عقيدة الآخرة ( آية الله قاسم )
عقيدة الآخرة
لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
إنَّ لعقيدة الآخرة تكاليف لا يستقيم معها انطلاق النَّفس بلا حساب وراء الشّهوات، وانعدام الضوابط الخُلُقية في الحياة (1)، وتضييع الحقوق، والتنكُّر للواجبات، والإباحيّة في سلوك الأفراد والمجتمعات، وسحقُ كرامة الآخرين، واستغلالهم، وانتهاك حرمات الله.
ومن هنا صعب أمر الآخرة على النفوس الواهنة التي لا تتحمل التكاليف، ولا تصبر على الضوابط، ولا تتورّع عن المحرّمات، ولا تملك أن تقف أمام شهوة، أو تتراجع عن نزوة. ذلك بترك صاحبها لها أن تقود فينقاد، وأن تأمر فيأتمر، وكأنه خِلْوٌ من العقل، والرُّشد، والإرادة، والنّظر في العواقب، واحترام الذات.
ولو آمن مثل هذا المرء بالآخرة فإنّه لا يُوقن بها، وإيمانه يكون مغيّباً مكبوتاً وراء الظلمات، ويعاني من قلق واهتزاز، ولا قوّة له على ردع عن رذيلة، وارتكاب فحشاء، ومواقعة منكر، ولا يعطي دفعاً لتحمّل واجب، والنهوض بتكليف.
وربما بلغ التدهور بالنفس من فِعْلِ السيئات مبلغاً خطيراً لابُد أن تفارقه حالة الإيمان، وتتخلّى عنها النفس.
وكلُّ العقائد الحقّة تحتاج في استقرارها إلى أجواءٍ نفسية وروحيّة غير طاردة، وتلوّثُ جوِّ النفس بالذنوب والآثام لا يناسبها.
ومن طغيان حبّ الدنيا على النفس وتعلّقها بها، وحاكمية الشهوات أن تطلب الدّنيا بالآخرة في الكلمة والموقف، وحتى من مثل صلاتها وحجّها وخمسها وزكاتها وجهادها حتى إذا فقدت هذه الأمور العبادية ما كان لها من مردود دنيوي تمّ التخلّي عنها وإسقاطها.
أمّا أصحاب القدم الثابت في الإيمان بالله واليوم الآخر فيظلُّ خيارهم الآخرة وإن تهدّدهم الموت في سبيل الله، وزحفت إليهم المنيّة جادّة لسلوك هذا السبيل، واجتمعت عليهم كلمة الأذى من الناس كلّ الناس {… مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ …}(2) وقد يعمل الإنسان عمل الآخرة وهو يريد الدّنيا، وقد يعمر الدُّنيا ولكن بإرادة الآخرة.
ولمّا جاء الإسلام كثرت بركات الدّنيا وغزر خيرها بفضل الله سبحانه، وبما بذل الرّسول (ص) من جهود، وأخذ به من سياسة حكيمة عادلة، ولم يكن يريد من إعمار الدّنيا إلاّ الآخرة، وأن يتّخذها الناس وسيلة لها. ولقد كان صلّى الله عليه وآله الزاهدَ فيها، العازف عنها، المستعلي على زخارفها وزينتها.
وما من مريد للآخرة إلا ويستوفي نصيبه المكتوب له من الدنيا، وما من مريد للدنيا يستوفي منها أكثر من حاجته إلاّ وأضرّه ما أخذ.
وماذا يحتاج الإنسان من هذه الدُّنيا حتّى يبلُغ أجله أكثر من نَفَسٍ يتنفسه، ولقمة يطعمها، وشربة يستسيغها، وثوب يستره، وجدار يكنُّه، وراحلة تقطع به ما بينه وبين حاجته البعيدة، وأنثى يألفها ذكر، وذكر تألفه أنثى، وإنسان يأنس به إنسان وما ماثل هذه الأمور أو وقع في طريقها. ولولا شرَهٌ، وأثرة، وجنون مادي، ونهب وسلب وسرقات، وتبذّخٌ ضارّ، وترفٌ مهلك، وأطماعٌ لا حدّ لها، وحروبٌ طاحنة، وحرق ثروات بهذه الحروب، وإنفاقٌ حرام، وفسادٌ في الأرض يزيد من حدّة الأمراض، وانتشار الأوبئة، وسياسات طاغية، وأخلاق متفسِّخة، وعبث بالثروة، وتراخٍ عن الإنتاج لفاضت الخيرات عن الحاجات، وما احتاج الناس لأن يتركوا الآخرة للدنيا، ولا أن ينسوا أنفسهم لحساب المال.
ولن ينتقل أحدٌ من هذه الدنيا من مؤمن أو كافر وبيده شيء منها إلاّ ما قدّمته نفس لغدها من عمل صالح تلقاه محفوظاً مجزيّاً بخير جزاء عند الله، أو عمل سيء تجده خِزياً وذُلاً وهواناً، وعذاباً أليماً مقيما، أو ساعة ذهبت من العمر فراغاً بلا جدوى تكون ندامةً وحسرةً غائرتين في النّفس موجعتين.
ولكن مريد الآخرة وافر الحظّ فيها، مُنعّم، رفيع المقام، مسرور محبور، مضاعف له جزاؤه، غامر له عطاؤه. وليس لمريد الدّنيا في الآخرة من نصيب مما يدرأ ويكفي، ويغني ويثري. وإنَّ مَن أعرض عن المعاد اليوم كانت له هناك لظى وما أدراك ما لظى نزّاعة للشوى.
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}(3).(4)
وأخسّ من أراد الدنيا من أرادها بالدّين فحرّفه، وأفسده، وشكّك في قدره بما أساء له، وبعّد عنه، ونفّر منه، وعُيِّر به(5) لخساسته وانحدار نفسيته. وهو تعيير من منشا انتساب هذه النفسية والشخصية زوراً للإسلام.
