خطبة الجمعة (359) 8 ربيع الأول 1430هـ – 6 مارس 2009م
مواضيع الخطبة:
*(الإخوّة الإيمانية) متابعة *أولاً: هل وضع البلد طبيعي؟ *ثانياً: لو حُكّم القانون. *ثالثاً: حكومات غير ناجحة. *رابعاً: وصية ما بارحتها. *خامساً: المحكمة الجنائية الدولية وعمر البشير.*سادساً: غلق مسجد الإمام الصادق (ع). *سابعاً: تعزية
بوفاة العسكري (ع).
وصيتي لمواطني هذا الوطن الطيّب ومنذ بعيد أن يسعوا للإصلاح، وأن يستمروا على المطالبة بالحقوق العادلة، وأن تكون المطالبة بالأساليب المنتقاة المؤثّرة السلمية، وأن تكون ضوابط المطالبة دائما شرعية، بعيداً عن التعدّي على المال العام أو الخاص، وبعيداً كل البعد عن الإضرار بنفوس الآخرين قتلاً أو جرحاً.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق من الطّين ذكراً وأنثى، وبثَّ منهما أناساً رجالاً كثيراً ونساء، وجعل النّاس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، ويكون سعيهم للهدى، وتعاونهم على البرّ والتقوى، وعملهم الإصلاح، وغايتهم الفلاح، وفتح لهم طريق الكمال، ويسَّر لهم بلوغ الكريم الممكن من الآمال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارةّ بالسوء بتقوى الله، ووضع نعمه الجليلة موضعها؛ فلكلّ نعمة من الله موضع يناسبها وحكمة، ولها دور في حياة الإنسان، وعون له على قضاء حاجاته، وبلوغ كماله وغايته، وتبديلُ النِّعم عن مواضعها حماقة يرتكبها بعض النّاس، وجناية في حقهم وعلى المجتمعات، وإذا عُطّلت النعم ذهبت هدرا، وإذا بُدّلت مواضعها أحدثت خللاً وضرّا، وحَمَل الإنسانُ من جرّاء هذا التبديل وزرا بالغ الخطورة.
وطاعة الله موضعُ كلّ نعمة، ومن وضع النعمة في معصيته فقد كَفَرَ بها، وكانت للضَّرّ بدل النفع، والإفساد بدل الإصلاح، وتحمّل وزر عمله يوم القيامة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من معصيتك، ومن الكفر بما أنعمت به علينا، والاستعانة به على مكابرتك، وأن يكون وسيلتنا إلى غضبك ونارك وعقوبتك، ومركبنا إلى الشقاء الدائم المقيم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمع طائفة من الأحاديث عن المعصومين عليهم السلام في موضوع الإخوّة الإيمانية استمراراً للحديث السابق.
(الإخوّة الإيمانية) متابعة:
“كان رجل عند أبي عبد الله عليه السلام فقرأ هذه الآية”:{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}(1) قال: فقال أبو عبدالله عليه السلام: فما ثواب من أدخل عليه السرور(2)؟ فقلت: جُعلت فداك عشر حسنات، فقال: إي والله وألف ألف حسنة”(3).
ارتقب عشر حسنات، وارتقب مائة حسنة، وألفاً، ولك أن ترتقب من فضل الله مليون حسنة، وقد يكون المليون أيضا على سبيل المثال. كرم الله لا يُحدّ، والإخلاص ليس على درجة واحدة، وحجم السرور ليس بدرجة واحدة، والضائقة التي يقع فيها المسلم من درجات مختلفة، وكلّ ذلك يجعلنا أمام معقولية تفاوت الثواب.
“عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أدخل السرور على مؤمن فقد أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد وصل ذلك إلى الله وكذلك من أدخل عليه كربا”(4).
