خطبة الجمعة (365) 21 ربيع الثاني 1430هـ – 17 ابريل 2009م
موضوع الخطبة:
*القرآن يخبر عن الشيطان *الإفراج عن المعتقلين والمحكومين السياسيين
إذا كان إطلاق السجناء مهماً كما هو كذلك، فإن سدّ باب التوترات، والعمل على تهدئة الأجواء، والإسراع في معالجة أصل المشكل بما يحول دون تجدد الصراعات وحالات الغليان، وتبادل الضرر، وامتلاء السجون مرة بعد أخرى حتى لا تفرغ إلا لتمتلأ أهم وأهم بدرجات ودرجات.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أغنى العباد عن غيره، وتكفّل برزقه من فضله، ولم يرض لهم أن يذلّوا لمن سواه، وأخذ عليهم أن لا يعبدوا شيئاً عداه، وأن يكون توجّههم إليه وحده كاملا، وعبادتهم له خالصة، وطاعتهم لأمره ونهيه صادقة، لتتمّ نعمته عليهم، وتتحقق الغاية الكريمة التي رضيها لهم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله العظيم، وأن يكون رجاؤنا فيه، وخوفنا من عدله، وحذرنا من عقوبته، وطمعنا في مثوبته، وتوجّهنا إليه، وتوكّلنا عليه، وأن نصدق له الطاعة، ونخلص له العبادة، وفي إخلاص العبادة لله كلّ النجاة والفوز، والرفعة والعلوّ، والسعادة والكمال.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا، ونقِّ قلوبنا من الضلال والكفر والشرك والنفاق، واعمرها بتوحيدك، واجعل توحيدها صادقا مخلصا، وقصدها إليك، واشتغالها بذكرك المقيم، وحمدك الدائم، وشكرك المتّصل يا كريم، يا رحمن يا رحيم.
أما بعد فيقول الكتاب العزيز مخبراً عن الشيطان:
القرآن يخبر عن الشيطان:
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1).
من الناس من قد يقع في الغواية التامة التي تستوعب أبعاد ذاته المعنوية بحيث تستغرقه الظلمة، ويستنفذ حياته الزيغ، ويلفها الضلال.
ومنهم من تكون غوايته جزئية، وعماه غير شامل، وقد يتنقّل الشخص في رؤاه ومشاعره ومواقفه بين هدى وعمى، واستقامة وغواية، وقد تقيم حياته غواية في الأوّل، وهداية في الأخير، وقد تكون الخاتمة والعياذ بالله غواية.
ومن الناس وهم قليل، ونفر مختار قد اختصّهم الله لعبادته الخالصة لا يعبدون سواه على الإطلاق، ولا تخترق قلوبهم غواية الشياطين كلّية كانت أو جزئية، ولا تحدث لهم كفرا أو شركا أو ميلا عنه سبحانه وتعالى، ولا توقعهم في معصية.
وكلّ المجاهدات من المؤمنين مع النفس أكبر غاية لها أن تكون على طريق الإخلاص والاقتراب من حقيقته، وإن لم تتحقق – أي حقيقة الإخلاص – في غير من عنتهم الآية الكريمة على واقعها وبالصورة الكاملة.
والاستقامة الخارجية تحتاج إلى جهد وجهاد مرير، لكنّ أي جهاد ليس بثقل جهاد النفس على طريق أن تكون حركة المرء وسكونه غير منظور فيها إلا وجه الله الكريم.
وليس لأي عمل وإن جلّ قدره في الخارج من قيمة في صنع الإنسان، والقرب به من الله إلا بما يتحقق له من إخلاص له سبحانه في نفس العبد وعمله.
والعظيم في الأمر أننا مأمورون ومكلّفون بأن نُخلص العمل لله وحده بما نطيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).
والإخلاص المدلول عليه في الآية الكريمة بأسلوب القصر متعلّقه أمران: أمر العبادة، وأمر الاستعانة، فلا عبادة في المظهر الخارجي، وفي واقع النفس إلا لله وحده، ولا استعانة بشيء بما هو في ذاته مستقلاً أو على نحو الشركة مع الله عزّ وجل.
