خطبة الجمعة (410) 20 جمادى الثاني 1431هـ – 4 يونيو 2010م
مواضيع الخطبة:
*متابعة حديث المعاد. *مولد الصدّيقة وكلمة *ذكرى رحيل * الغرور الإسرائيلي.
تستطيع الأنظمة العربية بالأمس قبل اليوم أن تمارس درجة كبيرة من الضغط لرفع الحصار بدل أن تشارك فيه بدرجة وأخرى، وأسلوب وآخر. ولابد لها اليوم من برنامج عملي لكسر الحصار، ومن الإعلان الصريح للتخلي عن مبادرة السلام مع إسرائيل التي تهزأ بها، ومن إنهاء عملية التطبيع بمستوياتها المختلفة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يُكلِّف إلاّ لحجّة، ولا يعذّب إلاّ لبيان، ولا يعاقب إلاّ لمعصية، وهو الذي أرسل رسلاً مبشّرين ومنذرين، وأنزل كتباً فرقاناً بين الحقّ والباطل ليهتدي من يهتدي عن بيّنة، ويَضلَّ من يضلّ عن بيّنة، ولا يكونَ للنّاس على الله حجّة، ولله الحجّة البالغة، وهو العدل العليم الخبير الحكيم.
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحيّة وبركة وسلاماً..
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المقصّرة بتقوى الله ربّنا وربّ كلّ ماوجد ويوجد، ومن خُلِق ويُخلق، ولا قيام لشيء إلاّ بإذنه.
ولنعلم بأنّه ما من علم أهمّ بعد معرفة الله وأُسس دينه من تعلّم الحلال والحرام؛ فإنّه لا تُطلب طاعة الله عزّ وجل بالجهل، ولا تُعرف مواطن الطاعة من المعصية، وما يُصلِح وما يُفسد، وما يُقرِّب إلى الجنّة، ويبعّد منها إلا بمعرفة ما حلَّ، وحرُم. والزّاهد في العلم بهما زاهد في طاعة الله، متساهل في دينه، متخبِّطٌ في حياته، كثير الكبوة ، شديدُ العثرة، بالغ الحسرة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا معرفتك، ونوّر قلوبنا بهدايتك، واشرح صدورنا للحقّ الذي من عندك، وفقِّهنا في الدِّين، واجعلنا من حزبك من أوليائك والنّبيين والمرسلين، والآخذين بهدى الأئمة المعصومين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمداً وآل محمد أفضل ما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وآل إبراهيم، وصلّ على جميع الأنبياء والمرسلين إنّك حميد مجيد رؤوف رحيم.
أما بعد:
متابعة حديث المعاد:
فقد تقدّم في الحديث عن المعاد أن القبر أوّل موقف من مواقف الآخرة. وإنّه لأوّل عقباتها، وفيه تُستوقف النّفس للسّؤال، وتتعرّض للامتحان، وما أشدَّ امتحانات الآخرة، وما أقلَّ الاستعداد لها، وما أكثر الخاسرين فيها!!
والسّؤال هناك ليس عن غوامض يَلْتَبِس على الذِّهن الأمرُ فيها، وعن معادلات علميّة معقّدة يعسُر الوصول إليها.
السؤال هناك عن حقائق جليَّة فرّط العبد فيها، وقضايا واضحة أساء التعاملَ معها، وأمور مصيرية خطيرة لم يُعطِها حقّها، واستخفَّ بوزنها؛ فأربكه عند الامتحان تفريطُه، واضطرب لإساءته، وخفّت موازينُه باستخفافه فكان نهبَ الدّهشة والاضطراب والحيرة، وأسير الألم والحسرة، ومن الأخسرين أعمالاً، والموعودين ناراً.
عن الإمام زين العابدين عليه السلام:”… كأن قد أُوفيتَ أجلَك، وقبض الملكُ روحَك، وصرت إلى منزل وحيداً فرَدّ إليك روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكر ونكير لمساءلتك، وشديد امتحانك، ألا وإنّ أول ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه(1)، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه(2)، ثم عن عمرك فيما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته؟ فخذ حِذرك وانظر لنفسك، وأعِدَّ للجواب قبل الامتحانِ والمساءلةِ والاختبارِ…”(3).