أليس رسول الله صلى الله عليه وآله أباً لهذه الأمّة، وهو الأب المخلص الشفيق، ثم أليس الله هو ربّ العباد، وهو أشفق شفيق على عباده، وقد أنزل كتبا، وأرسل رسلا، وخلق كوناً من أجل هداية الإنسان ومصلحته، ومن أجل أن يدفع بمستواه إلى أعلى عليّين؟ فكيف لا يكون سرور العبد المؤمن سروراً لرسول الله صلى الله عليه وآله، وسروراً لله عزّ وجلّ على نحو المجاز، أي بمعنى أن يعامل الله عزّ وجلّ من أسرّ عبده المؤمن معاملة كما لو كان هو المسرور بذلك الجميل الذي أسداه المؤمن لأخيه المؤمن. الله عزّ وجل لا يعتريه سرور، لا حزن ولا فرح ولا أي عارض، جلّ عن ذلك وعلا علوّا كبيرا، ولكن يكون الله عز وجل في جزائه العبد المؤمن الذي أدخل السرور على أخيه المؤمن وكأنّه هو المسرور نفسه.
وكم يتمنّى المرء أن يقطع مسافات ومسافات ليلتقي برسول الله صلى الله عليه وآله فيدخل عليه سرورا، حين أنك في مكانك وزمانك، وفي داخل بيتك، أو من خلال الإحسان إلى جارك المؤمن تكون قد أدخلت السرور على رسول الله صلى الله عليه وآله بإدخالك السرور على مؤمن أو مؤمنة ممن يُسرُّ الرسول (ص) لسرورهما.
“عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمن: إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه”(5).
وهذه أمثلة لإدخال السرور على المؤمن، وإلا فالمصاديق كثيرة، والموارد متعددة منها الماديّ ومنها المعنوي.
“سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من طاف بالبيت أسبوعاً(6) كتب الله عزّ وجلّ له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة ورفع له ستة آلاف درجة – قال: وزاد فيه إسحاق بن عمار – وقضى له ستة آلاف حاجة، قال: ثم قال: وقضاء حاجة المؤمن أفضل من طواف وطواف حتى عدّ عشرا”(7).
ذاك ثواب طواف الأسبوع، بينما قضاء حاجة المؤمن تتضاعف عن ثواب طواف الأسبوع فيقول الحديث: “أفضل من طواف وطواف حتى عدّ عشرا”، فاضرب الثواب المذكور في عشرة ينتج لك ثواب قضاء حاجة المؤمن وليس هذا على الله بكثير.
“سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله حتى تقضى له كتب الله عز وجل له بذلك مثل أجر حجة وعمرة مبرورتين(8) وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام، ومن مشى فيها بنية ولم تقض كتب الله له بذلك مثل حجة مبرورة، فارغبوا في الخير”(9).
ونحن نجد تفاوتا في الثواب الذي تذكره الأحاديث في قضاء حاجات المؤمنين، وهذا ما يفسّره مثل ما سبق من تفاوت الجهد، ومن إخلاص النيّة، ومن التقيّد التامّ الدقيق بالحكم الشرعي في السعي، ومن اختلاف قيمة وموقع المؤمن الذي قضيت له حاجته، فالإيمان يتفاوت، وبقدر ما يتفاوت الإيمان يتفاوت قدر المؤمنين، فهناك جهات عديدة يمكن أن تبرّر لنا هذا التفاوت في ثواب قضاء حاجة المؤمن بين مورد ومورد آخر.
“عن أبي جعفر عليه السلام قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى (عليه السلام) أن من عبادي من يتقرب إلي بالحسنة فأحكّمه في الجنة(10)، فقال موسى: يارب وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته قضيت أو لم تقض”(11).
عظيم أن يحكِّم الله عزَّ وجلَّ عبده المؤمن الذي مشى مع أخيه في الإيمان في قضاء حاجته سواء تمّ قضاؤها أو لم يتم إكراماً له، فيعطيه أن يختار من الجنّة ما يختار وأن يشفع فيمن يشفع.
“عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتم بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى بهمه الجنة”(12).
