خطبة الجمعة (403) 30 ربيع الثاني1431هـ – 16 أبريل 2010م
مواضيع الخطبة:
*الصلاة * لقد قالوا
لقد قدّم العلم في غياب الإيمان والقيم الأخلاقية لطغاة العالم قوّة بطش وتحكُّم وسيطرة ظالمة، وإرعاب، وإخافة، وحروب طاحنة مدمِّرة، وإفساد كبير في الأرض بصورة مضاعفة وواسعة جداً سهَّل الوصول لتحقيقها عليهم بما زاد الأوضاع سوءاً، ومشكلة العالم تعقيداً.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يليق بأحد إنكاره، وكيف ينكره من هو محتاج في وجوده إليه؟! وقائم في حياته به؟! ونفعه وضرّه بيده؟! ولا يحميه منه شيء؟! ورزقه متنزّل عليه منه؟! وقدره جارٍ عليه، ولا مفرّ له من أمره؟! ولا عقل ولا قلب له إلا من خلقه؟! ولا يملك أحد تدبيره غيره؟!
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله وأبناء عبيده وإمائه ونفسي المملوكة له بتقواه التي لا غنى عنها لمن أراد النجاة والفوز من عباده، ولا صلاح لحياة فرد ولا أسرة ولا مجتمع ولا أمّة من دون طاعته، ولا خوف لمن استجاب لأمره ونهيه، ولا أمن لمن استكبر عليه، وتمرد على إرادته، وضادّه في دينه وشريعته.
وإنّا غداً لمحشورون ومسؤولون، وشتّان بين من أحسن أو أساء عملا، وسينقسم الناس قبيلين: قبيل إلى الجنة، وقبيل إلى النار. قبيل تزفه ألطاف الله ورحمته إلى النعيم، وقبيل تسوقه ملائكة الغضب، ونقمة الجبار إلى العذاب.
فلينظر عاقل ماذا يفعل بنفسه اليوم ليكون مصيره غدا من جنس ما فعل، وكل ما قدّمه امرؤ من خير أو شر سيجده، ولن يفوت أحد حلاوة خيرِ ما قدَّم، ولن يدفع أحد عن نفسه مرارة شر ما أتى، وكتاب الأعمال لا يضل ولا ينسى، وعدل الله لا يظلم أحداً أبدا.
اللهم ارزقنا الرّشد في الاختيار، والصواب في القول، والسداد في العمل، واجعل قصدنا إليك، وسعينا في سبيلك، ودليلنا هداك، وخاتمتنا رضاك والجنة.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد فالحديث في الصلاة:
كل العبادة التي شرّعها الإسلام للتقوى والطهارة، وسموّ الذات والارتفاع بالمكلّف عن الدنايا والخبائث والموبقات، ولصناعة عقل وقلب وروح ونفس متصلة بالله سبحانه. وهي حاجة للفرد تمدّه بالقوة والاطمئنان وراحة البال، وأنس القلب، وتستقيم به، وتنقذه من وسوسةِ النفس المضعِفة، وتزيين الشيطان المضلّ، وتهذّب المشاعر، وتزكّي النيّات.
وتخلق العبادة في الإسلام بما فيها من أبعاد اجتماعية لا تخلو منها واحدة من عباداته المتعدّدة حسّاً اجتماعيّاً غزيرا، وتركّز روح الاندماج في المجتمع الفاضل، وشعورا نظيفا بعضويته الكريمة، والتضحية من أجل خيره وسعادته وفضيلته، فهي بذلك حاجة اجتماعية لابد منها لعدل المجتمع واستقامته وتعاطفه وتعاونه على الخير وسلامته.
وتمتلك الصلاة دورا مهما في هذين المجالين، وتربي النفس التربية العالية المسهمة بقوّة في تخريج الفرد القويّ، والمجتمع المتين النموذجيين.
يقول الكتاب الكريم عن الصلاة:{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}(1)، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}(2)، وفي آية أخرى {… وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ….}(3)، {… إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ…}(4) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(5).
