فاطمة (ع) القدوة العظيمة ( آية الله قاسم )
فاطمة (ع) القدوة العظيمة
آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين، واللّعنة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
* العظماء أحياء
وهل نعني بذلك أنّ غيرهم موتى؟
بصورة نسبية: نعم.
إنّ العظماء أحياء، وأنّ غيرهم موتى، الحياة في النّاس نسبيّة، فقد أكون حيًّا بنوع من الحياة، حيًّا في جهة، ميت في جهة أخرى، وقد يكون غيري حيًّا من الجهة التي أنا ميت فيها، وميت من الجهة التي أنا حيّ فيها.
درجة الحياة بشكل أوّليّ: هذا حيّ من ناحية بدنيّة، وميت من ناحية روحيّة أخرى، خامل من ناحية بدنيّة ولكنه حيّ من ناحية روحيّة، وسيأتي مزيد من التوضيح.
* الحياة متفاوتة
درجة الحياة من الجهة الواحدة متفاوتة على مستوى حياة البدن.
نحن متفاوتون.
هذا حيّ بحياة غزيرة وقوية من الناحية البدنية، وأخوه حي من الناحية البدنية ولكن بدرجة خفيفة، بنشاط أقل، بإنتاج أقل، بحركة أقل.
تجدون أنّ الشاب القويّ البنية، المفتول العضل، المليء بالحيوية والنشاط نطلق عليه بأنّه حيَّ من ناحية بدنية.
الشخص الذي في السرير ولسنوات عدّة، ولا يتحرّك، ويأكل بالطريقة الصناعيّة، ويتنفس بالطريقة الصناعيّة أيضا نقول عنه: حيَّ، لكن أليس من فرق كبير بين هاتين الحياتين؟
الكلّ منهما حيّ من الناحية البدنيّة، فهذا نطلق عليه أنّه حيٌّ بدنيًّا، وهذا أيضًا نطلق عليه حيٌّ بدنيًّا لكن أين حياة هذا من حياة ذاك؟ ذاك يركض كذا كيلو متر، يسبح المسافة الطويلة، يقوم بالأعمال الشاقة، وهذا نفس يروح ونفس يجيء ولا أكثر، فالحياة هنا واحد متفاوتة في الدرجة.
* العظمة تتبع الحياة
نستطيع أنْ نقول بأنّ العظمة تتبع الحياة، فكلّما كانت الحياة أغزر، وكانت أعمّ جاءت العظمة، وكلّما اضمحلت الحياة ضَؤُلت، ضَعُفت، فقدت العظمة، فمرّة عظمة ماديّة، ومرة عظمة معنويّة.
العظمة الماديّة ستتبع درجة الحياة، الحيَّ بحياة ماديّة ضعيفة لا يمكن أنْ يكون عظيمًا من ناحية الحياة المادية، الحيَّ بحياة معنويّة ضعيفة لا يمكن أنْ يكون عظيما من ناحية الحياة المعنويّة، فدرجة العظمة تتبع درجة الحياة، وعموم العظمة يتبع عموم الحياة، فإذا كان حيًّا من بُعد واحد، فيمكن أنْ يكون على شيء من العظمة في ذلك البعد.
أما إذا كان الإنسان حيًّا على أكثر من بُعد في كلّ أبعاد وجوده هو حيَّ، فسيكون عظيمًا في كلّ أبعاد وجوده، ويبقى أنْ نفهم الحياة الماديّة، والعظمة الماديّة أكبر شأنًا، أو أنّ الحياة المعنويّة، والعظمة المعنويّة هي الأكبر شأنًا، ذاك أمر آخر، لكن أقول: هذا عظيم من جهة واحدة، من حيثيّة واحدة؛ لأنّه حيٌّ من هذه الجهة، وذاك عظيم من جهتين؛ لأنّه حيٌّ من الجهتين، ثالث عظيم من ثلاث جهات؛ لأنّه حيٌّ من ثلاث جهات، وسيأتي.
* القدوة
لدينا قدوة، ولدينا عالِم، عالم يعني يحمل علمًا، يفهم الكثير من العلوم، يختزن علومًا جمّة، القدوة من هو؟
القدوة شخصيّة استطاعت أنْ تمثّل الخير أو الشّر، أنْ تكون مثالاً ونموذجًا للخير أو الشر، هناك قدوات شرّ، قدوات سوء، وهناك قدوات خير وفضيلة، قدوة على خطّ الفضيلة، وعلى خطّ السمو، ما معناه؟
ليس الشخص القدوة هو من حمل علومًا فقط، وإنّما هو من جسّد القيم العظمى، وشخصيّته صارت وسيلة إيضاح للآخرين على طريق الخير، وعلى طريق الهدى، وعلى طريق الصلاح، وعلى طريق السمو، شخصيّة تبلورت كشخصيات عظمى سامية من ناحية طريق تفكيره، من ناحية: طريق سلوكه، من ناحية معاملاته، ومن ناحية أخلاقه.
لما تكون شخصيّته مشعة من حيث: الكلمة، من حيث نَطَقَ أو صمت، من ناحية سلوكه، من مختلف علاقاته، من ناحية فاعليته، من ناحية توجه إرادته، حينما تكون هذه الشّخصية مشعّة، ومعلّمة بسلوكها، وبأوصافها تكون هنا قدوة ، أمّا مجرد أنْ يحمل علمًا، فطبيعي لا نستطيع أنْ نسميه قدوة.
* القدوة تتبع العظمة
القدوة تتبع العظمة، فمتى يكون الشخص قدوة؟
لا يكون الشخص قدوة إلا بأنْ يكون متوفرًا على شيء من العظمة في جانب من الجوانب، فمثلاً البهلوان – كما يسمونه -، فهو على مستوى الناحية المادية يمكن أنْ يكون قدرة في حمل الأثقال، في ممارسة أنشطة تتطلّب جهدًا كبيرًا، تتطلب قوة عضلية هائلة، فالبهلوان هنا سيكون نموذجًا، سيكون قدوة على مستوى الممارسة الماديّة.
الحليم الذي يمتلك ملكة الحلم بدرجة عالية جدًّا، ومن خلال مواقف الضبط النفسيّ، ومن خلال مواجهة غضب الآخرين، وتعدّيات الآخرين، بدرجة من الحلم هائلة سيكون قدوة في هذا الجانب.
فالقدوة أيضًا نسبيّة، وتتبع ما تغنى به هذه الشخصية، أو تلك الشخصية من درجة عظمة في بُعد، أو أكثر من أبعاد هذه الشخصيّة الإنسانيّة.
* الإنسان والحياة
عندنا عنوان “الإنسان والحياة”، فما هو الإنسان؟ وما هي الحيثيات؟ وما هي الجهات؟ وما هي الأبعاد؟ وما هي المهمة الملحوظة في تركيبة الإنسان؟ وفي واقع الإنسان؟
إنّ أول ما يواجهنا من الإنسان أنّه مخلوق، فقبل أنْ تعرف دقائق التّركيب الإنساني اعرف أنه مخلوق وليس خالق، مملوك وليس مالك.