وإنما الاستعانة بالله وحده، أما الاستعانة بالأسباب فإنما هي استعانة في الحق بمسبب الأسباب، والمفيض الدائم عليها وجودَها وسببَّيتَها، إذ لا شيء من ذلك يمكن بغير مدد الله وإرادته أن تكون له فاعلية من ذاته أو من غيره بحيث لا تنتهي إلى الخالق العظيم.
والذات المخلصة لربها في حركتها وسكونها، وعلماً وعملا، وحبّاً وبغضاً، وأخذاً وتركاً، وكلاماً وصمتاً، وفعلاً وقولاً، وعطاءً ومنعاً، وصداقة، وعداوة هي الذات التي يستهدف الدين صنعها بكل ما هو من الدين وفيه، وهي الهدف الأسمى للرسالات الإلهية ومنهجها الكريم، وتكاليفها، وتعاليمها، ووصاياها، وأخلاقيتها جملةً وتفصيلاً.
وفي هذا يأتي ما عن علي عليه السلام:”الإخلاص غاية الدين”(3)، وقوله الآخر المنقول عنه عليه السلام:”طُوبى لِمَنْ أخْلَصَ لِلّهِ عِلْمَهُ، وَ عَمَلَهُ، وَ حُبَّهُ، وَ بُغْضَهُ، وَ أخْذَهُ، وَتَرْكَهُ وَ كَلامَهُ، وَ صَمْتَهُ”(4).
الذات التي لا تلفتها قضية ولا اهتمام، ولا ظرف من ظروف الرخاء والشدة، والخوف والأمن عن ذكر الله، والتعلق به، والانصراف إليه، ….، ولا يعطّل حبها ورجاءها، وخوفها وإكبارها، وإعظامها، وانقطاعها لربها معطّل أو قاطع، هي الذات الرابحة القوية الغنية السعيدة التي لا يضرها ما فاتها من زينة هذه الحياة، ولا ما اجتمع لها منها إذا حدث.
وقد يضر ما اجتمع من الدنيا بيد الإنسان هذا الإنسان أكثر مما فاته من زينتها.
وعن علي عليه السلام:”طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره”(5).
وإخلاص العبادة والدعاء من العبد للرب إنما يكون بامتلاء نفسه وعيا وشعورا وإيمانا عميقا راسخا بهذه القضية؛ قضية أن لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، وأنه لا خير لشيء، ولا ضرّ إلا بإذنه، وأن كل شيء بإرادته لا بإرادة من سواه.
لو توفّر قلب على هذه القضية واحتضنها تمام الاحتضان لكان له الإخلاص.
وما تراه عين العبد هو زينة مغرية من زينة الحياة الدنيا، وجمال أخّاد، ومغريات فاتنة، ومشاهد بذخ وترف، كما تقع على مشاهد خراب ودمار، وفقر ومسكنة، وكل ذلك لا يقف قلب العاقل المخلص لله عنده مصروفا به عن عظمة وفاعلية وعدل وحاكمية وقدرة ورحمة وحكمة وجلال وجمال ربّه.
وتسمع إذن هذا العاقل المخلص ما تسمع من ثناء وذم، ومن حقٍّ في شأنها وباطل، وما يؤلم ويحزن، ويربح ويتعب، ولكن شيئا من ذلك مهما عظم لا ينال من انشداد هذا العبد العاقل إلى ربه، واشتغاله بذكره وتوجهه إليه، والتذاذه بعبوديته له شيئا.
وليُعطَ الغير ما يُعطى من مال، ولد، سلطان، جاه وشهرة، أنصار ومعجبين، كلما يمكن أن يتصور أنه خير، ربح، انتصار في هذه الحياة مما لا يُعطاه العاقل المخلص فإنه لن يدخل بشيء من حزن على نفسه المستغنية بالله، المأخوذة بجلاله وجماله، المشغولة بطلب رضوانه.
فهل أقوى من هذه النفس أو أغنى أو أسمى أو أسعد؟!
