خطبة الجمعة (345) 15 ذو القعدة 1429هـ – 14 نوفمبر 2008م
مواضيع الخطبة:
*العجب بالنفس *المساجد والحسينيَّات *الإرهاب الفكري باسم القضاء
وهل إثارة الساحة أمر مستهدف للحكومة أو بعض جهاتها ليأتي كل يوم أمر مستفز جديد على مستوى معاش الناس، ووضعهم السياسي، ووضعهم الديني؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله الظاهر الذي لا يُجهل لظهوره، الباطن الذي لا يُعلم لبطونه، لا ظاهرَ إلا وهو أظهر منه في ظهوره، ولا باطن إلا وهو أبعد منه في بطونه، وكل ظاهر إنما ظهوره به، وكل باطن امتنع على العقول أن تصل إلى عظمته إنما عظمته شيء يسير إلى عظمته، وما هي إلا فيض من فيضه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، وإنّما الخير في التقوى التي هي حقّه، فمن طلب الحسنة في الدّنيا، والحسنة في الآخرة فليمسك بعرى تقواه وقد وعد تبارك وتعالى عباده المتقين بما يتكفل بهم من رحمته ونعمته في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
ولا تصدق التقوى ما لم يتم الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وآله إيمانا لا يتخلف معه المسلم عن تصديقه ومتابعته، وتقديم المنهج الذي جاء به من وحي ربّه على كل منهج، والدين الذي بلّغه على كل دين مطمئنا راضيا، ولا ترجمة للتقوى خارج الأخذ بما جاء به الدين الحنيف مما ينافيه، ولا تقوى مع بدعة، واختراع رأيٍ وسلوكٍ فيه معارضة لصحيح الدِّين، أو مع أي نسبة للعقيدة أو الشريعة والمنهج من غير دليل.
وما أعظم وعد الآية لمن اتّقى؛ ذلك أن يؤتيه الله كفلين ونصيبين وما يكفله ويقيه ويحميه ويغنيه من رحمة الله في دنياه وأخراه، وأن يجعله في مأمن من الخلط والخبط والضياع والضلال بأن يجعل له نورا يمشي به مهتديا راشدا في طرق الدّنيا والآخرة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأصحابنا ومن كان له حق خاص علينا، ولا تفرّق بيننا وبين تقواك، ولا تسلبنا معرفتك، ولا تنسنا شكرك وذكرك، واجعل لنا نورا في عقولنا وقلوبنا ونفوسنا لا تعترينا معه حيرة، ولا يصيبنا ضلال، ولا نقع في تيه برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فلنقف عند موضوع العجب بالنفس في ضوء أحاديث من أحاديث نُقلت عن أهل بيت العصمة عليهم السلام:
“من كتاب أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر لمّا ولاه مصر: إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك وحب الإطراء(2)، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن”(3).
قد يتميّز هذا أو ذاك من النّاس بموهبة أو أكثر من عطاء الله لعباده في فكر، أو إرادة، أو بدن، أو خلق ودين فيكون في ذلك سبب من أسباب الغرور والعجب والاطمئنان إلى النفس وموهبتها، والنعمة التي رُزقت إياها في نسيان للواهب المنعم الذي لا خير لأحد إلاَّ منه تبارك وتعالى.
وهذا الغرور والعجب والاطمئنان للنفس والثقة بها والركون إلى النعمة دون المنعم من إيحاءات الشيطان، وهو بدرجة من الشرك التي تُحوِّل ما هو بصورة الإحسان إلى إساءة، وتذهب بالقيمة العالية للعمل وتأتي عليها؛ فإنما تتسامى الأعمال وتبلغ أعلى درجاتها بأن تكون صالحة في نفسها للتقرب إلى الله عز وجل، وأن تصدر عن إرادة الخير والتقرب له سبحانه.
ومن أُعجب بخير نفسه فهو يصدر في ذلك عن ذكر لفاعلية النفس، ونسيان لفاعلية الله وبذلك يغيب بفعل المعجب بنفسه عنصر التوحيد والتقوى الذي هو لبّ العمل والسبب الرئيس في قبوله.
وفي حديث آخر للإمام علي عليه السلام:”من رضي عن نفسه ظهرت عليه المعايب”(4).
الرضى عن النفس تتوقف معه ملاحظة سلبياتها، ومحاولة تخليصها منها، ونفوسنا منطوية دائما على معايب ونواقص، وإنما هي قد تقل وتزيد، وكلما اطمأن إنسان إلى نفسه ولم تعُد متّهمة عنده زادت معايبها وطفحت على السطح للرائين من غيره، وكانت فضيحة صاحبها أكبر وأظهر.
العجب بالنفس يجعلني لا أراقبها، يجعلني أحملها دائما على محمل الخير، أعمى عن معايبها، ينضاف إلى ذلك هذا العيب الكبير وهو العجب نفسه.
عن الإمام علي عليه السلام كذلك:”إزراء الرجل على نفسه برهان رزانة عقله وعنوان وفور فضله، إعجاب المرء بنفسه برهان نقصه وعنوان ضعف عقله”(5).
الواقف على عيوب نفسه مبصر مستيقظ، والمستصغر لها لعيوبها ذوقه رفيع، وعقله وافر، ونظرته لا سقم فيها، والغلبة في ذاته لخيره على شره.
أما الأعمى الذي غلب هواه عقله، وسقمت نظرته فهو وإن كان المهزوم في نفسه لشرِّه إلا أنه معجب بذاته، كبير في وهمه لذلك العمى والهوى وسقم النظرة.
في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام:”قال إبليس لعنه الله لجنوده: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه؛ إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العجب”(6).
يعبد الله بالإخلاص وصدق الطاعة والتسليم والانقياد، وبمعرفته وتوحيده، والكفر بألوهية من عداه وما عداه من النفس وغيرها،والمستكثر لعمله، المستعظم لطاعته مانّ على الله سبحانه كافر بنعمته، والناسي لذنبه، المستخف بقبح ما أتى منه، وما اقترفته يداه من سوء مستخف بحرمات ربّه، مستهين بعظيم حقِّه، ومن كان كذلك جاءت عبادته وإن كثرت فاقدة لمقوِّمها الأساس، وروحها التي لا حياة لها بدونها ولا قيمة، وهي روح التعظيم لله أعظم عظيم، والتقدير لحقّه على العبيد الذي لا يبلغ شأنه حق.
العبادة الخضوع، وأن أرى – كما أنا – العبدَ الذليلَ المسكينَ المستكين، وأرى من عظمة الله ما لا يضاهى.
عن الإمام الصادق عليه السلام:”لا تستقل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ ولو بشق تمرة”(7).
قليل الطاعة مع صدق الإخلاص والتوحيد في العبودية لله كثير، فلا تستقل طاعة وإن سهلت إذا كانت خالصة، ولا يستهان بعطاء وإن قلّ إذا صدق التقرّب به إلى الله.
وهذا لا ينفي رجحان الزيادة في العطاء، والإكثار من الطاعة ممن صدق إخلاصه وتقرّبه إلى بارئه، ففي زيادة الخير خير، وبعد الإخلاص تكتسب زيادة الكمّ قيمتها، وتثقِّل الميزان.
عن الإمام الكاظم عليه السلام(8):”العجب درجات منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا ومنها أن يؤمن العبد بربّه فيمن على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المن”(9).
من خدعته نفسه فرآها كبيرة عظيمة رأى قبيحها جميلاً، وإخفاقها نجاحا، وانحرافها استقامة، وشرّها خيرا، وكان إعجابه بها على كلّ حال، وفي كل منزلق وانحدارة، وهذه درجة من العمى المهلك الذي يستتبعه إعجاب المرء بنفسه.
ويأتي انقلاب الموازين من فعل العُجب في صورة أخرى بأن ترى النفس المملوكة لربّها، القائمة بأمره وعطائه أن لو آمنت بربّها العظيم لكان لها أن تمنّ عليه، وهي عليه متفضّلة. تعالى ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً.
معالجة العجب:
وهناك معالجة للعجب تذكرها الأحاديث، والعجب مرض يسقط بقيمة النفس، ويقطع عليها طريق الكمال، ويغرقها في الوهم بعظمة الذّات، ويحبط العمل، ويقوم مثل هذا المرض على النسيان لحقائق كبرى ما كان لها أن تغيب عن النفس وهي معجونة بها لولا ما اعتراها من عوائق أفقدتها الذكر، وحجبتها عن الرؤية تتحمل هي مسؤوليتها لأنها غير مفصولة عن إرادتها وقدرتها على الاختيار في مقدِّماتها.
ولذلك جاءت الأحاديث في معالجة داء العجب مركِّزة على المعرفة الهادية(10)، والتذكير بالحقيقة، فمسيرة الإنسان كلّها تقوم في استقامتها على العلم والذكر، وإذا توفّرت المعرفة والذكر صحّ تقييم النفس للأمور والأشياء ومنها ذاتها، وكانت قادرة على التشخيص والتعامل الرشيد في الموارد المختلفة.
وهنا تأتي الأحاديث لتطرح هذا النوع من العلاج:
عن الإمام الكاظم عليه السلام:”ما لابن آدم والعجب(11) أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل العذرة”(12).
ما كان لابن آدم أن يستبدَّ به العجب بنفسه في ضوء نظرة موضوعية واقعية لوضعه من حيث البداية القريبة لخلقه، وما إليه نهايته، وما يعرض عليه في واقعه في أمر بدنه فالبداية نطفة قذرة، والنهاية جيفة منفّرة، وهو ما بينهما حامل لما يسوءه مرأى ورائحة وذكرا.
وإذا كان للإنسان شأن فمن ناحية روحه، ولا ينسجم مع غنى الروح ويقظتها أن يمسَّها العُجب إذ كيف يمسّ العجب نفسا عارفة بعبوديتها، وبربوبية ربّها العظيم الكريم، وهي لا ترى نفسها شيئا إلا به، ويغرقها الشعور بأنه لا حول ولا قوة لها إلا منه؟!
فمن تمتّع بإشعاع الروح لا يُعجب، والعجب حالة لا تقوم في النفس إلا مع ضآلة أو اختفاء أو سبات شعلة الروح.
على أن هذا الإنسان في كلّ ما يُسرّ به، وكل ما يتراءى له أن يفخر به هو عطاء غيره، فإذا حقّ لي في نظري لذاتي أن أكون على شيء فإنما أكون على ذكرٍ لله وشكر له لأنّي صنعته، ولأنّي في خيري إشعاع ضئيل من إشعاعات ذاته المقدّسة المتعالية. إن كان لك علم، إن كان لك رحمة، إن كان لك قدرة على الإبداع، إن كنت على شيء من خُلُقٍ كريم فأنت صناعة ربّك في كل ذلك، فكيف تفخر بنفسك؟!
فالعجب لا يأتي في حال صحة الروح وصحوتها، وإنما هو داء تُبتلى به النفس حال سقم الروح وسباتها.
في حديث آخر عن الإمام الكاظم عليه السلام أيضا:”إذا زاد عجبك بما أنت فيه من سلطانك، فحدث لك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظيم ملك الله، وقدرته مما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يلين من جناحك ويكف من غربك، ويفيء إليك ما غرب عنك من عقلك”(13).
في حالة غيبوبة العقل، وذهاب الصحوة من النفس، وفي وقت يلمّ به الشيطان بالقلب فيحول بينه وبين الرؤية يأتي مثل العجب، والسلطان شيطان يفعل بصاحبه ما يفعله الشيطان نفسه، الملك، السيطرة، الجاه، السلطان يلعب بالنفس، ويحوّل الرجل طفلا، والحكيم سفيها إلا من رحم الله.
لحظة صحوة ورجوع إلى الواقع والحق تخرج فورا من العجب. إذا زاد عجبك بسلطانك فتحتاج إلى أن تتذكر، تذكّر أمرين: أنك عبد لست بشيء في نفسك، وأن لك ربّا يملك منك ومن كل مَنْ عداك وما عداك كلّ شيء، وأنك لست شيئا إلا بربّك، فإنّ هذا يسقط الغرور، ويخلّص من العجب.
معرفة النفس في محدوديتها وفقرها وحدوثها وحاجتها في بقائها إلى تنزّل الرحمة عليها بالوجود والحياة والرزق والتدبير منقذة.
وفي الحديث:”سدّ سبيل العجب بمعرفة النفس”(14).
أتريد أن تسدّ الطريق على العجب، على الغرور، على الكذب، على الزهو اعرف نفسك، اعرف عبوديتك لله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الأخير:”إذا كان الممر على الصراط حقا فالعجب لماذا”(15).
من عاش همّ المنقلب، ولم يضمن الجنّة، وكان في احتماله أن تزلّ به قدم عن الصراط لا يعجب بنفسه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم عرّفنا أنفسنا، وعرّفنا من عظمتك ما يشفي صدورنا من كل داء، وما يجعلنا أذلاء بين يديك، أعزاء في الخلق، وارزقنا عقلا نرى به خيرنا كلّه من عندك، وأنه لا حول ولا قوة ولا عصمة إلا بك، ولا نجاة ولا نجح إلا من فضلك، واجعلنا لك من الشاكرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله العليّ القدير؛ لا علوَّ كعلّوِه، ولا قدرة مكان قدرته، العزيز الحكيم؛ لا عزّ إلا من عزّه، ولا حكمة بدل حكمته، الرؤوف الرحيم؛ لا رأفة كرأفته، ولا رحمة بسعة رحمته، غفور رحيم، عقابه شديد، وعذابه أليم، وسلطانه قديم لا يضعف،وملكه دائم لا يفنى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله علينا جميعا بتقوى الله، والله يَجزي المتقين؛ وما للعبد أن لا يتقي ربَّه؟! وهل وجوده وحياته ورزقه إلا من عنده؟! وهل يأمن سطوته، أو يُطيق سخطه،وينهض لعذابه؟! وهل له مفرٌّ من ملكه، أو مهرب من عقابه؟! العبد الذي يملك منه مولاه كلّ ذرة من ذرات وجوده، ويتصرّف التصرّف المطلق فيه في كل لحظة من لحظات حياته، ولا يحول بينه وبين قدرته حائل، ولا يمنع إرادته فيه مانع كيف له الاستكبار على مولاه، والخروج عن طاعته، والاستنكاف عن عبادته؟! خسر عبد لا يعرف قدر نفسه، وحال العمى بينه وبين أن يرى عظمة ربّه، وظاهر سلطانه، وشديد أخذه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
واجعل لنا من معرفتك، وخشيتك، والهيبة من عظمتك، والانجذاب والعشق لجمالك وجلالك ما يُقبلُ بنا على طاعتك، ونلتذّ منه في عبادتك، ونستقيم على الجهاد في سبيلك، ويفرّ بنا فزعين كارهين لمعصيتك، فَرِقِين من مفارقة محبوبك، والوقوع في مبغوضك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء فإلى هذين الموضوعين:
المساجد والحسينيَّات:
المساجد والحسينيات لا يمكن التفريط بها، وحرام علينا أن نفرّط بها، وفي التفريط بها اضمحلال للدين، ووهن كبير.
والجهة السياسية وخاصة في ضوء السياسات القائمة لكثير من دولنا ومنها دولتنا لا تجعلها مأمونة على ولاية المساجد والحسينيات. تعرفون أنه في المغرب يقام معرض للخمور، وعندنا فنادق تقوم فيها المعصية ليل نهار، والخمور ميسّرة، والفحشاء ظاهرة، ولا أدري كيف تجتمع رعاية وتنشيط هذه المشاريع والسياحة المتحلّلة مع صدق الأمانة على المسجد والحسينية، والجهة واحدة؟! لا أعرف كيف؟! إما هذا، وإما ذاك.
هذا بالإضافة إلى عدم القبول نهائيا بالمصادرة للخصوصية المذهبية، وبالوصاية المفروضة على الدين.
والمساجد والحسينيات ليست خارج تنظيم القانون المدني، فهي تخضع لكل شروط البناء، ولكل شروط التخطيط، وتُراعى فيها ملكية الآخرين، وكل الضوابط الفنّية المأخوذة في مجال الإعمار، وهذا جارٍ قبلُ ولا زال قائما، ولا مستجد.
والأوقاف رعت المساجد، وهي لها نسبتها الرسمية، كلّ ما هناك أنَّ هذه الأوقاف تحمل سمة مذهبية خاصة، وتلك الأوقاف تحمل سمة مذهبية خاصة أخرى، وهذا منظور فيه مراعاة الحالة المذهبية وخصوصيتها.
فلا فوضى في المساجد والحسينيات تستدعي من وزارة العدل بأن تضع يدها الأجنبية على ما ليس من اختصاصها نهائيا.
وأصحاب المذاهب ليسوا بهذه الدرجة من القصور، والفوضوية، وهم يقدّرون حاجتهم ولا يحتاجون إلى وزارة العدل أن تقدّر لهم أنكم تحتاجون إلى مسجد أو لستم محتاجين إلى مسجد.
وليس للجهة الرسمية أن تقيم من نفسها وليّا عليهم في هذا الأمر، الأفراد والمؤسسات الأخرى متروك لهم أن يملكوا ما يملكوا، أن يقدّروا حاجتهم في التملّك لمنزل أو لأكثر، لمؤسسة أو أكثر، أما طائفة بكاملها فهم أقصر من أن يقدّروا حاجتهم في ذلك؟! غريب هذا الاتهام والإسقاط للقيمة، والتبريرات السياسية الفارغة، والعدوانية على الكرامة والحقّ الثابت المشروع.
كان هناك اعتصام في وزارة العدل من شريحة تعرفون قيمتها، ما دلالة ذلك الاعتصام؟
من دلالته أن المسألة بالغة الأهمية، مسألة استقلال المسجد والحسينية، والحفاظ على الخصوصية المذهبية فيهما.
دلالة أخرى: هي الرغبة في الأخذ بأرقى الأساليب في مواجهة أي قرار خاطئ، والبرهنة على العقلانية، وعلى الروح السلميّة، وعلى الذوق السليم، وأن أي خطوة أخرى تأتي بعد الخطوة المتواضعة إنما هي بعناد من الدولة، واستفزاز منها.
عن ماذا عبّر موقف الآخر؟
عبّر عن تجاهل وعدم تقدير، ينضاف إلى ذلك وكما هي العادة لغة التشويش والتشويه.
من دلالة موقف الآخر: إسقاط قيمة الأسلوب السلمي، وأن ذلك الموقف يقول بأن الأسلوب السلمي لا يحرّك ساكنا، ولا يغيّر شيئاً، وفي ذلك تيئيس من جدواه، وهو موقف لا يتناسب مع الحكمة، ومع إرادة الخير لهذا البلد، ومع دعوى الحرص على الأمن والاستقرار.
أنت تحين تُغلق كل أبواب التفاهم، وتسد الباب نهائيا أمام الطرف الآخر، وتقول له أنا أدوس كلّ خطوة سلمية عندك فماذا تريد أن تقول؟(16)
المسألة عندنا ليست مسألة تحدٍّ وردٍّ على التحدّي، المسألة عندنا مسألة دين وواجب شرعي لابد من النهوض به، وإننا لنعلم أننا سنقف مسؤولين عنه يوم القيامة. هإنّه موقف ديني لابد من الصبر على مؤونته، وتكاليفه.
وهل إثارة الساحة أمر مستهدف للحكومة أو بعض جهاتها ليأتي كل يوم أمر مستفز جديد على مستوى معاش الناس، ووضعهم السياسي، ووضعهم الديني؟!
الإرهاب الفكري باسم القضاء:
يقولون أن القضية – أي قضية – ما دامت في ذمة القضاء فليس لأحد أن يَنبِسَ ببنت شفة. القضاء مقدّس، القضاء فوق العقول، القضاء فوق كل المعلومات، القضاء معصوم، فلا تُسبق كلمةُ القضاء كما لا تُسبق كلمة الله.
أقول باختصار: جهاز القضاء والذي قد يعيّنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قابل للملاحظة، وتُرفع شكاوى على ولاة نصّبهم أمير المؤمنين عليه السلام، وما كان علي عليه السلام يستنكف أن يسمع كلمة في من ولاّه ليعزله عندما يكون مظنّة للسوء.
جهاز القضاء قابل للمناقشة، ومعايير التعيين قابلة للمناقشة، وطريقة التعيين قابلة للمناقشة، لسنا أمام مقدّسات، والمرجعية الشرعية للقضاء قابلة للمناقشة، مرة تكون مرجعية القضاء هي الشريعة الإسلامية، ومرة تكون مرجعية القضاء هي القانون الوضعي، ونحن لا زلنا نقدّس شريعتنا، ونرى العدل فيها لا في غيرها، فلنا أن نناقش أي حكم على ضوء الشريعة الإسلامية بما أننا مسلمون، إلا أن ننسلخ من هويتنا.
كثير من القوانين تسلب الحقوق، كثير من القوانين كيدية، كثير من القوانين تستعبد الإنسان، وتركّز الظلم وتبرّر له. أي قضية تأخذ عنوان القانون وإن كانت ظالمة تكتسب قدسية؟! وأي قرار من وزير، أو من وكيل وزير يأخذ قدسية وإن خالف الحق الذي عليه دين الله؟!
ثمّ إن أخطاء القضاء محل للمناقشة، ولماذا لا؟ وإن الرأي في القضية لا يعني قضاء فيها.
الذي يبدي حكما شرعيا في قضية معيّنة، أو رأيا قانونيا في قضية معيّنة، هذا لا يعد قاضيا، القضاء له شأنه، والفتوى لها شأنها.
الكلام الناقد يخلق كما يُقال أجواء تؤثر سلباً على دقّة الحكم، فما بال التهويلات الرسمية، والتشهير، والتسفيه، وتثبيت التهمة إعلاميّاً بالنسبة لأي موقوف من الموقوفين؟ ذاك لا يؤثر على القضاء، وإبداء وجهة نظر فقهية أو قانونية أو ملاحظة موضوعية يؤثر على القضاء؟! أنتم قضاتكم معصومون، فلِم تخافون عليهم؟!
كأنَّه يُراد لنا أن نصدّق جهة واحدة هي الجهة الأمنية في كل قضايا الاتهام، ونكذّب الموقوفين الذين يعانون داخل مراكز التوقيف ما يعانون، ونكذّب أهاليهم، وهيئة الدفاع عنهم، وما نشرته من فضائح قريباً.
ويُراد لنا أن نصدّق بأن الإخوة الموقوفين عند السلطة يعيشون أهنأ الأوقات، ويتمتعون بحرية كاملة، ولا تؤخذ منهم كلمة كرها أبدا، إنما هم مدلّلون هناك، ولا يمسّهم سوء، ولا يخضعون لأي إكراه لأخذ أي اعتراف من الاعترافات، كل ذلك يُطلب منا أن نُصدّقه، وأن تخرس الألسن، وتعمى العيون ليجري كل شيء كما يريد القضاء أو الناحية الأمنية أو غيرها، ويسلَّم بالأمر الواقع.
إطلاق سراح الموقوفين مطلب شعبي، ومعه قواعد القضاء العادل على أي مستوى من المستويات؛ حيث لا عبرة بأي اعتراف وراءه إكراه، وإيقاف الشخص لأسابيع، لأشهر من أجل التوصّل إلى كلمة اعتراف منه هو في نفسه إكراه، هذا إذا لم يكن تعذيب شهدت به أقوال المحامين، وأوضحته لهم الآثار البيّنة على أجساد المتهمين.
إبقاء الإخوة الكرام في السجون فيه توتير للساحة، وإطلاق سراحهم فيه تخفيف لتوتر الساحة، والحل كلّ الحل في المعالجة العادلة للملفات العالقة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكفنا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أجمعين شرّ الأشرار، وكيد الكفار، وطوارق الليل، وحوادث النهار إلا طارق يطرق بخير من عندك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم انصر أمة الإسلام وأعزّ دينك وأولياءك، وأذل أعداءك، واجعل كلمة الحق في الناس هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير، يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 28/ الحديد.
2 – وهو المدح والثناء.
3 – بحار الأنوار ج74 ص264.
4 – ميزان الحكمة ج3 ص1817.
5 – المصدر ص1815.
6 – بحار الأنوار ج69ص315.
7 – وسائل الشيعة 91 ص 86.
8 – تمّت مراجعة المصدر الأصلي وهو بحار الأنوار ووجدنا أن الرواية عن أبي الحسن عليه السلام كالتالي: عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن العجب الذي يفسد العمل فقال: العجب درجات إلى آخر الحديث المذكور في الخطبة.
9 – بحار الأنوار ج69 ص310.
10 – فلأعرف نفسي، فلأعرف ربّي وبذلك أتخلَّصُ من كلّ عيوب النفس ومنها داء العجب.
11 – وين رايح؟ أرضيتك ما تسمح، واقعك يفرض عليك أن تعيش أمام الله عز وجل وضع العبودية.
12 –
13 –
14 – تحف العقول ص 285.
15 – بحار الأنوار 69 ص314.
16 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).