خطبة الجمعة (366) 28 ربيع الثاني 1430هـ – 24 ابريل 2009م
مواضيع الخطبة:
*موضوع الإخلاص متابعة *ماذا بعد الإفراج؟ *الأسود والأبيض أسود وأبيض *أخ وأخوة لا ضرّة وضرّتها
ليعلم المعارضون السياسيون باسم الإسلام في أي مكان أنهم لن يقدّموا للإسلام، ولا للمسلمين شيئا يُذكر ما لم يضعوا جماهير الأمة على طريق الإسلام الواضح، ويعملوا على تربيتها التربية الإسلامية الحقّة، ويوفّروا لها رؤية وبصيرة وهدفا وأخلاقية إسلامية صدقاً وحقّاً.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لو لا نوره الحقّ الأصل الذي لم تسبقه ظلمة ولا نور لما كان من نور وجود ولا حياة، وهو الذي لا بقاء للأشياء إلا به، ولا زوال لنوره، ولا ظلمة تعتريه، ولا نقص يُخالطه، وهو الحيّ الدائم الذي لا يموت، والقيّوم الذي لا يهِن، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضعف ملكه، ولا تتغير قدرته، يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله الذي لا حول ولا قوة إلا به، ولا مرجع إلا إليه، والتذلُّل بين يديه، والتسليم له، والانقياد لأمره ونهيه، والإخلاص إليه، والتعلق بجوده وكرمه، والاستمساك بالعروة الوثقى من دينه، والسلوك إليه بالاهتداء الذي هدى به أنبياءه ورسوله وخاصة أوليائه، والأئمة من أهل بيت نبيه الخاتم صلى الله عليه وآله.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ظلّل علينا بظلال رحمتك، وشرّفنا بتوفيق طاعتك وخالص العبادة لك، وزيّنا بكرامة حبّك وقربك، وآمنّا من سخطك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، ومتّعنا بمعرفتك، وآنسنا برضوانك يا رحيم يا حنّان يا منّان، يا رؤوف يا كريم.
أما بعد فالحديث في موضوع الإخلاص متابعة:
والإخلاص أن يكون القلب مملوكاً تماماً لحبّ المولى الحقّ، وخوفه ورجائه.
وكلّ قصده حركة وسكوناً رضاه بلا شائبة من رضا غيره. ولا يتمّ هذا حتى لا يرى القلب مع الله شريكا أبداً في خلق ولا رزق وتدبير ونفع وضر، وحتى يوفق أن لا شيء من الأمر على الإطلاق لغير الله، ولا تغيب عنه حقيقة التوحيد، ولا تعتريه بشأنها غفلة ولا ذهول، وأنّى لقلوب الخلق من غير من عصم الله ذلك؟!
القلب الذي لا يرى لأي شيء ما هو لله وحده من جلال وجمال وكمال مطلق لا يمكن أن يصرفه أو يلفته عنه شيء، ولا يميل به عن قصده إليه، والتعلّق به قصد آخر، وتعلّق آخر.
من عرف الله، وأيقن بعظمته، ولم يرَ مثله عظيماً جليلا جميلا كاملا انتُهب قلبه لحبّه وخوفه ورجائه وإجلاله وإعظامه وإكباره، ولم يكن لهذا كلّه مزاحم له من حب أو خوف أو رجاء أو إجلال أو إعظام أو إكبار آخر.
ولا يكون في قلب عارف بحقٍّ حاضر المعرفة من ذلك شيء لغير الله سبحانه إلا ما تفرّع على ما هو له، وقام في وضوئه، وانتهى إليه، وكان هو المنظور فيه، كما في حبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام الذي هو من حبّ الله جل وعلا.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام:”سبب الإخلاص اليقين”، وأيضاً “اَلإخْلاصُ ثَمَرَةُ اليَقينِ”(1). ومنشأ اليقين التدبّر، والعبادة، ومغالبة الهوى مما يجعل القلب واعيا، نظيفا طاهرا مبصرا، مهتدياً زكيّاً، مستقبلا للفيوضات الإلهية الهادية.
مداومة العبادة، الإقامة على التدبّر والتفكّر، الدخول مع الشيطان والنفس في مواجهة ومكابرة كل ذلك يعطي هذا النوع من القلب.