فلتكن نفس من ذلك المستوى البعيد المحلِّق المثال مرغوبة لنا، وليكن لنا طموح في هذا الاتجاه، وسعي حثيث لا ينقطع، ومجاهدة مستمرة على طريقه، عسى أن يتحقق لنا شيء مما لتلك النفس فتخفّ علينا أثقال الحياة الدنيا، ونتحرر من أوضارها – أي أقذارها-، ونشعر بطعم السعادة.
ولو عمّ الاستغناء بالله، والإخلاص في الدين له لتخلصت حياتنا الدنيا من أزماتها الكثيرة، وتناقضاتها، وما يجري فيها من التطاحن الذي يفسدها، ويفسد الآخرة.
هذا وبالله المستعان.
اللهم صل على محمد وآله، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا عقلا راجحا، وروحا طاهرة، وقلبا زكيا، وعلما نافعا، وعملا صالحا، ونية خالصة، وثبتنا على دينك القويم يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حمّل كلّ ما خلق من قدرته وعلمه وحكمته وإحاطته، ودقيق صنعه شهادة بربوبيته وعظمته، لا تتخلف الأشياء، ولا شيء منها عن أدائها حقه، ولا تتأخر عن النطق بها، فكل شيء شاهد بأنه تبارك وتعالى المبدئ والمعيد، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه الباعث الوارث غير الموروث، والذي يقضي ولا يُقضى عليه، بيده الملك والرزق والموت والحياة والتقدير والتدبير وأنه الولي الحميد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله الذي لا مانع مما أراد، ولا دافع لما قدّر، ولا مؤخّر لما قدّم، ولا مقدّم لما أخّر، ولتكن تقوانا على علم، وطاعتنا على هدى، وتمسكّنا بالدين عن فهم؛ ومن لم يتفقه في الدين ضيّع طريق التقوى، وشطّ به السبيل، ونأت به الأخيلة والأوهام عن الغاية، ولم يكن على الرشد التي تؤدي إليه التقوى، وتفضي إليه الخشية من الله.
فالتقوى الموصلة قرينة للعلم بالدين، والعلم النافع قرين للتقوى.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا بهدى المتقين، وارزقنا تقوى العارفين، ودلنا على سبيلك، واسلك بنا إلى رضوانك، يا حنّان يا منّان، يا كريم يا رحيم يا رحمن.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، والأدلاء على رضوانك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ظاهراً مقيماً.
أما بعد فهذه كلمة:
الإفراج عن المعتقلين والمحكومين السياسيين:
الإفراج عن الإخوة والأبناء من السجناء السياسيين، وإعادة إجازة إنشاء المساجد والحسينيات وترميمها، وكذلك الخطاب الديني إلى ما كانا عليه قبل القرارين الصادرين من وزارة العدل بشأنهما أمور ثلاثة صدر بها أمر ملكي له قيمته العملية، ودلالته الطيّبة، وهو أمر نراه حكيماً ومقدّراً ومشكوراً.
ويقدّم معالجة أوّلية لوضع كان قائما يُخاف منه بدرجة عالية على الوطن وأهله. والفضل الأول على الجميع في ذلك، وفي كل خير لله وحده، فله المنّة والحمد، والشكر العظيم الذي لا انقضاء له ولا حد، والخير في هذا الأمر لا للحكومة وحدها ولا للشعب وحده، وإنما هو خير للجميع، ويؤدي إلى صالح الجميع، وكان محلّ الحاجة لمنفعة الجميع.
إنها خطوة لا تمثل حاجة لطرف دون طرف، وإنما هي خطوةٌ حاجةٌ للطرفين، وهذه الخطوة التي عالجت تداعيات خطيرة لأزمة سياسية قائمة هي خير في نفسها، وهي خير كذلك بما تمثّله من خلق مناخ مناسب للدخول في مرحلة جديدة يكون فيها التفاهم المخلص على حلول جدية للتخلص من أصل الأزمة، وما تسببه من تمزقات وطنية، وصراعات تستهدف طاقة الجميع، وتنزل بالوطن ضربات عنيفة قاصية قاصمة مهلكة.
