خطبة الجمعة (388) 17 ذو القعدة 1430هـ – 6 نوفمبر 2009م

مواضيع الخطبة:

*الإنسان ومفترق طريقين *أمريكا في وضح النهار *مواجهة مستمرة *درس من القرآن الكريم

أسوأ ما تبتلي به النفس البشرية من مرض الأنا أن تنسى عبوديتها لله سبحانه، وتعيش وهم الإلوهية داخلها في قبال الإلوهية الحقّة له تبارك وتعالى، فتستكبر على إرادته، وتتمرد من منطلق النظر إلى ذاتها وكبريائها الكاذبة على ما يختار ومن يختار.

الخطبة الأولى

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، الظاهر الباطن، والأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وتسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، والفِرار من أشرّ الفقر، وأكبر البلاء وهو فقر القلب والنفس كما تفيد كلمات المعصومين عليهم السلام.
ومن أراد الغِنى فليطلب أعظمه وأبقاه وهو غنى النفس بمعرفة ربّها، والتعلّق به، والانصراف إليه، ولا تجد نفسٌ غنىً وهي مدبرة عن الله الذي لا غنيّ سواه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وأغننا جميعاً بغنى الإيمان، واملأ أكفّنا من فضلك، وأعزنا بعزّك، ولا تذقنا طعم الذّل في الدنيا ولا الآخرة، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك يا سميع يا مجيب، يا رحمن يا رحيم، يا كريم.
أما بعد فهذا حديث تحت عنوان: الإنسان ومفترق طريقين:
أولاً: الإنسان خلقاً:
لقد خُلق الإنسان كما في قول خالقه العظيم في أحسن تقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(1).
فصورة المركّب الإنساني في ما هو عليه من قوى وطاقات، وإدراكات، ودوافع وأشواق، وأبعاد متعددة مختلفة أحسن صورة اعتدالاً وتناسباً مع موقع هذا المخلوق ودرجته في الوجود، وما أريد له من التمتع بالإرادة والاختيار، وخوض تجربة الابتلاء والامتحان بما يتيح له أن يحدّد مساره ضمن فرص النفس والحياة المفتوحة بمقدار، وأن يرسم مستقبله ومصيره على ضوء ما يأخذ به من منهج ومسار.
ثانياً: قوة وضعف:
في الإنسان عناصر قوّة، وعناصر ضعف.
1) عناصر القوّة:
‌أ. قوة الإدراك والعلم:-
والعلم نورٌ من الله تبارك وتعالى وُهِبَ لهذا الإنسان يشقّ به طريقه في الحياة، ويهتدي به في تطويرها، وفي الاستقامة على طريق الله عزّ وجلّ في فكره وشعوره وسلوكه.
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً(2) وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3).
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}(4).
{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(5).
العلم قوة وثروة تعطي الإنسان امتيازاً من بين المخلوقات الحيوانية الأخرى، وتؤهله لدور يختلف عن دورها، وترسم له الطريق إلى درجات من العلى لا ينالها غيره ممن يشاركه في النموّ والحركة على المستوى المادي، أو يشاركه في درجة من الإدراك دون إدراكه.
‌ب. معرفة الخير والشر، وقدرة الاختيار:
هذا مائز آخر للإنسان، ونقطة قوّة واضحة.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}(6).
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(7).
‌ج. الضمير الخلقي:
{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(8).
هذه نفس تدفع الإنسان إلى السموّ، وتأبى له الوضاعة، تأبى له الانحدار. نفس تستوقفه إذا أخطأ. وهذه النفس ربما هي التي تحمل أشواق السماء، وتنشد بلهفٍ إلى الكمال.
2) وفي الإنسان كما تقدّم أوضاع ضعف، نقرأ من هذه الأوضاع شيئاً في الآيات الكريمة الآتية:
{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(9).
ضعيفاً في ظرف الصحة، في ظرف المرض، في ظرف الخوف والأمن، في ظرف قوّة بدنه وضعفه، في ظرف غناه وفقره. لا يكاد يملك نفسه أمام كل هذه الظروف، ومرة يبطر وأخرى يضجر، مرة يأمل فوق ما ينبغي له أن يأمل، ومرة ييأس حتى ينسحق.
