 – هذه التي تريد أن تخدعك، التي تعرض نفسها رخيصة عليك تسلب منك دينك وشرفك وجنتك ورضا ربك، فافهم. وذلك الإنسان الشاب الشيطان الذي يزين لكِ القبيح لابد أن تري فيه أنه عدو وأعدى عدو.
20 – أنت هنا لا تبيع صوتا، إنما تبيع شعبا ودينا ومصلحة أمة، وآلام محرومين.
21 – ألف دينار للصوت، ألف الدينار يساوي أمة؟ يساوي شعبا؟ يساوي دينا؟ ماذا تدفع أنت؟ أنت تدفع الدين والدنيا، تُمكِّن للظلم، ترسخه، تقسو على كل المحرومين والمستضعفين والمظلومين، تشارك في جريمة الظلم بهذا البيع.
22 – هذا أكبر من جريمة،قتلك شرب الخمر، جريمة شخصية وهي كبيرة جدا، لكن بائعصوته على حساب الشعب يقتل نفسه و المجتمع، نعم وانه قتل سريع للمجتمع، للدين، للأمة.
23 – ولذلك يحرص المستكبرون في الأرض على تجفيف منابع الخوف من الله عز وجل واحترامه، يريدون قلوبا فارغة من توقير الله ومن خشيته وخوفه، حتى يملكوها، حتى يصلوا إليها عن طريق المال وزخارف الحياة.
24 – وكل الشعوب المسلمة تحتاج إلى وعي سياسي.
25 – صار سائدا أن يتخلى الوالدان عن مسؤوليتهما بالكامل ويقعدا على مشروع صغير أو كبير، قادر أو غير قادر في القرية، في المنطقة لتربية الولد، هذا خطأ.
26 – 6/ التحريم.
27 – تترك صبيا هو وخياره ليلتحق بهذا الموقع أو ذلك الموقع؟! بهذا النشاط أو ذلك النشاط؟! حتى الشاب الذي بلغ، ما مقدار تجربته في الحياة؟ عليك أن تكون له عونا في الرأي.