والوطن بهذه الخطوة، والمناخِ الجيد الذي ترتب عليها أمام فرصة مؤاتية جدية لانفراج حقيقي في الأزمة الأصل، إذا فُعّلت الإرادة السياسية الخيّرة، والحكمة عند الجميع في هذا الاتجاه.
وإذا كان إطلاق السجناء مهماً كما هو كذلك، فإن سدّ باب التوترات، والعمل على تهدئة الأجواء، والإسراع في معالجة أصل المشكل بما يحول دون تجدد الصراعات وحالات الغليان، وتبادل الضرر، وامتلاء السجون مرة بعد أخرى حتى لا تفرغ إلا لتمتلأ أهم وأهم بدرجات ودرجات.
إطلاق السجناء مهم، ولكنَّ الحل لأصل المشكل أهم.
القيمة الكبيرة في هذه الخطوة تظهر بصورة واضحة إذا أدّت إلى علاقة عادلة ومستقرة وطويلة المدى يؤسس لها توافق سياسي يحمل القدرة على مثل هذا العطاء وإنتاج هذه النتيجة.
وكلما أُتيح لأي وطن أن يتوفر على نتائج تُربح جميع مكوناته وأبنائه عن الطريق الأيسر والأسهل، تحتّم الأخذ بهذا الطريق، وكان في ذلك رحمة من الله تبارك وتعالى للجميع.
ولا يجوز التفريط بطريق كذلك، والتعدي عنه إلى الطرق المكلفة بما لها من نتائج سلبية ضخمة قد تترتب عليها على مستوى الخاصة والعامة. والعدل، والإصلاح، والإعمار، والمساواة، والحفاظ على الكرامة، وإعطاء كل ذي حقّ حقّه إذا توفر ابتداءً أغنى، وإلا كان التفاهم هو الوسيلة الأولى من بين كل الوسائل المتاحة للوصول إلى ذلك، والأخذ بها هو المقدَّم كلما كان له أن يحقق هذا الهدف.
والتفاهم مسؤولية الطرفين؛ الحكومة والشعب، ودور الحكومة أن تفتح باب التفاهم الصادق، وأن تعطي له قيمة عملية إنتاجية مقنعة، ودور الشعب أن ينصف في تثمينه نتائج الحوار والتفاهم، ويعطي ردّ فعل مجانس لها قولا وعملا، وأن لا يعدل عن هذا الخيار أبداً كلّما انفتح بابه، وبدت بشائر عطائه العملية الصادقة.
هناك أزمة، وتداعيات للأزمة، الأزمة تتعلق بالجانب السياسي والحقوقي، والتداعيات احتجاجات، مظاهرات، ممارسات أخرى هذا من جهة، وتشديد في القوانين وزيادة عددها على طريق التضييق والمصادرة للحق، ومطاردات وملاحقات وسجن ومحاكمات وإدانات، هذا من جهة أخرى، ومخاطر جمّة، ومتاعب كثيرة تلحق الجميع.
والتخلص من كل التداعيات يتطلب التخلص من أساس الأزمة، والطريق المرشّح بدرجة امتياز لازمة لهذا الهدف هو الحوار والتفاهم الذي لا يجوز تعدّيه مع إمكانه وجدّيته وفاعليته وجدواه.
وهذا أمر لا يختلف عليه متدينان، ولا يختلف عليه عاقلان، والمفرّط فيه مدان، والمسوّف فيه مقصّر، والمحبط له بإسقاط جدواه، وتفريغه من نتيجته، وجعله عقيما وصوريا واستهلاكيا وتخديريا مرتكب شنيعة بتئييسه من نفعه، وفتحه الباب للبديل السيئ الذي يفتح على الوطن كلّه باب شرٍّ ومحرقة ومهلكة.
وأقول للحكومة: وأقول لنا الشعبَ لنا قولاً لا ينكر ولا يُستغرب، وقضية طبيعية ومنطقية وعملية، وهي أن لكل جنسِ فعلٍ ردَّ فعل من جنسه، ولكل شخصِ فعلٍ ردَّ فعل من وزنه، فلو فُعّل مسار الإصلاح فتلقائياً ستأتي ردود فعل إيجابية متعاونة.