الصلاة تحتاج في إقامتها إلى وعي وشعور حيّ، وعقل مدرك، وقلب خاشع، وإلا عظُمت على من فقد هذا الزّاد، وقصر عن مستواها، وتجاوزت صبره وقدرته {… وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
وهي تضاعف من القوة، وترتفع بمستوى العزم على الخير، وتثبّت على طريقه، وتعين بما توثّقه من علاقة العبد بربّه، وتشعّ به من ذكره سبحانه في نفسه، وتؤكّده من الثقة به عنده، وتريه من قدرته وعظمته ولطفه ورحمته وهيمنته وسلطانه على مواجهة التحدّيات، والصمود في وجه العواصف {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ…}. فلا تزلّ بالصَّلاة وعطائها في الروح والعقل والقلب والنفس القدم، ولا يغلب الهوى، ولا يتهاوى الصمود.
والصلاة ذكر، ولمزيد من الذكر، وإذا عمر القلب بذكر الله استحال عليه الضعف، وبمقدار ما يكون القلب ذاكرا يكون مستقيما وقويّا ومهديّا وراشدا وثابتا وواعيا ومنتصرا.
الصلاة لترسيخ ذكر الله في القلب، وإعطائه الحضور القويّ الدائم ليحميه ويهديه ويسمو به، ويحقّق له القدرة والغلبة في معركة الحياة المستمرة الطويلة الصعبة الشائكة التي لا تثبت فيها قدم على طريق الحقّ والنجاة والنجاح لا يحكمها قلب ملؤه الإيمان، وعامر بذكر الله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
إن هوى النفس لعارم، وتطلعّها للشهوات لشديد، وفتنة الخارج لمثيرة ومؤجِّجة، وجيوش الفسق والفجور لتُجيد العرض، وخطاب الغرائز، والموازنات الضخمة المرصودة للإغراء والإغواء بالباطل لهائلة، وإنّ كيد الشيطان لنفّاذ، ولكنّ كل ذلك مهزوم أمام صلاة الخاشعين وقوتها وهداها وبصيرتها في النفس، وذكرها لله سبحانه الذي تحييه فيها الصلاة وتؤكّده وتديمه، فيعطيها الصمود والغلبة والنصر على معسكر الشرّ والانحدار فيها، وفي الخارج(6). {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ….}.
إن الصلاة بما هي ذكر لله تبارك وتعالى لتنهى عن الفحشاء والمنكر، وإنها وبما هي ذكر لله عزّ وجلّ لتتجاوز ببركاتها وفاعليتها الكريمة، وآثارها الطيبة الحميدة مستوى هذا النهي إلى آفاق روحية أعلى وأسمى(7).
وإن ذكر الله لأغلب من أن يغلب على القلب العامر به، الزاهر بنوره غالب من هوى جامح، أو فاسق كائد، أو شيطان مارد. إنه الذكر الذي حمى النبي يوسف عليه السلام من الهزيمة والسقوط، وحمى كل نبيّ ورسول وولي صادق من الضعف والذوبان.
إنّه الذكر الذي لا يثبت أمامه سحر جاهٍ، أو سلطان أو مال أو جمال(8)، وهو الذكر الذي تقوم به السماوات والأرض، ويتمسك به كل شيء من أجل وجوده، وحياته، وكل ما يحتاج في قوامه، وكل خير يطلبه، فذكر الله والتعلّق به، وتسبيحه، والاسترفاد منه، والاستمطار من فيضه دأب الكون كلّه، وكلّ ذرّة من ذرّات وجوده، وكلّ نبتة، وكلّ نَفْس {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(9).
والصلاة الذكر يقول عنها كتاب الله المجيد {… إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ…}.
وفي الحديث الشريف بشأن الصلاة:”سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربّهم وأحبّ ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم (عليه السلام) قال:{… وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}(10)”(11).
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط(12) إذا ثبت العمود نفعت الأطناب والأوتاد والغشاء وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء”(13).
فالصلاة تمتلك أهمية كبرى من بين سائر الطاعات، ولا يسلم دين عمليّ بدونها، والمتخلّي عنها كأنه قد تخلّى عن الدين كاملا، وهدمه من حياته هدما عمليا تاما. فليعرف المسلم قدر الصلاة ووزنها عند الله، وليولِها ما استطاع من الاهتمام، فإنّ فيها دينه العمليّ كلّه، حيث كأنه لا دين له عملاً إذا لم تكن له صلاة.
ولا استخفاف بالصلاة ممن أتى بها وإلاّ كان أمره خطيرا كما في هذا الصحيح “عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي فلم يتم ركوعه ولا سجوده، فقال (صلّى الله عليه وآله) نقر كنقر الغراب(14) لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني”(15).