من الضّروري أن نتصوّر لحظة الأجل التي قد تبعد شيئاً ما عن اللحظة التي نحن فيها، وقد تكون أقرب جدّاً مما يذهب إليه الظن.
الفرار من تصور تلك اللحظة لا يُغني ولا يُعفي لأنّ الحقائق لا يُلغيها أن يُغفلَ عنها، ولا يُقلّل من الآثار الخطيرة المهلكة لعدم مراعاتها أن تُهمَل. وما لابدّ من وقوعه واقع فإذا جاء على غير استعداد من النفس مثَّل صدمةً هائلة، وعلى غير تهيّؤ من العمل والتوقي والاحتياط أهلك ودمّر. فلو أمكن الاستعدادُ للزلزال لقلّت الخسائر، وقد يمكن أن يُسلم منها، أمّا إذا واجه النّاس بغتة عظُمت الكارثة(4).
وتصوُّر لحظة الموت لا للتخدير واليأس، وإنما للجدّ والنشاط، وحُسن العمل، والمبادرة في الخير(5)، وترك الشّر، وخلوص النيّة، وطُهر النّفس، والمسابقة في الصّالحات، واستثمار الفرص، وإعمار الحياة ولكن في ظلّ قيم وأهداف الآخرة.
ونجد أنَّ السؤال الذي تتحدث عنه كلمة زين العابدين عليه السلام ليس عن أمور غامضة، وقضايا مستعصية كما سبق. السؤال عن الله وهو نور السماوات والأرض الذي لا يخفى على شيء، وعن النبي الذي قامت ذاته وسيرته، والوحي الذي جاء به من ربه، وبلّغه إلى النّاس، وما أشاده من واقع كبير في الأرض شاهدٍ على الصٍّدق والعظمة والنّزاهة والسّمو والتّأييد من الله، وأخذُه نفسَهُ وأهلَه بالشدّة في ذات الله، ومعجزةُ الكتاب الكريم براهينَ ساطعة على نبوته ورسالته. والسؤال عن الدين الحق الذي تنطق به الفطرة، ويستريح إليه الضمير، ويحتضنه الوجدان، والمحيي للعقول والقلوب والأوضاع، والذي لا تستقيم بدونه الحياة(6)، ولا يطمئن الإنسان، وعن كتاب ناطق بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويعجز الجنّ والأنس عن أن يأتوا بمثله، وعن أئمة هدى لم يميلوا عن حقٍّ إلى باطل، ولم يُسجَّل عليهم جهل ولا قصور، ولم يعدِلهم أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله علماً وهدى وإيماناً وعملا صالحاً، وحراسةً للإسلام، وجهاداً لم ينقطع في سبيل الله، وما فارقوا القرآن وما فارقهم، وما خذلهم وما خذلوه.
والسؤال عن موقف الإنسان من دوره الذي يناسب إنسانيّته، ويصحّ له أن يُنفق فيه عُمرَه والذي تهديه إليه فطرته، ودلّ عليه وحي ربّه وأنبياؤه ورسله وأولياؤه، وعن توظيفه للنّعم التي وهبها له خالقُه، والأسباب التي سخّرها له، والوسائل التي مكَّنها منه. وهو يتحمّل مسؤوليةَ إساءته لدوره، والانحراف بوظائف النِّعم الموهوبة له من ربّه، كما يتلقّى الجزاءَ الكريم، والمثوبةَ البالغةَ الهنيئةَ لإحسانه في أداء دوره، والانتفاع الصّحيح بالآلاء الكريمة من عطاء خالقه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحمنا يوم ينقطع الأمل من الدُّنيا، ويدنو الأجل، وتحل الساعة، ويتوقف العمل، وتكون الأوبة، ويصار بنا إلى مسكن الوحشة، ومحل الغربة، وعند بهتة السؤال، وتوالي الأهوال يا من لا أمل إلا فيه، ولا استمساك إلا برحمته، ولا معوَّل إلا عليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يا الله يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله مالك كلِّ الأشياء ومدبِّرها، وهي جندٌ له لا تخرج عن طاعته(7)، ولا تملك أن تُخالِف إرادتَه، ولو قضى بتكوينه على أحدٍ من جنٍّ أو إنسٍ أو ملك أن يُهلك نفسه، وقَهرَهُ أن يُذهِب بيده حياتَه ما أمكنه أن يتأخّر عن أمره، ويضادّ قهره.