نقطة أخرى لو رجعنا إلى خطوة الإفراج عن الإخوة والشباب السجناء ومن شارك فيها من بعد إرادة مسبب الأسباب، ومالك كل سبب، ورحمته تبارك وتعالى، وهي القضية التي يخوض فيها الناس هذه الأيام ففيها أقول من أراد أن يدعي أنه كل شيء في ذلك، فليدّع، وأن يقول بأن من سواه صفر فليقل، فإن ذلك لا يستوقف من لا تهمه المزايدات، ولا يطلب أجر الدنيا سواء كان هذا الفرد أو ذلك الفرد، هذه المجموعة من الناس أم تلك المجموعة، هذه الجهة أو تلك، فإنه لا يعيش ألم هذه الأقاويل من ناحية نفسه من قصد وجه ربّه، وإذا عاش ألم هذا الأمر فإنما يعيشه لما يُمثّله من خطر على الحقيقة، وحياة المجتمعات.
وإن في الدنيا لأمجاداً موهومة لا يطلبها ولا يقتنع بها إلا الواهمون.
وأسأل الله لي، ولإخواني المؤمنين والمؤمنات أجمعين العافية من الأوهام المضرّة بالدنيا، المهلكة للآخرة.
والقرآن الكريم يقول عن دور الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو دور كبير في الجهاد وعن نجاحاته {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}(6). وإن للدنيا لضجيجا لا يبقى، وشهرة تذوب، وظهورا يغيب، وآمالاً ساقطة، وكلّ ما هو من أمر الدنيا ذاهبٌ، ورابح الدنيا بخسارة الآخرة خاسر، وخاسرها بربح الآخرة رابح، والغالب بالشرّ مغلوب، والمغلوب الملازم للحق غالب، والعاقبة للمتقين.
وإن أشد أهل الدنيا فقراً، وأخملهم فيها ذكرا، لهو الغني المذكور عند الله عز وجل ما دام على قصد ربّه، وطريق هداه، وكفى بالله عن كل ما ومن سواه من شيء صفر أوعظم.
وقد يُسأل كيف تم اللقاء الملكي العلمائي؟
ولا بد للجواب أن نميز بين نوعين من اللقاء؛ فقد يكون اللقاء لقاءً تكريمياً ومن نوع اللقاءات المسمّاة بالتشريفية، وقد يكون اللقاء لقاءً للعمل والنظر في بعض الأمور والتفاهم حولها، واللقاءان يختلفان من حيث الحاجة إلى نوع ودرجة التمهيد، واللقاء المذكور هو من النوع الثاني الذي يحتاج إلى تمهيد يُطمئن إلى نجاح اللقاء المترتب عليه.
وكانت تحركات من أطراف لا أرى موجبا لذكرها، وقد حصّلت تلك التحركات القناعة عند العلماء بأن بداية جدية إيجابية عملية مقبولة ستتزامن مع اللقاء ربما فتحت باب الخير على هذا البلد، وأغلقت عنه باب شرّ كبير يُخاف عليه منه في النظر الواقعي بأكثر مما حدث لو استمر الأمر على ما كان.
واللقاء كان العلماء ينظرون إليه بما هو ومقدّمة خيرٍ لهذا البلد لا يقف عند إطلاق السجناء والقرارين الآخرين(7).
وقد تحققت البداية الجدية العملية المقبولة في تزامن عرفي مع اللقاء كما عرفتم. ولا أقول أن ما حصل هو بسبب هذا اللقاء. ولو قلته لما صدّقته أنا نفسي، فبعد حقيقة أن الفاعل الأصل هو الله، عادة ما تحدث الأمور الاجتماعية والتغيرات الاجتماعية بجهود وعوامل وظروف وملابسات كثيرة متظافرة.
ولا أريد أن يُعطي العلماء دورا في حصول ما حصل، لا من خلال اللقاء، ولا من خلال كل مواقفهم السابقة لأنها وفي نظر البعض مع الأسف الشديد مواقف غير واعية، ومضادةٌ لمصلحة الشعب، ومعرقلة لحركة الإصلاح، وفيها استسلام، وتنمُّ عن روح مهزومة مذعورة(8).
