خطبة الجمعة (413) 12 رجب 1431هـ – 25 يونيو 2010م

مواضيع الخطبة:
*متابعة حديث المعاد *ذكرى المولد العلوي الشريف *تضحية بوطن.

 

إن الشعب لا يملك من ناحية دينية ودستورية وسياسية وعرفية وحفاظاً على سلامة الوطن ومصلحته، وتمسُّكاً بالحق والعدل إلاّ أن يعمل ليل نهار على إنهاء سياسة التجنيس السّياسي المفتوح التي تتنافى وحقّه وأمنه واستقراره وهويته.

 

الخطبة الأولى

 

الحمد لله الذي له الآخرة والأولى، ومرجع كلِّ نفس إليه، وبيده ثواب المطيعين، وعقاب العاصين، ولا يضيع عنده أجرُ محسن، ولا يفوته عقابُ مسيء، وثوابُه أجزل ثواب، وعقابُه أشدُّ عقاب، ولا يَحول شيءٌ بينه وبين ما يريد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله والجدّ في طاعته، والحرص على رضاه، واتباع ملّته، والأخذ بشريعته فهذا طريق النَّاجين، وسبيل الفائزين. وما ربح أحد نفسه كما ربحها متَّقٍ أطاع مولاه، وخالف هواه. وكلٌّ سيلقى جزاء عمله، ويوافي ما كسبت يداه. وإنَّ غداً لِناظره لقريب. وموافاة العمل موافاة سعادة أو شقاء، وسوءٍ أو هناء.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اسلك بنا سبيل المتقين، وبلّغنا درجة العليين يا كريم يا رحيم.
أما بعد فهذه متابعة لحديث المعاد:
نفختان:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}(1).
الصَّعق كما في لسان العرب بمعنى الغشية وكذلك الموت، والمعروف أنّها في الآية بالمعنى الثاني، وهو الوارد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام كما يذكر صاحب الميزان.
والآية تتحدَّث عن نفختين في الصُّور؛ الأولى يُصعق لها من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله، والثانية نفخةُ البعث والقيام حيث الحشرُ للحساب والجزاء.
والاستثناء في ضوء قوله تعالى {… كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(2) لا يعني أنَّ أحداً من دون الله لا يموت إلى يوم البعث والمعاد، فمن كان له استثناء من الموت بالنفخة الأولى فلابد من بعد ذلك أن يموت. وقد قيل بأنَّ بعضاً من الملائكة لا تشملهم هذه النفخة فلا يُصعقون فيمن يصعق بها، ولكنَّ لابد لهم من الموت بمقتضى عموم {… كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.
ثمّ ما تتناوله النفخة الأولى بصعقها هي حياة الأجسام بمفارقة الروح لها دون الروح في حياتها؟(3) أو تتناول النفخة والصعقة الأرواح نفسها فتذهب كما تذهب الأبدان؟ وعلى الأوّل يكون البعث بإعادة الأرواح للأجسام، وعلى الثاني يكون بإحياء الأرواح وإعادتها للأبدان معاً.
ولو كان الذي يموت بالنفخة الأولى كلاًّ من الأبدان والأرواح فإنَّ فاصلة ما بين الموت والبعث تكون فيها حياة روح قبل النفخة ثم يعقبها موت. أما لو كان ما يموت بالنفخة إنما هي الأبدان القائمة آنذاك خاصّة دون الأرواح فإن فاصلة البرزخ تكون كلّها عامرة بالحياة، ولا يكون البعث إلا بإعادة الأبدان ورجوع أرواحها لها.
وقد احتُمِل في المستثنى في قوله سبحانه {إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}أن يكون البعض من الأحياء كبعض الملائكة فلا يُصعقون بالنفخة الأولى وإن ماتوا بعد ذلك، كما احتُمِل أن يكون المستثنى هي الأرواح فلا تصاب بموت وإنما يستمر خلودها إلى يوم القيام والذي هو وما بعده يوم حياة لا موت على الإطلاق.
ويقول صاحب الميزان بأنَّ الرّأي ببقاء حياة الأرواح وامتدادها إلى يوم القيامة بلا انقطاع تؤيّده بعض روايات أهل البيت عليهم السلام.
ويُلتفت إلى أن المؤيِّد أقل مستوى من الدليل.
