خطبة الجمعة (381) 22 شعبان 1430هـ – 14 أغسطس 2009م
مواضيع الخطبة:
*من آثار الإيمان *شعوب لا يُعبأ بها *تنبيه
وإذا كانت أمريكا وإسرائيل قد شكرت لنا جهودنا الكبيرة المبذولة في سبيل التطبيع فإنهما لن يتم شكرهما لنا، ورضاهما عنا بصورة جدية حتى نبيع أنفسنا عليهما تماماً، ونتخلى عن هويتنا ونسلم لحكمهما ورغبتهما ومشتهاهما تسليما {لَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}فهل نفعل؟! وهل نسارع الخطوات على هذا الطريق لنحقق النجاح والتقدم الكامل، والكرامة التّامة المكذوبة في هذا المجال؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله بارئ النّسم، كاشف الغمم، ربّ النّور والظّلم، علّم الإنسانَ ما لم يعلم. ظاهر لا يخفى، وباطن لا يُعلم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله، ورعايةِ حُرمات المؤمنين، وعدم نيلِ أحدٍ منهم بكلمةٍ مؤذية لسوء ظنّ، أو في موطن لم يأذن الله فيه بأذاه وإن كان خطؤه معلوماً، وأن يكون لنا من فِقه الشريعة ما نُبصرُ به موارد الحليّة والحرمة، وجوازِ الكلمةِ وعدَمِه.
وكيف ينال مؤمنٌ من مؤمنٍ ما يُؤذيه من غير حقّ وقد جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الله تبارك وتعالى:”وعزّتي وجلالي ما خلقت من خلقي خلقا أحبَّ إلي من عبدي المؤمن…”(1).(2)
وجاء عن الصادق عليه السلام “المؤمن أعظم حرمة من الكعبة”(3).
وهل يهون على مؤمنٍ حقٍّ أن يستخفَّ بحرمة الكعبة، حتّى يتوقعَ منه الاستخفاف بمن هو أشدّ حرمة منها؟!(4).
وهل يليق بمؤمن صادق الإيمان أن ينال من سُمعة وشرف وكرامة من أحبَّه الله حبّاً شديداً؟!
اللهم جنِّبنا والمؤمنين والمؤمنات أجمعين سوء الظّن الذي لا تحبّ، وارزقنا حُسن الظنّ بأهل الإيمان، والتوفيقَ للنصح لهم(5)، ونفعهم وخدمتهم، والذود عنهم، واجعلنا من الآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر(6)، الآخذين بما فيه رضاك، المجتنبين لما فيه سَخَطك، المختارين لما هو أرشدُ وأهدى، واغفر لنا جميعاً، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
أما بعد فهذا حديث في آثار الإيمان:
وقد تقدّم من حديث الإيمان ما تقدّم.
أولاً: على المستوى الداخلي للإنسان، وأوّل ما يغيّره الإسلام والإيمان هو المحتوى الداخلي للإنسان من حالة السوء إلى حالة الخير والصلاح، ومن حالة الركود إلى حالة الحركة، ومن حالة الانحراف إلى حالة الاستقامة.
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(7).
1. الإحياء والإثراء:
إذا كان تغيير الداخل هو نقطة الابتداء، فما موقف الإسلام من الداخل؟ موقفه هو الإحياء والإثراء. في الإنسان طاقات إما أن تموت وإما أن تحيى، إما أن تتحرك أو يصيبها الجمود، وإما أن تستقيم أو يكون واقعها الانحراف. ويتكفل الإسلام بإحيائها، وتحريكها، واستقامتها، ويذود عنها الموت والجمود والانحراف.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(8).
أ- دعوة الله عز وجل للعبد إلى تكليف من التّكاليف وإن كان الجهادَ المُرّ الكُرهَ للنفس هي دعوة لما يُحييها، ويُنمّيها ويزكّيها ويثريها بما هو خير وبركة وصالح. وكل الإسلام هو مشروع إحياء لإنسانية الإنسان وخيرِه وصالحه، والقِوى الكريمة النورانية في كيانه(9).