ولا يفسد إخلاص العبد، ويدخل عمله الشرك بالله عز وجل والرياء للناس إلا لفساد في رؤيته وشعوره، ولذهابه أن لغير الله عز وجل من الأمر شيئا ولو غفلة. انظر أنه لو صلى أحدنا وحده منفردا بعيدا عن أنظار كل الناس عالما أن ليس أحدٌ منهم يراه، فهل يبتلي بآفة الرياء لوجود الحجر والشجر، وحتى الطير والحيوان؟ والجواب الواضح أنه لا يقع في هذا، ولماذا؟ لأنه لا يتوقع من هذه الموجودات جزاءاً بالإحسان، أو الإساءة، أجاد صلاته أو لم يجدها، ولو كان أحدنا لا يرى لمن حوله من الناس وهو في صلاته قدرة على الإعطاء والمنع، والنفع والضر، والرفع والخفض، والإعلاء والإسقاط، وكان لا يرى في نفسه لإعجاب أولئك الناس بصلاته، أو استسخافهم أي قيمة ، لأن النافع والضار عنده هو الله وحده، ولأنه هو الكبير بالحق الذي يحقّ الاهتمام برضاه وغضبه، وأنّ حكمه بالحسن والقبح هو الصادق لا غيره, لما اختلف حال المصلّي في صلاته والناس معه عنه وهو يصلّي وليس من الناس من يراه.
صلّى والملايين تراه, أو صلّى وليس معه إلا شجر أو حجر، يستوي الأمران عنده, إذ شأن الناس في نظره لا يختلف عن الجماد في عدم النفع والضر، والرفع والخفض، والإعزاز والإذلال من دون إذن الله الذي لا إله غيره.
وليقس أحدنا يقينه وإخلاصه في ضوء هذا المثال.
وبمقدار جهل العبد بربّه، وغفلته عنه يخسر من إخلاص طاعته وعبادته له. وحيث تغيب عظمة الخالق عن القلب يعظم المخلوقون، ويأخذون موقعا الإلوهية والربوبية فيه لتكون الطاعة والعبادة لهم لا لله العظيم.
فالإنسان إمّا عارفٌ بربّه، ذاكر له، فتكون عبادته خالصة له، أو جاهل به، غافل عنه فتكون عبادته لغيره.
ويدخل على الإنسان الشرك والرياء في طاعته وعبادته لربّه بمقدار ما يرى في نفسه لغير الله من فاعلية مستقلة عن فاعليته، ومن قدرة وإرادة في النفع والضر مفصولة عن قدرته وإرادته وإذنه.
وهكذا ينجلي أن ليس للعمل من قيمة عبادية يرضاها الله تبارك وتعالى إلا ما كان مخلصاً له، لأن ما دون ذلك المعبودُ به غيره، وما قُصد به من العمل مع الله غيره فحكمه عند الله سبحانه على ما في الكلمة عن الصادق عليه السلام ما يأتي:”قال الله أنا خير شريك، من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا”.
الإخلاص وشدّة المجاهدة:
“تصفية العمل خير من العمل”.
التصفية من الشرك، من النفاق، من الرياء، هذا الذي يُقبل به العمل، ويرقى به. قد يكون العمل حسناً في نفسه، وبحسب ظاهره، وفي نظر الناس، إلا أن هذا الحسن لا يساوي شيئاً من النية الصالحة التي وراءه.
“تصفية العمل أشد من العمل”، الجهاد الكبير نخلص في ركعة من ركعاتها، والعبادة من أصعب الأعمال. الفكر الرياضي صعب، لكن وأنت تتعامل معه تتعامل معه ببعد واحد من أبعاد ذاتك وهو التفكير، وليس عليك هنا أن ترقى بروحك إليه، وتتمثله التمثّل الخالص في مشاعرك، وأن تصير في نفسيتك من جنسه، وفي مشاعرك من جنسه، وفي عزيمتك من جنسه، وفي هدفك من جنسه، أمّا الصلاة فحين تقول كلمة الخضوع فيها لا تؤدي دورها إلا بأن تخضع، وحين تقول كلمة الصدق فيها لا تصح إلا بأن تصدق، فالعمل العبادي صعب جدّاً جدّاً.2
والتصفية تعني أن لا يكون لذاتي، أوغيري من دون الله تعالى شيء من صلاتي. وانظر إلى ما نحن عليه من أرض، وما عليه هذا المستوى من سماء.