ويأتي سؤال على هذا الفرض وهو أنّه إذا كانت الأرواح باقية لا ينالها موت بالنفخة الأولى ويمتد البقاء بها إلى يوم القيام فما هو موت الملائكة وهم وجودات روحانية بلا شائبة من المادة؟ وإذا كانوا وهم أرواح لا يصيبهم ممات فأين مكان العموم في قوله سبحانه {… كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}؟ ومفاد الآية يركّز على تفرّد الله سبحانه بعزّ البقاء، دون من عداه الذي يناله ذُلّ الفناء. وهو معنى لا يكاد يقبل التخصيص، ولا يوجد شيء واضح في تخصيصه.
ولو طُرح احتمال بقاء الأرواح بعد النفخة الأولى بصورة كليّة، فمع استثناء بعض الملائكة أو الأرواح الإنسانيّة الكريمة على الله بدرجة عالية، من الصَّعق بهذه النفخة فإنّ الموت ينالها قبل يوم القيام. والله العالم وله المشيئة المطلقة، والحكمة البالغة.
ونقرأ من آيات النفخة الأولى ما يأتي {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}(4). وكما يرى البعض أن هذه الآية من آيات النفخة الأولى يراها آخر أنها من آيات النفخة الثانية، ولا يستبعد صاحب الميزان أنها تعمّ كلاًّ منهما.
والفزع كما هو وارد في الأولى وارد في الثانية، وكلٌّ من يوم الإماتة ويوم البعث يوم ذخور وذُلّ لقهر الله وسلطانه وحاكميته.
وإذا كانت هذه الآية في النفخة الأولى فهي تلتقي مع كون الصعقة التي تحدثت عنها الآية السابقة بكونها صعقة غشية للفزع المستثنى منه من شاء الله وإن كان الموت عامّاً للجميع كما يفيده قوله سبحانه {… وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}. ومن آيات هذه النفخة حسب السياق {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}(5).
إنَّ الكفار الذين يتساءلون –مستبعدين- عن يوم الدين بينما هم في تنافس وتخاصم على الدّنيا وأموالها ومواقعها وزينتها وإذا هم بصعقة واحدة لا أكثر، وأمر إلاهيٍّ نافذ يأتي عليهم جميعاً وينهيهم وهذه الحياة لتعقبها نفخة البعث الذي عنه يتساءلون.
وأمَّا آيات النفخة الثانية فكثيرة وهذا منها:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}(6) إلى قوله سبحانه {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}(7)، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً}(8). ومن تفسير هذه الزرقة أنها زرقة الأبدان من الفزع والهلع والرُّعب المحيط بالنفوس أو من التعب والعطش والجهد الشديد، وتفسير آخر يقول بأنها زرقة عمى العيون مما قد يلتقي مع قوله سبحانه {… وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً…}(9). وذلك إذا كان العمى في هذه الآية بمعناه الحسّيّ المعروف.
ويقول سبحانه {… وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}(10)، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}(11).
بعث الخلق الكثير الهائل، وجمع كلِّ النفوس، وكلّ من أتى عليه الموت من الأوّلين والآخرين على الله يسير، فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من كن فيكون، وأن يريد الله الملك الحقّ الذي لا يؤخّر إرادته شيء. فالأمر التكويني المعبَّر عنه بالنّفخة يُحضِر بلا تأخير كل كبير وصغير، وكل قويّ وضعيف، وكل مؤمن وكافر، ومتّقٍ وفاجر، وكلّ من مضى وغبر ليقوم الناس للحساب {… وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(12).
اللم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من المصدّقين بوعدك ووعيدك، السَّاعين إلى رضاك، الفارّين من سخطك، المرحومين عندك، المشمولين برحمتك، الداخلين في عفوك، الفائزين بجنَّتك وإحسانك وإكرامك يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ، فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ}(13).