إذا كان مخلوقًا، وأيّ شيء يكون مخلوقًا فهو خاضع، والخضوع يعني العبوديّة، فهناك الإنسان الضعيف يمكن أنْ يفكر في مقاومة الإنسان القويّ، بأنْ يعالج ضعفه، بأنْ سيجمع شجاعته لأنْ يواجه الإنسان القويّ، لكن هل من عبد؟ هل من إنسان يمكن أنْ يفكر بمقاومة الله عزّ وجلّ الذي يملك منه كلّ ذرة؟
طبيعي لا، فهنا خضوع حتميّ موجود، هذا الخضوع يعني عبوديّة.
فأنا لمَّا أنظر إلى الإنسان – نفسيّ، أو غيريّ- أجده المخلوق المملوك العبد، رضيت أم لم أرضَ، رضي الآخرون أم لم يرضوا، فواقع الإنسان هو هذا.
إنّه مخلوق، مملوك، عبد، وإذا كان الإنسان عبدًا فعليه أنْ يحيا عبوديّة، ولا يفرض نفسه كربّ، فواقعي أنّني عبد، وفرضي أنّني ربّ، وأتعامل مع نفسي كالرّب يعني أنّني أتعامل تعاملاً وهميًّا، وهل الموهم يعطي نتائج خارجيّة صحيحة؟
طبيعي لا، ففرضي نفسي ربًّا حينما أقيم عليه حياتي وعلاقاتي هو فرض خطأ بكلّ وضوح، فذاك – أعاذنا الله منه- فرعون توهّم أنّه ربّ، وفي الواقع لو صدق أنّه رب لاستمر على فرضيّة أنّه رب؟ إلا أنّه في الأخير غرق الرجل، وخسر ملكه، فهذا شيء من الوهم غير النافع أنْ نتنكر لعبوديتنا، وأنْ نحاول أنْ نقيم حياتنا على أساس غير أساس العبوديّة لغير الله سبحانه وتعالى.
* العبوديّة لله عِزّ وحريّة
هذه العبوديّة، ممارسة هذه العبودية، وإقرار هذه العبودية، وممارسة دور العبد أمام الرب تبارك وتعالى ماذا ينتج؟
هي في الحقيقة الطريق الوحيد بأنْ يجد الإنسان عزّته وحريته، فأنت لا تكون عزيزًا في نفسك إلا بأن تذلَّ لله تبارك وتعالى، ولا تستطيع أنْ تستذوق الحرية، المساحة الكبيرة من الحياة إلا بأن تعيش حال العبودية لله عزّ وجلّ، والخضوع والذّل بين يديه، فبعد أنْ تذل لله، وبعد أنْ تعبد الله، فأنت تكون حرًّا أمام كلّ الآخرين، أمام كلّ الموجودات، وأنت تكون عزيزًا بارتباطك بالحقّ تبارك وتعالى وهو القويّ العزيز الحكيم.
هذا خطّ في الإنسان، ولا يستطيع أنْ يتنصل منه، وهو واقع أنّه عبد وليس أنّه ربّ.
أنا بدن، أنت بدن، فرضي نفسي أنّي مَلِك لا أحتاج إلى أشياء الأرض، لا أحتاج إلى ضروريّات الأرض، لا أتعامل مع نفسي كبشر، فهذا فرض خطأ، وسأصطدم بالواقع، وسأموت، وسأنتهي.
فحينما أظن نفسي ملكًا، ولا أحتاج إلى مأكل، ولا أحتاج إلى مشرب، ولا أحتاج إلى ملبس، وإلى مسكن، فهذا خطأ، هذا وهم، والوهم لا يمكن أنْ يعطي نتائج واقعيّة إيجابيّة.
فمعنى كوني بدنيًّا، لا بدّ أنْ أعيش حياتي البدنيّة، وحياتي البدنيّة هي حياة حسيّة، تتمثّل في أنْ أنتج في أنْ آكل، في أنْ أشرب، في أنْ أتنفس، في أنْ أحسّن ظروف حياتي من أجل أنْ أستطيع أنْ أعيش، أحاول أنْ أكيّف البيئة بقدر المستطاع بما يناسب حياتي، كلّ ذلك نتاج معرفتي بأنّني بدن، وأنّي لست روحًا فقط، هل أنا هكذا فقط؟ أو يأتي بُعد آخر وهو بُعد العقل؟
أنا لست بدنًا فقط، فأنا مع كوني بدنًا فأنا عقل، وإذا كنت عقلاً فلا بدّ أنْ أعيش الحياة العقليّة، يعني عندي حياة من لون آخر، أنا أشارك الحيوان في حياة المشي، والقيام، والقعود، والتنفس، والنموّ البدنيّ، الأكل، الشرب، الحاجات الأخرى البدنيّة، هذا معنى كوني بدنًا، يعني لا بدّ أنْ أمارس حياتي البدنيّة كما يمارس الحيوان حياته البدنيّة مع فراق التّطور في نوع الممارسة، والإنسان أكثر تطورًا من الحياة في ممارسة حياته الماديّة البدنيّة، لكن أكتشف من نفسي أنّني عقل، والعقل لون آخر من الحياة، وحياة العقل بالتفكير وإدراك الحقائق، وأنْ أستطيع التّرجيح بين أمر وأمر على المستوى النظريّ، وأنْ أستطيع الترجيح بين قضية وأخرى على المستوى العمليّ، حياة التفكير، حياة الإدراك كما يتفاوت النّاس في حياة البدن، فهذا ضعيف، وهذا قويّ، هذا قليل الحركة، وهذا كثير الحركة – كما مرّ-، هذا يتنفس بصعوبة، وهذا يتنفس براحة.
حياة البدن عند النّاس مختلفة، متفاوتة، حياة تمثّل اللّحظة الأخيرة من هذه الدنيا، فهي درجة هابطة جدًّا من الحياة الماديّة، وهناك حياة الشاب المقبل على الحياة بقوّة وبنشاط، هذا هو الفرق.
* الحياة العقليّة درجات
إنّ الحياة العقليّة درجات أيضًا، فأنا حينما أهتم بذاتي، وأقول على الإنسان أنْ يكتشف ذاته، وأنْ يتعامل مع ذاته كما هي، فأنا ذاتي ماذا؟
ذات حيوان فقط؟
فإذا كانت ذاتي ذات حيوان فقط، حتى أكون واقعيًّا، وحتى أكون ناجحًا في حياتي، وحتى لا أضيع هذه الحياة عليّ أنْ أتعامل مع ذاتي بواقعها، وهو واقع الحيوانيّة، فأنصرف إلى الأكل، إلى الشرب، إلى الحاجات الدنيويّة الأخرى، وعليّ أنْ أنافس في هذه الحياة بكلّ ما أستطيع على مستوى هذه الضرورات، والحاجات، والكماليات، وما إلى ذلك.
أمّا إذا كنت بالإضافة إلى حياة البدن، فأنا عقل أيضًا، فهل أطمر عقلي؟
هل أغيّب عقلي؟
هل ألغي من وجود عقلي، وأنصرف إلى حياة الحيوان؟
طبيعي أكون قد ظلمت النفس.
أنا عقل يفكر فقط؟ يدرك الحقائق فقط؟ وتقف حياتي، أو يوجد قوّة أخرى، لا موجود درجة أخرى من الحياة، لون آخر من الحياة، لون آخر من الوجود لهذا الإنسان وهو الوجود الروحيّ، والوجود الروحيّ ما هي وظيفته؟ التّعلق بالكمال.
الفكر يقول لك: هذا حقّ، هذا باطل، ربما يدرك أنّ هذا حق وهذا باطل، وهذا صحيح وهذا غير صحيح لكن الفكر ليس قوّة دفع نحو الكمال، بحيث يدرك ما هو كمال، وما هو نقص، ولكن – العقل النّظري يسمونه- لا يدفع لما هو كمال، ما يتعلق في داخلنا بالكمال، هذه الشهيّة للكمال، هذا التّطلع للكمال، هذا التّعلق بالكمال، هذا مرجعه إلى جانب الرّوح، فموجود حياة روحيّة تبحث عن الجمال المعنوي.
بمعني موجود في داخلي شيء يبحث عن الجمال المعنويّ حتى يقطع مسافات ومسافات، وهذه الرّوح تنطلق باحثة عن الكمال والجمال، ثم لا تجده إلا في الله تبارك وتعالى، الجمال المطلق، والكمال المطلق.
أنا عبد من بدن، من عقل، من روح، ما هي مظاهر الحياة الروحيّة؟
التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانت روحي حيَّة، نشطة، يقظة، قويّة، حتمًا سيكون عندي توجه إلى الله سبحانه وتعالى.
حياة الروح تتمثل في محاولة التخلق بأخلاق الله أيضًا، من علم، من كرم، من رحمة، من لطف، من عطاء بقدر ما تستطيع هذه الرّوح المحدودة في وجودها، من مظاهر الحياة الرّوحية الاستغناء بالله، تجاوز الأهداف الصغيرة، تبقى الأهداف الماديّة المحدودة كلّها صغيرة، وكلّها حقيرة في مقارنة بالوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.
إذا كنت حيًّا بحياة روحيّة حقيقة، فالقصور ستصغر في نظري، والحقول ستصغر في نظري، والجمال الحسيّ سيصغر في نظري، وكل شيء من هذا الذي يكبره الآخرون سيصغر وزنه، سيصغر حجمه في نظر أصحاب الأرواح الحيّة، اليقظة، النشطة، المتيقظة.
فحزن صاحب الروح الحيّة غير حزن صاحب الرّوح الميتة، فهذا الذي يحيا بحياة بدن وفكر فقط، يحزن لأشياء لا يحزن لها صاحب الروح الحيّة كثيرًا، يفرح بأشياء لا يفرح بها صاحب الرّوح الحيّة.
* مثالان من الواقع
أعطيك مثالاً: هناك شخص مؤمن، روحه حيّة متبلورة حاضرة، تلك الليلة ليلة زواجه وزفافه بأجمل فتاة في العالم، ولكنّه قبل خمس دقائق من دخوله بزوجه حدثت عنده معصية، فهل تتصوّرون في ذلك الرّجل أنّه يفرح؟
أبدًا لا يفرح، فليلته ليلة حزن وكآبة، وحقارة، ودونية، تلك ليلة عذاب في حياته.
لكن آخر لا يملك حياة روحيّة، وقد ارتكب ألف معصية في ذلك اليوم، ويأبى، فستكون حياته تلك الليلة سعادة، وليلة رفاه، ويرى نفسه أنّه ارتقى المرتقى الأعظم!!
رجل يصل إلى الحكم، إلى الملك وهو مؤمن، لكن يبحث أنّ في طريقه للملك قد ارتكب مقدمة خطأ لا تُرضي الله سبحانه وتعالى، أتراه يهنأ بذاك الملك؟
لا والله لا يهنأ بذلك الملك، ويراه عذابًا.
ما الفرق يا حبيبي بين يد تمتد إلى النّار، فتحسّ بالحرارة، ويد تمتد إلى النّار، فلا تحسّ بالحرارة، يد شلاء، يد ميتة، اليد التي لا حياة فيها، لا تحسّ.
حينما الإنسان – والمستجار بالله – يصيبه شلل، فالجانب الذي يصيبه شلل فيه هل يشعر فيه بألأم؟
لا، لا يشعر فيه بأنس، فلو لمس الحرير، فهل سيهنأ بملامسة الحرير.
طبيعي، لا فهو ميت.
فهناك روح ميتة، وهناك بدن ميت وبدن حيّ، هناك فكر ميت وفكر حيّ، هناك جانب روحي ميت، أو خامل، أو مريض، وهناك شخص آخر يتمتع بروح حيّة، نشطة، قويّة، متيقّظة، هناك فرق!
فتجد أنّ الآلام ستختلف، آلام الروح الحيّة ستختلف عن آلام الإنسان ميت الروح، فنقول: هذا أهدافه تكبر، هموم أصحاب الدنيا تصغر عنه، عنده هموم أخرى، عنده هدف آخر، عنده ما يؤذيه، عنده ما يضرّه، عنده ما يجزنه لون آخر.
* الإرادة القويّة
نأتي لبعد آخر في الإنسان وهو جانب الإرادة، فحياة الإرادة ماذا تعني؟
إذا وجدت نفسك قادرًا على أنْ تعزل، وعلى أنْ تحزم، وعلى أنْ تجزم، وتقطع التردّد والتلكؤ وجدت نفسك قادرًا على التحرك في ضوء قناعاتك الفكريّة، وفي ضوء قناعاتك الفطريّة، فأنت صاحب أرادة، أمّا إذا كنت على قناعة فكريّة، وقناعة دينيّة بصحة هذا المسلك أو بذلك المسلك، وبقيت تتردّد بين المسلكين، فأنت فاقد للإرادة، ضعيف الإرادة، مشلول الإرادة.
ما أريد من هذا الكلام هو أنّني عندما أريد أنْ أكون الإنسان السويّ، فلن يسمح لي هذا الهدف بأنْ أهمل جانب حياتي الماديّة، ولا جانب حياتي الفكريّة، ولا جانب حياتي الرّوحيّة، ولن أستطيع إهمال تربية إرادتي، ولن أكون شيئًا إلا بمراعاة هذه الجوانب، ويمكن أنْ يكون أحدنا عظيمًا في بدنه، ولكنّه صغير جدًّا في فكره، ميت جدًّا في روحه، ويمكن أنْ يكون أحدنا تتركز عظمته في جانبه الفكريّ، دون الجانب الرّوحيّ، دون الجانب البدنيّ، ويمكن لآخر أنْ تطغى على شخصيّته المسحة الرّوحيّة، وجمال الرّوح من غير أنْ يكون ذلك الفيلسوف، ومن دون أنْ يكون صاحب الفكر المعمّق.
إنّك لتجد حتى الإنسان الواحد يمكن أنْ يحيا مدّة من حياته بحياة ماديّة بدنيّة، وآخر بحياة فكريّة، وآخر بحياة روحيّة، فضلاً عن الشخصين المختلفين، فقد تجد في هذا تركّزًا في الحياة الماديّة، وضحالة في الحياة الفكريّة، أو الروحية، وقد تجد العكس.
* فاطمة (ع) القدوة العظيمة
حينما نأتي إلى فاطمة (ع) والحياة والعظمة، فأين موقع فاطمة (عليها السلام) من الحياة؟
أين موقع فاطمة (عليها السلام) من العظمة؟
نحن عرفنا أنّه ليس لأحد مستوىً من القدوة إلا بعظمته، فحينما نقول فاطمة (عليها السلام) قدوة، فلا بدّ أنْ نفترض وراء كونها قدوة أنّها عظيمة، لا قدوة بلا عظمة، العظمة سرّ القدوة، لا بدّ أنْ تكون القدوة أيّ قدوة متميّزة عنّا بكمال نفقده، وتطلبه نفوسنا، وتقتنع به عقولنا، حتى تأخذ موقع القدوة في أنفسنا.
متى يأخذ الشخص موقع القدوة في نفسي؟
الشخص لا يأخذ موقع القدوة في نفسي إلا بأنْ يكون له جمال أنا أفقده، جمال علم، جمال تقوى، جمال كرم، فلا بدّ من عظمة وراء كون الشخص قدوة.
ففاطمة (عليها السلام) لا بدّ أنْ نفرضها عظيمه حتى نفرضها قدوة، وهي كذلك (صلواته وسلامه عليها)، ثم لا عظمة لميت، لا عظمة لعدم، العظمة للوجود لا للعدم، والعظمة للحياة لا للموت، والعظمة للقوّة لا للضعف.
الشخصيّة الضعيفة بدنيًّا، المحدودة القوى، فهل صاحب اليد التي لا تكاد ترتفع وهي محكومة بالرعشة أستطيع أنْ أعتبره قدوة على المستوى البدنيّ، وأحاول أنْ أسير في اتجاه واقعه؟
طبعا لا.
أنت تتعشّق من ناحية ماديّة، من ناحية بدنيّة واقع إنسان قويّ، واقع إنسان قادر على بذل نشاط ممكن، هذا الذي يمكن أن تتعشّقه نفسك.
أنت في مستوى متوسّط من الناحية البدنيّة، من الناحية الصحيّة، أمامك واحد يتمتع بصحة أكبر، بقوة أكبر، هنا في نفسك تقول: أقرّر أنْ أسير في اتجاه هذا الواقع؛ للوصول إلى ذلك الواقع المتميز.
ثم أنّه إذا كان هو أضعف، أو بمستواك، هل يكون قدوة؟
أيضًا من ناحية فكريّة، من ناحية روحيّة، من ناحية عبادة، من ناحية كرم.
طبعًا القدوة شخصيّة تتمتّع من الكمال الذي أطلبه، الذي أؤمن به، الذي أفقده، فأفرض على نفسي من خلال عشقي للكمال، من خلال حبّي للسمو، أتعشّق هذه الشخصيّة وأحاول أنْ أصل إليها لذلك أتخذها قدوة.
* المعصومون (عليهم السلام) قدوات عليا
ففاطمة (عليها السلام) لا بدّ مع كونها قدوة، يعني هي عظيمة، وهي حيّة بحياة لا نتوفّر عليها، فالمعصومون (عليهم السلام) القدوات العليا.
قدوات عليا لماذا؟
إنّهم كذلك لأنّ لهم حياة طيبة نحن لا نحياها، لأنّ لهم حياة راقية وسامية نحن لا نتوفر عليها.
فذلك العالم الكبير إنّني أتعشّقه لأنّه يحيا حياة فكريّة أرقى من حياتي، أسمى من حياتي، فلذلك تستقطبني شخصيّته من حيث علمه، وفلان تستقطبني شخصيّته من حيث حلمه، والآخر تستقطبني شخصيّته من حيث شجاعته، ورابع تستقطبني شخصيّته من حيث عبادته، وهكذا، والناس على حظوظ، والنّاس على درجات، هذا له حظّ من علم، وذاك له حظّ من شجاعة.
والمعصومون (عليهم السلام) فرقهم عن الآخرين أنّهم مجمع الكمالات وإنْ كانت كمالات كلّ مخلوق هي كمالات محدودة، ومستقاة من الصلة بالله تبارك وتعالى، أمّا الكمال الذّاتي الذي ليس معطىً من الغير، فهو الكمال المطلق الذي ليس هو إلا لله وحده تبارك وتعالى.
ففاطمة (عليها السلام) حيّة بحياة العقل، وفاطمة (عليها السلام) حيّة بحياة الرّوح.
* أيّهما تختار قدوة؟
أمامي بهلوان، وأمامي فيلسوف، وأمامي عابد، وأمامي فيلسوف بلا خلق وبلا شفافية روح، وعقله كبير جدًّا قادر على أنْ يفلسف الأمور، ولكن شخصيّته فظّة، غليظة، وحش كاسر، محتال، لا يحمل روحًا عادلة، بطَّاش، وأمامي إنسان ليس بمتعلم – ودعني أفرضه فلاحًا، ودعني أفرضه ممّن يدخلون البحر-، ولكنّني أَقرأُ فيه طهر روح، أجدُ فيه الصدق، أجدُ فيه الإخلاص، أجدُ فيه الوفاء، أجدُ فيه الكرم، أجدُ فيه الشجاعة، أجدُ فيه الأمانة، أجدُ فيه حبّ الناس، أجدُ فيه روح الإيثار، فأيّهما أجمل وربِّك؟
احكمَ!
الفيلسوف، أم الرياضيّ – عالم الرياضيات- القادر على حلّ المعضلات الرّياضيّة مع أخلاق شرسة، مع ملكة ظلم، مع روح جافة، مع سوء خلق، مع خيانة، مع إثرة – يعني سلب الآخرين الخير لنفسه-، أهذا الرياضي هو الإنسان الكبير في نفسك، أم المثال الكبير هو ذاك الفلاح الذي تعطيه أي أمانه وأنت مطمئن، وترى فيه كما قلت لك صفاتَ الصدق، والوفاءَ، والأمانة؟
ماذا تقول لك فطرتك؟
أيّهما الجميل؟
أيّهما القدوة؟
لا شكّ أنّ الفلاح كما تقول الفطرة هو القدوة.