“تصفية العمل أشدّ من العمل، وتخليص النية عن الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد” يقولها صادق أمين ربّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله والقرآن الكريم على الصدق الخالص والأمانة التامة وهو علي عليه السلام.
العمل الهباء: عن علي عليه السلام:” لو ارتفع الهواء لأنفَ غيرُ المخلص عمله”.3
لو تخلّصت نفسي من هواها، وخرجت من أغلفة الغش التي تستولي عليها، وتحررت من الوهم، وارتفعت روحي عن الأرض بمستواها لأنفتُ صلاتي واستعليت عليها، ولأنفت صومي وكبرت بذاتي عليه؛ لما فيه مما هو ليس لله تبارك وتعالى ولا قيمة لعمل المعبود فيه غيره سبحانه, وهو يُحطّ ولا يرفع.
وتقول كلمتان أخريان عن الإمام عليه السلام” العمل كلّه هباء إلا ما أُخلص فيه” “ضاع من كان له مقصد غير الله”.4
الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل للشيطان ولا لشيء من غيرك في عبادتنا وطاعتنا لك حظّا، ولا في قلوبنا لك شريكا، وارزقنا الإخلاص الحقّ لوجهك الكريم، والانقطاع إليك، والاستغناء بك يا أرحم الراحمين، وأجود الأجودين حتى لا نستوحش لقطيعة القاطعين، ومنع المانعين، وخذلان الخاذلين، ولا نأنس لوصل الواصلين، وعطاء المعطين، ونصرة الناصرين إلا من الأنس والثقة بوصلك وعطائك ونصرتك يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الناس لرحمته، ودلّهم على طرق هدايته، ودعاهم إلى موائد كرامته، ومهّد لهم السبل لجنّته، وأقام لهم أدلاء يوصلونهم إلى رضوانه، وينأون بهم عن العثرات والمنزلقات، ويأخذون بهم إلى رفيع المنازل والدرجات، ويعيش الناس بقيادتهم صلوات الله وسلام عليهم راغدين آمنين في الدنيا، هانئين سعداء في الآخرة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنه ولي النعم، ولا نعمة إلا من عنده، وَمَردُّها إليه، ولا دافع لسوء إلا من فضله. ولنتعظ بما وعظ به عبادُه الصالحين الناس ومن ذلك ما عن عبده أمير المؤمنين عليه السلام من هذا القول:”ألا وأن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها وأصبحتم تغضبكم وترضيكم ليست بداركم، ولا منزلكم الذي خلقتم له، ولا الذي دُعيتم إليه”(5).
فجعل الدنيا الميزان، وما به رضا المرء وغضبه ليس عقلا، واتخاذها أمنية ليس حكمة، والفرح بها خفّة، والحزن لها سفه وغفلة، لأنها المنقضية المتصرّمة المدبرة، ودار المقام غيرها، ونعيم المنعّمين، وعذاب المعذّبين في حياة الخلود بعدها.
وهذه الحياة الأخرى هي محل وعد الله لمن أطاع واتقى، ووعيده لمن طغى وآثر الحياة الدنيا.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بصّرنا طرق رضاك، ولا تعدل بنا عنها، وطرق سخطك ولا تجعل لنا دنوّا منها، وارزقنا دوام طاعتك، والمفارقة لمعصيتك، وبلّغنا رضوانك، ولا تحرمنا رحمتك، وتفضّلك وإحسانك يا خير المحسنين، وأجود المعطين، وأكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، وأدلاءك على طاعتك ومواقع رضوانك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل الفرج لولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزا مبينا مقيما.
أما بعد فهذه بعض كلمات مختصرة:
أولاً: ماذا بعد الإفراج؟
هنا فروض أولاً من جانب الحكومة ثم من جانب الشعب.
من جانب الحكومة:
1. أن يقف الأمر عند حدّ ما تم، وما تمّ على جودته وقيمته لو وقف الأمر عنده ما اقتلع جذور المشكلة، وما لامسها بالمعالجة.
2. أن تزيد الحكومة في التعقيدات والتقييدات والمشكلات العملية عن ما كانت عليه قبل الإفراج، وفي هذا انتشار للشرّ، وأخذ بالوطن إلى المنحدر السحيق.
3. أن تكون من النية إصلاح ولكنه مؤجّل، وهذا يعطي فرصة لأن تأخذ البلاد بالاتجاه المعاكس لما هو المطلوب.