 

الخطبة الثانية

 

الحمدلله الذي كلُّ الملوك عبيده، وكلُّ الجبابرة في قبضته، وكلّ قوة تحت سلطانه، وكلّ جندٍ في أمره، وكل شيء خاضع لإرادته، ولا يملك أحد من دونه مُلْكاً، وليس لأحد مع سلطانه سلطان، ولا بإزاء قدرته قدرة، والأمر كله راجع إليه، ولا حول ولا قوّة إلا به.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله فإنّ أخذ الله لشديد، ونقمته بالغة، وعقوبته لا يحتملها جبّار عنيد، ولا شيطان مريد، ولا يصبر عليها قلبٌ وإن قسى، ونفس وإن أصابها غرور.
التّقوى التّقوى فإنها زاد الصالحين ليوم المعاد، ودرعهم من النار، ومركبهم إلى الجنّة، ومعراجهم إلى الرضوان.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من أهل تقواك، وملازمي طاعتك، وعشّاق عبادتك، والموفّقين لمعرفتك، والفائزين برضوانك. ربنا اغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصحابنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، إنك أنت الغفور الرَّحيم، الجواد الكريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء فمع:
ذكرى المولد العلوي الشريف:
تحيات من الله تبارك وتعالى، وصلوات، وسلام عليك أيها العبد الصالح.. يا إمام المتّقين بعد الرسول الخاتم صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
تحية وأشواق من كلّ القلوب العارفة، والأمة المؤمنة والمسلمة، ومن كل ضمير فيه حياة، وفيه جمال لذكرى مولدك الكريم يا رجل المحراب والجهاد، يا رمز الحقِّ والعدالة، يا ضمير الحياة الطيّبة، والإنسانِ السّويّ، يا قمّة للمجد الرفيع بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله لا تُجارى يا أمير المؤمنين، يا ولي الله الصادق الأمين.
يا أبا الحسن من ارتضى من الله دينه ارتضاك لأنك الصورة الأمثل للدّين بعد نبيِّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن أسلم قياده للرسول صلّى الله عليه وآله لابُدّ أن يُسلم قياده إليك لأنك لم تفارقه علماً ورأياً وموقفا وعملاً… وكلّ قامات الرّجال المتنافسين بعده صلّى الله عليه وآله في العلم والإيمان وكل كمال دونك، وما كانوا معك في سباق.
قيادتك قيادته، وإمامتك إمامته، وهداك هداه، وقصدك قصده، وخطوك لا يعدو خطاه…
ومن اشتاق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله اشتاق إليك لأنك منه بمنزلة هارون من موسى، بل أنت بمنزلة نفسه الشريفة كما في قوله تعالى {… وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ…}(14).
ومن أحبَّ الله عز وجل فقد أحبّ العلم والعدل والصدق والرَّحمة والجود والكرم وكلّ كمال، وفيك من كمالات العلم والعدل والصدق والإيمان والقرب من الله ما يجعلك الصّورة الرائعة الأولى بعد الرّسول صلّى الله عليه وآله لجمال وكمال مُستَرفد من الله يحبّه الله لعبده ويرضاه، ويحبّ له عبده ويرتضيه، ويوجب حبه.
لا يسع قلباً يحبّ الله أن لا يحبّك وهو يعرفك، ولا يسع مسلماً يرضى بإمامة رسول الله صلّى الله عليه وآله أن لا يرضى بعده بإمامتك، ولا يسع من انقاد للإسلام أن لا ينقاد إليك.