وما من قدرة إلاّ وهي من قدرته، ولا جند إلاَّ وهو من جنده، ولا سلطانٍ إلا في تصرُّفه، ولا مقاوم له وكيف يقاومه ما لا وجود ولا حركة ولا حيلة له إلا به؟! وكيف يمتنع من الاستجابة إليه ما لا يملك شيئاً من نفسِه بنفسِه، ولا يملكه منه غيرُه من دونه اللهِ خالقِ كلّ شيء ومدبِّره ومحييه ومميتِه؟!
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أُوصيكم ونفسي الغافلة بتقوى الله ففيها صفاء الفكر، وصحّة النّفس، وسلامة البدن، وحفاظٌ على الشّرف، ووفور الكرامة، ونقاء الدين، ورضى الرَّب، والمنقلب الحميد، والنجاة من النّار، والفوز بالجنّة. ولا يعدل رضى الله مكسب للعبد أي مكسب، وليس مثله ربح ولا نجاح.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أتمِمْ علينا نعمة الإيمان، ولا تسلبنا منها شيئاً أبداً، واجعلنا موضعاً للمزيد من إنعامك وإكرامك، وارزقنا شُكر النّعم، وأَجْرِها على أيدينا في المواضع التي هي أحبّ إليك، وأقرب إلى مرضاتك، ولا تجعلنا من المسرفين يا أرحم الرّاحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا، واقهر بهم أعداءك..
أما بعد فهذه بعض العناوين:
مولد الصدّيقة (ع) وكلمة:
فاطمةُ بنت رسول الله صلَّى عليه وآله القدوةُ الأولى للمرأة المسلمة الصالحة في جميع أبعاد شخصيّتها الكريمة، ونموذجٌ إنساني كامل من صناعة القرآن الكريم، والتربية النبويّة المعصومة، وهي الحجّة التي احتجّت بها الرسالة الإسلاميّة على يد الرّسول صلّى الله عليه وآله من بين كلّ الفُضْليات من النساء المؤمنات، وباهلت بها فيمن باهلت بهم من صفوة أهل الحقّ والصِّدق والإيمان في الأرض لإثبات حقّانية الرّسالة وصدقها وإلاهيتها أمام خصومها المعاندين الذين اضطرهم جلالُ الإيمان والعلم والتّقوى والعصمة للنّبي وأهل بيته عليهم السلام للاعتذار من المباهلة والانسحاب.
وما من مسلمٍ يؤمن بالإسلام وكتابه الكريم ورسوله الأمين حقّاً رجُلاً كان أو امرأة يُسوّغ له إيمانُه بالتوقّف أو التردد في أخذ الإسلام من الصِّدِّيقة الطاهرة، وفي الصِّدق الكامل الدقيق لإسلامية الاقتداء بسيرتها عليها السلام.
فلا غبار على أن قولها إسلام، وفعلها إسلام، وتقريرها إسلام.
فأين النِّساء والفتيات المؤمنات من اتّخاذ فاطمة عليها السلام قدوة وهي القدوة الحَسَنة، وأسوة وهي الأسوة الفضلى في عالم المرأة كما تقضي به عصمتها عليها السلام؟
هناك إظهار عِشقٍ لشخصية فاطمة عليها السلام من الفتيات المؤمنات، ومباهاةٌ بها في ذكرى مولدها الشريف، ورحيلها السعيد، وكلما ذكرت؛ ويتطلب هذا العشقُ وهذه المباهاةُ أن تُجاري المؤمنةُ في حياتها الشخصية والزوجيّة والاجتماعية العامة، وفي حجابها واعتزازها بالعفّة والحشمة، وفي مناسبات الزواج والأفراح، والطموحات والأهداف والأماني ما كانت عليه حياة الصدّيقة القدوة في كلّ هذه المجالات، وفي كلّ مجال من مجالات الحياة مما له صلة بخِيارات الدّين، وكمالات الشّخصية، ورقيّ الإنسان.
إنّه كُلّما اقتربت المرأة في مساحات حياتها الخاصّة والعامّة وفي أسرتها من النموذج القرآني الكامل للإنسان والمرأة، والمتمثّل في فاطمة الزكيّة كلما انتهض مستوى الأمة، واستقامت على الطريق. وكلّما كان ابتعاد عن هدى فاطمة ووعيها وخُلقها وعبادتها وتقواها ورُشدها وطهرها وعفتها وتعلّقها بالله عز وجل وأخذها بدينه كلّما زادت الانتكاسة وأُوغل في التردّي، وتوالت الهزائم والتّراجعات، وتعمّق الانحراف(8).
