خطبة الجمعة (368) 12 جمادي الأولى 1430هـ – 8 مايو 2009م
مواضيع الخطبة:
*وقفة حكمة *بيع الذِّمم *العلم قوّة *المال العام *يوم أن تهون الفتوى
شبابنا الكريم، إخلاصاً لأنفسكم ووطنكم وأمتكم ودينكم والمستضعفين داخل وطنكم وخارجه ابنوا أنفسكم بناء علميا متينا، واطلبوا المستوى العلمي المتقدم على صعيد الدين والدنيا بأغلى ثمن، واعطوا لذلك من وقتكم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا لخير دين، وجعلنا من أتباع خاتم النبيين والمرسلين، وأخرجنا من الكافرين والمنافقين، وأنعم علينا بالإسلام، ووهبنا كرامة الإيمان، ويسَّر لنا سبل الطاعة، وفتح علينا باب المعرفة، وأعاننا على تجنّب المعصية، ووعدنا بقبول التوبة. إن ربّنا لجواد كريم، وبرٌّ رحيم، توّاب على المذنبين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله العليّ العظيم، الذي لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا يعجزه شيء، ولا يقوم لقدرته قائم.
ولنعادِ من أنفسنا، وأهلِنا، وولدنا، ومن نحبّ ما يبعِّد عن الله عزّ وجلّ من هوىً مُضلّ، وشهوة شيطانيّة، وعادة قبيحة، وظنونٍ سيّئة، وغرورٍ وعُجب، وحقد وحسد، وكلَّ زاد خبيثٍ من زاد القلوب، ولنطلبْ لها خير زادٍ. وإن خير الزّاد لهو التقوى.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ونقِّنا في لطفٍ وعافية من كلِّ خبيث، واجعل زادَ قلوبنا من خير زاد، وأكرم زاد؛ معرفةً وافرة صادقة، وتقوى شديدة فاعلة، ونيّةً صالحة، وهب لنا عزماً في الخير ثاقباً، وهمّةً عالية، وتوفيقاً دائماً، وإخلاصاً قائماً، وجهادَ الصالحين، وثباتَ الموقنين بمنّك وفضلك يا رحمن يا رحيم.
أما بعد فهذه وقفة مع حكمة عن علي (عليه السلام):”كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه. وما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له”(1).
الابتلاء سنَّة من سنن الله في النّاس، والحياة مدرسة وامتحان. مدرسةٌ تقدّم الكثير من الدروس النافعة المربّية لمن وعى، وامتحانٌ تتكشف من خلاله قيمة الذوات؛ الغنيّ فيها مُبتلىً بغناه، والفقير مبتلى بفقره، هذا يمر بامتحان، وذاك يمر بامتحان، وهكذا القويّ، والضعيف، والمريض والصحيح، وكل متقابلين في الحالات المختلفة في الحياة.
فكما يكون الامتحان بالشرّ يكون بالخير، وإذا كان بالشر كان مكشوفا صارخا مثيرا للانتباه، وهو إمّا أن تتحمله النفس، أو يعجز عنه الصّبر، وتنهار أمامه قدرة التحمّل لسوء الاختيار.
وأمّا الامتحان بالخير، وتدفّقِ النعم فكثيراً ما يخفى على النّاس، ويغيب عن البال، ولا يناله الالتفات بل قد يزيد في الغفلة، ويوقع في الغرور، ويسبّب الاعتداد الكاذب بقدرات الذات، وتفوّقها على التحديات، وسعة الحيلة، وقابلية الإبداع، والإغراء بالطاغوتية والاستكبار، وتوهّم الاستقلالية في تحقيق الأماني، والتمادي في الخطأ، والإسفاف في المنكرات.
وكما يحدث هذا للأفراد يحدث للأمم والجماعات والمجتمعات.
والإحسان من الله تبارك وتعالى عامٌّ للعباد، وقد يأتي رحمة وتكريماً لمن أخلص الطاعة، وقد يأتي عقوبة واستدراجاً لمن أوغل في المعصية، والإحسان لمثل هذا العبد إنما يزيده نسياناً وطغياناً ليسفل أكثر فأكثر، ويتمادى في الخسران.
فالمستحق لهذا والذي لا ينفعه التنبيه، ومن قد أفقد نفسه بإصراره وعناده واستكباره على الله عزّ وجل فرصة العودة إلى الحق قد تراه تتوالى عليه النعم، ويزداد خيراً من خير الدنيا الذي يفرح به أهلها بلا تخلل من بلاء ضيق وفاقة، ومرض وسقم، ونكبات زمن، ومفاجآت أليمة؛ وهو امتحان يُخرج على السطح كلّ ما في هذه الذات من جهل وغرور وعنجهية، وروح استكبار، وخبث.إنه الامتحان الذي يفضح الذات، ويعرّيها أمام صاحبها والناس.
ومثل هذا المرء قد استدرجه الإحسان وأخذ بيده شيئاً فشيئاً من حيث لا يدري إلى أن ينكشف عن نفسٍ خبيثة، وذات سيئة، ووجود لئيم.
ولو كان مكنون النفس طيّباً، ومخزونها كريماً، وسريرتها صالحة لما داخلها بسبب توالي الإحسان من الله وهم أنها على قدرة في ذاتها، ودقّة تفكير، وحسن تدبير، وقدرة على معالجة للأمور، وتحقيق النجاح من عند نفسها، ولما قادها ذلك إلى نكران النعمة، وتضييع الشكر للمنعم.
إن الإحسان من العظيم الأعظم تبارك وتعالى يستدرج الخبيث بتقصيره إلى أن يظهر على أخسّ حال من نفسه، وأسوأ عاقبة لعمره.
بينما يأخذ ذلك الإحسان بالذات الراشدة على طريق وعي عبوديتها الذليلة لله، وتفضّله عليها، وثقل مننه لها، وعظيم واجب الشكر له لتخلص العبودية، وتستثمر العمر في الطاعة، وطلب القربة، وتقدِّم الآخرة على الأولى.
ويرى الإمام عليٌّ عليه السلام أن من يُغريه من الناس إحسان الله عز وجل إليه بالإساءة، والذهاب بعيدا في الذنب، والمكابرة لله لكثير كثير. وما أكثر ما ينسى الأغنياء والأصحّاء، ومن لهم نصيب من علم الدنيا، وأصحاب النعم الأخرى ما داموا في النعمة أنها من الله، وأن عليهم فيها حقّاً، وأنهم غير مالكين لها ابتداءً ولا بقاء، وأن ليس لهم أن يستعينوا بها على معصية المنعم، ومواجهة دينه، والإضرار بعباده.
والله عزّ وجلّ يستر كثيراً، ويمهل كثيراً، وفي هذا فرصه كبيرة للعبد العاصي بالتراجع عن ذنبه، وأن يرعوي عن غيِّه، ولا يقوده الشيطان الرجيم، والنفس الأمّارة بالسوء من معصية إلى معصية، ومن قبيح إلى قبيح حتى ينفضح أمره، ويهتك عِرضه، وتسقط قيمته في الناس، فييأس من استرجاع موقعه الاجتماعي، وشرفه الضائع، وسمعته التي أهدرها، فيستبدّ به الشيطان، وتستحكم قبضته عليه بدرجة أكبر، فيدبر عن ربّه الغنيّ الكريم تماماً ليجد نفسه الخاسر البائر الحقير المهين.
هذه الفرصة من الستر التي تعين على التراجع عن السوء، وعلى حفظ كرامة العبد ومصلحته يضيّعها الكثير من العصاة، ويتخذون من ستر الله عليهم داعياً للتّمادي في القبائح والورطات متوهّمين أنهم قادرون على التستر الدائم بالمعصية، والاحتماء من الفضيحة إلى أن يجدوا أنفسهم مفضوحين أذلاء مستصغرين معزولين، وقد رفع الله عز وجل عنهم الستر، وكتب عليهم الهتك الذي أصرّوا على السعي في طريقه، ودأبوا على طلب الوصول إليه، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}(2).
وما ينتظر المستخف بستر الله، المقيمَ على معصيته في الآخرة من العقوبة والفضيحة أعظم وأعظم. هناك قد يكون إعلان الفضيحة على رؤوس الخلائق أجمعين بمن فيهم أشرف الناس وأعلاهم قدرا.
وشيء ثالث وهو أنه ما أكثر من تكون فاجعته، وهزيمة شخصيته، وخسارته دينا ودنيا في مدحه وكلمات الثناء والإعجاب به وإن كانت – تلك الكلمات – زائفة كاذبة أو واهمة.
فبسبب من هذا المدح والإطراء والثناء يحسب نفسه الكبير وهو الصغير، العالم وهو الجاهل، الحكيم وهو السفيه. ويصل الأمر به أن يغير الثناء الذي يراه كاذباً قناعاته بسلبياته إلى قناعات راسخة على خلاف ما يعلمه من نفسه من قصور وتقصير، وبذلك يكون محكوماً بالوهم القاتل في نظرته إلى نفسه.
وفي هذا سقوط خطير ذريع في امتحان من امتحانات النفس يستتبع نتائج وخيمة تحطِّمها، وترهِقُ الجماعات والمجتمعات، وتربكها. هذا السقوط يشلّ النفس عن طلب الكمال الحقيقي عن الطريق الموصل الذي يقوم أساساً على الاعتراف بالنقص، والتخلص منه. فإذا لم أعترف بنقصي لا أطلب الكمال والمزيد منه.
ونرجع جديداً إلى كلمة النهج التي يقول آخرها “وما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له”.
فالإملاء من الله عز وجل لعبده يمثّل في هذه الكلمة الشريفة أكبر امتحان في الحياة يواجه وعي الإنسان، ويقظته، وإيمانه، وقدرته على التماسك النفسي له، وقدرة التحمل عنده.
والإملاء إمداد بالنعم، وتوالٍ للإحسان، وتسهيلٌ للأمور، ودفع للعوائق، وصرف للشرور، وستر للعيوب، وتأجيل للعقوبة، وهو أمر لا تتحمله إلا عقول واعية، وقلوب يقظة، ونفوس مرحومة، وذوات عليّة.
وأمام الامتحان بالشدة والرخاء، والخير والشر يحتاج الإنسان دائماً إلى طلب المزيد من الوعي، والرؤية الكونية الصحيحة، ومعرفة عبوديته، وطلب الذكر في قبال النسيان، والانتباه في قبال الغفلة، وإلى تصبير النفس على تحمّل المحنة، وترويضها على شكر النعمة، وتذكيرها بأن الشر قد يعقبه خير، وأن الخير قد يأتي بعده شر، فلا مورد ليأس يُفقد الصبر مع الشر، ولا لبطر, ولا غرور مع الخير، وبأن ليس لها في الخير الدافق، أو الشر الماطر شيء من الأمر والتقدير والتدبير، وإنما الأمر كلّه لله العليّ القدير.
إنّه حتى يبقى الإنسان متوازناً لا يطغيه خير، ولا يؤيسه شرّ لابد له من الثقة بربّه، واليقين برحمته وشدّته، وعدم الاطمئنان إلى نفسه، والوقوع في وهم القوة الذاتية والحول الذي يبطش به، وينال خيره بسببه؛ فمن وثق بالله عز وجل وآمن بلطفه وقدرته كان الشاكر عند السعة، والذي لا يمسّه يأس في الضيق. ومن اطمأن إلى نفسه وأن له حولا وطولا يستقل به طغى واستكبر ولعبت به الأهواء حين يجد نفسه قويّاً غنيّاً واجداً، واستبدّ به اليأس وصغر وتضاءل مندكّاً حين يجده ضعيفاً فقيراً فاقداً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أتمم لنا نورنا، وأكمل لنا ديننا، وبلّغ بإيماننا أكمل الإيمان، وارزقنا حسن اليقين، وأدخلنا في الصالحين، وارفع منزلتنا في جنّات النعيم، واجعلنا من أهل عافيتك وكرامتك في أمر الدّنيا والدّين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الخالق ولا خالق غيره، الرازق ولا رازق معه، المدبّر ولا مدبّر سواه، بيده كل شيء ولا شيء بيد أحد من دونه، مشيئته مطلقة، وقهره قائم، وملكه دائم، ولا يقوم لبأسه شيء، ولا يحول عن أمره حائل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله الذي نُوجد بإيجاده، ونحيى بأمره، ونُرزق من فضله، ونموت بقهره،ونُبعث بتقديره، ونقوم للحساب بين يديه، ويمضي فينا حكمه، وليس لنا من ملجأ غير رحمته وإحسانه وعفوه.
وليكن ما حرّم الله عندنا حراماً، وما حلّل حلالا، ولا نقابل تشريعه بتشريع، ولا نقُلْ في دينه بما نشتهي، ولا نحمّل شريعته ما لا تحتمل، ولا يكن لنا ولاء على خلاف ولائه، ولا طاعة خارج طاعته، ولا نقبل عبودية إلا له.
اللهم اجعلنا من أهل دينك الآخذين بالنهج الذي هو من عندك، المؤتمرين بأمرك، المنتهين بنهيك، الراضين بما أنزلت على خاتم رسلك، المتبعين ملّته، المستنّين بسنّته، وسنة الأئمة الهداة المعصومين من بعده يا سميع يا مجيب.
اللهم صل على محمد خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، على الهداة الميامين الهداة الميامين، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قائما دائما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
بيع الذِّمم:
نحن في عالم أخذت منه القيم المادية، وتقديس الشهوة مأخذاً كبيرا، وبعُد مسافات ومسافات كبيرة جدّا عن قيم الدين والتقوى، وهذا له آثار، ومن آثاره بيع الذِّمم.
حين يكون الزاد قيماً مادية بدل القيم المعنوية، وينبتر حس الإنسان عن صلته بالله، وعن صلته بالآخرة يسقط في نفسه وتهون عليه. إن الإنسان ليرخص في نفسه حين لا ينفتح قلبه على الله، وحين يطغى عليه نسيان ربّه. وهنا يبدأ بيع الذِّمم.
والذِّمم تُباع ببيع الموقف والكلمة للباطل والكذب والظلم بالمال والجاه وأمثالهما. أطبّاء، مهندسون، ممرّضون، صيادلة، علماء دين، فلاسفة، خبراء من كل الاختصاصات، ومن كل الشرائح يكثر بيعهم للذِّمم حين لا يكون دين.
الإنسان في غياب الدين وقيمه وأحكامه مستعدٌّ أن يبيع كلّ شيء من أجل المادّة ومتعلقاتها.
أما الساسة من رؤساء ووزراء ومشتغلين بالسياسة على غير خطّ الدين فهم أكثر الناس استعداداً للدخول في هذا البيع.
دخل بيعُ الذِّمم في دعايات الدواء والطعام وفي السياسة وكل مرافق الحياة، في يوم كانت تسمّى الحمّى المنطلقة من المكسيك بحمّى الخنزير ثمّ غُيِّر الإسم، ولماذا؟ لا نجزم بجواب محدّد، ولكن يمكن أن يكون لحقيقة علمية مكتشفة، ويمكن أن يكون لمقتضى سياسي وتجاري. إذا كنت تستبعد الثاني فاسمح لي أن لا أستبعده، فلا استبعاد أن تتدخل السياسة, وباعة الذمم في تكبير حجم الخطر أو تقليله أو نفيه أو إثباته وتحريف أيّ حقيقة من الحقائق
أول ما يبدأ بيع الذمم يكون الثمن غالياً، ولكن إذا كثر العرض وتجاوز حاجة الطلب فإن القيمة ستقلّ، وليلتفت إلى ذلك باعة الذمم.
فإذا كثر علماء السوء الذين تشتريهم السياسة تقلّ أثمانهم بالضرورة، وكثير من الناس قد يكونون على درجة من التماسك في الدين واحترام الذات قبل أن يدخلوا هذا البيع، أو أي مهنة أخرى قذرة باسم الفن أو التطوير أو الحرية أو الدين، وتعتمد عليها حياتهم المادية أو تتوسع بها دنياهم.
أما بعد أن يدخلوا فإنك تجدهم أعداء ألدّاء للدين من الناحية العملية لينتهوا إلى أعداء له حتّى من الناحية النظرية، فيصيروا من المنظّرين المتقدّمين ضدّ الدين.
وصرت اليوم تجد الكثير من كل الفئات والتخصصات من باعة الذمم و الموقف والكلمة،. والعرضُ في هذا المجال آخذ في التزايد.
العلم قوّة:
حقيقة لا تحتاج إلى شرح ولا إثبات، ومن أراد أن يكون الضعيف في هذه الحياة، وفي كل أمره فلا يتعلّم، وعلمُ الدين قوة، وعلم الدنيا النافع قوّة.
الجهل، والمستويات الواطية من التعلّم ضعف فرد، وضعف أسرة، وضعف مجتمع وأمّة.
السنة الدراسية قطعة من العمر، ولو حسبتها لكانت قطعة كبيرة، والسنة الدراسية للجادّ والمهمل فيها تعب ونصب، وفيها إنفاق من الأهل بدل أن يزيد الكسبُ بجهد الطالب الذي قد يكون وصل سن الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة، أو العشرين.
والدراسة العامة القائمة في المدارس الرسمية المعروفة إنما هي للدنيا لا الدين وخسارتها تعني خسارة للدين والدنيا معاً.
ولقد أصبح المستوى العلمي الضعيف عملة ساقطة لا يكاد يُشترى بها شيء، ولا تنفع صاحبها بنافع.
ماذا تريد أن تكون أيها الطالب بين الناس؟ ماذا تريد لأسرتك؟ ماذا تريد لمن يهمك أمرهم ولوطنك ولأمتك؟
إن أردت الضعف فلا تبذل جهدا فعلا، إن أردت الهزيمة، إن أردت المهانة، إن أردت التخلّف، إن أردت أن تكون ويكونوا ممن يملي عليهم الطغاة فيستجيبوا فلا تبذل جهداً كبيراً في العلم، وإن أردت غير ذلك فليس لك من سبيل إلا أن تضاعف جهدك.
لا تكونوا العاطلين المتسكّعين في الشوارع، ولا تكونوا الفقراء المعالين، ولا تكونوا المستضعفين المهانين. إذا أردت أن تنتصر لأمتك، لوطنك، لقضيتك فعليك أن تكون قويا. ثمّ وأنت بلا علم، ولا شهادة مؤثّرة، ولا موقع كبير، وأنت محتاج والآخرون لا يحتاجونك فأنت ضعيف، ولا قوة لك على الانتصار.
شبابنا الكريم، إخلاصاً لأنفسكم ووطنكم وأمتكم ودينكم والمستضعفين داخل وطنكم وخارجه ابنوا أنفسكم بناء علميا متينا، واطلبوا المستوى العلمي المتقدم على صعيد الدين والدنيا بأغلى ثمن، واعطوا لذلك من وقتكم وجهدكم وتعبكم كل ما تستطيعون بقصد أن تكونوا الأقوياء المنتصرين للحق، المدافعين عن الحقيقة، السالكين إلى الله سبحانه، المقيمين للعدل في الأرض، الممهدين للإمام الحق ويوم الظهور.
المال العام:
المال العام مال الشعب المشترك هذا المال فيه لقمة الفقير، وكسوة اليتيم، ومسكن المشرّد، ودواء المريض، وما تحتاجه العقول في نموّها، والنفوس في سلامتها، والأرواح في صفائها، والمجتمع في أمانه، وأخوّة أبنائه، وبقائه وتقدّمه، فيه حياة الناس وصلاحهم. وإذا فشا التلاعب في المال العام، واستُبيح من الاختلاس والتحايل وسوء الإدارة كان في ذلك التوترات والانتفاضات والثورات والفوضى، وانهدام الدول، وانحطاط الشعوب، واحتراق الحياة.
وكل من جامل أو تستر أو دافع أو داهن أو تساهل مع مختلس لشيء من المال العام أو متحايل عليه وخائن له فهو مجرم فاقد للدين والضمير.
ولو كان هذا المتستّر أو المدافع أو المتساهل نائبا من نواب الشعب الذين اختارهم لمواجهة الفساد، والدفاع عن مصالح الوطن., والمطالبة بالحق لتضاعفت جريمته, وعظمت خيانته، وحرم على الشعب قطعاً أن يعيد انتخابه.
هذا أمر لا يختلف عليه أهل المذاهب، وحتى أهل الآراء الوضعية في حدود المتعارف.
يوم أن تهون الفتوى:
يوم أن تهون الفتوى، ويجترئ عليها من ليس بأهلها، ويفتح بابها لكل دارس لأي نوع من العلم، وإن كان العلم البعيد البعيد عن الفقه والإعداد له، والعلوم المأخوذة في الوصول إليه، أو تُفتح لدارس فقه لم يبلغ المبلغ الذي يؤهّله للإفتاء، وهو مبلغ صعب المنال، بعيد المسافة يضيع الدين، ويُقضى عليه.
والجرأة على الإفتاء من غير أهله جرأة على الله سبحانه ودينه القويم وشريعته الهادية، وقبول الفتوى من غير الفقيه المجتهد الأهل للتقليد الثابتة أهليته بالعلم أو التعبّد علماً وعدالة وشروطا أخرى فيه لعب بالدين، وهدم له، وعبث بأحكامه.
وتعجب كيف أنك ترى الواحد لا يقتحم ساحة الإفتاء في الأمور الفردية من مثل قضية الطهارة والنجاسة والخلوة، ولكنه يتصدى وبكل جرأة لإعطاء الرأي باسم الدين في أكثر المسائل خطورة وحساسية في عالم السياسة والاجتماع.
وترى الناس لو أقدم هذا على الفتوى في النوع الأول من المسائل لا يقبلون منه، لعدم الأهلية، ولكنهم يتلقّون فتاواه في النوع الثاني بالقبول وعدم التحفّظ.
أما الفقهاء العظام، المتورّعون ، رحم الله ماضيهم، وأيّد من بقي وأمد في عمرهم فلهم تهيّبهم المعروف في قضية الإفتاء في موارد كثيرة وخاصة في ما يتصل بقضية الدماء والأموال والأعراض.
أكبر الفقهاء يقف مرتعدا مرتجفا أمام فتوى في هذه الموارد إذا لم يكن الدليل جليّاً.
ولنصغِ ما عن الرسول صلى الله عليه وآله:”أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار”(3).
وما عن الإمام الباقر عليه السلام:”من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه”(4).
وعن الصادق عليه السلام في كلام متصل:”واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا”(5) قد يذهبون بها الجنّة إذا كانوا معذورين شرعاً في الأخذ بها، وأنت تذهب بها النار.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل لنا شراكة في ظلم، ولا تخلّفا عن عدل، ولا سعيا بفتنة، ولا طلبا لفساد، ولا تقصيرا في إصلاح، ولا رضا ببغي، ولا تقاعدا عن نصرة حق، ولا قصدا بما يكون على ألسنتنا، أو يجري على أيدينا من خير وصلاح لغير وجهك الكريم يا رحمن يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ج4 ص27.
2 – 46/ فصلت.
3 – بحار الأنوار ج2 ص123.
4 – الكافي ج7 ص409.
5 – بحار الأنوار ج2 ص260.