سلام الله عليك يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيّاً.
تضحية بوطن:
تركز الحكومة على شعار الوطنية، والولاء للوطن، والإخلاص الوفاء والحفاظ عليه، وهي أول من تُضحّي بالوطن، وتسيء إليه، وتناقض أمنه، وتُضعف حاضره، وتُهدِّد مستقبله، وتهزأ بقيمته، وتسوقها السياسة غير المدروسة إلى إغراقه في المأساة، وتسليمه للكوارث. كلّ ذلك تفعله بإصرارها على سياسة التجنيس خارج القانون، والضّوابط العُقلائية، ومصلحة الوطن والمواطن، وهي تشهد بوادر الآثار التّدميرية الخطيرة، والبدايات المفزعة لهذه السياسة المنذرة بمستقبل بائس ومضطرب وفوضى خطيرة، وكوارث هائلة.
لا رشد ولا إخلاص ولا عقلانية، ولا حساب حتى للمصالح الضيّقة، ولا رعاية لوطن ولا مواطن في هذه السياسة الفجّة المدمرة. سياسة تدوس الوطن ومصالحه، وتعادي المواطن، وتستثيره، وتحمله على عدِّ كلّ الشعارات التي تحاول أن تكسب شيئاً من رضاه على أنّها كذب وزيف وخديعة، وأنها للاستغفال والتخدير، واللعب بالمشاعر، ولا تُبقي عنده شيئاً من الثّقة في الطّرف الرّسمي وهو يعيش حالة الاختناق بفعل عدد من السياسات الظالمة ومنها سياسة التجنيس التي تُضحي بكلّ مصالحه من أجل مرتزقة الخارج.
سياسة التّجنيس السّياسي كابوس يجثم على صدر كلّ مواطن يهمّه أن يشعر بأمنه وكرامته، وأن يرعى الوطن مصلحته، ويحترم همومه وتطلعاته، ويُقدّر له حاجاته وضروراته، ويحرص هو من جانبه على سلامة حاضر الوطن ومستقبله فيما يتّصل بكل من أمر الدّنيا والآخرة، والعيش والدِّين والخلق، وحالة الإخاء، والحفاظ على الأمن المادّي والمعنوي المشترك.
سياسة التجنيس السياسي تدوس مصلحة الوطن، وتحتقر المواطن وتنسف مصلحته، وتُخطط ضدَّه، وتعِدّ لمحاربته، وتقضي على استقراره، وتعبث بأمنه، وتزعزع بناء مجتمعه.
هذه السياسة ظلم فاحش، وتآمر خطير، واستبدال عن شعب، وتفتيت وجود، وغزو مبطّن. كل ذلك يحدث لهوى السّياسة العامة، وأوهامها القاتلة، وهواجسها السوداء التي لا مولّد ولا محرّك لها إلا الإحساسُ بالغبن الذي يعاني منه المواطن، والمرارة التي يعيشها بسبب التّضييق والنّهب والاستئثار.
وطن تضيق رقعته عن أهله، ويعاني من شُحّ الموارد، وتستنزف الجيوب الجشعة ثروته يفتح ذراعيه لتجنيس مغنٍّ ومغنّية، وسافل وسافلة، ومرتزق ومرتزقة، ومعذّبين ومعربدين، ومعتدين ومتطاولين على أبناء الأرض الأصليين شيعة وسنّة ممن عاشوا وآباؤهم وأجدادهم آلام هذا الوطن وآماله، وغرسوا شجره ونخيله وأقاموا بناءه لأجيال وأجيال، وأزمنة وأزمنة، وصبروا على مختلف الظروف، وألوان المعاناة.