وهي دعوة العليم الخبير الحكيم الرؤوف الرَّحيم(10) والأقرب إليك من قلبك، ومن قلبك إليك؛ حيث لا وجود لك إلا به سبحانه، ولا وجود لقلبك إلا منه، وكل منكما محكوم لقدرته(11).
ب- والأحكام الشرعية الإلهية دعوة إحياء للإنسان من الله تبارك وتعالى(12). والأحكام القيادية الولائية دعوة إحياء له من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإذن من الله(13). وبالاستجابة للدعوتين معاً تتم عملية الإحياء والنماء والإثراء والتقدّم(14).
والمنهج القادر على إحياء الإنسان في كل أبعاد ذاته، وأوضاع حياته منهج واحد لا أكثر(15)، وهو المنهج الذي أعدّه خالق الإنسان والعالم به، وبكل شيء دونه لإصلاحه وإحيائه وإثرائه وإنمائه. ولا يمكن لأي منهج آخر من وضع الإنسان الذي لم يؤتَ مهما أُوتي من العِلم إلا قليلاً أن يتكافأ مع المنهج الإلهي سعةَ علمٍ وإحاطة، ورحمةً، ودقةً، وعدلاً، وحكمةً، ولطفاً، وفاعليّة، وأداء، وتحقيق هدف(16). وأنّى لصنع المخلوق من صنع الخالق، وعلمه من علمه، وإحاطته من إحاطته، ورحمته من رحمته، وعدله من عدله، وحكمته من حكمته، ولطفه من لطفه؟!
ج- والمكلّف بالتقدُّم بأوضاع الاجتماع والحياة واستقامتها في الخارج هو الإنسان فما حيي حييت، وما مات ماتت، ورقيُّها من رقيّه، وسقوطها من سقوطه، واستقامتها وانحرافها تابع لاستقامته وانحرافه، ولا تتغير حتّى يتغير(17). ومن هنا يبدأ الإسلام في حركة الإحياء والإثراء بداخل الإنسان فيحييه وينميه ويثريه، فيَحيى بحياته الخارج، وينمو بنمائه، ويثرى بثرائه، ويكون له رقيّ وتقدّم وازدهار على يده ومن خلال حركته.
منهج الله عزَّ وجلَّ، وقيادةُ الرسول صلَّى الله عليه وآله ينشّطان كلَّ حركة الحياة وأوضاعها، ويقوِّمانِها، من خلال تحريك كلِّ الأبعاد الكريمة في ذات الإنسان وتنشيطها، والاستقامة بحركتها؛ فلا يبقى بُعدٌ من أبعاده في حالة مواتٍ أو سبات ولا تنحرف حركته عن الخط في ضوء الإسلام بمنهجه وقيادته.
البعد الفكري والروحي والنفسي والبدني كلُّ ذلك في حركة نشطة، ونموّ واشتداد ما أمكن لذات الإنسان، وفي استقامة وثراء نافع، وفي انسجام من هذه الحركة والنموّ مع الهدف الكبير المرضي لله سبحانه، والمناسب لهذه الذات إذا كانت من عطاء المنهج الإلهي، وقيادة الرسول صلَّى الله عليه وآله، أو من يقوم مقامه في الإمامة من أوصيائه الخاصّين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكذلك الأمر بدرجة ثانوية في ضوء المنهج ذاته ولو بوجوده الظاهري، وعلى خطّ قيادة الأوصياء العامّين.
ونقرأ من عطاء الإيمان ما تدل عليه هذه الآية من حياة قلب الإنسان المؤمن، وتأثّره بالمؤثرات تأثّرَ الوجود الحيّ الغني بالحياة؛ فيخاف لما يُخاف، ويخشى لما يُخشى، ويجد الوَجَلَ عند مقتضيه على خلاف القلب الميّت الفاقد للإحساس والشعور. ويزداد القلبُ المؤمنُ الحيّ بحياة الإيمان إيماناً وهدى ونوراً بما يتلقّاه من هدى ونور الإيمان منفعلاً بذلك، مستجيباً له.