ولنضع الحديث عن الآخرة تحت عناوين محدّدة:
الإنسان الأرضي والآخرة:
كلُّنا نعيش على الأرض، وترتبط حياتنا الدنيا بها، ولا نستغني في هذه الحياة عنها لكن من النّاس من لا تتجاوز عقليته ونفسيته الأرضَ وشهواتها وحاجاتِها وهمومها، ولا يكاد يمتدّ منه فكر ولا شعور خارج سجن المادة، وإطار المحدود، وليس له نظر إلى ما وراء هذا العالم الذي لا يملك من داخله تفسيراً مقبولاً لوجوده ابتداء واستمراراً وانتظامه، ولا يقابل حقائق الغيب، ولا الحقيقة الكبرى الأولى التي تشعُّ بعالم الحس وكل عالم آخر، ولا يكون شيء إلاّ من إشعاعها وفيضها إلا بالتردُّد والتشكيك لعلّة انقطاعه إلى الأرض(6) والخلود إليها في حالة السطح من وجودها دون العمق والمغزى، وما يلهمه وجودها ونظامها المحكم من معرفة الخالق، والإيمان بحياته وقدرته وعلمه وحكمته وغناه المطلق، وحاجة كل شيء إليه(7).
وإنسانٌ هذا حاله في الانكباب على الأرض، وعماه عما وراء عالم الحس لذلك الانكباب هو ما أتسمّيه هنا بالإنسان الأرضي دون الإنسان الذي يعيش على الأرض، ويتعامل معها دون أن تخلق عنده حاجباً فكريّاً أو نفسيّاً عن رؤية الحقّ الذي يقف وراء تفسير هذا العالم، ويعلّل وجوده ودقة صنعه والحياة فيه.
1. هذا الإنسان والناحية النفسية: هذا الإنسان الأرضي له مواصفات. حين نقرأ حالته النفسية يقول عنه الكتاب الكريم:
{… الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ…}(8).
وراء التكذيب بيوم الدِّين نفسية غير سليمة… نفسية ملوّثة، معتدية، آثمة، حجبها عن الحق تراكمُ الموبقات، وثقَّل عليها أن تستجيب لعقيدة الآخرة التي لا تنسجم والاستغراق في شهوات الدنيا، ومتع المادّة بلا حدود، وأن تكون المادّة كلَّ هدفها وهمّها، ومركز تفكيرها وشعورها، وأن تكون مستقطَبة لها تمام الاستقطاب.
فمن أراد أن تتسع نفسه للإيمان باليوم الآخر فليخفِّف من هذا الارتماء على المادة، والولع بها، والذوبان فيها، والانسحار بها، والخلوص الكامل لها.
2. الإنسان الأرضي والناحية الفكرية:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(9).
يستحيل على من يتبنى نفي الآخرة أن ينطلق في هذا الموقف من علم أو مقدّمة علمية. وإنما هو الظن القاصر البعيد عن معطيات العقل، وحقائق الاستقراء التي يقدّمها هذا الكون وظاهرة الموت والحياة فيه، ولا يلتقي معه النظر الموضوعي الدقيق. إنه الظن الساقط من منطلق نفسي موبوء خسيس لا يصحّ أن تُبنى عليه الحياة، ولا يواجه به حكم العقل بالاحتياط حتى لمن ابتُلي بالتردّد لمرضه في أمرٍ عظيم يمثل أخطر الأمور.
والآية الكريمة تطرح على لسان أصحاب هذه العقلية المغلقة قضية نفي المعاد بوصف أنها جازمة؛ فتقول:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ…} فتعبيرهم تعبير حاصر للحياة في الحياة الدنيا ولا غير(10). وهذا الجزم المخالف للنظر العلمي عين الجهل، وهو أبشع صورة من صوره.
ويتعقّب الكتاب الكريم إثارات هذه النفسية المبتلاة، والعقلية السقيمة في موضوع المعاد ويردّ عليها في عدد من الآيات الكريمة، ويأتي الكلام على شيء من ذلك إن شاء الله.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك التوّاب الرحيم.
ربّنا اهدنا ولا تضلّنا، وافتح عقولنا وقلوبنا على الحقّ، واجعلنا من أهل اليقين، وصِفوة المتّقين، واقطع عنّا دابر الشّيطان، واكفنا ما توسوس به النفس الأمّارة بالسّوء، واحمنا من كيد المبطلين يا أرحم الرّاحمين، ويا أكرم الأكرمين، يا من هو على كلّ شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11)
——————————–
1– خطبة الجمعة (405) 15جمادى الأولى1431هـ 30 أبريل 2010م
2 – 152/ آل عمران.
3 – 20/ الشورى.
4 – نصيبه قلّ أو كثر في مسافة زمنية هي عشرون سنة، مائة سنة، مائة وخمسون سنة، ثم شقاء بعد ذلك إلى الأبد.
5 – الدين قد يُعيَّر بأصحابه حين يُسيئون استعمال الدين.
6 – هذا الإنسان الخالد إلى الأرض يبتلي بهذا، تنقطع نظرته عن السماء، ينفصل عن الله تبارك وتعالى.
7 – حين ننظر إلى عالم المادة نظرة عميقة توصلنا إلى الله عز وجل، وحين تتمجد نظرتنا إلى عالم المادة على الشهوات والنزوات فإن النظرة تقطعنا عن الله عز وجل.
8 – 11، 12/ المطففين.
9 – 24/ الجاثية.
10 – وهذا الحصر يمثل حالة جزم نفسي قاطع.
11 – سورة الإخلاص.