أريد أنْ استنتج شيئًا، وهو أيّهما التفكير العقليّ أكبر؟
أيّما يحمل الرّوح الشّفافة أكبر في تقدير الفطرة، في داخل ضمير الإنسان؟
إنّ الفطرة تقول: شفافية الرّوح أقدس، شفافية الرّوح أهم، يعني أنّ جانب الرّوح أرقى من جانب الفكر، والبعد الرّوحيّ في داخلنا أرقى من البعد الفكريّ.
* البهلوان والفأر
لك قصة سمعتها من أحد الإخوة العراقيين في قم، يقول: لقد كانت قوافل الجمال عندما تزور الإمام الرضا (عليه السلام) تمرّ ببعض مناطق إيران حتى تعبر إلى مشهد، وكانت قافلة قد حطّت في مكان فيه ساحة، ورأوا أُناس مجتمعين في ساحة، فقالوا: ما هذا؟
قالوا: بهلوان مفتول العضل، قويّ جدًّا، مغرور بقوته إلى حدّ الطيش لشدّة ما هو عليه من قوّة بدنيّة، وأيضًا سخافة عقل، ويخاطب الله سبحانه وتعالى: إذا أردت أنْ تبارزني، فأنا حاضر.
رأوا هذا المنظر، وقطعوا الطريق إلى مشهد، ثم رجعوا على نفس الطريق، فسألوا: أين البهلوان؟
قالوا: مريض، فأصرّوا أنْ يروا هذا البهلوان، وإذا بالبهلوان مفتول العضل، القويّ الذي يحمل الأثقال العالية جدًّا كان مطروحًا في مكان عادي، وكان لا يملك حراكًا، وكان هناك فأر يخرج من غاره، ويأكل من جلد البهلوان، ثم يدخل في الغار وهذه مهمته، وهو – أي البهلوان – لا يستطيع أنْ يمنعه، هكذا أذله الله تبارك وتعالى.
هذه قصّة نقلتها لأنّها معلومة، ومشهودة.
* القوة العضليّة لا تمثل عظمة
أقول هذه القوة هل تمثل عظمة في نفس الإنسان؟
قارن بين هذا القويّ وبين قوّة الفكر وبين قوّة الروح.
البهلوان يبين حياة البدن، هذه حياة بدنيّة، ويستطيع حمل الأثقال، والجمل هو الآخر يستطيع أنْ يأكل كثيرًا، والفيل كذلك يستطيع أنْ يأكل أكثر منه، واللذات يمارسها بعض الحيوان أكثر ممّا نمارسها نحن. لذة بعض الحيوان، لذة أكله، واللذات الأخرى عند بعض الحيوان أغزر من الإنسان بمئات المرّات، فأيهما أكبر الفيل أم الإنسان الذي يفكر تفكيرًا رياضيًّا عاديًّا؟
أيهما أكبر؟
الإنسان طبعًا!
لماذا؟
لأنّ الحياة الفطريّة حسب ما غرس في فطرتنا، وقناعاتنا الفطريّة هي أكبر وزنًا من الحياة الماديّة البدنيّة، ولما نأتي بالرياضيّ الذي وصفته لكم وأنّه يحمل روحًا مظلمة لا تعرف الله، لا تعرف الهدى، لا تعرف الخلق، ولا الأمانة، ولا الصدق إنّما يعرف أنْ يحلّ مسائل رياضية، يعرف أن يفلسف الأمور، فعندما أقارنه بذلك الإنسان الفلاح الذي يتمتّع بروح مشعّه، بحياة روحيّة عالية جدًّا تعرف جمال الله، تتصل بجمال الله، قلب مفتوح على الله، موصول بنور من نور الله تبارك وتعالى، تتجسّد الخلق فيه أكبر تجسد.
فأعطي الجمال لمن؟
أيّهما القدوة؟
* فاطمة (ع) قدوة في الفكر والروح
فاطمة (ع) من ناحية بدنية ليست البطل، ليست البهلوان، لكن الإنسان مقدر ببعدين: ببعده الفكري، وبعده الرّوحيّ، وبإرادته إرادة الخير فيه، إرادة قوّة، على أنّ فاطمة (عليها السلام) تمارس دورها البدنيّ بأكبر كفاءه ممكنة، وكانت المرأة النشيطة جدًّا في بيتها كما تعرفون (صلوات الله، وسلامه عليها).
ففاطمة (عليها السلام) لمّا نقول عنها قدوة، فهي قدوة في فكر، وقدوة في روح، والتحليق الرّوحيّ – يا أبنائي-، فالإنسان الآن يدرس الفقه لعشرين، أو خمس وعشرين سنة، فيتوفر على فهم كبير في الفقه، لكن أنْ يطبّق الفقه، أنْ يقف مع الحقّ دائمًا، ويجانب الباطل باطلاً دائمًا، هذه المجاهدة مع النفس تستمر معه إلى آخر الحياة، وهو مهدّد دائمًا بأنْ يتلكّأ، ويتوقّف، وينحرف – والعياذ بالله-.
* طريق الفكر صعب
طبيعي أنّ المشي على طريق الفكر، وتنمية الفكر، والوصول إلى مستوى فكريّ متقدّم صعب جدًّا، وأنتم طلاب وتدرسون، وتجدون كيف هي المعاناة الفكريّة في أيّ حقل من حقول الدراسة، والمعرفة.
فأنت بعد كم سنة يمكن أنْ تكون عالم رياضيّات، ويمكن أنْ تكون عالمًا في الفلسفة، لكن أنْ تكون الإنسان المشع، الإنسان القادر على أنْ يصرع الهوى ولا يصرعه الهوى، هذا أصعب بكثير.
فالبعد الرّوحيّ، وتربية الذات أصعب، والبعد الروحي أشرف.
والنتائج الرّوحية والوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلى النتائج الفكريّة، وكذلك فإنّ النتائج الرّوحية أشرف وأسمى بكثير من النتائج الفكريّة، وما هو المنقذ يوم القيامة؟
هل هو مستوانا الفكريّ، أم مستوانا الرّوحيّ؟
طبيعي أنّ المنقذ يوم القيامة هو ليس المستوى الفكريّ، وإنّما الفكر الروحيّ، فالمستوى الفكريّ إذا أنعكس على الرّوح فإنّ الجانب الروحي يعلي مكانته، لكن النمو الفكريّ، والتقدم الفكري إذا فارقه جانب الرّوح وكان الجانب الرّوحيّ منحطًا كان حجّة على الإنسان، ويمكن أنْ يزيد في ناره!
* احتفالاتنا لها معانٍ
فنحن لما نحتفل معًا بفاطمة الزّهراء (عليها السلام) بولادتها، بوفاتها، وكذلك بالمعصومين (عليهم السلام) علينا أنْ ننظر إلى البعد الفكريّ، والبعد العلميّ يتمثّل في الوصول إلى الحقائق، الحقائق القريبة، والحقائق البعيدة، وأكبر الحقائق هي حقائق الدّين.
ثم الشيء الثاني وهو أنّهم مراكز الإشعاع الرّوحيّ، فكل واحد منهم يمثّل شمسًا مشرقة على الكون، على عالم الأرواح، على عالم النفوس، على عالم الإرادات، ويمكن لعوالم النفوس الأخرى أنْ تتغذى على الإمدادات الروحيّة، وعلى العطاءات الرّوحيّة لأهل البيت (صلواته وسلامه عليهم أجمعين).
* على طريقهم الروحيّ
فنحن محتاجون دائمًا إلى أنْ نضع خطوات أقدامنا على الطريق الرّوحيّ لأهل البيت (عليهم السلام) علّنا نقترب منهم بعض الشيء.
تجدون أنّ الفقيه الكبير العارف يعتبر نفسه تلميذًا صغيرًا أمام النّماذج العليا من أهل البيت (صلواته وسلامه عليهم أجمعين) فكرًا وروحًا، وقد نفهم من أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) على المستوى الفكريّ، ومن مفاهيم، ومن روايات أهل البيت، ومن فقه أهل البيت الشيءّ الكثير، ولكن أنْ نبلغ الاقتراب منهم بدرجة كبيرة من ناحية روحيّة،ف هذا هو الأكثر تحدّيًا.
ففي حياة العقل يمكن أنْ تكتشف فاطمة (عليها السلام)، وعندنا تصديق عام ومجمل لعصمة فاطمة (عليها السلام)، وهذا يعني أعلى درجات الكمال، وإنْ كان ما بعد درجة العصمة يوجد تسابق عند المعصومين (عليهم السلام) يعيّن القرب إلى الله عزّ وجلّ، فليس حدّه الأقصى العصمة، والتي هي الانتهاء عن المعاصي والقيام بكلّ الواجبات.
موجود مجال للتّسابق، ولا شكّ من أنّ القرب من الله لا تنقطع مسافته؛ لأنّ الله عزّ وجلّ له الكمال المطلق، فمهما اقترب الإنسان، ومهما كان له من كمال كان كمالاً محدودًا.
فالمسافة إلى الله لا تقتطعها روح، ولا يقطعها قلب.
ففاطمة (عليها السلام) كإنسان معصوم، فمن الطبيعي أنّه واضح، أنّه كامل، ويبقى من ناحية خارجيّة لشخصيّة فاطمة (عليها السلام) أنّك تستطيع أنْ تفهمها فكريًّا من خطبتيها (صلواته وسلامه عليها).
لا شكّ أنّها تحمل بوعي حقائق الإسلام الكبرى، فِقهَهُ، رُؤاه، سياسته، وتحمل رشد التّرجيح.
أنا كيف أرجح موقفًا على موقف، فهذا يختلف فيه النّاس، وهو محل امتحان عظيم، وهذا أعلى درجات الرّشد فيه لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وإدراك الواقع الخارجي.
* فاطمة (عليها السلام) واعية مدرِكة
إنّ فاطمة (عليها السلام) عندما تُطالع حياتها، وسيرتها ستعرف أنّها تدرك الواقع الخارجيّ، والساحة السياسيّة، والساحة الاجتماعيّة، الساحة الثقافيّة، وعندها إلمام كامل بمختلف الساحات، وخطبتها (صلواته وسلامه عليها) خطبة معبِّرة جدًّا عن شخصيّة واقعيّة، تحمل فكرًا نيّرًا، وفكرًا إسلاميًّا رصينًا، تحمل فكرًا متقدّمًا جدًّا، لا يبلى مع الزمن.
* حياة الرّوح
تنقل السيرة عن فاطمة (عليها السلام) – كما تعرفون – أنّ قدميها تورّمت من العبادة.
العبادة الصادقة وراءها روح عاشقة لله، روح حيّة، روح مستيقظة.
بمعنى أنّ وجودها غالب على وجود الرّوح البدنيّة، فهمومهما، وهدفها وحيويتها، وألمها، وفرحها، وسرورها، وتطلعها غالب على ما لحياة البدن من هذه الأمور.
وبمعنى الاتصال لله عزّ وجلّ.
فأنا إذا كانت روحي ميتة لا تكون عندي شهيّة عبادة، ولا يكون عندي توجّه لعبادة الروح، وتوجّه إلى الله، والمداومة على عبادته.
فهي – أي الزهراء (عليها السلام) – مستغرَقة في عبادته، يعني أنّ روحها هي روح شفّافة، ومشعّة، ووقّادة.
* فاطمة (عليها السلام) والعشر الأواخر من رمضان
فاطمة (عليها السلام) إذا كانت تأخذ بها العبادة ليلة جمعتها تأخذها حتى يتّضح عمود الفجر، وهي مشتغلة بالصلاة داعية للجيران، للمؤمنين دون نفسها، هذا من الحياة الروحيّة عند فاطمة (عليها السلام).
ففي العشر الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك جاء عنها أنّها لا تنام، لا تأوي إلى فراش كانت ترشّ وجوه العيال الصغار بالماء ليالي القدر؛ ليقووا على مقاومة السهر.
تستطيعون أنْ تراجعوا أدعيتها، وهي مفعمة بحبّ الله تعالى والتوجّه إليه تبارك وتعالى.
تعال انظر روحها إلى أين؟
إذا مات الجانب الروحيّ الذي هو نفخة الروح، وهو الذي هدايات الله، ونور الله في فطرة الإنسان، حبّ الله، نداء الله في داخل الضمير الإنسانيّ، إذا مات هذا الصوت، إذا خفت هذا النور، ماذا تصبح حياة البدن؟
* العظماء يستغنون بالله
يبلغ الإنسان الفراغ، يطلب الثّقة دائمًا من خلال اللّذائذ الماديّة، وما إلى ذلك، يكبر في نظرنا المال، يكبر في نظرنا الجمال الدنيويّ، تكبر في نظرنا المواقع السياسيّة، تكبر في نظرنا مواقع الشهرة، متى؟ حين يغيب جانب الرّوح، وإلا فإنّ المستغني بالله تعالى لا يطلب رضا عباده.
إنّ القلب الذي يعرف الله، ويرتبط به هو مرتبط بالغنيّ الأغنى، مرتبط بالقويّ الأقوى، فهل يطلب عزّة، ويطب مكانة، ويطلب غنىً من العبيد، أو من المخلوقين؟!، هذا شأن الإنسان المفتقرة روحُه.
إنّ الإنسان الذي غنت روحه بذكر الله تعالى، و بالمعرفة بالله سبحانه وتعالى تجده يستخف بالدنيا، ولا يأبى أنّ النّاس كانوا معه، أو كانوا ضدّه.