والصلاة ظاهر من ذكر وقراءة وقيام وركوع وسجود، وباطن من خضوع، وخشوع قلب، وانفتاح روح، وحضور عقل، وإقبال مشاعر، وتعلّق حب وخوف ورجاء، واندكاك ذات، وانسحاق نفس، وتضعضع وهيبة أمام عظمة العظيم تبارك وتعالى وجلاله وجماله، واطمئنان وسكينة وأنس برحمته ولطفه وجوده وكرمه، ودرئه وحماه.
واللبّ في الصلاة وفي كل العبادة هو هذا الباطن، وإن كان الظاهر في صورته الشرعية الواردة لابد منه، ولا يتأدّى الواجب إلاّ به، ومن صدق باطنه لم يتخلّف عن الظاهر الشرعي، وعن الأوضاع التي ألزمت بها الشريعة، وهي أوضاع لها علاقة موجَبَة بإحياء القلب وطهارة الروح(16).
وفي الصحيح “عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) أنّهما قالا: إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها، فإن أوهمها(17) كلها أو غفل عن أدائها(18) لُفّت فضرب بها وجه صاحبها”(19).
فالله جميل ولا يليق به إلا جميل والصلاة بلا حضور عقل وقلب كاذبة لا جمال فيها، وتعني تعاملا سيئا مع الله عز وجل(20). وما أصعب على النفس المستشعرة أن يردّ العظيم الكريم العدل البر الرحيم عملها بهذه الصورة المؤلمة المتضمنة للسُّخط(21)، والاستخفاف والتحقير، والتسقيط(22).
والصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، المؤدّبة لصاحبها، المهذبة لمشاعره وسلوكه لا يتخلّف أثرها إلا لتخلّفها، وما وُجدت إلا وكان أثرها، وبمقدار ما صحّت كان إثمارها. ففي الحديث “عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): اعلم أن الصلاة حجزة(23) الله في الأرض فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر فإن كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدر ما احتُجز(24)، ومن أحب أن يعلم ماله عند الله فليعلم ما لله عنده”(25).
إن من لم تحجزه صلاته عمَّا حرم الله، ولم تحمله على طاعته كانت فاقدة للنفع في بنائه وترميمه وإصلاحه، ولا تكون كذلك إلا لأنها فاقدة للصحة أو غير صالحة للقبول. وإذا كانت الصلاة على درجة من القبول كان لابد أن يكون لها أثر طيب في الذات من الحمل على الخير، والزجر والحجز عن الشر.
وإنّ من وجد الله في نفسه عظيماً مهاباً مطاعاً موقّراً، فليعلم أنّه مقدّم عند الله مقبول مرحوم. وإذا كان ممن لا يحمل قلبه لله وقارا، ولا يجد في صلاته من نفسه له خشوعاً فليعلم أنّه ليس له عند الله شأنٌ ولا كرامة، وإنه البعيد المطرود من الرحمة الواسعة، والمستجار بالله.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل أرواحنا عارفة بك، وقلوبنا خاشعة لك، وجوارحنا مشتغلة بطاعتك، وآنسنا بذكرك، وجزاءنا القبول لديك يا حنّان يا منّان يا متطوّل يا جواد يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الكبرياء الحق، والجبروت الصدق، والعظمة غير المتناهية، والملك القائم، والسلطان الدائم، والعدل الثابت، والمشيئة النافذة، والقدرة الغالبة، والجلال الذي لا يُحدّ، والجمال الذي لا يوصف، والكمال الذي لا يُبلغ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله الذي بيده محياكم ومماتكم وما ترزقون أوصيكم ونفسي المخلوقة لقدرته، المأسورة لإرادته بتقواه، والتزام طاعته، والتخلي عن معصيته، فإنه لا طاقة لأحد بعقوبته، ومن أقبح الظلم معصيته. فكيف يُعصى من كانت نعم العبد كلها من عنده، ولا خير له إلا من فيضه، ولا تكون معصيته إلا باستعمال نعمه، والاستفادة من جوده وكرمه؟!! ومن يُعطي إذا منع؟! ومن يهب إذا سلب؟! ومن يؤوي إذا طرد؟! ومن ينصرُ إذا حاسب؟! ومن يدرأ إذا عاقب؟! فلنتق الله فإنه لا سبيل للنجاة والفوز إلا بالتقوى، وما عدل من عصى وطغى.