لحاقاً بفاطمة عليها السلام، فإنه اللَّحاق بالإسلام، وإنه لطريق الفضيلة، ومعراج الكمال.
ذكرى رحيل:
هذه أيام ذكرى رحيل إمامٍ عظيم، رحيل آية الله الرّجل الصالح الخميني قدس الله سرَّه، وعطّر مرقدَه، وأعلى مَقامَه.
وما مَقدم النّاس للحياة بواحد، وما رحيلهم منها على حدٍّ سواء. يَقدم قادم للحياة فيشقيها ويشقى، ويقدم آخر فيسعدها ويسعد. والأوّل يميتها والثاني يحييها.
ويرحل راحل لتستريح الحياة والنّاس بعده، ويرحل آخر ليتعبَ الناسُ، وترتبك الحياة. يموت ميِّت ليتجلّى بعض الظلمة مما رشح من حياته، ويُتوفّى آخر ليضؤل نور الأرض ولو إلى حين(9).
ومن الناس من يُفتقد بموته دوره الكبير في محيط صغير، ومنهم إذا فُقد فقدت الأرض كلّها خيراً كثيراً. والإمامُ الخمينيُّ وزن كبير أحسّ بفقده وتأثّر له وشعر بالخسارة الفادحة التي خلّفها كلُّ العالم المؤمن، وكلُّ المستضعفين.
لقد خدم الإمام الخميني رحمه الله الإسلام والدين كلّه، وأحسن إلى شعبه وأمّة الإسلام، وللمستضعفين في الأرض من أبناء العالم.
ذكَّر بالإسلام الشامل بعد نسيان، وأعطاه الحضور الفاعل في الحياة العامّة بعد غياب طويل، وبرهن عمليّاً على قدرة الإسلام الفائقة على الإنقاذ، واسترداد العزّ والكرامة، وقيادة الحياة على خطّ العدل والاستقامة والإنتاج الكريم والصّعود والسّمو بكفاءة عالية فريدة لا تعرفها كلُّ مبادئ الأرض على الإطلاق، ولا الأديان المحرَّفة التي مال بها هوى الإنسان وتدخُّله الظالم عن خطّ الله؛ خطِّ عدله وهداه وتوحيده.
ولقد أحسن لشعبه بإنقاذه فعلاً من هوان التّبعية إلى عزّ الاستقلال، ومن ضلالة الضّياع الذي عمل المستكبرون على إيقاعه فيها إلى هدى الانتماء الواعي الأصيل، ومن حالة الاستغلال والنّهب المفروضة عليه إلى واقع التمتّع بثرواته وتوظيفها في بناء حاضره ومستقبله، ومن التخلّف والتّدهور العلمي والثّقافيّ والخلقيّ إلى مسار النّهضة الواعية الكريمة المتفوِّقة في كل هذه المجالات.
وقد أحسن إلى أمّته بما أرجع إليها من الثّقة بالنَّفس، وأعاد إليها من وعي الدِّين، ورفع من مستوى إيمانها واعتزازها وفخرها بالإسلام، وبعث في نفسها أملَ التغيير والقدرة على الخروج من الواقع المؤلم، والتحرُّر من الوضع السيء الذي أوقعتها فيه الطاغوتية العالمية والرّجعية المحليّة التابعة لها، وبما عزَّز من شعور العالم الإسلامي بانتمائه الحضاريّ العريق، ودوره الرّيادي والرّسالي في الأرض، وبضرورة التمرُّد على حالة التخلّف والتبعية الذّليلة التي تعيشها الأمّة، والتحرُّر من أسرها.
وقد أقام الإمام (قده) بُرهاناً عمليّاً للمسلمين على قدرة الإسلام وصدقه وأصالته وجدّيته وعزّه وكفاءته على تغيير الأوضاع السيئة والخروج بالناس من مأزقهم الذي تُسبّبه الأطروحات الأرضية، والأطماع الاستكبارية، والأنظمة السياسية المهترئة.