فهل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يكترث لو وقفت كلّ الدنيا ضده؟
إبراهيم (عليه السلام) كان وحده أمّة، فهل اهتزت ثقته؟
هل ضعفت إرادته؟
هل هانت عليه نفسه حينما وجد النّاس ضدّه؟ لا.
كلهم ينهزمون أمامه، وإبراهيم (عليه السلام) وحده لا ينهزم؛ لأنّه يستند إلى قوّة الله عزّ وجلّ، وقلبه مربوط بالله سبحانه وتعالى.
* الدنيا في نظر فاطمة (عليها السلام)
نأتي لفاطمة (عليها السلام)، فتعال انظر ماذا تساوي الدنيا في نظرها؟
إذا أرادت أنْ ترى روحها أين، روحها حيّة أو ميتة، تعال انظر قيمة الدنيا في نفسها.
هل للدنيا قيمة في نفسها؟
إذا وجدت للدنيا قيمة عالية في نفسها، فهي ليست صاحبة الرّوح المشعة، صاحب الروح الصادقة، لا بد أنْ تهون الدنيا في نفسها.
جاء الخبر أنّ فاطمة (عليها السلام) تصدّقت بقميص زواجها ليلة زفافها، هذه زينة العرس، ولكنّ الدنيا لا تساوي شيئا لديها، هذا ثوب زائد.
عندهم لباس التقوى هو خير زاد، عندهم حبّ الله، مستغنين بالجمال الرّوحيّ، بالجمال المعنوي.
فاطمة (عليها السلام) ليس لديها شيئًا تأكل، فيأتي السائل وليس عندها شيء تعطيه، فتعطيه جلد الكبش الذي يفترشه الحسنان (عليهما السلام)، فلا يكتفي به؛ لأنّه جائع، عارٍ!!
خاطبها: لقد جئت وأحالني عليك أبوك، أتعطيني جلد كبش يا بنت رسول الله؟
ماذا تجد فاطمة؟
عندها قلادة من إحدى قريباتها، فتخلع القلادة، وتجعلها في تصرف الفقير المسكين؛ لتخرج من حطام الدنيا.
فاطمة (عليها السلام) هي ممّن جاءت فيهم الآية الكريمة، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الإنسان:8.
* نداء إلى النساء
إنّني أريد أنْ أخاطب النساء، يا أخوات، ابنوا بيوت عزّة، بيوت إيمان، بيوت شرف، بيوت تقوى، بيوت رضا، بيوت تفاهم، بيوت محبّة، بيوت إخلاص، بيوت وفاء، يكفينا هذا الجشع، وهذا الطمع.
رجالنا، ونساءنا، نحتاج أنْ نقتدي بفاطمة (عليها السلام) في هذا الجانب.
* ستر جديد على بابها
يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سفره – وكانت آخر مَن يودّع، وأول مَن يستقبل، فإذا جاء من سفره (صلى الله عليه وآله)، فأول مَن يمرّ عليها هي فاطمة؛ وذلك لمقام فاطمة (عليها السلام) عنده؛ لأنّها المؤمنة التي يرضاها-، فيجد سترًا جديدًا، ويرى بعض الشيء، فيتراجع، وكأنّما فهمت فاطمة (عليها السلام) أنّ هذا المنظر لا يريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يريحه أنْ يرى من زينة الدنيا ولو الشيء اليسير في بيت فاطمة (عليها السلام) في وقت يحتاجه المسلمون، وإنْ كان عن طريق حلال، الحلال الطيب جدًّا وليس فيه بذخ!
فأرسلت الزهراء (عليها السلام) الستر، وأشياء أخرى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ليقسم ذلك القماش أُزُرًا على المسلمين، ممّن كانوا أهل الصفرة كما يسمونهم في المسجد، وكان بعضهم ليس لهم أزر، أو إزار قصير، وكان المطلوب من الرجال أنْ يجلسوا من السجود قبل النساء، لماذا؟ فالنساء خلفهم؛ لأنّ الرجل كان إذا سجد ربما لم يستر إزاره تمام عورته، فخوف أنّ النساء يرفعنَ رأسهنّ فتقع عين إحداهنّ على ما لا يحسن أنْ تقع عليه ممّا يقرب من عورة الرّجل، فكان الرجال يرفعون رؤوسهم قبل النساء.
هكذا كان المسلمون الذين يصنعون الدّولة الإسلاميّة الكبرى، الذين وضعوها في موقع القيادة والرّيادة، الذين أتعبوا العالم، كان هذا وضعهم الماديّ.
ففاطمة (عليها السلام) لو أبقت الستر مآله إلى أين؟
مآل الستر إلى المزبلة، سيتقادم، وسيكون مآله إلى المزبلة.
ربما بعض الأشياء الأخرى أيضًا كان مآلها أنْ تنتهي، لكنّ وعي أبيها ووعيها، وروحيّتها الرّساليّة، قال لهذا المال: أصنعُ عقولاً مؤمنة، أصنعُ أرواحًا شفّافة، أصنعُ إرادات إيمانيّة قويّة فولاذيّة، أكوّنُ جيلاً إسلاميًّا ينقذ الدنيا.
ما للستر وما للأشياء الأخرى؟
فبدل أنْ يتحوّل إلى مزق على المزابل شاركْ في صناعة جيل رائد، وجيل منقذ للدنيا يضع النّاس على طريق الله عزّ وجلّ، ويوصلوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه هي وظيفة المال الأساسيّة.
* الهدف هو الأساس
حتّى الشبع، لماذا نشبع؟ لماذا نلبس؟ لماذا نسكن؟ هل هو هدف أم ضرورة؟
نأكل، ونشرب، ونلبس، ونركب سيارة كل ذلك ضرورات، وحاجات من أجل ماذا؟
من أجل أنْ نصنع عقولنا، من أجل أنْ نصنع أروحنا، من أجل أنْ ننقذ مجتمعنا، من أجل أنْ نصل إلى رضوان الله تعالى، من أجل أنْ ندخل الجنّة، من أجل أنْ نكوّن ذواتنا ذوات إنسانيّة راقية.
ليس الهدف أنْ نبني بنايات مزيّنة ومزركشة، وسيارات فخمة، فالمشكلة الآن هكذا.
لقد جعلنا الآن الوسيلة تقوم مقام الهدف، ووقفنا عند خطوة البيت، عند خطوة الموقع الماديّ، عند موقع السيارة الفخمة، لا أنّها أدوات، وآليات!!
هذه حين تفرغها من هدفها تتحوّل إلى لعب يصرف عن الجدّ، إذا تُبقي عقلك، وروحك، ومشاعرك، وطموحاتك مجمّدة عند البيت والسيارة، فقد فرغت حياتك من محتواها الصحيح، قد وقفت عند الخطوات الطفوليّة، فهذا مثل الطفل، فالحياة الدنيا تصير لعبًا، لهوًا.