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا مالكنا ارحمنا، وطريق طاعتك وكرامتك فاسلك بنا، وإلى الغاية التي ارتضيتها لعبادك الصالحين فخذ بنا، وبعافيتك فنعّمنا، وسلامة الدنيا والآخرة فارزقنا، وأحسن الخواتم فاكتب لنا، وبما لا طاقة لنا به فلا تبتلنا، ومن كل سوء وضيق وحرج فنجِّنا، وسعادة الدارين فامنحنا يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى، يا عفوّ يا غفور.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، على الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا قريبا مبينا ثابتا قائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء فإلى هذه الكلمة:
لقد قالوا:-
لقد قالوا أن الحل في العلم. وقد تقدم العلمَ كثيراً، وقفز على خط تقدّمه قفزات عالية، وبقى الظلم والخوف والفقر والمرض والتمزّق والعدوان والكوارث المدمِّرة التي تجري على يد الإنسان وآلاته العلمية العملاقة وسلاحه النووي والكيماوي والجرثومي، وبخطط جهنمية قائمة على العلم ومكرٍ سياسي خبيث يعتمد عطاء الدراسات العلمية والتجارب العملية.
وتقدم بتقدم العلم الاقتصاد وتضاعفت الثروة، وتصاعدت أرقامها إلى أرقام فلكية هائلة، ولا زال التشرد والبطالة والفقر والرعب والأمراض وموجات من الوباء الفتّاك تجتاح الملايين في بلاد المليارات والأرقام الكونية في تعداد المال.
وتقدمت بتقدم العلم المواصلات والاتصالات وحولت العالم إلى ما يشبه القرية الواحدة من حيث سرعة الانتقال وانتشار المعلومات وسعة هذا الانتشار، وتقدمت في ظل الطفرات العلمية جنبات كثيرة من الحياة ولكن ليزداد شقاء البشرية بقدرة المفسدين على التدمير الهائل الواسع للأمن العالمي، ولأخلاق الإنسان، وكيان الأسرة والمجتمع، وتعميم حالة القلق والاضطراب، والترقب السيء، والخوف من الآخر وفقد الثقة. وبقيت مشكلة الاستكبار والاستضعاف تحكم علاقات العالم، والمجتمعات، والفئات والأسرة، وتمثّل منبع فساد دائم وخراب عميم.
لقد قدّم العلم في غياب الإيمان والقيم الأخلاقية لطغاة العالم قوّة بطش وتحكُّم وسيطرة ظالمة، وإرعاب وإخافة وحروب طاحنة مدمِّرة، وإفساد كبير في الأرض بصورة مضاعفة وواسعة جداً سهَّل الوصول لتحقيقها عليهم بما زاد الأوضاع سوءاً، ومشكلة العالم تعقيداً.
وبقيت المليارات من أبناء البشرية في أفريقيا وآسيا وغيرهما تحت خط الفقر، وبقيت بلاد كثيرة في العالم تشكو وتُهدّد من فقد المياه الصالحة للشرب، ومن الحاجة إلى شبكات الصرف الصحي، لتتفاقم في أوساط شعوبها الأوبئة السارية والأمراض الفتاكة.
وصار أناس هذا العالم اليوم وفي ظل التقدم العلمي وتضاعف الثروة، ولتحطيم القيم بآلة ا لعلم على أيد الطغاة الجهلة أخوف ما يخافون على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم ودمائهم من بعضهم البعض، ومن عدوانية الإنسان للإنسان، وجاهليته ووحشيته وخيانته وإباحيته، وذلك على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمعات والدّول.
لقد برهن العلم وبدرجة بالغة، وصورة قاطعة على عدم كفاءته في غياب الإيمان وأخلاقيته الكريمة عن حلّ المشكلة البشرية. وأكثر من ذلك أنّه ضاعفها.
ولقد قالوا أن الحل في الديمقراطية.
ولا حديث عن الديمقراطيات الناقصة والمزورة المكذوبة. وإنما الكلام عما يوصف بأنه ديمقراطية عريقة وكاملة ونموذج ومثال.