إنه في الكثير لا يملك أن يقف مع عقله، ومع الهدى والدين أمام ظرف عابر، كثيرا ما ينهزم، كثيرا ما يضل، كثيرا ما تغيم أمامه الأمور، كثيرا ما يقع في خيارات خاطئة.
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}(10).
وربما استعجل الإنسان الشرّ استعجاله للخير، والعجلة لا تتيح للفكر أن يعمل، ولا للعقل أن ينفع، ولا للهدى أن يقود.
{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(11).
ظروفه تملكه، بينما ينبغي أن يملك ظروفه.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}(12).
يجادل بالباطل، وجدله يصرفه عن الحق، يعميه عن رؤية الحقيقة. يستكبر الإنسان ويجادل من منطلق هواه، وتفرض الأنا نفسها عليه حتى يعمى عن الحق، ولا يَسمح له استكباره أن يخضع له.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً}(13).
النعمة تبطره، وتؤلّهُهُ في داخله، وتنسيه حاجته إلى ربّه، تخرجه في وهمه من واقعه الصغير المحدود المملوك حتى ليرى من نفسه الاستغناء عن الله عزّ وجلّ فيُعرض عن ربّه الذي يملك كلّ ذرة منه وما هو أصغر وعن ذكره وشكره والاعتراف إليه بعبودية نفسه.
الإنسان يتقلب بحكم تقلب الظروف بين غرور مضلٍّ، وبين حالة انسحاق نفسي مذِلٍّ، بين أمل واهم ويأس قاتل.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}(14).
لا يقول أذهب الله السيئات عني، وإنّما يقول ذهب السيئات عنّي.
يذِلّ أمام ضغط الظروف، ويبطر أمام لين الظروف، وهكذا الإنسان وكأن الظروف هي التي تصوغ نفسيته، وهي التي توجهه فيكون الضعيف أمامها الذي لا يملك أن يقود نفسه وهو الذي كُلِّف بأن يقود مسار الحياة على ضوء دين الله تبارك وتعال. هذا هو الإنسان في أصله، وخلقته.
لو تُرك الإنسان ونفسه لكان الضعيف، المستعجل، الهلوع، الجزوع، المنوع، المجادل بالباطل، اليؤوس، المغرور، إلخ.
صحيح عنده عناصر قوّة، ولكن فيه كل هذه الأمراض، فكيف العمل؟
ثالثاً: الإنقاذ:
ليس من طريق للضعيف لكي يخرج من ضعفه إلا الارتباط بالقويّ، وكل الناس في أصلهم ضعفاء، وكل الكائنات دون الله على ضعف ذاتي، فلا قويّ إلا الله تبارك وتعالى. هو القوي المطلق، الغني المطلق، وكل الطرق أمام الإنسان مسدودة لأن يخرج من الضعف إلى القوة إلا الطريق إلى الله تبارك وتعالى.
1. الارتباط بالله:{… وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(15). المثل الأعلى الذي لا نهاية لعلمه، لا نهاية لغناه، لقدرته، المثل الأعلى هو الكامل المطلق في كل ذاته وفي كل صفة من صفاته بلا تجزئة بين الذات والصفات. الآية الكريمة تدلنا على الطريق الواحد الذي يعطي الارتباط به الخروج من الضعف إلى القوّة.
وتقول الآية الأخرى:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(16).
الرجس ظلمة، الشك ظلمة، الكفر ظلمة، الغرور ظلمة، كل صفات الضعف التي يعاني منها الإنسان تمثل حالة سلبية وظلمة.
ومن الذي يخرج الإنسان من ظلماته إلى النور؟ هو ربه تبارك وتعالى. {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}. العنوان المأخوذ في الإخراج هو الإيمان؛ فلا يخرج الذين كفروا من الظلمات إلى النور وهم على كفرهم، فالكفر ليس سببا عند الله للإخراج من الظلمات إلى النور. ما هو السبب، ما هي الأرضية التي يخرج الله عز وجل الإنسانَ على أساسها؟ من الظلمات إلى النور هي الإيمان، هي الارتباط به، هي الانشداد إليه، هي الاستكانة بين يديه، هي التعلق به، هي الاستمطار والاسترفاد من فيضه وفضله.
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} أولياؤهم في التربية، وعلى المستوى الإرادي الطاغوت، والطاغوت لا يملك أن يخرج من الظلمات إلى النور وهو يعاني في ذاته من الظلمات والتي يحتاج في الخروج منها إلى المخرج، وليس من مخرج من الظلمات إلى النور إلا مالك الظلمات والنور تبارك وتعالى.
{يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لابد أن تكون النتيجة هي هذه، فأصحاب النار هم من لا قدر إنسانيّ لهم، وليس فيهم ما يميّزهم عن الحجر وقد فرَّغتهم التربية الطاغوتية من إنسانيتهم فصاروا كالأنعام بل أضل سبيلا، وهم الذين يتحملون مسؤولية خسارة أنفسهم بما فرّطوا.
2. أن الله عزّ وجلّ رسم منهجاً حقّاً ودلّ الناس عليه، وجعله الطريق إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالارتباط بالله والذي يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور هو الارتباط بمنهج الله عز وجل الموصل إليه.
{… فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ…}(17).
فالقضية قضية رسالة، ورسول، ومنهج إلهي، وقائد على طريق هذا المنهج وهو في الأصل المعصوم عليه السلام.
{… قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(18).
المنهج الإلهي صحيح، ومنقذ، لكن يريد الله سبحانه وتعالى أن يُبيّن في هذه الآية أن ليس شيء من خلق الله يستقلّ بالنفع لا رسول ولا منهج، فالذي يملك عملية الهداية والإضلال، ويملك كل فعل في الأصل هو الله تبارك وتعالى، المنهج على كفاءته، الرسول على كفاءته يحتاج إلى تدفّق الإذن التكويني من الله لتحصيل الهداية.
3. متابعة القيادة الربانية:
مع المنهج هناك شيء آخر؛ فالأخذ بالمنهج يحتاج إلى قيادة ربانية، والفاعل الحق ومن إليه منتهى الأمر هو الله تبارك وتعالى.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ…}(19).
{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(20).
يأتي الكلام إن شاء الله على صناعة المنهج.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أهل الإيمان الصدق، والتوحيد الحقّ، والدين الخالص، واجعل ولاءنا لك، ولرسولك وأوصياء رسلك وأوليائك ولا نستبدل عن ذلك غيره، ولا نرضى سواه، ونحيا ونموت عليه يا ولي المؤمنين ويا أرحم الراحمين.
اللهم افعل بنا الخير كلّه، وجنّبنا الشرّ كله يا رؤوف يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي عرّف عباده الحقَّ، ورغّبهم فيه، ودعاهم إليه، وجعله طريقهم إلى رضاه والجنة، ودلّهم على الباطل، وحذّرهم منه، ونهاهم عنه، وجعله طريقهم إلى غضبه والنار، وأرسل رسلاً أمناء مبشرين ومنذرين، وأنزل كتباً نوراً وهدى لأخذ الناس على طريق الخير، وذودهم عن طريق الشّر. ولله الحجّة البالغة على عباده أجمعين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله المحكومين لقدرته ونفسي المملوكة له بتقواه، والدوام على طاعته، والاستقامة على طريقه، والإخلاص في عبادته، فمن خسر في علاقته وهو العبد، مع الله وهو الربّ فقد خسر كلّ شيء، وكل نعم الله عنده تكون بسوء هذا الاختيار نقماً عَليْه. ومن الغرور القتّال أن ينغمس الإنسان في وحل الدنيا ناسياً ربَّه العزيز الجبّار القهّار، وحقه العظيم الذي لا يوفّى. وإن عاقبة ذلك لعذاب أليم، وشقاء مقيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين، ولا تجعلنا من الناسين الغافلين، ولا تدخلنا في اللاهين، واجعل ذكرنا مرضيّاً، وشكرنا مجزيّاً، وطاعتنا مقبولة، وقرّبنا إليك، وبعِّدنا عن أعدائك، ولا تفرّق بيننا وبين أوليائك يا عظيم يا رحيم يا كريم.

أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه بعض كلمات:
أمريكا في وضح النهّار:
1. كان شرط الاستيطان شرطاً متوافقاً عليه بين ما يسمّون بشركاء عملية السلام ثم ألغته إسرائيل وأمريكا، ومن المؤسف جداً أن تَتْبَعَ أمريكا وإسرائيل في ذلك بعضُ الدول العربية وقبل حكومة محمود عباس.
2. أمريكا تتراجع عن شرط وقف الاستيطان لاستئناف المفاوضات بين الصهاينة وعباس محمود تبعاً لإسرائيل وإرضاءً لها ولا تقف عند وعد أو عهد يُغيض العدو الصهيوني مهما كانت قيمة ذلك العهد.
3. أمريكا مصمِّمة على إنقاذ إسرائيل من أي إدانة دولية بسبب تقرير غولدستون، والدفاع عنها حماية لسمعتها، فضلا عن الحفاظ على مصالحها، ودرء أي ضرر ماديّ يلحق بها، وهي مستعدة لدعمها في كل مواقفها الإجرامية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، والقوانين الدوليّة.
4. أمريكا الديمقراطية وهي الحاكم الفعلي في أفغانستان يتلاعب موظفها الصغير كرزاي هناك بالعملية الانتخابية، وترتكب أجهزته عملية تزوير واضح فاضح، وينتهي الأمر عند أمريكا بالوقوف معه عندما يفوز بالتزكية بدل إعادة الانتخابات في صورة نزيهة.
5. تقف أمريكا موقفاً داعماً وحامياً للحكومات الديكتاتورية في البلاد العربية والإسلامية بصورها المختلفة، وتلعب على ذقون الشعوب المقهورة من هذه الحكومات بالكلمات المعسولة، وقد تحرّك جماعات منها عند حاجتها وبمقدار مدروس لأغراضها السيئة ومنها إعطاء هذه الحكومات لها مزيداً من التنازلات التي ترغب فيها.
6. تدفع أمريكا مئات الملايين لإحداث ثورة حريرية ناعمة في إيران لاسترداد هذا البلد الثوري المقاوم للحظيرة الأمريكية، وحالة الخنوع والاستسلام لإرادة البيت الأبيض.
7. وأمريكا أساساً ليست دولة قيم معنوية، ومبادئ سماوية. إنها دولة مصالح ومنافع ولذة مادية دنيوية.
أمريكا ومن هذا المنطلق الثابت إنما هي مع من يقدِّم لها تنازلات أكثر، وينسحق أمام إرادتها بدرجة أكبر، ويصدق في تبعيته لها صدقاً بالغاً عميقاً إلى النخاع.
إن الحكومة أو الشعب أو الحزب المستعد لأن يعطي أمريكا أكثر من غيره، وأمامه فرصة تغيير متوقع بدرجة مقبولة يجد الدعم الأمريكي في صراعه مع الآخر(21)، وإلا فلا. والحكومة أو الشعب أو الحزب الذي يرفض هذا البذل السخيّ أو يتحفظ عليه بعض الشيء يجدُ أمريكا عليه لا له. ولا يكفي أمريكا في الحالات العادية أن تأمن جانبك، وإنما المطلوب أن تكون المستجيب دائما لإملاءاتها.
والعطاء الذي تطالب به السياسة الأمريكية لا يقتصر على الأرض والثروة وإنما يستوعب المادي والمعنوي من دين وشرف وكرامة وانتماء وولاء.
وتوهم أن أمريكا يمكن أن تقف مع مطالب الشعوب مخلصة وليس من منطلق الضغط الموقت على الحكومات لابتزاز مكاسب أكبر من خلال تنازلاتها لتنقلب على الطرف الآخر وتكيد به فضلاً عن تهميشه هو من أبعد التوهمات.
يمكن في حالة ضعف حكومة ما ومشارفتها على السقوط، أو في حال بدو تمرّد ما على الإرادة الأمريكية من حكومة معيّنة أن تحصل المعارضة على الدعم الأمريكي المشروط بصدق الولاء للإرادة السياسية الأمريكية والاستسلام لها مع التوثيقات الضامنة.
مواجهة مستمرة:
تكررت التحذيرات من أطراف شعبية كثيرة من الأخطار الكبرى والآثار السلبية الهائلة لعملية التجنيس السياسي، وتكثرت النداءات والفعاليات المنددة بها والمطالبة بتوقُّفها، وإخضاعها للتقنين الذي يراعي حاجة البلد ومصلحته.
ويجب أن لا تكون السلسلة البشرية المعبِّرة بوضوح عن الرفض الشعبي لسياسة التجنيس من منطلقاته الحالية المحكوم عليها بالسوء والإضرار آخر ما في المسلسل الاحتجاجي الذي يلزم أن يكون مستمراً ونشطاً وجديّاً ومقاوماً بقوة مع انضباطه وسلميته. وكل ذلك من أجل سلامة هذا الوطن ومصلحته وأمنه واستقراره.
فإلى مزيد من الخطوات الاحتجاجية، والأنشطة المدروسة على طريق مناهضة التجنيس وبصورة متواصلة لا تعطي فرصة للتلاعب الإعلامي بالمسألة، والعمل على تغييبها أو التهوين من سلبياتها المدمِّرة حتى يتم تنفيذ المشروع الإضراري السيء بكامله.
درس من القرآن الكريم:
أسوأ ما تبتلي به النفس البشرية من مرض الأنا أن تنسى عبوديتها لله سبحانه(22)، وتعيش وهم الإلوهية داخلها في قبال الإلوهية الحقّة له تبارك وتعالى، فتستكبر على إرادته، وتتمرد من منطلق النظر إلى ذاتها وكبريائها الكاذبة على ما يختار ومن يختار(23).
يقول القرآن الكريم في معرض حديثه عن أنانية اليهود، وعصبيتهم، واستكبارهم على الحقّ، وغرورهم بأنفسهم، والنظرة المحتقرة لغيرهم، والاشتراط في الأخذ بالدّين بما يوافق نظرتهم الأنانية الاستكبارية، ويعطيهم الامتياز على غيرهم:
{… أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(24). لِمَ المكابرة؟ من أي منطلق هذه المكابرة؟ من منطلق أن أمر الله، وتشريع الله لم يوافق هواهم، فهم يريدون أن يأخذوا من التشريع بما يوافق هواهم، ويردوا ما عداه. من المعبود هنا؟ المعبود في هذه الحالة ليس الله وإنما المعبود الأنا.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ(25) وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ(26) فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}(27).
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ(28) بَغْياً(29) أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ(30) مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(31).
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ….}(32). حقّ مصدّق لما معهم لكن لأنه نزل على واحد من غيرهم لا يقبلون به، ولا يستجيبون.
تلك أنانية اليهود منعت عليهم أن يسلِّموا بالحقّ، وأن يقبلوا الإسلام مع يقينهم به لأنه لا يعطيهم الامتياز المطلوب لأنانيتهم، ولا يغذي طموحهم القومي، وغرورهم واغترارهم بأنفسهم، وروحهم الاستكبارية على الآخرين فاستحقوا من الله العدل الحكيم اللعنَ، والغضبَ والعذابَ المهين.
فليحذر المسلم المؤمن من هذا الشَرَك الشيطاني الخبيث وهو شرك الأنا الذي يمنعه من قبول الحق إلا أن يوافق هواه، ويعطيه الظهور الذي يطمح إليه في الناس، فالحق عنده باطل إذا لم يكن فيه ظهوره وتقديمه، أو هو متخلٍّ عنه خاذل له، وعليه لا له إذا توهم أن الظهور فيه لغيره، وهو إنما يريده دائما لنفسه.
ولو وقف َمْن هذا خُلُقُه مع الحق الذي فيه اشتهاره لكان عابدا لنفسه لا لربّه(33)، وكل انتصاراته هزائم، وكل مكاسبه خسائر، وهو أخسر خاسر في هذه الانتصارات والمكاسب.
وإن أناساً هذه نفسيتهم لمستعد أحدهم لأن يبذل كل شيء، ويتعب كل التعب، وتنشط همته، ويكثر بذله على أن يكون مسؤول الحسينية، أو ولي المسجد، أو رئيس المؤسسة، أو زعيم الحزب، أو قائد الأمة. مستعد أن يبذل، ولكن لذاته لا لله تبارك وتعالى.
أما لو لم يكن هو الإنسان الأول في أي من هذه المواقع التي يتعلق بها طموحه فلابدّ أن يناوئ ويواجه، أو يثير الغبار والتشكيك، وأقلّ ضرراً مما يختاره هو حالة الانكفاء على الذات والانعزال.
أقصى تنازل يفعله أحدنا من منطلق هذه النفسية الأنانية هو أن ينعزل، وإلا فهو في الغالب لا ينعزل وهو يستطيع أن يحارب الحق الذي يرى أنه يظهر غيره ولا يظهره.
أعاذنا الله من هوى النفس، ووسوسة الشيطان الرَّجيم، وغرور الدّنيا، وسحر مناصبها الزائفة ونسأله سبحانه أن يعزّ الإسلام وأهله، ويذل الكفر وأهله، والنفاق وأهله، وأن يتولّى المؤمنين برعايته وكلاءته وكفايته، وأن يحمي حماة الدين، ويشدّ أركان المؤمنين، ويردّ كيد الظالمين إنه القوي العزيز، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 4/ التين.
2 – وهذا نعرفه من أنفسنا، ما كنّا لحظة الولادة وبعيدها نعلم شيئاً.
3 – 78/ النحل.
4 – 78/ المؤمنون.
5 – 3، 4، 5/ العلق.
6 – 3/ الإنسان.
7 – 10/ البلد.
8 – 2/ القيامة.
9 – 28 النساء.
10 – 37/ الأنبياء.
11 – 19 – 21/ المعارج.
12 – 54/ الكهف.
13 – 83/ الإسراء.
14 – 9، 10/ هود.
15 – 60/ النحل.
16 – 257/ البقرة.
17 – 10، 11/ الطلاق.
18 – 15، 16/ المائدة.
19 – 5/ إبراهيم.
20 -1/ إبراهيم.
21 – حزب، حكومة، شعب، ليس له الاستعداد بأن يعطي أمريكا ثمنا أكبر، أو أنه مستعد ولكن لا يملك فرصة نجاح، أمريكا ليست معه. هي مع شعب، أو مع حزب مستعد لأن يعطي أكثر مما يعطيه الآخر لأمريكا، وبشرط أن تكون أمامه فرصة نجاح ولو بالدعم الأمريكي.
22 – تستكبر وتتعملق حتى تعطي لنفسها حق الله أولا تقبل من الله إلا بشرط.
23 – قد تستكبر نفس العبد على الله في ما يختاره الله فتردّ ما يختاره، وعلى من يختار الله فترد من يختاره، لتختار لنفسها في قبال اختيار الله.
24 – 87/ البقرة.
25 – يعني أنهم دعوا إلى قضية حقّانيتُها واضحةٌ عندهم جدّاً؛ فما جاء به الكتاب هو ما كان قد بشّر به التوراة من الرسالة، والرسول. ومن تنزل القرآن والتعاليم الكبرى الثابتة في التوراة هي تعاليم الكتاب الكريم، مع هذا التوافق، ومع هذا العلم واليقين إلا أن الموقف اليهودي كان هو موقف الرد للحقّ المعلوم.
26 – كانوا يأملون النصر على الذين كفروا لمجيء رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنهم سيسحقون معارضيهم فكانوا يتوقعون هذا ويترقبونه ويتمنونه، إلا أنّه لما جاء الرسول من غيرهم وليس منهم قامت قيامتهم، وأبت نفوسهم أن تستجيب لداعي الحق.
27 – 89/ البقرة.
28 – هل الردّ لجهلٍ، أوشك أو تردد فكري؟
29 – الرد عن بغي وظلم وعنجهية واستكبار.
30 – لِمَ يأتي الرسول من العرب، لِمَ لا يأتي من بني إسرائيل، هذه نقطة الخلاف عند بني إسرائيل مع الله سبحانه وتعالى، لو جئتنا برسول من أنفسنا لاستجبنا له، لكن لأنك جئت برسول من غيرنا فإذاً لابد أن نرفض.
31 – 90/ البقرة.
32 – 91/ البقرة.
33 – لمّا يأتي حقّ وأقف معه، وأبذل كل رخيص وغال في سبيله، ولكن من منطلق أنّه يقدمني دنيويا فأنا عبد لمن؟ أكون هنا عبداً للدّنيا والأنا. وقوفي مع الحقّ من منطلق أنه يعطيني الظهور، ويعطيني الزعامة، هذه عبادة لله أو عبادة للذات؟ أنا نصرت الحق، استشهدت في سبيل الحق ظاهرا، ولكن من منطلق أن أظهر، أن أحكم، أن أتزعّم؛ أموت شهيدا؟ لا، أموت مشركا، أموت عابدا لنفسي، أعاذنا الله من ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى