خطبة الجمعة (337) 6 شعبان 1429هـ – 8 اغسطس 2008م
مواضيع الخطبة:
*متابعة (استراحة روحيّة) *شيعتنا يفرحون لفرحنا ويحزنزن لحزننا *المنبر في الإسلام *توجيهات الخدمة المدنية *مالله لله وما لقيصر لقيصر *الإسلام يعلو ولا يعلى عليه
إنّ أمة آمنت بربّها ونبيها ودينها وعرفت حقّانية هذا الدين، وقيمته، وأنّ فيه لا في غيره عزّها وكرامتها وقوّتها وسعادتها ليست مستعدة لأن تضحّي به لأجل رغبات السياسة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يُنكره عقل، ولا يطمئن لغير معرفته قلب، ولا يقف على من عداه الرجاء، ولا يبلغ عطاءه عطاء، تنزّه عن أن يكون له ندّ أو معين، وتقدّس عن المثيل والشبيه، لا يلحقه نقص الممكنات، ولا يكون لمن سواه كمال الواجب.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وأن نُحسن الصّنع بأنفسنا، ولا نأتيَ لها ظلماً، وقد أساء لنفسه، وظَلَمَها من خرج من عبادة الله إلى عبادة غيره، ومِن طاعته إلى طاعة المخلوقين، والمخلوقُ لا يُحسن الجزاء كما يحسنه الخالقُ، والأشدُّ أنّه لا يملك مخلوق أن يجزي شيئاً، وقد تأتيك الإساءة ممن أحسنت إليه من النّاس فكيف تعبده؟! وليس أشدّ سَفَهَاً من ذلك الذي يطلب النجاة والخير والاحتماء بالاستمساك بقوة موهومة معتمداً على قبضة في الفراغ مستغنياً بهذا عن التعلق بالله عزّ وجلّ والاستمساك بالمخلوقين دون الخالق استمساك بالفراغ، وتعلّق بالعدم.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا فهماً وعلماً، وإيماناً ويقيناً، وتقوى ورشداً حتَّى لا نضلّ، ولا تزلّ بنا قدمٌ عن صراطك، ولا يكونَ لنا أمل في غيرك، وحتَّى نخشاك ولا نخشى سواك، ونُخلص إليك العبادة، ولا نشرك بك شيئاً يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
أما بعد فإلى هذا التفيؤ والاستنارة والاستراحة لأجواء مناجاة الإمام زين العابدين عليه السلام مناجاة التائبين.
“إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي”.
للإنسان وهو الذي لا يملك لنفسه من نفسه لحظة وجود ولا حياة، ولا علم، ولا لفظ، ولا فعل، ولا إدراك، ولا شعور، ولا سبباً من أسباب الحياة والوجود، لهذا الإنسان وهو كذلك ذُلٌّ دائم لا يفارقه، ولا يستطيع دفعه، والتخلّص منه، وهو ذل الفقر الذاتي الذي يفرضه عليه إمكانه. فنحن الممكنات نحتاج من غيرنا إلى وجود، إلى حياة، إلى استمرار الوجود، إلى استمرار الحياة، إلى ما يقوّم حياتنا بلا استغناء عن شيء من ذلك في أي آن من الآنات، وهذا ذلّ ذاتي لا مقدور لممكن أن ينسلخ منه، ويخرج من ربقته بإرادته.
والإنسان وهو مملوك لخالقه ورازقه ومدبِّره لا يمكن أن يجد غِنى ولا قوَّة ولا عزّاً إلا بالتعلق به، والاسترفاد من عطائه، حيث لا يملك لنفسه وهو العبد المملوك حقّاً وصدقاً بكلِّه مخرجاً من ذلّه من عند نفسه، ولا تملك الأشياء كلّها مجتمعة له نفعاً أو ضرّاً وهي في العبودية الشاملة مثلُه.
ويعتري الإنسانَ مع ذلّ الإمكان والحاجة والمحدودية ذلُّ الخزي والعار، والتردِّي الخلقي والانحدار، وهو ذلّ المعصية لله عزّ وجلّ، والاستكبار – الذي لا يكون إلاّ عن سفه وسقوط – على أمره ونهيه وأحكام شريعته، وهو ذلّ يقابل عزّ الطاعة والعبودية الصادقة فيما خُيّر فيه الإنسان وأُقدر عليه، وهو تخيير لا يُخرج الإنسان المملوك كملاً عن رقيّته وقهره وأسره.
وذلّ المعصية يمكن أن يتبدل إلى عزّ الطاعة، وعزُّ الطاعة قد يُعقبه ذلّ المعصية، والإنسان بما أعطاه ربّه سبحاه من قدرة الاختيار قد يلبس ثوب هذا الذل بسوء اختياره، وقد يخلعه. وقد يتزيّن بثوب ذلك العز بحسن اختياره وبفضل من ربّه، وقد يقدم على خسارته، وعودته إلى ذلّه وهوانه.
والمناجاة تتحدث عن أن الخطايا ألبست السائل ثوب المذلة “إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي” والخطايا التي نأتيها في راحة بال غير آبهين هي التي تلبسنا ثوب المذلّة العارضة لأنها تنفصل بالنفس فكراً وشعوراً عن مصدر العزّة وهو الله الذي لا مصدر للعزّة سواه فتفقد كرامتها التي يمدّها بها ذكر ربّها العظيم واطمئنانها له وتعلّقها به، وتخسر شعور الغنى بعطائه، ولا تجد كفاية، ولا قناعة بما في اليد، ولا قوة ولا حماية تطمئن إليها إذا كانت على صحوة، ولا رضى بالوجود والحياة وأحوالهما وهي لا تركَنُ إلى الحكمة والعدل واللطف وراء التقدير والتدبير بما غاب عنها من معرفة الله وذكره، وبما أنساها فعل السيئات من حكمته البالغة وعدله المطلق ولطفه الذي لا نقص فيه.
الخطايا تنحدر بالنفس سريعاً في اتجاه خسَّتها وصغارها، وتُرخصها حتّى في نظر صاحبها، وتذلُّ وتهون عليه فيسهل عليه أن يبيعها بالأثمان الدنيويّة الرخيصة بعد أن لم يكن لها ثمن في الدين وفي نظره هو نفسه إلا الجنَّة.
والنفس بخطاياها تشعر بحقارتها عند الله سبحانه وهو أعز عزيز، وبغضبه عليها، وأن لا مقام لها عنده فيملكها الشعور بالخزي والعار ومذلّة الإثم بين يديه. وذِلةُ النّفس عند الله لا يخفّف من ألمها شيئاً في شعور عبد له شيء من الصحوة أن يعترف الخلق جميعاً بعزّتها.
وكيف لا تذلّ نفس بخطاياها وهي تلصقها بالأرض وشهواتها ونزواتها، وتدنو بها من حياة الحيوان ومحدوديتها وضيق أفقها وبهيميتها وضروراتها ومشغلتها، وتبعد بها عن السماء وهداها وعزّتها وعلاها؟!
ومن جهة أخرى قد اختارت المناجاة إسناد الإلباس لثوب الذلة إلى الخطايا وجعلتها هي الفاعل من دون إضافة هذه الخطايا إلى المتكلم فلم تقل المناجاة ألبستني خطاياي مع أن المقام مقام اعتراف. كان المتوقع أن يقول الإمام زين العابدين عليه السلام إلهي ألبستني خطاياي، ولكنه قال إلهي ألبستني الخطايا، من غير أن يسند الخطايا إلى نفسه عليه السلام.
وربما كان ذلك حياء فاختار عليه السلام التدرج للتصريح أخيراً بالتقصير وإدانة النفس وارتكاب الإثم، وليس الإثم المعنيّ ما نقترفه نحن، وتعرفه حياتنا، وشرحه سيأتي، فيما بعد وقد فرضت في بداية الكلام في المناجاة أن صاحبها غيرُ المعصوم عليه السلام. اختار المناجي أن يسند حال السوء عنده إلى التباعد فقال “وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي” وهو تعبير ربما كان أقرب إلى تحمّل المسؤولية من حيث إسناد التجليل إلى التباعد بما هو فعل اختياري، ليأتي التصريح بعد ذلك بتحمل المسؤولية كاملة، وتسجيل الاعتراف الذي لا غبار عليه بالتقصير عندما جاء التعبير واضحاً جداً “وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي” في إسناد الداعي الجناية إلى نفسه.
وتضيف المناجاة:
“وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي” يتباعد العبد بأفكاره ومشاعره وهدفه وقوله وفعله بخطاياه عن المصدر الوحيد الذي لا مصدر غيره لوجوده وحياته وخيره ونفعه، فإن لم يمت قلبه تماماً عند ذلك، ولم يدخل شعوره في غيبوبة كاملة شعر بالفقر المتقع والمسكنة المؤلمة المذهلة حيث لا مُطَمْئِنَ له بالغنى من الاعتماد على نفسه، ولا من الاعتماد على أحد غير ربّه، فكل غير الله يموت، وكل شيء غير الله إلى أفول، وكلّ الكائنات لا مخرج لها من مسكنتها الذاتية، وفقر الإمكان إلا أن تنالها من الله رحمة، ويكون لها من لطفه وعطائه رَفْدٌ وإمداد.
وتباعد العبد عن ربّه هو تناقص في قَدْرِه، وهبوط في منزلته، وخسارة من وزنه، وانحدار في ذاته بفعل الخطايا والسيئات التي تُفقده هداه، وتسلبه صفاء روحه، وتأتي على إرادة الخير فيه، حتى لا تُبقي منه جمالَ معرفة، ولا جمالَ خُلق، ولا طهراً ولا نزاهة، ولا قصداً راقياً، ولا هدفاً كريماً، ولا نفساً مستقرّة.
وهو تباعد يغطّي الذات منه لباسُ مسكنة يستوعب شعورها “وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي”.
تباعدٌ ينال بأذاه وألمه وهوانه ووحشته كل مسرب من مسارب النفس، وزاوية من زواياها.
والنفس إذا سكنها الذّل، واكتست ثوب المسكنة، ولم ترجع إلى مصدر عزّها وغناها ارتكبت كل خطأ، وصدر منها كل خبيث، وتُوقّع لها كلّ شر، وكانت منبع كل سوء، وقادها الضياع من باب ذلّ إلى آخر، ومن طريق مسكنة وهوان وخزي إلى ثان، ولم يكن منها إلا ورود الهلكات.
وهذه جملة ثالثة من المناجاة:
“وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي” القلب الذي نحيا به حياتنا الروحيّة هو غير القلب الذي نحيا به حياتنا الجسدية، والثاني منظور والأول لا منظور ولا محسوس مطلقاً كالعقل والروح. وبموت العقل الأول يموت الجسد، وبموت القلب الثاني تنتهي الروح وتختفي مظاهرها.
ونعرف أنفسنا أحياء روحيّاً بمظاهر حياة الروح، ويُعرف أحدنا ميّتاً من ناحية روحيّة باختفاء مظاهر الحياة التي تعود إليها.
والقلب الحيّ بحياة الروح تحضر فيه الفطرة، يعرف ربَّه، يُعظّمه، يستحيي منه، يتعلّق به، يقدّمه على غيره، يستغني به عمن سواه، لا يصرف عنه شيء، يميّز بين كثير من الحق وكثير من الباطل، لا يختار باطلاً على حق، لا يتلكأ عن قبول الحقّ، وتقديمه على الباطل، يُكبر القيم المعنويّة ويستمسك بها، يغلب الهوى ولا يغلبه الهوى، يُضحِّي بالآخر من أجل الله، ولا يضحي بما لله فيه رضى من أجل الآخر، ولا يشعُرُ معه صاحبه ما سلمت علاقته بالله، وشعر برضاه بحقارة ولا خسارة، يواصل رحلة كماله على طريق ربّه تقوىً وعبادة وخشوعاً.
وكلما زادت هذه المظاهر وقويت عند العبد كلما دل ذلك على غزارة وقوّة واشتداد في حياة القلب.
وكلما خفي شيء من ذلك، أو تراجع في درجته كلما كان في ذلك آيةُ موت بدرجة وأخرى أصاب القلب. وقد يعبَّر عن مشارفة الموت بالموت، واقتراب المنيّة بالمنيَّة.
“وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي” تعبير ينسحب على حالة مشارفة القلب للموت.
ولحياة الجسد ما يُبقيها أو يقضي عليها، وكذلك لحياة القلب، وطاعة المولى الحقِّ غذاء لا حياة للقلب بدونه، وموت القلب بمعصية الله؛ فهي سَمُّه وفيها منيَّته.
وكلّما كان الإنسان ماديّاً بدرجة أكبر، وأقرب في حياته إلى حياة البهائم كلّما كان موت الجسد هو الأعظم عليه، وكلما كانت حياته روحانية بدرجة أظهر، وكان إنسانيّا، وحضوره الروحي أشد، وعرف حقيقة نفسه، وشعر بقيمة جانب الروح، وعاش لذة نشاطها، ونوّرت داخله كلما كان أحرص على حياة القلب في بعده المعنوي، و أسخى بحياة البدن من أجل حياته، وكانت المعصيبة عليه أكبر بأذى يمسُّ هذا المستوى من الحياة.
تتعذب حياة أبي ذر وهو غير معصوم إذا مسّ قلبه فتور في علاقته بالله، بما لا يتأذى لمثله إذا قُطعت يده، وآخر يرتكب أكبر الجنايات من غير أن يشعر قلبه بأي أذى، أما لو اقتلع شيء من ظفره الذي تصل إليه الحياة لكانت عنده مصيبة كبرى.
وما من جناية على النفس وظلم لها أشد من إضرار المرء بحياة قلبه، والإساءة إليها، والفتك بها، لما يعنيه ذلك من موت الإنسان بمعناه الكبير، ليكون من بعد منزلته العالية، وفرصه الكبيرة في السعادة الأبدية أضلّ من الأنعام سبيلاً، وفي مستوى حجارة صمّاء يكون معها وقوداً من وقود النّار.
المناجاة في مطلعها شكوى مرّةٌ وعميقةٌ، راجية مؤملة تنطلق من فؤاد محترق إلى الله عزّ جلّ حيث لا مخرج إلا من عنده، ولا يخيب راجيه، ولا يرد سائله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإاخواننا المؤمنين والؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نوّر قلوبنا بنور الإيمان، واشرح صدورنا بمعرفتك، ويسِّر لنا سُبل طاعتك، وافتح علينا أبواب رحمتك، وبلِّغنا رضوانك، وارزقنا جنّتك وإكرامك، وأدم لنا عافيتك، وجنّبنا عقوبتك يا أرحم من استرحم، ويا أكرم من سئل، وأجود من أعطى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا حول إلا حوله، ولا مشيئة إلا مشيئته، وكل الأشياء مُنقادة إليه، وكل الأمور منتهية إلى إرادته، وكل صغير وكبير مما يحدث في الليالي والأيام في قبضته. لا لجأ إلاَّ إليه، ولا غوث إلا منه، ولا تغيير ولا تبديل، ولا رفع ولا خفض، ولا ضيق ولا فرج إلا بإذنه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن لا نشتغل بتوافه الأمور عن مهمّاتها، وبمتع الحياة عن غايتها، وبعالم الدّنيا عمَّا سنصير إليه من عالم الآخرة، وهو عالم نحن على توقع دائم بالانتقال إليه في ليل أو نهار. فهذا الاشتغال الملهي لا يوافقه عقل ولا حكمة، ولا دين، ولا مصلحة، وهو بعيد عن الرشد كلّ البعد، وضربٌ من السفه الشنيع، والجنون المفرط، وهل الآخذ به، المخدوع له إلا طفل غِرِّير، أو مغلوب على عقله، لا يفرِّق بين أبيض وأسود، وحلوٍ ومرٍّ، ونور وظلام؟!
اللهم ارزقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات نور المعرفة، وصحّة التشخيص للأمور، ونفاذ البصيرة ورشدَ الاختيار، والصبر على الحقّ، ومضيَّ العزم في الخير، وإخلاص النيّة، وحسن التوكّل عليك، وأن لا نستوحش في طريقك، ولا نميل عن صراطك، واغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصحابنا ومن كان له حق خاص علينا برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والعلماء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، و انصرهم نصرا مبينا عزيزا مبينا دائما.
أما بعد فمع هذه الكلمات:
شيعتنا يفرحون لفحرنا، ويحزنون لحزننا:
نعم هم يفرحون لفرحهم عليهم السلام، ويحزنون لحزنهم عليهم السلام. ولفرح أهل البيت عليهم السلام حدوده وآدابه، وكذلك لحزنهم وضجرهم. وهي حدود الدين وآدابه، وما دعا إليه، وما حبّب وما كرّه، فلا يأخذون في فرحهم ولا في حزنهم إلا بما ثبتت شرعيته، ويجتنبون كل محرّم وكل مكروه.
وأيامنا هذه هي أيام أفراح إيمانية لأهل البيت عليهم السلام، أيام بزوغ بدور من بدور البيت المطهر التي لا تستغني عنها الحياة.
فكيف نعبّر عن فرحنا وحزننا فيما يخص حياتنا الخاصة ومناسباتها، وفيما يتصل بقضايا الإسلام، وذكريات أهل البيت عليهم السلام؟ هل ننطلق كما نشتهي ويحلو لنا في أساليب التعبير عن الفرح والحزن؟ وفي كل سنة ندخل جديداً وإن لم يدخل في جسم الدين؟ وكان ضاراً به، ومما يبعّد عنه، ويصنع أجواء منافية له، أم علينا مراجعة الدين، والحكم الشرعي في قضية ما يجوز وما لا يجوز من تلك الأساليب؟
نريد درجة من الالتزام في الأفراح والأحزان تجعلنا لا ننسى الحكم الشرعي ولا نفارقه. فهل نفعل؟ فلنكن إن شاء الله ممن يلتزم بذلك.
المنبر في الإسلام:
وُجد المسجد والمنبر في الإسلام لبيان العقيدة والشريعة والمفاهيم والأخلاق الإسلاميّة، ولربط الناس بالإسلام وتربيتهم عليه عباديّاً واجتماعياً وسياسيّاً وفي كل مناحي الحياة. وهو ما لا يسع مسلماً أن ينكره. وقد كان الدور المذكور سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيرة الخلفاء المعصومين عليهم السلام.
ولكي تُعطّل أي حكومة دور المسجد والمنبر كلّياً أو جزئياً، أو تُحرّف دوره إلى ما ينافيه لابد من إسلام جديد غير الإسلام الذي جاء على يد رسول الله صلى الله عليه وآله، وعرفه المسلمون، ولابد من تشريع غير تشريع الإسلام، ولابد من أمة غير الأمة المسلمة التي تدين بالإسلام.
علينا أن نُلغيَ كل ذلك حتى نعطّل وظيفة المسجد، أو نلغيها، أو نكيّفها التكييف السياسي الذي نريد.
وعلى مستوى البحرين بالخصوص لابد من أجل ذلك التعطيل أو التحريف من ميثاق غير ميثاقها، ومن دستور غير دستورها اللذين ينصّان على إسلامية الدولة، وأن الإسلام مصدر رئيس لقوانينها.
إن المصلحة السياسية الآنية لهذا الطرف أو ذاك والتي قد يتصورها في إجراء معيّن لا تقبلها الأمة تبريراً لإلغاء الإسلام أو تزويره، والخروج بالأمة عن خطِّ دينها الحنيف.
وإنّ أمة آمنت بربّها ونبيها ودينها وعرفت حقّانية هذا الدين، وقيمته، وأنّ فيه لا في غيره عزّها وكرامتها وقوّتها وسعادتها ليست مستعدة لأن تضحّي به لأجل رغبات السياسة.
وإن المسجد والمنبر لم يكن على يد رجاله الواعين المخلصين في يوم من الأيام سبّاباً ولا شتّاماً ولا فحّاشاً ولا داعياً لمنكر ولا بدعة أو فتنة مضلّة.
والإجراءات المستلبة من دوره ورسالته لا تواجه فئة من شعب، ولا شعباً من شعوب الأمة، وإنما تواجه الأمة بكاملها(1).
وفي الوقت الذي ينادى فيه بحرية الصحافة وتعطى فيه فسحة أوسع وتخفف القيود عليها يوضع المسجد في زنزانة من القرارات ويراد تهميشه التهميش الكامل أو تجييره لصالح السياسة تجييراً تامّاً وهذه مفارقة لا يفسرها إلا الضغط الغربي لصالح الصحافة، أو موالاتُها غير المشروطة من جهة، والتوافق في الرأي والموقف ضد المسجد وعموم المؤسسة الإسلامية من جهة أخرى.
هذه القرارات نبعت أول ما نبعت في الآونة الأخيرة من قرارت أمريكية وأوروبية. والصحافة الحرة يكتب فيها الكبير والصغير، والمسلم وغير المسلم، والبر والفاجر، فإذا كتب على المنبر أن يسكت فمعناه وضع البلد على خطّ العلمانية، وعلى خط الابتعاد الصريح عن الدين.
توجيهات الخدمة المدنية:
هناك تعميم صادر من ديوان الخدمة المدنية تحت عنوان “توجيهات الخدمة المدنية رقم 4 لسنة 2008م للوزراء ورؤساء المؤسسات والهيئات العامة والأجهزة الحكومية يؤكد على ضرورة الإيعاز باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة على الموظفين العموميين في حالة مخالفتهم القوانين واللوائح أو صدور أي إجراءات قضائية ضدهم نتيجة قيامهم بأعمال الشغب أو المشاركة في تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة أو المشاركة في التجمعات أو الاعتصامات غير المرخص بها وجميع الأعمال التي تزعزع الأمن والاستقرار. وتقدير أن هذا عمل يزعزع الأمن والاستقرار بيد صاحب القرار والمنفذ.
ويتناول الإيعاز المؤكد عليه فصل الموظفين المخالفين من الخدمة المدنية.
والنتيجة أن المشاركة في تجمع أو اعتصام غير مرخص به وإن دعت إليه الضرورة البالغة وكل المقاييس الدينية والعقلية والعرفية والوطنية يستوجب الطرد من الوظيفة.
هذا الإجراء ديني؟ لا، نقول بجزم أنه مناف للدين. لماذا؟ لأنه يصطدم مع قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفوري، فأحياناً يتوجب أن يكون أمر بمعروف ونهي عن منكر بصورة فورية، وهذا المنكر قد يصدر على يد وزير، وقد يصدر على يد وكيل وهو منكر قاتل، ولا يتحمل الانتظار. فاتخاذ قرار من هذا النوع فيه مصادمة للدِّين.
هل هو ديموقراطي؟ نقول لا، لأن الديموقراطية لا تعطي صلاحية ردعٍ يعطلها. وهو ردع معطل للديموقراطية.
هل هو وطني؟ نقول لا، لأن المصلحة الوطنية قد تستوجب مثل الدّين الإنكار الفوري العاجل لما يضر بها إضرارا بالغا، ولأن المصلحة الوطنية ليست دائما في ما يقدّره هذا الوزير أو ذاك، والذي قد يكون تقديره على خلاف كل عقلاء المجتمع.
هل هو إجراء حضاري؟ لا، وهو بعيد كل البعد عن الروح الحضارية التي تعارفت على تصحيح الخطأ، وعلى إعطاء الشعوب حق تدارك الأخطاء التي تضر بها بصورة كاملة أو جزئية.
والمحاربة في لقمة العيش من أخس الأساليب الساقطة في مواجهة الحكومات لأبناء شعوبها وهو يدل على رجعية مقيتة غابرة. ودّعَها الزمن ويجب أن لا يعود إليها.
وقد جرّبته حكومات تكريسا لظلمها وأثبت فشله الذريع بصورة لا ريب فيها.
فلتبحث الوزارات والمؤسسات الرسمية والحكومة عن بدائل عدل وحكمة ومصلحة وطنية بدل هذه الإجراءات التعسفية التي تفاقم من المشكلات، وتصب الزيت على النّار.
“ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”:
كلمة كنسية مشهورة تنسب إلى النبي عيسى عليه السلام.
هل قالها؟ لو قالها وهو الرسول المعصوم من أولي العزم فلا يقولها إلا بمعنى صادق في العقل والدين. لو أمكن أن يقولها في ظرف خاص محفوفة بالقرائن التي لا تسمح بالتأويل، والتي تساعد على التخلص من ظلم ظالم، تخلّصاً لا يضرُّ بدين الله؛ فإنه إنما يقولها بالمعنى الصحيح من هذين المعنيين الآتين:
المعنى الأول لهذه الكلمة أن قيصر قسيم لله عز وجل في ملكه، والكلمة تضع حدا لتجاوز الله سبحانه وتعالى على ملك قيصر؛ فما لله لله، وليس له أن يتعدى إلى مال قيصر، كما تضع حدا تصرف قيصر بحيث لا يتجاوز بتصرفه عمَّاله إلى ما هو لله؛ فقيصر شريك مع الله في ملكه، أو قل بأن الملك بحسب هذا الفهم قسمة بين الله وقيصر.
والكلمة تضع حداً لتجاوز مسامحة ملك كل طرف إلى مساحة ملك الآخرة وهو معنى لا يقبله طفل مميز فضلا عن بالغ رشيد، فهذا المعنى ساقط عقلا ودينا بصورة واضحة. فقيصر لا ملك له في قبال ملك الله سبحانه لا في مساحة التكوين ولا في مساحة التشريع.
المعنى الثاني ما لله وهو الكون وما فيه، والعزّ، والأمر والنهي، والحكم والربوبية، ومطلق التصرف، فكل ذلك لله وحده، وما لقيصر إنما هو العبودية والفقر الذاتي، والمحدودية، وما يناسبه من امتثال المولى الحق، وبهذا يخرج قيصر بلا شيء؛ بلا ملك لذات، ولا لشيء من ذات، وبلا ملك لأي شيء من الأشياء، وهو عبد قِنٌّ صرف لله تبارك وتعالى، فليبحث قيصر عن كونٍ خلقه ليكون له، عن طعام صنعه ليكون له. أأنبت قيصر نباتاً، أم خلق حيواناً ليكون ملكه؟! فليبحث قيصر عن إنسان أوجده، ليكون له، ليبحث قيصر عن حبة رمل أوجدها لتكون ملكه، ليبحث قيصر عن نسمة هواء من قدرته لتكون ملكه، ليبحث قيصر عن شعاع من أشعة الشمس ليكون هذا الشعاع في حوزته، ما لقيصر؟! قيصر صفر كأي إنسان بما هو في ذاته في هذا الكون، كأي ملك، كأي نبي، ما لقيصر لقيصر، قسمة بين الله وقيصر؟!
وقيصر ربما رضي في البداية بأن يكون ما لله مما يعيّنه هو لله، وما له في اعتباره له، ولكن قيصر تمدد في رغباته وطموحاته، وتمدّد في عدوانيته، في استكباره على الله عز وجل، كان قيصر يترك لدين الله مسألة ما يجوز وما لا يجوز في الزواج، ولكنه صار في الغرب اليوم يبيح اللواط والسحاق، وصار قيصر يستخدم الكنيسة ورجالاتها وإمكاناتها لخدمة سلطته ولا يرضى لها دورا غير هذا الدور.
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه:
1. لا تقاس بحقائق الإسلام العقيدية والتشريعية وأخلاقياته العالية ما يقابلها وينافيها في المبادئ الأخرى والأديان الأخرى. وكذلك لا تضارع براهينه وأدلته وحججه وبذلك فهو يعلو ولا يعلى عليه.
2. وإذا طبّق الإسلام تطبيقاً أميناً كاملاً لم يأت مثل نتائجه الكبيرة النافعة على يد أي طرح آخر، وبذلك فهو يعلو ولا يعلى عليه.
3. والإسلام يجب أن يعطى التقديم من المسلمين على أي شيء آخر في حياتهم ولا يذلّوه في علاقاتهم وهو بهذا المعنى يعلو ولا يعلى عليه.
4. ومن واجب المسلمين أن يحققوا بالجد والاجتهاد بعد توفيق الله العلو العملي للإسلام والعزة على الأرض بالنسبة للمناهج الأخرى. فهذا ما يليق بالإسلام، ولا يليق بالإسلام أن يضعفه المسلمون، وأن يكون في حاكميته في مؤخرة المذاهب الأخرى. وهذا معنى صحيح من معاني الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
5. إذا نافس المسلمون بإسلامهم المناهج الأخرى وأهلها، ونافسهم الآخرون ومناهجهم كانت الغلبة للإسلام على غيره، على أن يتعب المسلمون أنفسهم في فهم الإسلام، ويتلقوه من مصادره الأمينة.
6. أما المسلمون فيعلون بالإسلام ويمكن أن يكونوا أعلى وأعزّ الأمم، وإذا تخلوا عنه أمكن أن يكونوا أسقط أمة، وأذلّ أمة، وأهون أمة على الأمم. فليطلب المسلمون العزة بالإسلام، وإلا أمكن أن يكونوا أذلّ من على وجه الأرض.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ادحر أعداء دينك وأوليائِك، ونكّل بهم تنكيلا، وانصر حماة الدين ومكّن لهم تمكينا، وأعز المؤمنين والمسلمين جميعا، واجمع كلمتهم على التقوى، واجعلهم يداً واحدة ضاربة على طغاة الأرض ومفسديها المضلّين لعبادك، الظالمين في بلادك، المذلّين لأهل طاعتك، المناصبين لأهل ولايتك يا قويّ يا متين يا عزيز يا قهّار يا جبّار يا عظيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).