وقد طبقت الديمقراطية التي يُدَّعى لها أنها من النوع الثاني. وهي نوع من الحكم أساسه في الحقيقة الاحتراب السياسي المفتوح على أقذر الأدوات، وأسقط الأساليب، وأمكر المكر السيء لإبراز الذات، وإسقاط الآخر، والتحايل على كسب الرأي العام الذي يعدّ الأداة الفعّالة في الوصول إلى مواقع السيطرة والتحكّم.
وفي غالب هذه الديمقراطية أنها حكومة رأس المال الضخم بأرقامه الهائلة المستنزَفة بمهارة وفن وروح إباحية جافة وقاسية من عرق المستضعفين لتمكّن لحكومة المستكبرين وتسلّقهم المناصب عن طريق التلاعب بالرأي العام الذي يُسخَّر المال في كسبه بصورة بشعة.
لقد أصبحت الديمقراطية عملية مقامرة خطرة وتجارب مستمرة غير مضمونة تمارسها الشعوب في من تختارهم لتكتشف في كثير من المرات أنها أخطأت الخيار، وأحكمت طوقا حول رقبتها حين أوصلت عناصر المغامرة بحياة الشعوب وإنسانيتها ومكاسبها في سبيل طموحاتها الشخصية وغرورها إلى مواقع الحكم والسيطرة.
والديمقراطية من بعد ذلك صراع غير شريف، وحرب استنزاف وحرق أعصاب للشعوب بين الحكم والمعارضة. وهو صراع مصالح شخصية وحزبية وفئوية في أغلب الأحيان والبلدان. وهي حرب يخوضها طرف الحكومة والمعارضة في بيئات الديمقراطيات العريقة بإمكانات الشعوب ولشغلها عن الآلام، وتنافساً على كرسي الحكم وامتيازاته الكبيرة.
وكثيراً ما تتناوب المعارضة والحكومات على الكرسي لتمارس معارضة الأمس وحكومةُ اليوم دور سابقتها في التلاعب بمقدرات الأمة ومقدّراتها وقراراتها المصيرية، ولتمارس حكومة الأمس ومعارضة اليوم دور سابقتها في التنديد بالظلم والسرقة وتوزيع المناصب والأخطاء الخطيرة للحكم، وهكذا يتغير الدور كلما تغير الموقع.
وكل المشاكل التي لم يحلّها العلم لم تحلّها الديمقراطية، والمآسي الإنسانية المتفاقمة في ظل العلم بقيت متفاقمة في ظل الديمقراطية.
والحروب الظالمة، واستنزاف خيرات الشعوب، واستعباد أبنائها، وفرض الهيمنة الاستكبارية برؤوس الأموال المنهوبة أو المنتَجة، وبأفتك الأسلحة وأقذرها وأشدها وأوسعها طاقة تدميرية، وسياسةُ التمييز الظالم، وإلغاء الآخر؛ كل ذلك لم تقلل منه الديمقراطية الأصيلة العريقة المثال، بل صارت المصدر الأول لكل هذه الكوارث والمآسي ومضاعفتها.
الديمقراطية التي لا تؤمن بقيم عالية، ولا تقوم على تربية خلقية. ولا تشترط مستوى إنسانيا كريما في مرشح الرئاسة فضلا عمن دونه، ولا تنظر إلى دين، ولا تقيم وزنا لكلمة الله، ولا تتجاوز بنظرتها شهوات الحياة لا تعني إلا صراعا مفتوحا وإباحياً على الحكم، ثم مكتسباته ولو بأقذر الوسائل وأشدها ضرراً بالأمة.
إنّه الصراع الأرضي الجاهلي الوسخ الذي قد يأخذ صوراً ناعمة ماكرة مسمومة، لينقلب إلى صورة حرب دموية ساحقة مكشوفة في بعض الحالات والظروف، وحين يمتنع النصر عن طريق الوسائل الناعمة.
هذا هو حال الديمقراطية؛ أما الديكتاتورية وهي حكم هوى الفرد أو العائلة أو الحزب الواحد بلا شريك ولا معارضة قادرة فليس مثل سوئها سوءاً، ولا قيحها قيحا، ولا صديدها صديدا، ولا كارثتها كارثة.
ومن الحق أن يقال بأنه يستحيل أن يقوم حكم رشيد عادل في الأرض بلا دين حقٍّ، وفهم صادق أمين لهذا الدين، وتربية إلاهية عامة، وقيادة دلّت عليها السماء.