مشاريع إسكانية معطّلة تُؤجّل ثم تؤجّل مع الحاجة الشديدة لها، ضائقة مرورية خانقة، هبوط في المستوى الاقتصادي، خدمات مدنيّة متدنّية، وطرقات رمليّة داخل مناطق السّكن، انقطاع متكرّر للتيار الكهربي في الصّيف الحارق، أزمة ماء، تلوث بيئي، وأزمة أراضي لضيق رقعة البلد وتنافس الأيدي المتسلِّطة في نهب أكبر مساحة ممكنة منها، وقضاء على موائل الأسماك وبيئاتها المناسبة بعد أن ضاقت اليابسة على أطماع الناهبين، أفواج من العاطلين من جامعيين وغيرهم، عدم قدرة على استقبال أسرّة المستشفيات للحالات المرضيّة المستعجلة، تدنّي في أجور العمال. كل هذا وسياسة التجنيس السياسي ومن الطبقات المتدنيّةَ تَعضُّ عليها الحكومة بالنواجذ، وتقاتل دونها كلّ الشعب، وتواجه كلّ صوت رافض لها، وتعتبرها سياسة ثابتة لابدّ منها، وأنها من أركان السياسة العامة المعتمدة التي لا يضحّى بها، ولا يُستجاب لأي رأي فيها.
وقد أربكت هذه السياسة الوضع الأمني بدرجة عالية، وأفسدت الأخلاق، واستنزفت خيرات البلد، وأدخلت على السَّاحة الكثير من الإرباكات والتغييرات السلبية المؤثرة، وزادت من مستوى الجرائم، وأنواعها فيها.
سياسة التجنيس التي تصرّ عليها الدولة جزاء سنمار لشعب جنح كثيراً للمواءمة العملية دون المناوءة، وبرهن ذلك عمليا لأكثر من مرة وحاول أن يتناسى كل مُرٍّ من مشكلات ماضيه وحاضره، ولكن الجزاء يبقى جزاء سنمار في كل مرة.
إذا كانت الحكومة ترى بأن سياسة التجنيس السياسي ضرورية بالنسبة إليها لإذلال الشّعب، وإسكات صوته الحقوقي، وضمان موقف داعم لكلّ خياراتها المضادة لمصلحته، وامتلاك ورقة أغلبيّة في الأصوات، تعتمد على الصّوت المجنّس لإبقاء ما كان على ما كان، وللتحكّم في العمليّة السّياسية بالكامل في قبال كل طموحات الشعب المشروعة وخياراته الإصلاحية السليمة، فإنَّ الشعب من جهته يُدرك مدى خطورة استمرار سياسة التجنيس السّياسي المفتوحة على مصالحه وهويته وأخلاقيّته ونسيجه الاجتماعي وحقوقه ولقمة عيشه ومسكنه وشرابه ودوائه وثقافته وأمنه واستقراره، وأنّه المستهدف الأوّل لهذه السّياسة المعادية، فلا بد أن يكون إصراره على مقاومة هذه السياسة وإلغائها بمقدار ما للحكومة من إصرار على إبقائها وتثبيتها، وأنّ ذلك واجب من باب الدفاع عن النفس وحماية الذات. وبذا تكون الحكومة قد في التعامل بينها وبين الشعب سياسة التوتر الدائم، وفقد الثّقة، والفعل الضّار، وردّ الفعل المجانس. وفي هذا ما لا يخفى من سحق مصلحة الوطن، والاستخفاف بحاضره ومستقبله، والخيانة التي تتحمّلها أيّ حكومة من الحكومات بالنسبة للوطن الذي تتحمّل مسؤولية رعاية مصلحته، والشعب الذي تعهّدت بأن تُخلص له.
إن الشعب لا يملك من ناحية دينية ودستورية وسياسية وعرفية وحفاظاً على سلامة الوطن ومصلحته، وتمسُّكاً بالحق والعدل إلاّ أن يعمل ليل نهار على إنهاء سياسة التجنيس السّياسي المفتوح التي تتنافى وحقّه وأمنه واستقراره وهويته.
على الشعب ألا يتراخى في قضية التجنيس، ولا يُعطي شيئا من اللِّين تمسكاً بالحقّ، وأخذاً بالعدل، ورعاية للأمن، وحفاظاً على الكرامة، وابتغاء لسلامة الوطن.