يأسف، يتألّم لأن ليس بيده قضاء حاجة أخيه المؤمن. يعرض مؤمن على أخيه حاجته، فيفكر، ويبحث، فلا يجد سبيلاً لقضاء حاجة أخيه المؤمن فتقع نفسه في ضيق لمحنة أخيه المؤمن، ولعجزه عن رفع همّه وكربه، فيكون له في ذلك جزاء الجنّة من الله تبارك وتعالى.
“سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أيما مؤمن نفس عن مؤمن كربة وهو معسر يسر الله له حوائجه في الدنيا والآخرة، قال: ومن ستر على مؤمن عورة يخافها ستر الله عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة، قال: والله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه، فانتفعوا بالعظة وارغبوا في الخير”(13).
المؤمن إذا كانت له عورة، عيب، ذنب، ما يسيء لقدره في المؤمنين، ما يهبط بمنزلته عند الله سبحانه وتعالى فهي فاجعته الكبرى، وكارثته الأليمة، المؤمن الحقّ، ومن علية المؤمنين يفقد الدنيا بكاملها، وقد تمرّ به سحابة خفيفة من حزن لما فقد وقد لا تمرّ، يجد نفسه في معرض طرد الله له من رحمته، وأنّه صار في الموقع الذي يخاف على نفسه من سقوطه في عين الله فذلك شقاؤه الأليم، وتلك محنته الكبرى، وهو لحرمة الله في نفسه يكون للمؤمنين حرمة في نفسه. ولو رآه المؤمنون فقيرا، لو رآه المؤمنون مريضا، لو رآه المؤمنون قد فشل في مشروع هذا لا يهمّه، لكن يهمّه كل الهمّ أن تُجرح سمعته الدينية في المؤمنين لا لأنه ينظر للمؤمنين بما هم رازقون وخالقون وقادرون على النفع والضر إذ ليس في نفسه شيء من هذا، ولكن لأن غضبهم إذا حقّ فهو انعكاس ما لغضب من الله سبحانه وتعالى، وبذلك يقلق، ولأنه استحق الفضح من الحبيب.
المؤمن الثاني لا يتخذها فرصة في أخيه، وإنما يستر عليه كما يستر على نفسه، ويتذكر حينئذ محنة العورة لو كانت من نصيبه، فكما يتوارى بعورته عن أعين الناس، فكذلك هو يتوارى بعورة أخيه المؤمن عن أن تُفضح فيهم. أوليس المؤمنان من جسد واحد؟!
“قال أبو عبد الله عليه السلام: من أطعم أخاه في الله كان له من الأجر مثل من أطعم فئاما من الناس، قلت: وما الفئام (من الناس)؟ قال: مائة ألف من الناس”(14).
وهنا تفسيران: وإشباع الجائع في نفسه إذا لم يكن رياءً، ولم يكن استعلاءا فيه أجر، من أطفأ حرارة كبد ملتهبة بشربة ماء، حتى لو كانت كبد حيوان فله أجره. ومائة الألف قد يكونون من سائر الناس، وقد يكون إطعامهم عن سجيّة، وطبع حميدة في المطعِم، وهذا له ثوابه، وقد يكون الإطعام للواحد إخلاصاً وامتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى، وإذا كان الأخ أخاً في الله، والإطعام كان خالصا من أجل الله ارتقى الإطعام في مستواه المعنوي. عند الله سبحانه فلا يستكثر أن يبلغ ثوابه ثواب إطعام مائة ألف من الناس وبنية عادية.
“قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما منعك أن تعتق كل يوم نسمة؟ قلت: لا يحتمل مالي ذلك، قال: تطعم كل يوم مسلما(15)، فقلت: موسراً أو معسرا؟ قال: فقال: إن الموسر قد يشتهي الطعام”(16).