ولحياته وهداه ونوره وبصيرته يغنى بالتوكّل على الله وقد عرف أنّه الذي يُستغنى به، ولا يستغنى عنه بكل من سواه، وأنّ من توكّل عليه أحسبه وكفاه.
ثانياً: السكينة والاطمئنان:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً}(18).(19)
إن القلوب قد تفقد ما عليه الأصل فيها من قابلية الرؤية للحق(20)، والركون إليه، والاطمئنان به، وذلك تحت تأثير الموبقات، والمعاندة المتكرّرة للحقّ، والاستكبار عليه؛ فلا تملك بصورة كلية إلاّ أن تقابل كلمة الحقّ، وموقف الحقّ بالمكابرة والإنكار والجحود.
وقد يكون أمرُ خسارتها للاستراحة للحقّ أقلَّ من ذلك، ولكنّها تُصاب بالتّشكيك والقلق والاهتزاز.
أمَّا أصحاب القلوب التي لم تدنسها الموبقات بما يُعطّل قابلية الاهتداء فيها، والذين يُصدقون الإيمان حسب الدّرجة التي هم فيها من سُلّم هذا الكمال، فإنّ الله تبارك وتعالى يُنزل على قلوبهم سكينةً واطمئناناً(21)، ويُفسح في صدورهم لقبول الحق، والمزيد من فيض الإيمان، واستقبال نور الهداية. ومن اطمأنَّ قلبه بالإيمان، وتخلّص من هِزّة الشك والريب والاضطراب سادت كلَّ حالاته وأوضاعه ومواقفه الطُّمأنينةُ والسكينة والوقار وهدوء النفس والرضا. من تخلصت قلوبهم من مرض الشك والريب والاهتزاز الذي يصابون به من سوء ما اكتسبوا تهيأت لاستقبال الحق، وتلقّت دائماً هدى جديداً، ونوراً مضافاً، وصارت لا تزال تترقّى في درجات الإيمان، وتغنى بالمزيد من القرب إلى الله بما يجعلها قويّة لا تنوء تحت ثقل الأحداث، ولا تَبْهَظُها أعباء الحياة، وحِدّة الأزمات، ولا يخيب أملها مهما كان من مُدلهمَّات صعاب، وخسائرَ فادحة من خسائر دنيوية تقصِم الظهور، وتطيح بالهِمم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا من الإيمان بك ما ننجو به من كل ضلالة، ونستعين به على كل مشقّة، ويهوِّن علينا مصيبات الدّنيا، ونواجه به كلّ شدَّة، وتنتصر به على كل وسوسة، وندرأ به كل شبهة، ونفوز به بالجنة، وننال به فيها الدرجة الرفيعة، والمنزلة الكريمة، وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة، يا أكرم من سُئل، ويا أجود من أعطى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أوجد في الإنسان فطرة الدِّين، وَبَعَثَ في عباده رسلاً مبشّرين ومنذرين، وشرع لهم أبواب الهداية للصراط المستقيم، ودعاهم إلى سعادة الدّنيا والدين، وأضاء قلوب أوليائه بنور اليقين، وكتب لهم أعالي جنّة النّعيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
علينا عباد الله الذين لا حول ولا قوّة لنا إلاَّ به بتقوى الله فهي طريق واصل لطلاّب رحمته، ونيل الكرامة من عنده، والفوز بجنّته. أمَّا من طغى واستكبر فذلك طريقه إلى قعر سقر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}(22).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم، ولا تجعل لنا في معصيتك هوى، ولا من طاعتك مَلَلاً، واجعلنا من أهل الإقبال في عبادتك، والانقطاع إليك، والإخلاص في سبيلك، وانتهِ بنا إلى جنّتك ورضوانك، واكفنا مسّ النّار، واجمع بيننا وبين الأبرار الأطهار ياربَّ العالمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
اللهم صلِّ على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ظاهراً ثابتاً مقيما.