وألفت النظر أن رفع اليد عن قرار المساجد والخطاب الديني مغيّب تماماً تقريبا من أحاديث ساحتنا المؤمنة، أسفاه، أسفاه، كيف تضيع قيمة الدين في نفوسنا؟!
وهل هذا لعدم الأهمية؟! أم لأن العلماء، وطلاب العلوم الدينية هم الذين تركّز اهتمامهم عليهما؟! ولا دخل لمنظمة حقوقية خارجية مثلا في أمرهما حتى يتسع لهذا أو ذاك أن ينسب إلى تلك المنظمة أنها التي استرجعت هذا الحق الديني مع إهمال ذكر العلماء كما في موضع آخر؟!
العلماء ليسوا كل شيء، والعلماء بكم، وقوة كلمتهم من كلمتكم، ولكن لا تعلّقوا العلماء على الرف، وتعطوهم درجة صفر(9).
أقول هذا وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهنا وقفة عابرة مع بعض الألفاظ المستعملة رسمياً أو شعبياً في التعليق على قضية الإفراج عن الأعزاء من الإخوة والشباب السجناء، وما يتصل بالوجود العلمائي ووصلتهم بذلك،
1. جاء أن العلماء توسطوا في الموضوع، وكأن العلماء طرف أجنبي، ولا علاقة له بالشعب ولا قضاياه، وأنه كيان آخر مقابل للحكومة وللشعب، لا يهمه أمره.
ولا يمكن له أن يتحدث باسم أكبر جمهور من جماهيره الممثلة في هذه المؤسسة أو تلك، وهذه الجماعة أو الأخرى.
مؤسسة من عشرين شخصاً لهم ضميرهم الآخر، لهم فكرهم الآخر، لهم طرحهم الآخر، لهم الحق أن يتحدثوا باسم الشعب ويمثّلوه، أما العلماء وهم من صلب الأمة فليس لهم الحق أن يقولوا كلمة، على أن العلماء لم يمثّلوا في الخطوة الشعب، لأنه لم يدخلوا في صفقة ليعطي الشعب فيها شيئا، سعوا إلى منفعة الشعب، ومصلحته.
إن قضايا الشعب هي قضايا العلماء، وقضايا العلماء هي قضايا الشعب رضي الآخرون أم لم يرضوا.
كيف يكون العلماء وسطاء في قضيتهم؟! وكيف لا يكونون مدافعين أصليين عنها؟! ومتى انفصل العلماء عن قضايا الشعب، في كل تاريخ هذا الشعب وفي كل تاريخ هذه الأمة؟! ومن بادر في الدفاع عنها وسعى في الارتقاء بوعي الجماهير، وتربيتهم على الحق، والمطالبة بالحقوق مبكّراً، وعلى الكرامة والاستمساك بالكرامة قبل العلماء؟! ومتى تخلى العلماء عن هذا الدور؟! ومن أحق به منهم؟! ومن يُؤْمَنُ عليه أكثر منهم؟! كم هم الذين تسلقوا إلى المناصب من أصحاب الدعوات الحزبية في كل الأمة؟! وكم هم الذين باعوا الأمة من غير العلماء حينما وصلوا إلى سدّة الحكم؟!
وينتظر العلماء من ليعلمهم هذا الواجب، ويدفع بهم على طريق النهوض بالمسؤولية، وقد حملوا المهمة قبل مجيء من يريد أن يعلمهم؟!
2. إذا احتمل محتمل أن العلماء يشترون الحرية الجسدية لأحد من الشباب الأعزاء ولكن بالحرية المعنوية للعلماء أنفسهم، ويبيعون الكرامة الدينية ومصلحة الدين والمؤمنين من أجل أن يتخلص شاب من سجنه فهذا وهم بعيد، ولكن يُطرح مع الأسف الشديد في بعض الكلمات المسؤولة بحسب الموقع، الذي يفرض عل صاحبه مستوى غير هذا المستوى.