نعم، يدخل الموسر في ثواب الإطعام. فلنتزاور، ولنبذل للمؤمن الطعام وغيره مما أحلَّ الله ويطيّب خاطر المؤمن. والقصد الأكبر من هذا التواصل والبرّ والعناية والرعاية بين المؤمنين أن يُبنى المجتمع المؤمن الرسالي المتماسك القادر على نشر الخير في الحياة، وإقامة المعروف، وإسقاط رايات المنكر، وأن تزين الحياة بالإسلام.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل خُلقنا خلق القرآن، ونيتنا نيّة الإحسان، وأخوَّتنا لأهل الإيمان، وأجرِ على يدنا الخير، ولا تمحقه بالمنِّ، واسلك بنا النهج، وأخلص منا القصد، وبلّغنا الغاية ترضاها.
بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
الخطبة الثانية
الحمد لله العزيز الذي مَنْ أعزّ لا مُذلّ له، ومن أذلَّ فلا معزَّ له، الغنيّ الذي لا مفقر لمن أغنى، ومن أفقر فلا مغني له، المؤمن الذي لا مُخيف لمن آمن، ومن أخاف فلا مؤمّن له، الناصر الذي لا غالب لمن نصر، ومن خذل فلا ناصر له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله القادر القاهر مالك كلّ شيء، ولا مالك لشيء غيره، وبحمل النفس على ما فيه هداها وخيرها من طاعته، والنأي بها عمّا فيه ضلالها ورداها من معصيته.
وإنَّ نفع العباد في دينهم ودنياهم بما يرضي الله سبحانه استجابةً له لَمِن أفضل الطاعات، وأقرب القربات، فهنيئاً لمن جرى على يده الإحسان إلى النّاس وخاصة من كان منهم مكروباً صالحاً، وحائراً مؤمناً، وملهوفاً خيِّراً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من سُعاة الخير في النّاس، ولا تجعل لنا سعياً بشرّ، ولا مشاركة في ظلم، ولا خذلاناً لمظلوم، ولا رضى بباطل، ولا تخلّفاً عن نصرة حق، ولا تقاعساً عن واجب، ولا نُطقاً بما يسخطك، ولا صمتاً يُغضبك، ولا هوى على خلاف دينك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم صل على عبدك وحبيبك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الهادين المعصومين، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فمع هذه الكلمات القصيرة:
أولاً: هل وضع البلد طبيعي؟
من جهة إضراب هنا وإضراب هناك، اعتصام هنا واعتصام هناك، احتجاج هنا واحتجاج هناك، مسيرة هنا ومسيرة هناك، عريضة هنا وعريضة هناك، ظاهرة منتشرة مستمرة لا تنقطع.
ومن جهة أخرى مداهمات مزعجة، عقاب جماعي مرهق، سجون مظلمة، تعذيب مؤلم، محاكمات، عقوبات مشدَّدة، جرح، إعاقة، مناطق محاصرة، وهذا كلّه ظاهرة منتشرة مستمرة لا تنقطع، ومع ذلك حرب كلامية مستعرة، وخارج كل الحدود.
من أين هذا؟
أزمة دستورية، أزمة إسكانية، أزمة تجنيس، فضيحة بندرية مرعبة، انحلال خلقي خطير، فساد مالي متغِّول، فساد إداري متمكِّن، تمييز فاضح، مجلس نيابي مسلوب الصلاحيات بتركيبة عرجاء، لا أحد بلا أزمة، لا أحد بلا شكوى، وبلا تذمّر، علاقات متشنّجة، ثقة مفقودة، غليان نفوس. إذنٌ صمّاء أمام كل الشكاوى هذه الخلفية.
نوع المعالجة:
هناك أنواع للمعالجات:
أ- المعالجة الأمنية بالاستعمال المفرط للقوة: هذا النوع من المعالجة يمكن أن يسكت مؤقتاً، لكنه حتماً يهيئ لانفجارات نفسية قادمة يمكن أن تتسبب في زلازل مدمّرة. والإفراط في استعمال القوة في نفسه ظلم، وهو في الغالب من أجل تثبيت وتركيز الظلم كذلك. والظلم لا تطيقه النفوس، وإذا أسكت يوماً قهراً فلا بد أن يُنطق في يوم آخر أصواتاً أعلى على سبيل الانتفاض.
ب- المعالجة السياسية الكيدية الخادعة: هذه لابد أن تنكشف لتعطي أثرا عكسيا سيئا جدا، ويُعمَّق عندئذ فقد الثقة، ويصعب الوصول إلى حل. ولا تطول المخادعات، وخاصة في ظل وعيٍ متنامٍ لا يتوقّف تناميا.
ج- المعالجة السياسية الواقعية: بمعنى أن هناك طرفاً آخر شريكاً لي بطبيعة الأمور الخارجية في الحياة على أرض واحدة له ضروراته، وتطلّعاته، وقناعاته، وإحساسه بكرامته، وأن آخذ كل شيء وأحرمه كلّ شيء يتطلّب القضاء عليه نهائيا أو بصورة شبه نهائية، وهذا مستحيل بمنطق الأحداث والواقع التأريخي الطويل، والحاضر القائم، إذاً فلابد أن أتفاهم معه، وأنصفه ولو بعض الشيء بما يكفيني متاعبه، هذه هي السياسة الواقعية.
هذا الحل حل فاقد للأخلاقية، خاضع لظرف الضرورة، مشوب بالشكّ، وقد لا يفجّر وضعاً حالاً، لكن يمكن أن يخلق متاعب مضاعفة بعد حين، ولا تستقر على مثل هذه السياسة الحياة.
د- المعالجة الإنسانية الأخلاقية: هناك طرف آخر يشاركني الإنسانية والضمير والحقّ في إبداء الرأي، وله تطلّعه وكرامته وقناعاته الدينية والسياسية، وهو شريكي في التراب الواحد والثروة الواحدة. وحكم العقل والضمير والإنسانية والخلق الفطري أن أعترف له بحقّه وأنصفه. هذه المعالجة لها درجة من الثبات، ودرجة كبيرة من الفعالية، والأزمات في ظلّها قليلة.
ه- المعالجة الدينية القائمة على النظر إلى الآخر بأنه إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وأن الظلم حرام على الإطلاق. والأساس الديني يمثّل قمّة العقل والضمير والإنسانية والخلق الكريم، وكل ذلك رافد له، ومعه في اقتضاءاته السامية النبيلة، مع ما لهذا الأساس من ميزة الإحساس بالقيمة العليا للجزاء الإلهي من الثواب والعقاب، وكونه شديد الضبط والتوجيه لحركة الإنسان إلى المسار الصحيح. ونتيجة المعالجة الدينية أكبر إيجابيَّة، وأدق عدلا، وأثبت وجودا، وأبعد عن الهزّات والتخلّفات ما دام دين قويم يُرجع إليه.
4. المعالجة المختارة: لحد الآن والحكومة تختار لعلاج الوضع منطق القوة والاعتماد على البطش.
وهو علاج فاشل، ويزيد حسب الواقع من تفاقم الأزمة وتعميقها، ويعطيها انتشاراً أكبر.
فإلى متى ستبقى الحكومة وهذا الخيار؟!
ثانياً: لو حكِّم القانون:
سلسلة القضايا التي يتّهم بشأنها مواطنون ويُسجنون ويحاكمون ويحكمون صارت تطول وتطول ولا تتوقف: قضية المزرعة، حرق الجيب، قتل الشرطي، قضية الحجيرة، قضايا أخرى هناك وهناك من القضايا التي تطفح على صفحات الجرائد بين حين وحين غير بعيد.
والقيمة الإثباتية لأدلة التهم لا وزن لها شرعاً ولا قانوناً مع قيام قرائن مضادة، فدعوى قتل الشرطي رافقها الاضطراب من أول الأمر وجاء أخيراً من الطبيب الشرعي المكلّف رسمياً أن موت الرجل عائد إلى الارتطام بالأرض، وظهر من مشاهدة المحامين لتصوير تمثيل المتّهمين لمشهد الحادث المدّعى أن هناك خصوصيات وملاحظات تنفي واقعية الحدث.
والعرض التلفزيوني للاعترافات المرتبطة بقضية الحجيرة صارت محل تندر عند عدد من المشاهدين لها من منطلق عدم الصدقية والمصداقية.
وعن قضية المزرعة هناك شهود نفي، وهكذا بالنسبة لقضايا أخرى مما طرح ويطرح.
أما الوسيلة الكبرى لإثبات التهم فهي اعترافات شهدت أكثر من جهة أن آثار التعذيب التي رافقتها بقيت على أجسام المتّهمين لمدة طويلة.
إذاً لو حُكِّم القانون لما ثبتت تهمة على واحد من المتّهمين، ولجرِّم من مارس التعذيب في حقهم.
وهذا الكلام إنما يحاكم القضايا بحسب ظاهر الأمور لا من منطلق العلم بالغيب، أو الرجم بالغيب، وليس لمن في موقع القضاء طريق لإثبات تهمة غير الوقوف عليها، أو الاعتماد على أدلة الإثبات الظاهرية المعتمدة شرعاً أو قانوناً، وإثبات أي تهمة خارج هذين الطريقين مناف لعدالة الشرع والقانون.
ثالثاً: حكومات غير ناجحة:
حكومات بإذن صمّاء عن شكوى المظلوم والمستضعف والمسحوق والمحروم حكومات غير ناجحة، وتُتعب وتَتعب.
وحكومات لا تملك غير العنف في إسكات أصوات المظلومين والمسحوقين والمحرومين حكومات غير ناجحة، وتُتعب وتَتعب.
وحكومات يتوالى منها خلق الأزمات مع مواطنيها حكومات غير ناجحة وتُتعب وتَتعب.
وحكومات كل مكرها على شعوبها غير ناجحة وتُتعب وتتعب.
وحكومات تقيم الأمور كلها على سوء الظن المفرط حكومات غير ناجحة وتُتعب وتَتعب.
وحكومات تحاول أن تعيش على اختلاف الفئات والطوائف في الأوطان التي تحكمها حكومات غير ناجحة وتُتعب وتَتعب.
وحكومات تدير ظهرها لدعوات الحوار المنطلقة من شعوبها، وتعدّها ضعفا ومسكنة حكومات غير ناجحة وتُتعب وتَتعب.
وحكومات تستهدف الناس في أغلى ما على أنفسهم وهو دين المتديّنين وشعائرهم ومقدساتهم حكومات غير ناجحة، وتُتعب وتَتعب.
وحكومات ترى في الإعلام المتزيّد، والمضلّل، والملهي، والمجهّل، والمزوّق، والمتفنّن غنىً عن العدل على الأرض، وملهيا عن كل المشكلات ومخدِّراً للمشاعر مع الجوع وفقد المسكن، والبطالة حكومات غير ناجحة، وتُتعب وتَتعب.
رابعاً: وصية ما بارحتها:
وصيتي لمواطني هذا الوطن الطيّب ومنذ بعيد أن يسعوا للإصلاح، وأن يستمروا على المطالبة بالحقوق العادلة، وأن تكون المطالبة بالأساليب المنتقاة المؤثّرة السلمية، وأن تكون ضوابط المطالبة دائما شرعية، بعيداً كلّ البعد عن التعدّي على المال العام أو الخاص، وبعيداً كل البعد عن الإضرار بنفوس الآخرين قتلاً أو جرحاً.
ولابد من التنبيه هنا على أمرين:
1) أن هذا الكلام بعيد عن تسجيل اعتداء أو مخالفة شرعية في الخارج على أي مواطن ممن اتُّهم أو لم يُتّهم، لأني أفقد الدليل الشرعي الذي يُتيح لي أن أتّهم أحداً.
2) أن رجال الأمن أول من يُسأل عن جرائم القتل أو الجرح أو الإعاقة للمواطنين، وأول من ينبغي للقانون أن يلاحقهم.
خامساً: المحكمة الجنائية الدولية وعمر البشير:
أصدرت المحكمة المذكورة مذكرة توقيف للبشير لمثوله أمامها بشأن تهمتي ارتكابه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية دون الإبادة الجماعية لعدم كفاية الأدلة حاليا كما يقولون.