وحتّى المنهج الإسلامي الرشيد لو توفّرت عليه الدنيا في أصدق وأنقى صورة له إذا لم تسعفه تربية من نوعه تصحح العقول، وتطهّر القلوب، وتزكّي النفوس، وتستبدل عن الأهداف الأرضية الوضعية الوضيعة الهدف الإلهي الرفيع، وتحول التنافس إلى تنافس أخلاق، والسباق إلى سباق فضائل بدل تنافس الشهوات والنزوات فإنه لا يحل المشكل(26).
والمنهج الإسلامي على سموّه بلا قيادة من جنسه لا يمكن أن يتم به الحل.
وإنما الحل في المنهج الإلهي الصدق، والقيادة الربانية الحق، والتربية الإسلامية الرشيدة التي تزرع في الناس رؤية الإسلام وأهدافه وقيمه وأخلاقيته.
فمن كانت له شفقة على أهل الأرض فليفهم الإسلام، ويخلص له، ويصدق معه، ويعمل في النّاس ما استطاع على نشر هداه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا عيبا إلا سترته، ولا هما أو كربا إلا فرّجته، ولا خوفاً إلا آمنته، ولا سقماً أو مرضاً إلا شفيته، ولا ضالا إلا هديته، ولا سجينا إلا أطلقته، ولا غريبا إلا رددته، ولا مجاهدا إلا نصرته، وارحم شهداءنا وكل شهداء أهل الإسلام، والموتى المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(27)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 45/ البقرة.
2 – 14/ طه.
3 – 45/ العنكبوت.
4 – 9/ الجمعة.
5 – 41/ النور.
6 – هناك معسكران للشرّ: معسكر من داخل النفس، ومعسكر من خارجها، ولكن المعسكرين مهزومان أمام عطاءات الصلاة المقبولة.
7 – لا يقف عطاءات الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر. ذكر الله عز وجل ينهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن يتجاوز بالذات مسافات ومسافات عن هذا المستوى ليذوب القلب في الله، ويخلص له.
8- النفوس الصغيرة تسقط أمام فتنة الجمال، أمام فتنة المال، أمام فتنة الجاه والسلطان. النفس المصنوعة صناعة صلاتية صحيحة هذه الامتحانات الكبيرة ليست عندها كبيرة.
9 – 1/ الجمعة.
10 – 31/ مريم.
11 – الكافي ج3 ص264
12 – الفسطاط: الخيمة.
13 – الكافي ج3 ص266.
14 – هذا الأسلوب ربما كان إنكاراً مغلّظاً.
15 – الكافي ج3 ص268.
16 – المظاهر العبادية الخارجية ليست زيفا، وليست فضولا. إن لها لمردودا إيجابيا على الروح.
17 – أنّ المصلي سرح، وعاش حالة الوهم.
18 – أي لم يكن له حضور في أدائها، الأداء الشكلي موجود.
19 – وسائل الشيعة ج5 ص477.
20 – أرأيت لو أن شخصاً كريما محترما عالي القدر وصرت أتحدث معه بإعراض، وظهر له مني أني غير مكترث به، هذا الحديث معه والجلسة معه إساءة أو إحسان؟ تعامل سيء. المتحدثان العاديان صاحبان أحدهما يعرض عن الآخر فالآخر ينهي سماعه، أو حديثه عن صاحبه في امتعاض وتألم.
21 – لف الصلاة وضرب صاحبها، بها ماذا يعني؟ يعني أن هناك سخطا إلهيا على هذا العبد.
22 – الله عز وجل يحقر هذا الشخص، ويرد صلاته عليه بضرب وجهه بها.
23 – يعني تحجز، تمنع من البغي والظلم والفساد والفحشاء والمنكر.
24 – ماذا أعطتني صلاتي؟ أستطيع أن أعرف، ماذا قُبل منها، ماذا أعطتني؟ إن حجزتني عن المحارم، عن السيئات، عن المعاصي فأعرف أني نجحت فيها بعض نجاح، وإلا فعليّ أن أكتشف أن صلاتي خاوية.
25 – وسائل الشيعة ج5 ص476.
26 – الإسلام نفسه لا يستطيع حل المشكل بلا تربية منه تساند منهجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلخ.
27 – 90/ النحل.