أما بعد:
شعوب لا يُعبأ بها:
1. الحكومات قسمان: حكومة مخلصة لشعبها، وغير مخلصة. والرأيان من الحكومة أي حكومة، والشعب أي شعب قد يأتيان متوافقين وقد يأتيان غير متوافقين. وحالة غير التوافق قد تستدرج الطرفين إلى تنافر أكبر، وتفاحش في البُعد بين الموقفين.
2. وهناك حكومة يصعب عليها أن تغضب شعبها، وأخرى لا يصعب عليها ذلك. وهي مستعدة لأن تتجاوز كل رأي للشعب مخطئاً كان أو مصيباً. ولا ندّعي أن الرأي الصائب دائماً مع الشعوب، فقد يكون الرأي الصائب مع الحكومة – أتحدث عن أي حكومة وليست حكومة معيّنة – وقد يكون مع الشعب فلقد كان الإمام عليّ عليه السلام له رأي في موقف، وكان لقطاعات من الأمة غير مخلصة ولا بارَّة رأي آخر، ولقد كان لأئمة آخرين من أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام رأي، ولجماعة من جماعاتهم رأي آخر.
لكنّ حكومة من نوع معيّن تحرص على استرضاء شعبها بحقّ أو بباطل، عن صدق أو غير صدق، لأنّها تخشاه، وحكومة من نوع آخر لا تكاد تكون لها خشية من شعبها، فتعمل على إبراز عضلاتها عند أي بادرة من بوادر الاعتراض على الرأي الذي تقدم على الأخذ به ولا يلتقي مع رضى الشعب.
3. لا يصعب عليها أن تختلف مع شعبها، وأن تصر على موقفها ولو كان الموقف الخاطئ، لأنها لا تعتمد في أصول وجودها ولا في بقائها على رأي الشعب، ولا ترى في الشعب ما يكسر إرادتها في المدى المنظور حسب تصوّرها.
4. والحكومات التي يصعب عليها أن تخالف شعوبها هي حكومات تستمدّ بقاءها من رأي الشعب، لأن نظامها يقوم على الانتخاب، فتخشى قوة الرأي الانتخابي، وقد تخشى حكومة أخرى قوّة الشعب. في قبال ذلك هناك حكومة تعتمد في وجودها قوّة البطش والتنكيل، ولا تستمد شرعيّتها من الصوت الانتخابي لشعبها، ولا تخشى منه قوّة مواجهة. وهذه يمكن أن تجاهر وتصارح برأيها الذي يخالف رأي كل الشعب.
الحكومات التي تستمد بقاءها من رأي الشعب، أو التي تهاب قوة الشعب وإن خالفت شعبها في الرأي تعمل على الاسترضاء، أما الثانية فقد تقدم على الخطوات المستنكرة المكشوفة من غير كثير مبالاة، وردّها الصريح على الاستنكار البطش والإسراف في استعمال القوّة.
ومما تقدّم تقدم عليه هذه الحكومات مواقف فيها بيع للأمة، وسحقٌ وإذلالٌ لكرامتها، وهدر لمصلحتها، وإيقاع لها في المفاسد الكبيرة.
هذا واقع عام، وتقسيم عام للحكومات في علاقتها مع الشعوب من ناحية توقّفها أو عدم توقّفها في الرأي والموقف المخالف للشعوب التي تحكمها.