مطروح أن العلماء استجدوا، أنستجدي بديننا، وشرفنا، وكرامتنا، وكرامة الشعب من أجل أن تخرج هذه الثلة المباركة من السجون؟!(10)
أقول لمثل هذا الطرح أنه تفكير يحتاج إلى تعديل كبير، وأنه إذا كان وراءه تحامل فيحتاج هذا التحامل إلى تخفيف. العالم الصحيح مستعد لئن يضحي بسلامة جسده، وحريته الجسدية من أجل دينه، من أجل كرامته، من أجل كرامة أمته، كرامة شعبه، وإذا كان كذلك فكيف يضحي بكل هذا من أجل الحرية البدنية لا لنفسه وإنما لغيره؟! واجب علي أن لا أضحي بديني لجسدي، أأتي فأضحي بديني لجسدك؟! ما أسفهني إذاً لو كنت كذلك”.
ولا استجداء في المطالبة بالحقوق على أنه لا استعلاء على التفاهم، ولا تقديم لغيره عليه ما دام فيه عطاء.
بقي أن يشار إلى قضية عدد من المسجونين بسبب جولة الأحداث التي شهدتها الساحة، والذين أُسقط الحق العام عن ذمتهم كما هو رأي الدولة رأيها، ولم يتم الإفراج عنهم للشائبة التي يذهب إليها ذهن الجهات الرسمية، وبشأن هذه القضية فإن سعي الوفاق وعلى رأسها أمينها العام وفّقه الله جادٌّ ومستمر للوصول إلى ترتيب للإفراج عنهم ليس فيه اعتراف بذنب ولا تسجيل قضية على الشعب.
فرّج الله عنهم قريبا عاجلا.
وقضية الإفراج عن السجناء لن تتم فاعليتها بالكامل، ولن تأخذ بعدها المطلوب إلا بأن يكتمل حجم هذا الإفراج، والأمل كل الأمل أن يتم ذلك في وضع من التفاهم الذي لا يبتعد عن المسارات الصحيحة.
والعلماء الذين لم يناموا يوماً عن قضايا الشعب لن يناموا اليوم أو غدا، ولن يتوقف جهادهم وسعيهم إن شاء الله عن مواصلة المطالبة بتحسين الوضع السياسي، ورفع المستوى الحقوقي العملي للشعب الكريم بما فيه خير الوطن كلّه لدينه ودنياه، وهذا السعي لم يبدأ اليوم، ولم يبدأ في التسعينات، ولم يبدأ في الثمانينات، بدأ حين جدّ بعض العلماء عن وعي لقضية الشعب والحقوق والدين.
الجيل الحاضر للعلماء والذي يشارك في تحريك الساعة هذا جيل عرف بالعمل ليس اليوم وليس بالأمس القريب {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(11).
ثم إن وسيلة الحوار والتفاهم إذا توفرت فهي المفضّلة في الدين والعقل ومن أجل سلامة الوطن ومصلحته، ولابد أن يكون هذا الحوار جاداً ومنتجاً.
وبرغم كل شيء فليس أمام المؤمنين إلا أن يحسنوا النية والخلق فيما بينهم، ولا تأخذ بهم الاختلافات إلى المفسدة في الدين والدنيا، وتحطّم بنيتهم الاجتماعية الإيمانية التي أمر الله بإشادتها، وتمتينها، والحفاظ عليها، وإن على المؤمن أن يحسن النية والخلق مع جميع الناس حتى في خلافاته مع بعضهم. هذا ما يعلمنا إياه الإسلام والإيمان، وهو سبيل من سبل خدمتهما.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم المم شمل أمة الإسلام والإيمان، ووحد كلمتها على التقوى، وانصرها بنصرك، وأعزها بعزك، وادرأ عنها يا قوي يا عزيز. اللهم ارحمنا برحمة الدنيا والآخرة، ولا تشقنا في أي منهما يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 82، 83/ ص.
2 – 5/ الفاتحة.
3 – غرر الحكم ص178.
4 – غرر الحكم ص179.
5 – الكافي ج2 ص16.
6 – 18/ الأنفال.
7 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
8 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
9 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
10 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
11 – 105/ التوبة.