4. أن تسارع الحكومة في عملية التصحيح العملي والإصلاح، وهذا ما يقضي به الدين والعقل ومصلحة الوطن، وتوجه العقلاء.
من جانب الشعب:
1. أن تعاجل الساحة بالمعاودة للتوتر، وحالة التصعيد بلا مهلة ولا فاصلة، وهذا ليس من الحكمة في شيء، وهو ضارّ بالوضع الوطني كلّه.
2. أن تُعاود الساحة إلى ذلك حتى لو ظهرت بوادر جدية للإصلاح من بعد وقت معقول، ولا أظن أن مثل هذا يرتكبه عاقل.
3. أن تكتفي الساحة بالمقدّمة وما قد حصل عما يُتوقّع أن يحصل من إصلاح، وهذا غير وارد على الإطلاق.
4. أن تُعطى فرصة معقولة عرفا وسياسيا وتُستقبل النتائج إذا جاءت إيجابية بالتفاؤل الإيجابي الذي تستحقّه، ويكون التعاون والتكاتف على الخير وأمن الوطن، وهذا هو الفرض المعقول والصالح.
فعلى الحكومة واجب، وعلى الشعب واجب.
ثانياً:الأسود والأبيض أسود وأبيض:
كان السود في جنوب أفريقيا وهم الأكثرية يعانون الأمرّين من حكومة البيض الأقلية المتفرّدة الطاغوتية الدكتاتورية يومذاك، وأخيراً وصل السود إلى الحكم بعد السعي الحثيث والبذل الغزير المكلف والتضحيات الجسام، وعبر مسيرة طويلة.
وبذلك انفتح أمل كل أسود في العدل والرخاء والصحة والتقدم ونيل الكرامة، وبعد أن حكم السود، وجاء التطبيق بدأت مشاكل تظهر على السطح، وبدأ الفساد الإداري والمالي، وألوان أخرى من الفساد على يد الأسود كما كان على يد الأبيض، وشكى الأسود من الأسود كما شكى من الأبيض.
وجاءت التقارير تحمل أن حكومة السود تشهد من الفساد الكثير. وهكذا يبقى تتنقل بهم الآمال بل الأوهام من حضن نظام سياسي إلى حضن نظام سياسي آخر، ومن التعلق بحزب سياسي حاكم إلى حزب سياسي آخر ينتقل إلى موقع المعارضة بعد أن كان في موقع الحكم، ومن الوقوع في فخّ إلى الوقوع في فخٍّ آخر، ويستمر الناس يعطون ويبذلون في سبيل الخلاص على أي طريق، وتحت أي راية وهم لا يلتفتون إلى أن القضية ليست قضية أسود وأبيض، وشرقيّ وغربي، وغير ذلك، ولا ينتبهون أن الأسود والأبيض في مقام الحكم, وبلا دين وقيم معنوية سماوية، وخوف من الله، واستغناء كل منهما به أسود كالح شقي، مشقٍ ظالم، طاغٍ ظالم لا يُؤمن على شيء.
وأنّهما مع الدين والقيم ومنهج الله والخوف منه، والرجاء فيه كلّ منهما أبيض ناصع سعيد، وتسعد به البلاد والعباد، عادل منصف يؤمن على أثمن الكنوز وأغلاها، والأرض وما فيها.
القضية قضية دين قويم وتقوى صادقة إلى جنب العلم والخبرة والكفاءة، فإن كان ذلك في أي أرض وعرق وقومية ولغة ولون كانت الحكومة التي تحقق آمال المستضعفين، وإن لم يكن فالآمال خائبة، والعلاقة علاقة مغالبة، وأحسن أوضاع الأرض حينئذ هو ما أمكن الصبر عليه، ولم يفقد الناس كل صبرهم أمامه.
وليعلم المعارضون السياسيون باسم الإسلام في أي مكان أنهم لن يقدّموا للإسلام، ولا للمسلمين شيئا يُذكر ما لم يضعوا جماهير الأمة على طريق الإسلام الواضح، ويعملوا على تربيتها التربية الإسلامية الحقّة، ويوفّروا لها رؤية وبصيرة وهدفا وأخلاقية إسلامية صدقاً وحقّاً.