5. من جهة أخر نرى بوضوح أن التطبيع مع إسرائيل وإسرائيلُ تتوسّع في الاستيطان، وتصر على هذه السياسة الغاشمة، وتحاصر غزّة، وتفتك بالفلسطينيين، وتدنس بيت المقدس، وتلغي حق الأمة في القدس، وتهوّد المنطقة، وتحتل الأرض العربيّة الإسلاميّة، وتبقي ملايين المهجّرين من أبناء الأرض الفلسطينية خارج الحدود مشتّتين، وتهدد أكثر من بلد عربي وإسلامي بالسحق والمحق، وتمارس التبجح والغطرسة ضد الأمة نرى أن هذا التطبيع والحال هذه تطبيع مذل مخز يمرغ أنف الأمة في التراب، ويذيب هيبتها، ويكرس روح الغطرسة والعنجهية عند العدو المستكبر ويزيده صلفاً وغروراً، ويقضي على أمل الأمة، ويعمّق روح الهزيمة فيها(23).
إنّ الأنظمة الرسمية لتعلم علم اليقين أن شعوب الأمة رافضة لهذا التطبيع فالسير فيه والهرولة من أجله، والدعوة إليه لا تتم إلا بإهمال إرادة الأمة والاستخفاف بها، والاستعداد لإنزال الضربات القاسية للشعوب المناهضة لهذا التطبيع، وكل ذلك من أجل سواد عين الصديقين الأمريكي والإسرائيلي وإن استوجب القطيعة مع الأمة ومواجهتها بالحديد والنّار.
6. أما الشكر الأمريكي والإسرائيلي لِلعَدْوِ السريع والدعوة الحارّة للتطبيع كما جاء على ألسنة الأمريكان والإسرائيليين للبحرين فهو عار وشنار وفضيحة ونار. إنّه إهانة لا كرامة، وذل لا شرف، وضِعة لا رفعة.
وأما ذكر استشارة الشعوب في هذا الأمر فهو من نوع النكتة الباردة فإنَّ رأي الشعوب معلوم سلفاً وهو الرفض القاطع لهذا التطبيع، ومتى استُشيرت الشعوب في أمر نفسها حتى تستشار في أمر أمّتها؟(24). الصحيح أنّ الأمر قائم على كسر إرادة الشعوب، لا على استشارتها.
وقالوا بأن التطبيع سيعطي حياة الأمة رغداً لم تشهده من قبل، ولم تحققه طفرة أسعار البترول التي ملأت خزائن المال في الغرب لحساب بعض دولنا وأفراد بالخصوص من أبناء الأنظمة الرسمية لهذه الدول.
وهذا معناه أن التطبيع لن يضاعف من المستوى الاقتصادي للأنظمة فحسب وإنما سيعطيها دروساً في العدالة والإنصاف في توزيع الثروة على يد المعلّم والرسول الإسرائيلي، وإلا فإن الثروة مرّت بحالات من المضاعفة في حين بقي المحروم محروماً، والمترف مترفاً، والفقير فقيراً، والغني غنيّاً، بل ربما تضاعف فقر الفقير، وغنى الغني أضعافاً في ظل الطفرة البترولية، فإذاً ما هو الغائب؟ ليس الثروة، وإنما العدالة.
وهذه العدالة سيوفرها لنا التطبيع مع إسرائيل المؤدبة العادلة المنصفة التقية الورعة!!
أكلّ هذا سيحصل بالتطبيع مع إسرائيل؟! إذاً ما أبرك إسرائيل والتطبيع معها علينا ثروة وإنسانية وخلقا ودينا!! وعلينا ألن نطبع مع إسرائيل فحسب، بل علينا أن ندخل في السلم معها كافة مستسلمين شاكرين حامدين فرحين مسرورين.إذا كانت النتائج هي تلك النتائج. ولا أدري أين موقع الدين من هذا التطبيع؟!(25). نعمة التطبيع وما أدراك ما نعمة التطبيع إنّها لهي النعمة الكبرى التي تبحث عنها الأمة، وضالتها التي تبحث عنها وفيها النجاة، وفيها النجاح، وفيها العز والكرامة والسؤدد.
وإذا كانت أمريكا وإسرائيل قد شكرت لنا جهودنا الكبيرة المبذولة في سبيل التطبيع فإنهما لن يتم شكرهما لنا، ورضاهما عنا بصورة جدية حتى نبيع أنفسنا عليهما تماماً، ونتخلى عن هويتنا ونسلم لحكمهما ورغبتهما ومشتهاهما تسليما {لَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(26) فهل نفعل؟! وهل نسارع الخطوات على هذا الطريق لنحقق النجاح والتقدم الكامل، والكرامة التّامة المكذوبة في هذا المجال؟!(27)
وكلمة ختام في هذا الموضوع:
إن الوقت وقت صوت عال، وصرخة مدوّية، وإنكار شديد، وإعلان صريح قاطع من شعوب الأمة بالرفض الكامل لما تُقْدِمُ عليه الأنظمة الرسمية من خطوات التطبيع مع العدو الإسرائيلي والدعوة إليه قبل أن يُغرق هذا التطبيع سفينة الأمة بصورة أشد وأخطر وأقسى.
وماذا تريد أمريكا وإسرائيل من هذا التطبيع إلى جنب ما يُستهدف من استنزاف لموارد الأمة وثرواتها، وإمعان في غزو أرضها وإنسانها؟ يراد تكوين جبهة عريضة قوية تضم بالإضافة إلى أمريكا وإسرائيل أنظمة من الأنظمة الرسمية العربية لتوجيه ضربات عسكرية قاصمة لمراكز من مراكز التأثير الإيجابي والمقاومة الصامدة التي تمارسها بعض مواقع القوة في النظام الإسلامي والعربي الرسمي، والوجود الحزبي القوي لأمتنا في وجه الإرادة السياسية الظالمة، والأطماع التوسعية، والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للأمة من كلٍّ من أمريكا وإسرائيل لتكون الأمة متواجهة مع بعضها في حرب طاحنة تدفع بطرفيها تكاليفها، وتتحمل تضحياتها، وتتكبد خسائرها لصالح العدو المشترك.
وإذا كان هذا هدف التطبيع لم يصح لأي شخص مسلم ولا عربي أن يدعو له ولو بشطر كلمة، أو يشجع عليه، أو يسكت على باطله.
تنبيه:
فيما يخصّ أي صورة أو كلمة ثناء أو مدح أو تأييد أو دفاع مما يتصل بهذا العبد أو مما يكتب أو يطبع أو يلصق على بيت أو مسجد أو دكان أو غير ذلك من ممتلكات الناس مما يعد تصرّفاً في ملك الآخر فهو حرام يجب الابتعاد عنه، هذا الكلام بالنسبة لما يتصل بي شخصيّاً، ولي الحق أن أصارح بهذا الحكم الشرعي بالنسبة لي. إذا لم أستطع أن أصرح بهذا بالنسبة للغير فإنه من حقي أن أصرح به بالنسبة لي على الأقل. والمسألة ليست مسألة ذوق أو عدم ارتياح شخصي، إنما هي مسألة حكم شرعي. وحتى لو أحرز رضا المالك فإني لا أرضى هذا الفعل، ويضيرني أن يكون ذلك، ولا أريد أن أدخل في هذه المعارك الضارّة التافهة.
ومن فعل ذلك حبّاً ونصرة فإني أرجوه كل الرجاء أن يكفّ؛ فإن في هذا راحتي ورضاي ومسرّتي.
أما لو كان في فعله تصرف في ملك الآخر من غير رضاه فإن تجنّبه عنه متعيّنٌ شرعاً كما سبق، ولا أتمنى لأحد أن يكتسب إثماً أكون شبه سبب فيه ولو بسكوتي.
فقّهنا الله في دينه، ووفقنا للأخذ بما أوجب، وتجنّب ما حرّم، وهو ولي التوفيق كلّه، وله الحمد.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أذق قلوبنا من عزّ الإسلام ما يكبر بها عن الذل للعباد، والدخول في المعصية، وأعذنا من أن نرضى بظلم ظالم، وأعذنا من السكوت على ضيم مظلوم ونحن نستطيع له دفعاً، ولا تجري على يدنا إذلالاً لمؤمن يغضبك إذلاله، ولا أذى لعبد من عبيدك لاترضى أذاه يا كريم يا رحيم يا حنّان يا منّان يا متفضّل يا عظيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج 68 ص158.