وقد أحسن الإمام إلى الإنسانيّة بأن أشعر شعوب الأرض بكرامتها الإنسانية، وحقِّها في الحياة الكريمة، والتحرُّر من قبضته الطاغوتية الظالمة، ومن عبادة الأوثان، وأنَّ عليها أن ترفض حالة الاستضعاف التي يفرضها المستكبرون، وأن تتحرّك جادّة في سبيل استنقاذ الحقوق المسلوبة، والكرامة المهدورة، والإنسانية المضيَّعة.
الغرور الإسرائيلي:
الحادثة المروِّعة لأسطول الحريَّة على يد العدوان الإسرائيلي السّافر واحدةٌ من إفرازات الغرور والصَّلَف الإسرائيلي. وهو غرور قوَّة، وغرور جهل يزيده الاحتضان الأمريكي، وتُغذّيه المساندة الأمريكية وحقّ النقض في مجلس الأمن الدولي الذي يقف على يد أمريكا في مناصرة إسرائيل وحمايتها، وإفشال أيّ إدانة جدّية وصريحة لمواقفها العدوانيّة الصّارخة والمخالفة للقانون الدوليّ موقفا دائما ثابتا(10).
العدوان الإسرائيلي هذه المرَّة في أعالي البحار والمياه الدولية خارج الحدود الإسرائيلية وحيث لا سلطة دولياً لإسرائيل، وهو اعتداء بالقرصنة على حدّ ما تمارسه العصابات الإجرامية، وبمستوى إزهاق أرواح بريئة، وبسابق إرادة وتصميم، وفي تحدٍّ سافر، وعلى قافلة مسالِمة مهمّتها إنسانيّة إغاثيّة ولكسر الحصار الظّالم المفروض على مليون وأكثر من خمسمائة ألف إنسان معذّب تضمّهم غزّة المحاصرة المعزولة إرضاءً لإسرائيل.
ويُشجّع إسرائيل على التمادي في غيِّها، والتصعيد من مستوى جرائمها، وتجاوز القانون الدولي إلى جنب ما تلقاه من الدعم الأمريكي المفتوح التساهلُ بل التّعاطف الأوروبي، وميوعة الموقف الدولي من جرائمها المتكرِّرة، وخنوع الإرادة العربيّة، والهرولة بعد كلِّ صفعة إسرائيلية للفلسطينيين والعرب لخطب ودِّ أمريكا الذي لا ينفصل عن ضمان رضى إسرائيل، ولتأكيد العودة إلى محادثات السَّلام حتّى تتمَّ كلّ الأهداف الإسرائيلية على الأرض في أجواء هادئة طبيعية.
ويبقى بعد هذا كلِّه أنَّ هناك بقيّة ضمير إنساني عند عامّة الشّعوب برغم التآكلات الكثيرة، والتغييب الكبير لهذا الضّمير على يد السّياسة العالميّة الطّاغوتية المحاربة للدّين والأخلاق والقِيم، وقد عاش هذا الضمير انتفاضةَ حياةٍ في حالة أسطول الحريّة نفسها، وفي ردّ الفعل العالمية على الجريمة الإسرائيليّة الشّنيعة المتعلّقة بها والتي مثّلت حَرَجاً عمليّاً للأنظمة الرسميّة الملاينة مع إسرائيل أمام شعوب العالم والضّمير العالمي فجاءت ردود الفعل هذه المرّة خارج الحسابات الإسرائيليّة وإنْ لم تبلغ الحدّ القاضي به العدل في الموضوع، وإن كان العدل الأمريكي الكاذب الذي يريد أن يقودَ العالم يقف بالمرصاد ضدّ أيّ قرار إدانة صريح لإسرائيل فضلاً عن معاقبتها(11)، ويصعب على العدل الأمريكي، والرحمة الأمريكية أن يُعلَنَ رفع الحصار عن أهل غزة وهم يعيشون بلا مأوى ولا غذاء كاف، ولا مياه صحية مغطّية للحاجة ولا دواء.
إسرائيل لا يمكن أن تُقاوم إرادة العالم في رفع الحصار لو وُجِدت إرادة جدّية برفعه.
من لم يمكنه رفع الحصار الإسرائيلي من العرب يمكنه أن يتخلّى عن مشاركته مطلقاً ودائما في الحصار.