وليس لغير حاضر معاين لساحة الأحداث المرتبطة بأي تهمة أن يشهد بنفي أو إثبات، ولسنا بصدد ذلك.
ومن ناحية أخرى يحتاج المجتمع الدولي إلى محكمة جنائية تلاحق المستهترين من الحكّام بقيمة الشعوب والموغلين في ممارسة الجرائم البشعة في حقهم.
لكنّ الكلام كلّ الكلام في نزاهة هذه المحكمة وشفافيتها، والتزامها العدل،وعدم تبعيتها للسياسة الاستكبارية المتغطرسة الظالمة التي تنزل الضربات القاسية بكل الشعوب والرؤساء والزعامات ممن تشعر منهم عدم الاستسلام لجبروتها وعتوّها.
المحكمة الدولية التي يحتاجها العالم لتخِفّ ويلاته من الطغاة المجرمين هي حكومة لا تصدر مذكرة توقيف للبشير، في حين تتفرج على جرائم أولمرت في لبنان وغزة، وعلى جرائم بوش التي كانت في العراق ولبنان وأفغانستان، ولا زالت، وتسكت عن كل السفّاحين والقتلة ممن يسكت عليهم الاستكبار العالمي ويحتضنهم.
العدالة الكاملة الشاملة الصدق غداً لا اليوم، وعلى يد موعود أمة الإسلام والعالم قائم آل محمد صلى الله عليه وآله لا على يد المحكمة الجنائية الدولية وأمثالها.
سادساً: غلق مسجد الإمام الصادق (ع):
1. الغلق جريمة لا يصح إقرارها أو السكوت عليها.
2. لا سلطان من ناحية دينية لأي وزارة في اختيار إمام المسجد، ولا حقّ لأي وزارة في المشاركة في الاختيار. الاختيار في وقتنا وواقعنا للمصلّين أنفسهم.
3. الخطاب الديني وظيفة من وظائف المسجد فلا تُعطّل، ولا تصوغ الخطاب السياسات الدنيوية المتبدّلة المتغيرة والتي كثيرا ما يحكمها هوى الإنسان.
4. الخطاب الديني ليس بلا ضوابط، ولكن ضوابطه دينية، وهو بهذه الضوابط مصلح، لا مفسد.
سابعاً: تعزية بوفاة العسكري عليه السلام:
عظّم الله أجورنا جميعاً وأجور المؤمنين والمؤمنات أجمعين بذكرى استشهاد سيدنا الإمام العسكري الإمام الحادي عشر من أئمة الهدى والنور، قادة الأمم، وأركان الأرض، أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما كان منا من سيئة فأنت أولى بمغفرتها، وما كان منا من حسنة فأنت أولى بمضاعفتها. ونسألك ربنا كشف الضُّر، وستر العيب، وتفريج الهمّ والغمّ، والشفاء من الأسقام والأمراض، ودفع السوء، وزيادة الخير، وكفاية الشر، ونسألك الهدى والنور، والنصر والعزّ والسرور.
اللهم فكّ أسر كل أسير، وقيد كل سجين من المؤمنين والمؤمنات أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(17).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 58/ الأحزاب.
2 – ذاك عقاب من أدخل عليه الأذى، ولكن ما ثواب من أدخل عليه السرور؟
3 – الكافي للكليني ج2 ص192.
4 – المصدر السابق.
5 – المصدر نفسه.
6 – سبعة أشواط.
7 – المصدر ص194.
8 – أي مقبولتين.
9 – المصدر نفسه.
10 – يبيح له أن يأخذ ذلك الموقع، أن يأتي بفلان.
11 – الكافي للكليني ح2 ص196.
12 – المصدر نفسه.
13 – المصدر ص200.
14 – المصدر ص202.
15 – بدل أن تعتق كل يوم رقبة وثمنها أغلى، تطعم كل يوم مسلما.
16 – المصدر نفسه.
17 – 90/ النحل.