2 – أعزيز على الله بهذا القدر وألسنتنا تمتدّ إليه بالأذى؟!
3 – الخصال للصدوق ص27.
4 – تقف أمام الكعبة متهيّباً، تنظر إليها بإجلال وإكبار وخشية من خشية الله تبارك وتعالى لأنّها بيت الله الذي أقامه لعبادته، ثمّ والمؤمن أشدّ حرمة منها ينال منه أحدنا ما ينال، بحيث لا يبقي من سمعته ولا يذر؟!
5 – والنصح للمؤمن ليس كلمة تقال فقط، وإنما موقف حماية وذرأ للسوء، وموقف رعاية مصالح وحفاظ.
6 – وهذا فيه إشارة إلى أن نصح المؤمن لا يوقف حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إليه، بل إن هذا الأمر والنهي من صلب النصح إليه.
7 – 11/ الرعد.
8 – 24/ الأنفال.
9 – هذا هو المشروع الإسلامي، مشروع إحيائيّ لكل أبعاد الذات الإنسانية الإيجابية الخيّرة.
10 – إذا اختار تكليفاً من التكاليف المحيية لا يخطئ تبارك وتعالى. اختياره ليس فيه غش ولا غفلة ولا جهل ولا نسيان.
11 – فهو أقرب لي من قلبي، وأقرب إلى قلبي مني.
12 – إذا دعاك للجهاد فهي دعوة لإحيائك، إذا دعاك للصلاة فهي دعوة لإحيائك، إذا دعاك للزكاة فهي دعوة لإحيائك، والأمور المستحبة لإحيائك. ما من تكليف من التكاليف الإلهية إلا ويحمل روح الإحياء، وقدرة الإحياء.
13 – الآية تقول {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} استجابتان وهما يؤولان إلى استجابة واحدة، وإنما كانتا استجابتين لاختلاف المتعلّق وهو التكليف، فمتعلق التكليف مرة حكم إلهي، ومرة حكم ولائي قيادي حكومي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
14 – وإلا لو بقي المسلم يصلّي ويصوم ويعصي رسول الله صلّى الله عليه وآله في حربه وسلمه وما ماثل لما نمى ذلك النماء، ولما بلغ تلك الغاية التي أرادها الله سبحانه وتعالى له.
15 – الإنسان من أوّله إلى آخره من نوع واحد، هو في نوعه واحد وإن اختلف أصنافاً وأفراداً والأحكام المترتبة على الإنسان بما هو نوع وهو واحد لابد أن تكون أحكاما واحدة.
16 – لا يستويان: منهج من صنع الله، ومنهج من المخلوقين في الأرض أو في السماء.
17 – سواء كان التغيّر إيجابيّاً أو سلبيّاً.
18 – 4/ الفتح.
19 – روح الإيمان موضوع لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، ومن آثار هذه السكينة أن يزداد رصيد الإيمان عند الإنسان.
20 – جاءت القلوب تحمل قابلية الرؤية للحق، والإذعان له، ولكنها قد تفقد على الطريق هذا الرصيد الضخم الكبير العزيز.
21 – كم عندك من الإيمان؟ وما مسؤوليتك أمام هذا القدر من الإيمان؟ عليك مسؤولية هي أن تصدق موقفك الإيجابيَّ من هذا الإيمان، أن تستفيد من رصيدك منه. ومن بعد ذلك يأتي جزاء الله تبارك وتعالى سكينة واطمئناناً ومزيد هدى ونور.
22 – 27، 28/ المدثّر.
23 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
24 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
25 – هتاف جموع المصلين بـ(كلا كلا للتطبيع).
26 – 120/ البقرة.
27 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).