وإنه لعجيب أمر الكثير الأكثر من الحكومات التي لا تختار في تعاملها مع شعوبها إلا الطّريق الوعْر الأصعب الشاق المؤدي إلى المصادمات، وهي تبذل الكثير على هذا الطريق مشيحة بوجهها عن طريق بناء الثقة لتستريح وتريح. وهل يمتنع بناء الثقة مع شعب البحرين الذي حاول لأكثر من مرّة أن يتناسى آلامه وظلم السياسة له ويدخل في عملية لتهدئة الأوضاع وبناء جسور الثّقة على أساس من الوعود الجميلة والخطوات التخفيفية البسيطة؟ هل هذا الشعب يصعب بناء الثقة معه عن طريق شيء من العدل والإنصاف والمساواة والاحترام وإشراك الرّأي في تعامل الحكومة معه؟ يقيناً لا. ولكنه مانع الاستئثار والاستعلاء والاستبداد الذي يبتلي به كثير من الحكومات.
ومن جهة أخرى فإنَّ قضية المعامير وقضية كرزكان والقضايا الأخرى المماثلة قضايا مقلقة، وتوجّه السياسية في هذه القضايا إلى التشدّد، ورفعُ اليد عن العفو المعلَن في بعضها، واعتماد الحكم فيها على أساليب مرفوضة شرعاً وقانوناً، والأخذ بالاستئناف بعد حكم البراءة الذي أوضح تماماً بطلان أدلّة الإثبات واعتماده على اعترافات مأخوذة بالإكراه كلُّ ذلك لا يشير إلى شيء من حُسن النيّة أو التزام العدالة في هذه القضايا.
ومن هنا تنطلق مشروعيّة الاحتجاجات والاعتصامات في وجه الإدانة في هذه القضية، والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وإنهاء الموضوع بلا تشدّد واعتداد بالنفس في غير ما يصحّ، ومن غير الأخذ بطريق الاستفزازات والتوترات.
والكلُّ يعرف أن الشريعة الإلهية العادلة، وكلّ القوانين التي تنتسب إلى شيء من العدل ترفض قتل النّفس ابتداءاً بغير حق، وأن يُجرّم بريء بقتل وما دونه من دون دليل واضح جليّ ترضاه الشريعة كما هو الأمر في حكم الشريعة، ويرضاه القانون كما هو الأمر في حكم القانون.
وإنَّ تجريم شخص من غير هذا الدّليل جرمٌ، وإنّ إصابته بسوء على أساس هذا الحكم يستوجب القصاص.
وأين المُثبِت الشرعيّ، وحتَّى القانوني في قضايا المعامير وكرزكان والقضايا المماثلة في ضوء أساليب التعذيب والإكراه المشتهرة والتي ثبت بعضها في القضاء الرسمي؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم انصر كل مظلوم، وفك قيد كل أسير من غير حق من عبادك المؤمنين والمسلمين، وأطلق كل أسير منهم، اللهم أنصف كل مظلوم من ظالمه، وانصر كل محقّ، واهزم كلَّ مبطل، وفكّ قيد كل أسير من أسرى المسلمين وأطلق سراح كلِّ سجين في غير حقٍّ منهم، وأظهر دينك، وأعز أولياءك، وأذلّ أعداءك، وأحِلّ بأئمة الكفر وقادة الضلال في الأرض ما يحول بينهم وبين ما يشتهون من أذى المؤمنين والمسلمين، وأرِهم من بطشك ما يذهلهم ويرعبهم ويُشغلهم بأنفسهم يا قويّ يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(15).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 68/ الزمر.
2 – 88/ القصص.
3 – أيهما الذي يُصعق، حياة البدن، أم كلاً من حياة البدن والروح؟
4 – 87/ النمل.
5 – 49-51/ يس.
6 – 13-15/ الحاقّة.
7 – 18/ الحاقّة.
8 – 102/ طه.
9 0 97/ الإسراء.
10 – 99/ الكهف.
11 – 18/ النبأ.
12- 22/ الجاثية.
13 – سورة القارعة.
14 – 61/ آل عمران.
15- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى