خطبة الجمعة (350) 5 محرم الحرام 1430هـ – 2 يناير 2009م
مواضيع الخطبة:
*حديث في الفكر والتفكّر *أولاً: يوم عاشوراء *ثانياً: أحكام الأسرة *ثالثاً: مسيرة التجنيس *رابعاً: رواية رسمية *خامساً: مسؤولية أمة
القانون مرفوض من العلماء ومنهم أكثر القضاة إن لم يكونوا جميعا على الرفض، ومرفوض من الجمهور كما أثبت ذلك من خلال المسيرة الحاشدة الشهيرة، ومرفوض من نوّاب المعارضة كلّهم، ومحاولة فرضه علينا قهرا اضطهاد مذهبي واضح، وتخريب للدين، ولا يمكن السكوت عليه بأي حال من الأحوال، ومقاومته فريضة.
الخطبة الأولى
الحمد لله ستَّار العيوب، كشَّاف الكروب، واهب العطايا، دافع الرزايا، محيي الموتى ومميت الأحياء، باعث من في القبور، عالم ما في الصدور، الشهيد الرقيب، الحسيب المثيب.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، والأخذ بالحقّ والثبات عليه ولا حقَّ فيما خالف دين الله، وجاء به رسوله صلّى الله عليه وآله، وبلّغه المعصومون من أوليائه عليهم السلام.
وإنّ الطالب لمرضاة الرب تبارك وتعالى ليس له سبيل غير هذا، فإن الباطل لا تُنال به معرفة الله، ولا تُصاب طاعته، ولا يلتقي بمرضاته، وإنّ الحقّ ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء كما في الكلمة عن علي عليه السلام، وثقل الحق لمخالفته الهوى، وخفّة الباطل لموافقته إيّاه، وينتهي سالك الحقِّ إلى أربح النتائج وأحسن العواقب فهو مريء سائغ طيّب هنيء بذلك، وينتهي سالك الباطل إلى أخسر النتائج وأسوأ المصائر، وهو بذلك وبيء مهلك خبيث خسيس.
ومثل الحقّ وعاقبته مثل الدواء قد يثقل على النفس وفيه الشفاء، ومثل الباطل وعاقبته مثل العسل المسموم يستذوقه الجاهل وفيه الفناء.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما بلّغتنا من الحقّ فحمّلناه، وما قصرنا عنه فبلّغناه، ولا تجعل لنا ميلاً عن حقّ، ولا إلى باطل أبداً برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذا حديث في الفكر والتفكّر في ضوء باقة من النصوص الهادية:
أوّل ذلك قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(1) هناك قوم يتفكّرون فيصلون إلى الحقيقة التي لا بد لسعادتهم من الوصول إليها، والأخذ بها. وبذلك يقيمون حياتهم على هدى ونور، وتأخذ بهم هذه الحياة من خلال هذا الهدى والنور إلى شاطئ الأمان، وإلى سعادة أبدية لا انقضاء لها.
وهناك قوم لا يتفكّرون، لا لأنهم حُرموا من قدرة التفكير أساساً، فالناس خُلقوا قادرين على التفكير، ولكن هناك من يقيم حياته ابتداءً اختياراً على الهوى فيغلب الهوى قابليّة التفكّر عنده، ولا يعود يقبل فكره ما كانت تخالف الهوى، فلذلك هم لا يتفكّرون، وإنّما هم مغمورون دائما فيما اشتهت النفس وما سوّل به الشيطان.
الآيات بالغة، نورها واصل، ليس في اقتضائها للهداية وللعبرة نقص، ولكنّ هذه الآيات إنما تُستقبل من قلوب قابلة، وعقول مفتوحة، أما الذين خسروا تفكيرهم، وخسروا عقولهم وقلوبهم فهذه الآيات تبقى معزولة بفعلهم السيء عن هدايتهم وإرشادهم.
الشمس هي الشمس، القمر هو القمر، الذرة هي الذرة، الحياة هي الحياة، الدروس هي الدروس وهي معروضة مبثوثة للجميع، وهناك قلب مفتوح يتلقّى، وقلب مغلق لا يقبل الحقيقة.
“أصْلُ العَقْلِ الفِكْرُ، وَ ثَمَرَتُهُ السَّلامَةُ”(2).
العقل المعطَّل في حكم عدم العقل، فلابد من الفكر والتفكّر، وثمرة العقل وهو يفكّر – كما تقول الكلمة عن علي عليه السلام – السلامة. فليس من حياة شخص، ولا حياة مجتمع ولا أمّة يمكن أن تصل إلى شاطئ الأمان، وتحقق ربحها المطلوب، ونتيجتها المخطّط لها من قبل الفطرة المصنوعة من الله عزّ وجلّ ما لم يكن تفكير.
فالتفكير وتنشيط التفكير وظيفة أساس، ومقدّمة لا بدّ منها لإقامة حياة دينية صحيحة، وحياة دنيوية رابحة.
“إذا قَدَّمْتَ الفِكْرَ في جَميعِ أفْعالِكَ حَسُنَتْ عَواقِبُكَ..”(3).
وذلك في قبال الهوى، في قبال حالة الانفلات، في قبال حكم المشاعر التي قد تنشأ من سبب عقلائي، وسبب غير عقلائي، المشاعر: مشاعر الرضا، الغضب، الإعجاب، الحب، الكره، وما إلى ذلك، منشؤها ليس محصورا في العقل، إنّما لها مناشئ متعدّدة، وبذلك لا يُؤْمَنُ الأخذ بها ما لم يكن منشأ هذه المشاعر هو العقل، فلابد من العقل والتعقّل والتفكير لتكون مشاعرنا التي تملأ داخلنا، وتحرّكنا للفعل من منطلقٍ أمين سليم.
“بِالفِكْرِ تَنْجَلي غَياهِبُ الأُمُورِ”(4).
أمور من أمور الدنيا، وأمور من أمور الآخرة قد تحاط بالغموض، ولا كاشف لغموض الأمور بعد الاستعانة بالله كما هو التفكير المنطقي السليم والذي لا يأخذ إلا بالبرهان القائم على المقدّمات السليمة.
“تَمْييزُ الباقي مِنَ الفاني مِنْ أشْرَفِ النَّظَرِ”(5).
موضوعات النظر والتفكير متفاوتة القدر، متفاوتة الأهمية، ومن أهمّ الموضوعات التي يجب أن يتناولها النظر والتفكير هو موضوع الباقي والفاني. فمن قدّم الفاني على الباقي أخطأ في العقل، ومن اختلط عليه أمر الفاني والباقي من الأمور والقضايا ولم يفرّق بين قضية مركزية وغيرها فهو ساقط في الوهم، مغلوب على عقله، منتهٍ إلى نتيجة خطأ.
“فَضْلُ فِكْر وَ تَفَهُّم أنْجَعُ مِنْ فَضْلِ تَكْرار وَ دِراسَة”(6).
العلم بعضه يؤخذ من الغير، ولكن ليس كل ما يقوله الغير هو علم، فلابد من التفكير، لابد أن تتعامل مع أي درس في المدرسة أو مما تقرأ، ومع أي فكرة تعامل الإنسان الطالب للحقيقة، وأن تُعمل فكرك وخاصة بعد أن يتربّى، وبعد أن ينبني فيما تسمع، فيما تقرأ، فيما تلتقيه في هذه الحياة من أجل أن تكون النظرة علمية.
إنّ هذه الكلمة لتربّي المسلم على روح البحث، على روح التحقيق، على روح المطالعة الفكرية، وأن لا نكون في العلم إمّعه.
“مَنْ أكْثَرَ الفِكْرَ فيما تَعَلَّمَ أتْقَنَ عِلْمَهُ ، وَ فَهِمَ ما لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ”(7).
فمطلوب من العالم أن يعمل ما استطاع على تصحيح خطأ ما علم، وأن يضيف إلى العلم علما من تفكيره، ومن تحقيقه ونظره المدقِّق.
في أي موضوعات نفكّر؟
هناك تفكير يبني، وهناك تفكير يهدم. التفكير الذي يبني هو تفكير في الحقائق، وفيما ينبغي بناؤه على هذه الحقائق، في المقارنة بين رأيٍ ورأي، بين دين ودين، بين فكرة وفكرة من أجل الوصول إلى الحق، والتمسّك به، وهناك حقائق كبرى لا تعدلها حقيقة، كالحقائق العظمى في الدين، وهناك موضوعات شهوية حين يرتبط بها التفكير، وينصبّ على ما يحقق الشهوة، على مسألة الجنس، على مسألة الجاه الرخيص، على مسألة المال المتضخّم الخارج عن الحاجة، إنما يربطك بطلب اللذة، واللذائذ المادية قد تستنزف العمر، ثم يخرج الإنسان من بعد عمر طويل منها في خسارة، فلا يمكن أن يعطي التفكير في اللذة المادية، وبذل العمر فيها نتيجة إيجابية، إنّما هي الأمراض والأسقام، والفضائح على مستوى الدنيا، والعذاب في الآخرة. نعم هذه هي النتيجة النهائية لعمر ينفقه صاحبه في التفكير في اللذات والشهوات الماديّة والركض وراءها.
“كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة الله عليه التفكّرَ والاعتبار”(8).
ولو كان أبو ذر لا يعرف إلا الركوع الخاوي، والسجود الذي لا يدرك له معنى لما كان ذلك الكبير في الإيمان والتقوى وصلابة الدِّين. ركعتان من عارف من مثل أبي ذر تعدلان لا أدري عند الله كم من الركعات.
ما هو المطلوب من العبادة؟ مطلوب من العبادة أن تبني لك مستوى روحيّاً عاليا، أن ترتفع بك إلى حالة الارتباط الواعي إلى الله تبارك وتعالى، أن تصنع لك وعيا، شعورا راقيا، إرادة قوية في الخير، أن تصنعك الإنسان القريب من ربّك تبارك وتعالى، وهذا كلّه لا يحصل بالدرجة الكافية من خلال عبادة لا يدرك صاحبها منها معنى إلا المعنى الإجمالي فحسب. وربما وُجد عابد لا يعبد الله سبحانه وتعالى وهو يشتغل بالركوع ليل نهار، واضعاً أمامه صورة صغيرة لإله مختلق يسجد لها ويركع. هذا يحصل إذا لم يكن علم، ولم تكن معرفة.
“تفكّر ساعة خير من عبادة سنة”(9).
لأن التفكّر السليم في الموضوعات الدينية المطلوبة يأخذ بالإنسان إلى اليقين، ويريه من عظمة الله عزّ وجلّ ما يهذّب نفسه، ويجعلها محلّ إشعاع وعطاء خلقيٍّ ثرٍّ كريم.
“من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام:”يا بني إنّي وإن لم أكن قد عُمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمارهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عُدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمّرت مع أولهم إلى آخرهم…”(10).
العمر قصير، ويقول علي عليه السلام العمر القصير حين يقف صاحبه عند حدوده، وعند حدود تجربته وخبرته فالخبرة تكون قليلة، والتجربة تكون صغيرة، إنّه يقف على تلّة صغيرة يرى مساحة من حوله لا تمتدّ إلى كثير، وكلّما وقف الفكر على قمّة عالية، وامتدّ بصره إلى بعيد كلّما كان كسبه وخبرته وتجربته وفهمه ووعيه أكبر، وعليّ عليه السلام من أكبر الكبار فهو يوصي الإمام الحسين عليه السلام بأن لا تقف نظرته عند حدود تجربة حياته. فقد نظرتُ في أعمار من قبلي: في ملابسات حياتهم، في تجارب حياتهم، في نتاج حياتهم، وفكّرت في أخبارهم وسرتُ السير الفكريّ في آثارهم، فلم يكن عليٌّ عليه السلام رحّالة من بلد إلى بلد، ولكنّ سيره في الآثار كان في الأكثر سيراً فكريا.
في الأخير يقول عليه السلام:”بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمّرت مع أولهم إلى آخرهم” أنا جمعت خبرة الأولين والآخرين، واستفدت من كل تجاربهم بما تتبعته من آثار حياتهم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بصّرنا أمر ديننا ودنيانا، ولا تجعلنا عبيداً من عبيد الدنيا المفتونين بها، المغلوبين لزينتها، وآمنّا شرها وكيدها ومكرها، وأنقذنا من كلّ سوئها، واجعل منقلبنا إليك خير منقلب، وأحسِن مثوانا يا خير المحسنين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي القوَّة المتين، مَنْ عزّه ظاهر، وأمرُه جارٍ، وحكمه ماضٍ، وقَدَرُه قاهر، وقهره غالب، وقضاؤه نافذ، ولا يقوم لقدرته شيء، ولا يكون من دون إرادته شيء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وحياةٌ بلا تقوى حياة للمفاسد والشرور واللهو والعبث والعدوان، وإذا أدّت نفعاً لم يتجاوز هذه الحياة، وربّما جرَّ على النفس أو الغير أضعافه من المصاعب في الدنيا، والعذاب بعد الممات. وحياة التقوى والبصيرة في الدّين هدى ونور وخير وصلاح وبركات، وإنّما العاقبة للمتقين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا من أهل البصيرة والتقوى، العاملين بما تحبّ وترضى، ولا تجعلنا من أهل العناد والشقاء، وأهل الغفلة والبلاء، وأسعدنا في الآخرة والأولى يا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك يا علي يا عظيم، يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فهذه بعض موضوعات:
أولاً: يوم عاشوراء:
يوم عاشوراء هو يوم للحسين عليه السلام، ويوم ليزيد.
ومن حيث هو يوم للحسين عليه السلام فهو يوم الإيمان الصادق، والدين الناطق، والحق الصّرف، والعزّ والكرامة والشموخ والإمامة الرشيدة المعصومة، والصلابة والصبر، والإباء، وكبرياء الحقّ، والصمود.
ومن حيث هو يوم ليزيد فهو شاهد جاهلية مقيتة، وقسوة قلب، وجفاف روح، وانغلاق عقل، وبهيمية نفس، وسوء تدبير، وموت ضمير، وقصور رؤية، وخسّة شعور، وغلبة هوى، وانحدار أمّة، ونسيان دين، وسقوط خلق، وشيوع فساد في الأرض عظيم.
فيا يوم عاشوراء الحسين عليه السلام لا يزيد نحتاجك إيمانا ورشدا وهدى ونورا، وخلقا كريما وطهرا، وإرادة صلبة وعزما، وصمودا ومضاء، وصدق دين وسلامة نيّة؛ نحتاجك لوعينا، لإيماننا، لعزّتنا، لكرامتنا، لهدانا، لتصحيح رؤيتنا، لانتشال إرادتنا، للإباء، للصمود، للشموخ، للوقوف كل حياتنا مع الحقّ وإن عزّ أهله في مواجهة الباطل وإن كثر ناصره، وكثر الناعقون به، نحتاجك في كل موقع ومنعطف يا مدرسة الأجيال، ويا معلّم الأمم(11).
تحتاجك كلّ ساحاتنا، وكل أمّتنا، والإنسانية كلّها تحتاجك روحا وعقلا، وقلبا ومنهجا، ونحتاجك ثورة على الذات منّا على خطك تحقق لنا النصر، وننال بها في الآخرة الفوز والنجاة.
وتحتاجك غزّة المحاصرة المضطهدة المحروقة لمزيد من الصبر والصمود والمقاومة، وتحمّل الهول العظيم، والتضحيات الجسيمة، والعذابات المؤلمة(12).
وتحتاجك أمة المليار ومئات الملايين بأن تستثير غَيرتها، وغضبتها، وتبعث فيها الإرادة لتقف الموقف المسؤول المشرِّف من محنة غزّة، ومأساتها ومحرقتها وآلامها وعذاباتها، وأن لا تسجّل هذه الأمة على نفسها الذلّ والهوان والاستكانة أمام غطرسة الصهاينة اللئام، ولا تبرهن بأكثر أنظمتها العربية والإسلامية على شلل الإرادة وخورها، أو التبعية الذليلة للاستكبار العالمي وسوئها، أو على الاشتراك في المؤامرة السوداء على الدين والأمة والأصالة وتنفيذها، وحتى لا نثبت أقطارا وشعوبا أننا غثاء كغثاء السيل هذا برغم ما هنا وهناك من وقفات وثّابة لبعض الشعوب المقهورة لأنظمة النار والحديد.
ثانياً: أحكام الأسرة:
لقد قالت الشريعة الإسلامية كلمتها في أحكام الأسرة، وجفّ الحبر وارتفع القلم، واعتماد رأي فقهي واحد عندنا وليكن رأي المرجعية العليا ممكن جدّاً، فلا فراغ، ولا تكثّر في الرأي ليُدّعى من الآخر الفراغ أو الإرباك.
لو جاء القانون إسلاميّاً بامتياز ابتداء فإنه لن يلبث حتى يتحول أرضيّاً إذا كان بلا ضمانات.
ويُعذر من شكّك في كفاية الضمانات حتى المشدّدة لما يُقرأ من سوء نيَّة ولما تعلنه التصريحات المكشوفة بين حين وآخر عن العزم على التغريب.
القانون مرفوض من العلماء ومنهم أكثر القضاة إن لم يكونوا جميعا على الرفض، ومرفوض من الجمهور كما أثبت ذلك من خلال المسيرة الحاشدة الشهيرة، ومرفوض من نوّاب المعارضة كلّهم، ومحاولة فرضه علينا قهرا اضطهاد مذهبي واضح، وتخريب للدين، ولا يمكن السكوت عليه بأي حال من الأحوال، ومقاومته فريضة(13).
ثالثاً: مسيرة التجنيس:
التجنيس الجائر القائم خطره مكشوف، وهو مدمّر لمصلحة الوطن وسلامته، وهو يستحق ألف مسيرة ومسيرة لا مسيرة واحدة، ولا نناقش الجمعيات السياسية في تغييرها زمان أو مكان المسيرة التي أعلنت عنها بهذا الشأن، فقد يكون لذلك حكمته، ولكن تبقى المسيرة نفسها ضرورية جدّاً، ولا تحتمل التأجيل كثيراً، والمشاركة الشعبية العامّة والمكثّفة فيها لازمة، ومسلسل المواجهات لهذا المشروع التخريبي لابد أن يتواصل بقوّة وفاعلية متميّزة، وعلى المسار السلمي حتى يتوقف قبل أن يفتح أبواب جهنّم على هذا البلد الصغير.
والمناهضة لسياسة التجنيس المهلكة مسؤولية الشعب بكل فئاته.
رابعاً: رواية رسمية:
وقفتم على رواية رسمية بشأن وجود خليّة إرهابية أو تنظيم تخريبي.
ماذا يراد من إعلان هذا الأمر، ومن سوق هذه الرواية على مسامع الشعب؟ هل يراد التصديق؟ مثل هذه الأخبار هناك من هو مستعد لأن يصدّقها دائماً، وبغض النظر عن من يصدّق أو يكذّب، فإنّ مثل هذه الرواية وأمثالها حين تُعرض على أسس الإثبات الدينية، أسس الإثبات العلمية، على قرائن الأحوال الخارجية، وما وفّرته مثل هذه الدعاوى من قرائن فإن الرواية لا تملك قيمة علمية على ضوء كل هذه الأسس والموازين.
لا العلم يساعد على الإثبات، ولا الدين يساعد على الإثبات، والقرائن الخارجية مضادة للقضية تمام المضادة. هذا فهمي، والجهة الرسمية لن تأخذ بفهمي ولا فهمك، ولكن يبقى واجب إظهار الحق.
ومن جهة أخرى، هناك خليّة خطيرة عظيمة الخطر على الوطن كلّه، على أمنه، واستقراره، على وحدته، على مصلحته، على حاضره، على مستقبله، خليّة تستّرت عليها الحكومة، وكمّمت الأفواه دون الإفصاح عن أسرارها، وعن أبعادها، وشخوصها، ونسيجها، وهي الخلية التي تحدث عنها تقرير البندر. ونقول هنا: إذا أردتم أن تُحاكموا أي خلية تدّعون وجودها فنحن نطالب بمحاكمة الخلية الإرهابية التآمرية والتي تحدث عنها تقرير البندر أولاً(14).
خامساً: مسؤولية أمة:
تجويع، قصف من الأرض والجو، حرق، قتل، خوف، رعب، فزع، موت أحمر يلاحق الإنسان حتّى الشيخ والطفل والمرأة في كل شارع ومسكن ومتجر ومدرسة وزاوية، في كل لحظة من ليل أو نهار، سد منافذ، وحصار غذائي، فقد دواء وعلاج، هذه هي غزة المعروضة في شاشات التلفاز على أنظار العالم، وأمة الإسلام والعرب.
والعدوّ المتبجّح المتغطرس يتهدد صمود الغزّاويين الذين ينهكهم الحصار والقطيعة من البعيد والقريب باجتياح برّيٍ واسع مجهّز بأشد الأسلحة فتكاً وأكثرها فاعلية وسحقاً في مواجهة شرسة لا تتكافأ فيها قوة الطرفين ليهدم ما تبقّى من غزّة على رؤوس أهلها ويذلهم كما يشتهي، ويقهر العروبة والإسلام.
والمستهدف ليس حماس والجهاد وحدهما، ولا كل قوى المقاومة فحسب، المستهدف كل هؤلاء، وعروبة غزّة، وعروبة كلّ شبر من أرض العروبة، وإسلام غزّة، وإسلام كلّ شبر من أرض الإسلام، وإباء وكرامة وعزّة كلّ مسلم وعربي. المستهدف عروبة الأمة وإسلام الأمة، وعزتها وكرامتها، وصمودها وروح المقاومة فيها. المطلوب تمرير المشروع الاستكباري الصهيوني القاضي على عروبة العرب وإسلام المسلمين.
وهزيمة غزّة هزيمة لأمة العرب والمسلمين، وللإسلام والعروبة، وانتصار للمخطّطات الاستكبارية لبسط الهيمنة الظالمة على فكر الأمة وثقافتها وأرضها وإنسانها بصورة استبدادية قاتمة.
وسقوط غزّة بيد الصهاينة ليفرضوا عليها الواقع الذي يخططون وغيرهم له لن يحاسب عليه الله عزّ وجل بعضا من هذه الأمة، وإنما يشمل الحساب كل قادر ولو على كلمة أو صرخة(15).
وإنقاذ غزة من هذا المصير الأسود الكئيب – وهو مقدور – واجب كل مسلم ومسلمة،(16) والنصرة بالكلمة والصرخة والمشاركة في مسيرة إنما هي وظيفة العاجز عن أي نصرة أخرى فوق ذلك. وإلاّ لم يكن هذا القليل مجزياً مسقطاً ما في الذمّة.
وكثير من أوطاننا المعذّبة لها مشاكلها الداخلية التي يعاني منها المواطنون وتحرق أعصابهم، ولكن حريق غزة حريق هائل وتدميره شامل، وآثاره الكارثية تعمّ الأمة جميعاً دينا ودنيا حاضرا ومستقبلا.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا هازم المستكبرين، ويا ناصر المستضعفين اهزم العتاة الطاغين الظالمين من بني صهيون، واكتب عليهم الذل والخزي والعار والهوان، وانصر حماس والجهاد وكل المسلمين في غزّة المناصرين لدينك، المعادين لأعدائك، وأنقذها من قيد ومؤامرات كل الباغين والظالمين. اللهم انصر الإسلام وأهله، وأذل النفاق وأهله، يا قوي يا عزيز يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(17).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 13/ الجاثية.
2 – غرر الحكم ص488.
3 – غرر الحكم ص489. وتكملة الكلمة “… في كُلِّ أمْر”.
4 – المصدر نفسه.
5 – المصدر نفسه.
6 – المصدر ص490.
7 –
8 – بحار الأنوار ج22 ص431.
9 – المصدر ج68 ص327.
10 – المصدر ج74 ص201.
11 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا حسين).
12 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
13 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة)، و(لبيك يا إسلام).
14 – هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر، النصر للإسلام) و(معكم معكم يا علماء).
15 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
16 – وأقول مقدور لو بذلت الأنظمة ما في وسعها، ووقفت كل شعوب الأمة الوقفة الإسلامية الصارمة المطلوبة.
17 – 90/ النحل.