* كلّ شيء من أجل الرّسالة
فعند فاطمة (عليها السلام) أنّ هذا المال هو أداة من أدوات الرّسالة، والصحة أداة من أدوات الرّسالة، من أجل الرّوح، من أجل الدّين، من أجل الله تبارك وتعالى.
أيضا فاطمة عليها السلام بلغت رساليّتها الحدّ الأعظم بعد النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد جاء عن فاطمة (عليها السلام) أنّها (أم أبيها)، وهي مثّلت قرّة عين لإمام المتقين.
قلْ لي من هي قرة عين لإمام المتقين؟
أي شخصيّة تكون قرة عين لإمام المتقين؟
هل هي شخصيّة عادية، أو هي شخصيّة عندها سقم روحيّ؟
فاطمة (عليها السلام) لو لم نعرف أنّها قد أرضت عليًّا (عليه السلام) لكفى؛ لأنّ عليًّا (عليه السلام) وهو العظيم لا يرضى إلا بعظيم!
* أم أبيها
(أم أبيها)، فأنا آخذ هذا التعبير الطافح رأفة، إذ أنّها قامت بدور الحنان، وبدور الاحتضان النفسيّ الذي يشعر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدفء الحنان، وبدفء الاحتضان المعنويّ، هذا الشخصيّة الكبرى والعظمى التي تقود العالم.
أي بنت تلك تستطيع أنْ تشعره بهذا النوع من الطمأنينة؟
هذا النوع من الحنان؟
هذا النوع من الاحتضان؟
أي بنت؟
لا بدّ أن تكون قمّة، وإلا كيف يطمئن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* آية المباهلة تقدمها
أين النموذج الرّساليّ الكامل؟
قدّم (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وهو الرجل الأول للإسلام في موقف المباهلة، وقدّم أمير المؤمنين (عليه السلام) بمنزلة نفسه.
فهما الرجلان النموذجان الأكثر علوًّا، هما النموذجان الأولان من نماذج الشخصيّة التي صنعها الإسلام.
* شخصيّات نموذجيّة عليّة صنعهما الإسلام
شخصيات قدّمهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موقف المباهلة، وإنّها لتجسد الإسلام، فالشخصيّة الأولى هي عليّ (عليه السلام) الذي جعله بمنزلة نفسه.
والشخصيّة الثانية، أو الجيل الإسلاميّ الثاني هو جيل الشباب، وهما في العمر صبيّان، وفي المعنى شابان ورجلان، أي الحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهما)، فقد قدّمهما (صلّى الله عليه وآله) كجيل ثانٍ يحتل المنزلة الأولى في الشخصيّة الإسلاميّة.
ومن النساء هذا النموذج الفذّ حيث قدّم فاطمة (عليها السلام) ليس كامرأة فقط، بل كامرأة رساليّة من الدرجة الأولى في مقام المباهلة.
كان التقديم للنماذج الرّساليّة: الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثم النماذج الرّسوليّة – أي التابعة للرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)-، فالنموذج النّسويّ العالي في الإسلام، والشّخصيّة الإنسانيّة الرّساليّة النّموذجيّة التي اختارها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة كانت متجسّدة في فاطمة (عليها السلامّ.
* آية التطهير
آية التطهير تكفينا أيضًا، فاطمة (عليها السلام) المرأة قد عاشت حسن التّبعّل حتّى أرضت عليًّا (عليه السلام) كزوجة، أيضًا حسن التّربية، فقد خرّجت الحسن، والحسين، وزينب (عليهم السلام).
كذلك رعاية المنزل حيث تطحن، وتكنس، وتخبز، وتغسل، وعليّ (عليه السلام) كما في القسمة بينهما التي رضيتها وسارت إليها بأنّ عليًّا (عليه السلام) يتكفّل بما هو خارج الباب من المهمات التي تكون وراء الباب من كدّ الرّزق وغيره، ومكافحة الحياة، وأنّ فاطمة (عليها السلام) يقع العبء الأكبر عليها من مسؤولية البيت.
وهل ثلم ذلك من شخصيّة فاطمة (عليها السلام)؟
وهل قلّل من إنسانيتها؟
* فلتكن نظراتنا إيجابيّة
أنا أرجو أنْ لا يكون التفكير أنّه لا شرف للمرأة، ولا مكان لها، ولا دور لها إلا بوظيفة بين عشرة رجال يتوجّهون بنظراتهم الشّرسة إلى هذه المرأة، وفي حال تبذّل، وفي حال استرخاص لشرفها، ولدينها، وكرامتها، ولا ينظر منها إلا إلى الجسد، لا يكون هذا هو الشرف.
يبقى عمل المرأة مباحًا بشروطه وظروفه، والدين دائمًا هو الأهم، وأيضًا نظرة الرّجل، فالرّجل مخطئ كلّ الخطأ حين ينظر إلى زوجته بدونيّة حينما لا تعمل، فهذه هي التي تربّي، وهذه التي تشتغل في البيت، وهذه قد تشارك في ندوات، فلا ينظر إليها بنظرة الإنسان الخامل.
يوجد سذاجة في المجتمع.
وأركز على هذه النقطة، وهي نقطة أنّ الرّجل ينظر إلى زوجته، وإلى أخته التي لا تعمل نظرة سلبيّة، نظرة جاهليّة، وكذلك نظر المرأة إلى نفسها أنّ كرامتها لا تتمّ، وأنّ شرفها لا يتم، وأنّ إنسانيتها لا يُعترف بها إلا من خلال الوظيفة المعروفة والمختلطة، فهذه نظرة خاطئة.
إنّ العمل ليس ممنوعًا على المرأة، ولكن كما أقول القضيّة مشروطة.
* الستر وفاطمة (عليها السلام)
تعرفون أنّها لما خطبت في المسجد ضُرب ستارٌ بينها وبين الرّجال، كانت وهي تتحرك في اتجاه المسجد في مجموعة من نسائها التي يحففنّ بها.
شيء آخر وهو أنّها حتى بعد الموت قد حافظت كما هي في الحياة على أنْ لا تُرى بتقاسيم جسدها بعد الموت (صلواته وسلامه عليها) من الأجانب، فأوصت بقبّة الجريد الذي يُغطى بها نعش المرأة، وفوقه رداء؛ حتى لا تظهر تقاسيم جسدها الشريف إلى عين الناظر بعد الموت!
هذه هي عفّة فاطمة (عليها السلام)، وحفاظها على الستر، وإذا ادعينا أنّنا نقتدي بفاطمة (عليها السلام)، فلنرضَ لنسائنا الستر، ولِنربِ بناتنا على الستر، ونطالب نساءنا بالستر، وليطلبنَ نساءنا راضيات مرضيات مسرورات الستر الذي التزمته فاطمة (عليها السلام)، والتزمته زينب (عليها السلام)، ورضي به النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأزواجه، وبناته (عليه صلوات الله وسلامه).
وصلّى عليك يا رسول الله، وعلى آلك الطّيبين الطّاهرين.