وليعلم الحريصون على سلامة الدين وبقائه، والذين تتمزق نفوسهم لأنواع الفساد المستشري في الأمة أن فساد السياسة فساد لكل شيء، وأن علاج الفساد السياسي ضروري لعلاج الساحات الأخرى من حياة الأمّة وواقعها، وغير الدين لا تصلح به السياسة.
من أين جاء الفساد في السياسة؟ من تخلّي الساسة بقدر وآخر عن الدين، ولو وصلت ساسة تحت أي اسم إلى مواقع الحكم والقوة في أيّ مكان وزمان، ولم يكونوا على دين صحيح رصين لعادت الحال إلى ما كانت عليه من فساد وربما وجدت أكثر.
إذا لم نربِّ أنفسنا وشعوب الأمة على الدين فلسنا على طريق الإصلاح أساساً.
ثالثا: أخٌ وأخوه لا ضرة وضرتها:
الأخ يفرح لخير نفسه، ويفرح لخير أخيه، ويطلب لها الخير، ويطلبه لأخيه، ويسوءه أن يفقد الخير هو أو يفقده أخوه، ويألم أن يخسر الخير أو يخسره أخوه، ولا يلتذّ بلقمة وأخوه جائع فضلا عن أن يتلذذ بلقمة هي في الحقّ لأخيه.
وما يجري بين كثير من الضرّات وما يُستساغ لهذه أو تلك منهن في العلاقة القائمة بينهن تحت زوج واحد لا تشهده الأخوّات، وعلى خلاف ما يجري بين الأخ وأخيه. والغيرة بين الضرّتين قد تحرق كثيرا من القيم الكريمة والمعنويات، وتتجاوز بطرف منهما أو الطرفين معاً محظورات ما كانت تتجاوز منهما لما هما عليه من دين لولا هذه الغيرة.
والسؤال الآن هو أن السنة والشيعة في هذا الوطن أخوان أو ضرّتان؟
مذهبان يتحدّران من جذر واحد هو أصل الإسلام، وطائفتان بَنَتَا معا خير هذا الوطن، وتعايشتا طويلا في وئام، وحاضر مشترك، ومصير مشترك، وكثيرا ما يحصل الاتفاق في الأصل القومي بين أهل المذهبين، وقد يفترق هذا الأصل بين سنيّ وسنيّ، وكذلك بين شيعيّ وشيعيّ، فيكون السني والشيعي من قومية واحدة، والسنيان من قوميتين، والشيعيان من قوميتين.
وصلة الإسلام والإيمان فوق صلات الدماء والألوان والألسنة واللغات، فإذاً علاقة ما بين السنة والشيعة إنما هي علاقة أخوّة لا علاقة ضرّتين.
فأمنك لا ينبغي أن يضجر أخاك، وأمن أخيك لا ينبغي أن يضجرك، وخير أحدكما لا ينبغي أن يسيء للآخر، وإنصافك لا يصح أن يألم له أخوك، ولا يصح أن يريحك إنصافك وأخوك يُظلم، ولا ينبغي لأخيك أن يستسيغ إرضاءه لإعطائه لقمتك، ولا أن تستسيغ إرضاءك لإعطائك لقمته، وإذا طالب أحدكما بالحق فليطالب للإثنين، وإذا طالب المظلوم منكما بحقّه فلا ينكر عليه الآخر، وإنما عليه أن يضمّ صوته إلى صوته، وأن يكون له المعين على بلوغ حقّه.
ومع العدل، وحسن النية، وصدق العمل، والجدية في الإنتاج، والتخلص من الفساد المالي والإداري والخلقي وغيرها، وإصلاح الأوضاع عامة لن تحتاج إلى أن يجوع أخوك حتى تشبع، أو تجوع حتى يشبع، أو أن تخاف حتى يأمن، أو يخاف حتى تأمن، أن تشقى حتى يسعد، أن يشقى حتى تسعد.
فالمشكلة كل المشكلة في أننا نلغي كل الأرضية الصلبة للأخوّة، وكل الجذور المشتركة، ونتحول من أخوين إلى ضرّتين في التعامل.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم ص179.
2 الصلاة صدق ولا تصدق صلاة أحدنا حقّا إلا بأن نعيش حقا ونحن نمارسها, ونتلفظ بألفاظها. وهي توحيد ولا تتم لنا إلا بأن نعيش حالة التوحيد بكل حقّ وصدق في أدائها.
3 ميزان العكمة ج3 ص 62