تستطيع الأنظمة العربيّة بالأمس قبل اليوم أن تُمارس درجة كبيرة من الضّغط لرفع الحصار بدل أن تشارك فيه بدرجة وأخرى، وأسلوبٍ وآخر. ولابُدّ لها اليوم من برنامج عملي لكسر الحصار، ومن الإعلان الصّريح للتخلّي عن مبادرة السلام مع إسرائيل التي تهزأ بها، ومن إنهاء عمليّة التّطبيع بمستوياتها المختلفة.
إنَّ إسرائيل اليوم في موقع ضعيف وتعيش حالة حصار ونقمة من الضّمير الخلقي الإنساني على مستوى العالم، وصار الموقف المساند لها يُعاني من الإحراج بدرجة وأخرى. وهذه نتيجة الاغترار بالقوّة، والاعتماد بالدرجة الأولى على لُغة البطش والظلم المكشوف. وهذه السّياسة من أي بلد سواء كانت سياسة خارجيّة أو داخليّة لابد من أن تصطدم في يوم من الأيام بمواجهة عامّة شاملة يفرضها الضّمير الخلقي العام، والمعاناة المرّة الواسعة ليُفشلها، ويسقط رموزها الفاعلة.
وعلى كلّ الدول والمسؤولين أن يتعلموا هذا الدرس التاريخي الأكيد والثابت.
وتحيّة وإكبار لقافلة الحريَّة وللموقف التركي الشجاع، والذي بدأ يظهر في مناصرة قضية فلسطين وفكِّ الارتباط شيئاً ما بالكيان الصهيوني الغاصب. وعلينا أن نكون متفاءلين بالدور التركي الجديد، وإن كانت العلاقة التركية الإسرائيلية لا زالت متينة وواسعة، وأن نتمنى لذلك الدور التوسع والثبات والإخلاص، فإن السياسة متقلّبة. إسرائيل مضطرة اليوم أو غداً أن تتراجع عن غرورها مريدة أو غير مريدة تحت مطرقة الضمير العام العالمي الرافض للظلم. وهكذا يفعل الأمر بالمعروف والنيه عن المنكر إذا عمّ دائماً.
وإنه لمخجل أن يأتي دور الأنظمة العربيّة من قضية فلسطين التي طال تعبيرهم عنها بأنّها قضيّتهم الأولى دوراً ذيلياً ومتأخّراً، وتأتي درجة حرارته المتواضعة مقتبسةً من الجوّ اللاهب العالمي في العديد من المواقف، وبإحراج من الرأي العامّ العربي.
يا إخوة الإسلام صرخةٌ استنكارية غاضبة في وجه الغطرسة الصهيونية وعربدة إسرائيل تطلقونها بعد الصّلاة مباشرةً في مسيرتكم الاحتجاجية المباركة.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اقطع يد الظلم والظالمين، وانصر عبادك المستضعفين، واهزم رايات الشرك والنّفاق، وارفع وأعزّ رايات التوحيد والعدل، وأظهر الهدى، وامحق الضلال، وأبطِش بالقوم المعتدين يا شديد النّقِمات يا قويّ يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – احترام، تصديق، اتباع، أم مجرد تلاوة؟ وأي كتاب هو الذي اعتمدت عليه فكرا وسلوكاً؟
2 – إمام حق، إمام باطل؟ بعد أن عرفت إمام الحق، وأعلنت ولاءك له، هل أخذت بخطواته؟!
3 – بحار الأنوار ج6 ص 223.
4 – وهناك زلزال لابد منه، وليس معي أحد يشاركني في مواجهته، هو زلزال يوم الموت، يوم القبر.
5 – الله عزّ وجل لا يريد أن يحدث في نفوسنا الرعب لنقعد عن النشاط في الحياة، لا ليس الأمر كذلك.
6 – هذا هو الدين الذي نُسأل عنه، ليس شيئا صعباً.
7 – الكافر جند لله، المؤمن جند لله، كل جماد، كل حي، كل ما في السماوات والأرض جند لله قهرا ورغما على كل شيء.
8 – الأجيال القوية تُصنع في أحضان مثل حضن الصديقة طهرا وعفة وعلما ووعيا وتقوى وإيمانا.
9 – ليضؤل نور الإسلام، ونور الهداية، ونور التقوى والانضباط على الخط الإلهي ولو إلى حين.
10 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
11 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لأمريكا).