خطبة الجمعة (333) 7 رجب 1429هـ – 11 يوليو 2008م
مواضيع الخطبة:
*تتمة موضوع الفخر *الوحدة بين الإلغاء والاحترام *الحكومات مؤتمن أو مالك *الحملة المضادة للتعذيب *من حرب إلى حرب
فلتقبل الحكومة بحوار وطني لا طائفي، وهو حوار موضوعه الحقوق والواجبات، ولغته لغة الأرقام لا اللغة الإعلامية الخطابية، وطرفاه هي، والمؤسسات السياسية التي تمثّل وجهة النظر الأخرى، لأن هذا سيتيح أجواء هادئة يمكن للحوار فيها أن يعيش موضوعيته، وأن يعيش هادفيته القادرة على إيصال السفينة إلى شاطئ الأمان.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تجلَّى للقلوب بالعظمة، ومن تجلّيه لا تملك القلوب أن تُنكرَه، ومن عظمته لا تنال دنوّاً من حقيقته، وتحترق إدراكاتها وأوهامها وخيالاتها دون اقتراب من كنهه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه كما يحول بين القلب وسرّه؛ إذ لا رابطة بين شيء وشيء، ولا سببية من شيء لشيء، ولا تأثير لشيء في شيء، ولا بقاء ولا انتهاء لشيء إلا بتقديره وإذنه وإرادته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله والاعتصام بحبله المتين، وحبل الله منهجه السويّ، ودينه القويم، وأن نأخذ ما أدّى إليه كتابه الكريم ودلّت عليه السنة المطهّرة؛ سنّة نبيّه الطهر الصادق الأمين وآله المنتجبين في أمر الدنيا والآخرة؛ فإنهما لا يقصران عن حقٍّ، ولا يوقعان في باطل، ولا يهديان إلا إلى الرشد، ولا يأخذان إلا إلى الخير، وما باينهما ليس إلا السفه، والشّر، والباطل، والضلال، فليس بعد الحق إلا الباطل، وما بعد الهدى إلا الضلال.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأخيار الأطياب الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللم اجعل لنا قلوباً لا تتزايل عن معرفتك، ولا تميل عنك إلى من سواك، وأقداماً لا تتزحزح عن صراطك، ولا تنحرف بها محنة عن محجّتك، وبصائر لا يعشو بها خير من خير الدّنيا، ولا شر من شرِّها عن نورك؛ إنك أنت الحنّان المنّان الجواد الكريم.
أما بعد أيها الملأ الطيب المبارك فمع حديث الموضوع السابق الفخر:
الفخر إذا كان بالذّات ومواهبها فهو فخر بما للغير وهو الله سبحانه، وإذا كان بالعمل الصالح فهو اعتداد بالنفس، ونسيان لتوفيق الله ونعمه التي لا يتم بدونها شيء على يد مخلوق، وهو محبط للعمل. فإذا صحّ أن تُذكر النفس بخير، فإنما يصح لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، كما في الموارد التي جاء فيها عن فخر أمير المؤمنين عليه السلام أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبله. أما الفخر بما دون ذلك فهو باطل، وتعظيم لباطل.
والطالب للعزّ بفخره عليه أن يعدل إلى التواضع لله، والتواضع لعباده من أجله تبارك وتعالى، فإن الله سبحانه جعل عزّ العبيد في التواضع له، أما المستكبرون والمتفاخرون طغياناً فجزاؤهم عند الله الذّل، فلنتعلّم أن نعمل لله، وأن نتواضع أمام الله، وأن لا نذكر أنفسنا بخير إلا حيث تقضي الضرورة ويرضى الله عزّ وجل.
“(من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام بعد تلاوة ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)… أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خَوَتْ، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبراً، أحقُّ من أن يكونوا مفتخراً…”(1).
لماذا نسترجع ذكر أمواتنا؟ نسترجعهم أمام الآخرين افتخاراً، وبمَ نفتخر من الموتى؟ إنما نفتخر بأمور دنياهم في الأكثر؛ بقوة جسد، وقدرة بطش، وجمع مال، وكثرة بنين، وظهور في الناس، وهل بقي شيء من ذلك نفتخر به؟! كل ذلك قد ذهب وانتهى، وما بقي إلا مكانُ أن صُرِّعوا، ومكان أن دُفنوا، لم يبق منهم إلا تراب في تراب، أو أعضاء تمزّقت وتناثرت، وكان فيها الدرس الكبير، وبقي منهم أعداد وأرقام ليس وراءها شيء، إنها أعداد، لكن ما وراء تلك الأعداد؟ رميم، أجسام اختلطت بالأرض، أجسام لا يسترها إلا أن ووريت الثرى، أما لو كانت على ظهر الأرض لتفّرت وقززت ولو بعد حين، وما كان لأحد أن يفتخر بتلك الأجسام. بقيت أعداد من هلكى لا يدفعون ولا يمنعون، ولا يردّون عنهم كلمة.
“أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خَوَتْ” هذا الذي نعيده على مسامع الناس من أن جدّي وجدّ جدّ أبي كان الغنيَّ، وكان القويّ وكان القهّار إنما هو حديث عن أجساد خوت، وما تستعيد منهم إلاّ حركات سكنت؟! كل حياتهم بقيت قصّة، فلا بطش، لا قوة، لا مال، لا جبروت، لا تأثير، لا فاعلية.
“ولأن يكونوا عبراً، أحقُّ من أن يكونوا مفتخراً…” مآل الآباء والأجداد والأمهات والجدات من ناحية البدن مبعث عبرة، وفيه الدرس الكبير، وما أحق بسليل أولئك أن يقف وقفة اعتبار، وأن يتفكر مليا في مصيرهم ومصيره، وأن عليه أن يستغلّ هذه الحياة في مرضاة الله.
وإذا كان لأبي دور يرضاه الله فهو له وليس لي، وهو من الله وليس منه، فبمن يُفتخر؟!
“لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا ذكر لنفسه فضيلة قال: ولا فخر”(2).
والناس مفتخر يَحسَبُ نفسه أنه بلغ الغاية، ولم يبق منه إلا أن يُشهر بطولاته ومكارمه وإنجازاته الضخمة، ومآثر شخصيته الفذّة. وهذا قد اختار أن يقف عن طلب الكمال وهو جهل، وآخر مؤمن بأنه برغم ما أتاه الله عزّ وجلّ من كفاءات ومواهب لا يملك أن يرقى عن واقعه درجة، وهو فاقد للإرادة بأن أن يتقدم إلى الأمام ولو خطوة، وهو حكم على نفسه بالشلل والتعطّل والقعود عن السعي إلى الغاية.
وآخر يدرك أنه شيء، وأن له منجزات، وأنه يستطيع أن يعطي جديداً، ويتقدم أكثر مما تقدّم، فهو دائم السعي، دائب الحركة إلى الأمام، وله الإضافة بعد الإضافة، والرقي بعد الرقي، لكنّه لا يفخر، وهو يردّ كل قدرته وتوفيقه وخيره إلى الله، ويستصغر نفسه وموقعه ودوره أمام المسافات غير المحدودة التي عليه أن يقطعها في اتجاه الكمال الذي يريده الله سبحانه وتعالى له.
واستصغاره ذاك لنفسه ودوره وموقعه لا يعطّله، وإنما يدفعه إلى طلب المزيد من الكمال على طريق ربّه واتجاهه إليه شاكراً مستغفراً تائبا إليه. فكن الثالث يرضك الله سبحانه وتعالى.
“قال الأسود بن قيس: جاء عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عائداً صعصعة فدخل عليه فقال له: يا صعصعة لا تجعلنّ عيادتي إليك أبّهةً على قومك، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن نعمةً وشكراً.
فقال له عليّ عليه السّلام: إن كنت لما علمت لخفيف المؤونة عظيم المعونة، فقال صعصعة: وأنت والله يا أمير المؤمنين إنّك ما علمت بكتاب الله لعليم، وإنّ الله في صدرك لعظيم، وإنّك بالمؤمنين رؤوف رحيم”(3).
زيارة علي عليه السلام وهو أمير المؤمنين وهو رأس الإيمان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ورأس الدولة، وقمّة الهرم السياسي يتّخذ منها البعض مفخرة، وتحدث مخيلة في نفسه، وأنه لو لم يكن الكبير لما زاره أمير المؤمنين عليه السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام كان يخشى أن يمسّ شيء من هذا الشعور القتّال نفسية صعصعة، وهو يعرفه أنه على شأن من الإيمان، ومن العقل، والرزانة، والانضباط، ولكنه يبقى البشر الذي يحتاج إلى تنبيه، ويحتاج إلى توجيه، فقال له: يا صعصعة لا تجعلنّ عيادتي إليك أبّهةً على قومك” فتتيه على أصحابك، وتفتخر بأن أمير المؤمنين عليه السلام اختارني من بينكم فخصّني بزيارته، لتسجّل تفوّقاً في نفسك على الآخرين.
“(في المناجاة) إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً”(4).
بلى، أكبر العزّ، وأكبر الفخر أمام هذا العبد هو أن يقف الذليل الخاضع المسكين المستكين بين يدي الله ليتغذّى عزّا، وليسمو ويرتفع، ويثق بالعطاء المستمرِّ، والدعم غير المحدود، وإلا فأي طريق آخر يمكن لهذا الإنسان أن يلتمس منه عزّاً، والعزّ والفخر عن قوّة، والعزّ والفخر عن غنى؟ نعم إنما يكون ذلك عن غنى، وعن قوّة، وعن رسوخ، وعن امتداد، ولا شيء من هذا كله لهذا الإنسان إلا من فيض ربه تبارك وتعالى.
“افتخر رجلان عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: أتفتخران بأجساد بالية، وأرواح في النّار؟! إن يكن لك عقل فإنّ لك خُلُقاً(5)، وإن يكن لك تقوى فإنّ لك كرماً(6)، وإلاّ فالحمار خير منك ولست بخير من أحد”(7).
فلنطلب الإنسانية التي يشير إليها أمير المؤمنين عليه السلام، ولنسلك الطريق الوحيد إلى العزّة وإلى الكرامة، وهو طريق العقل والتقوى، ولا عقل يقوم عليه الخلق الكريم، وتقوم عليه التقوى إلا عقل هدى إلى الله، وشدّ صاحبه إليه.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله:”الفقر فخري”(8).
أي فقر؟ فقر المادّة؟ لا، وإنما أن يعيش شعور الفقر والذلة بين يدي الله، والخضوع والاستكانة وروح السجود والخشوع التي تعمّ كل حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكفنا زلّة القدم، وقنا مواقع الندم، وأخرجنا من كلِّ الظّلم، ونجّنا من مضلات الفتن، وضاعف لنا النعم، وادفع عنّا النقم يا مالك الخير والشّر، يا أرحم من استرحم، يا عالماً لا يُعلَّم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً دائماً لا ينقطع أبداً، ولا يحصي له الخلائق عدداً، حمداً يفوق كلِّ حمد، ولا يقف عند حدٍّ. مطلقٌ جلاله وجماله وكماله، لا نظير له ولا شبيه، متعال عن كل كمال تتصوره العقول، أو تذهب إليه القلوب، أو تناله الأوهام وإن بعدت، والخواطر وإن أوغلت.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله؛ وإنما مكان التقوى القلوب، وهي محيية لها بالصلاح وحب الخير، وكراهة الشر. ومن صلُح قلبه ملك جوارحه، واستقام أمرها لإرادة الخير فيه؛ فجاءت أعماله كلّها صالحة، وما أمر النيّة هو الآخر إلا تابعٌ للقلب كذلك، فإن طهر طهرت، وإن رجس كان لها من رجسه أيّ رجس، ومن خبثه أي خبث. وليس من شيء يُصلح قلوب العباد ويحميها من تذبذبها ووهنها وسقوطها كتقواها.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم نوّر قلوبنا بنور الإيمان، واعمرها بالتقوى، واجعلها مسكنا لذكرك، وحبّك، والشوق إليك، ولا تجعل للشيطان علينا سبيلا، ولا لضلالة عندنا قبولا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك في بلادك، والقادة إلى رضوانك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات الأعزاء فإلى هذه المحاور:
الوحدة بين الإلغاء والاحترام:
1. تتكوَّن الأمم، والدول، والأقطار في العادة من أكثر من قوميّة أو دين أو مذهب أو قبيلة أو لغة، وهي محتاجة للوحدة أو التآلف حتى تنتظم أمور الحياة فيها وتتقدم وترقى، وتكفى النزاعات الواسعة الدائمة المرهقة والمكلفة والمهلكة.
2. والوحدة يمكن أن يطلبها الطالبون عن أحد طريقين، ويتصوروا لها أحد أساسين: الإلغاء والاحترام. الإلغاء أساسٌ باطل، وفاسد، وغير منتج. الإلغاء مقدّمة الافتراق، والبغضاء، والكره، والاحتراب والفوضى، ودمار الأوطان. والاحترام أساسٌ حق، وصالح، ومنتج، يرسّخ الأخوات، وينتج السلام والأمن، ويوافي بين الجهود على طريق المصلحة المشتركة، فتجد السواعد كلّها في جهد متناسق لإشادة البناء على الأرض، ولصلاح الإنسان.
3. والاحترام هو احترام كل طرف للطرف الآخر، احترامه لإنسانيته وكرامته، وهو احترام للخصوصية القومية والدينية والمذهبية واللغوية، واحترام لحقوق المواطنة، ويتمثل في المساواة في الحقوق، وفي الاشتراك العملي الحقيقي في الشأن العام المشترك.
4. وعن أساس الوحدة عند الدولة في بلدنا الكريم هذا توجد دعويان وطرفان هما الحكومة وإحدى الطائفتين الكريمتين. لا يوجد صراع بين طائفتين، يوجد خلاف بين الحكومة والشعب على مستوى، ثمّ هو بين الحكومة وطائفة معيّنة. وهو خلاف تذهب فيه الحكومة إلى أنّها تأخذ بمبدأ الاحترام، ويذهب فيه الشعب بصورة عامة إلى أن الحكومة تذهب فيه إلى مبدأ الإقصاء، وتذهب فيه طائفة معيّنة إلى أن الحكومة تستهدف الإلغاء. هذا هو الواقع، ومن غير زيادة، ومن غير تحقيق وتدقيق في الموضوع لأن الصورة واضحة في الخارج.
5. نقول: فلتقبل الحكومة بحوار وطني لا طائفي، وهو حوار موضوعه الحقوق والواجبات، ولغته لغة الأرقام لا اللغة الإعلامية الخطابية، وطرفاه هي، والمؤسسات السياسية التي تمثّل وجهة النظر الأخرى، لأن هذا سيتيح أجواء هادئة يمكن للحوار فيها أن يعيش موضوعيته، وأن يعيش هادفيته القادرة على إيصال السفينة إلى شاطئ الأمان.
الحكومات مؤتمن أو مالك:
الحكومات قسمان: حكومات شرعية وحكومات غير شرعية.
والشرعية شرعيتان: شرعية إلهية دينية، وشرعية أرضية وضعية.
والحكومات الفاقدة للشرعية مطلقا كالحكومات الطاغوتية التي تفرض نفسها على رقاب الناس فرضاً لا مالكة للمال العام في أصوله الأولية ولا في ناتجه ولا هي مؤتمنة.
من هو المؤتمن لها على المال؟ من أين ملكت المال؟ وهي لم تخلقه، ولم يكن هناك سبب خاص عقلي ولا ديني ولا عقلائي يعطيها الملكية الاعتبارية. لا ملكية اعتبارية في هذا الغرض على أساس من ملكية تكوينية يقرّها العقل، ولا على أساس عقلائي، ولا على أساس من دين.
وعندئذ فكل تصرف في المال العام من مثل تلك الحكومات هو من التصرف الباطل، وهذه هي النتيجة الطبيعية لعدم الملكية، وكون اليد ليست يد أمانة، وهي ضامنة إذا لم يكن إمضاء للتصرف، أو إبراء للذمة.
أما الحكومة الشرعية فالدقيق في حقها أنها مؤتمنة على المال العام وليست مالكة، وهذا الائتمان ائتمان إلهي واقعا وحسب النظر الشرعي على تقدير شرعية الحكم بالشرعية الإلهية، وهو ائتمان شعبي بشري على تقدير شرعية الحكم بالشرعية الديمقراطية الأرضية وموافقة أغلبية المحكومين على نظام الحكم.
على أن المالك الحقيقي على كل تقدير إنما هو الله سبحانه، وكل تفويض أو ائتمان إنما يجب أن يكون بإذنه.
وإذا كانت النتيجة أن الحكومات غير مالكة للمال العام على كل التقادير لم يكن لها حق التصرف إلا في حدود إذن المؤتمن(9) من شريعة إلهية أو شعب.
وكل تصرف خارج هذا الإذن هو تصرف باطل ومضمون على صاحبه، ولا يصح للمؤتمن أن يتصرف في المال العام تصرف المالك في ملكه لنفسه فضلا عن غيره. هذا ما عليه العقل والدين والعقلاء والدساتير الصالحة في العالم.
الحملة المضادة للتعذيب:
تبنى عدد من الجمعيات السياسية في البحرين حملة مناهضة للتعذيب والعقوبات الجماعية والأحكام الجائرة لإيمان هذه الجمعيّات وغيرها بممارسة التعذيب في مرحلة التحقيق مع الموقوفين في القضايا السياسية، وانتشار ظاهرة العقوبات الجماعية التي تطال مناطق مختلفة، وكون صدور الأحكام في كثير من القضايا السياسية عن طريق الاعتراف تحت التعذيب وبدرجة مشدّدة.
والحملة بمالها من مبرّرات موضوعيَّة على الأرض، ومن هدف سليم، وبما تلتزم به من أساليب مناسبة، ووسائل سلميّة أمر مطلوب جدّاً، وهو مبارك من الشعب ويعبّر عن رأيه، ويمثّل تجاوباً مع شعوره بضرورة أن يرتفع الصوت المطالب بحقوقه والدفاع عنه.
وهذا الموقف من المؤسسات المشار إليها غني بطبيعته وضرورته الملحة عن الحاجة إلى الحث على التفاعل الشعبي معه وإسناده.
وإنه لحقيق بالجمعيات المتبنية له أن تعطيه حقّه الكبير من الجدية والاهتمام، وتواصل – ومعها الشعب – التركيز عليه انتصاراً للحق، ووفاء للشعب، وإخلاصاً للدور المنشود، وخدمة للوطن واقتراباً بالوضع العملي من خط العدل والأمن والمصلحة العامة.
وهو واجب اجتماعي ووطني، وقبل ذلك فإنه واجب من واجبات الدّين القويم الذي يشدّد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن التوقف عن تعذيب الموقوفين في كل الأحداث السياسية، والعقاب الجماعي، والأحكام القاسية، ومداهمات البيوت، وكذلك إطلاق سراح جميع الموقوفين، واستقلال القضاة عن ضغوط السلطة التنفيذية، وتمكّن المتهمين من الحصول على كل حقوقهم في مراحل التحقيق والمحاكمة وهي الأمور التي تطالب بها الجمعيات الست كلّها مطالب شعبية عامّة وتهم كل مواطن يفكِّر في مصلحة وطنه، وأمنه واستقراره، واحترام إنسانه وكرامته، وإقامة العدل على أرضه.
من حرب إلى حرب:
لا زالت أمريكا منذ حرب الخليج الأولى تشعل المنطقة بالحروب الملتهبة الطاحنة، وتأخذ بها من حرب إلى حرب، ومن فتنة إلى فتنة، وهي حروب أمريكية ضد المنطقة وأهلها وخيراتها وأمنها وضد الأخوة العربية والإسلامية فيها سواء كان خوضها لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
هذه الحروب ومنها الحرب التي تتوعد بها هذه الأيام هدفها أمريكي، وتوقيتها أمريكي، وتصميمها أمريكي، وأخلاقيتها الساقطة أمريكية، ومن أجل المصالح والمطامع الأمريكية والتوسع الغاشم الأمريكي، ولخدمة القيم المادية الأمريكية، ولحماية إسرائيل وتسييدها في المنطقة العربية والإسلامية، وتتمشى مع أهداف مشروع التقسيم والتشظية للبلاد الإسلامية والعربية وهو مشروع من المشاريع بالغة الأهمية في النظر الأمريكي.
وهي حروب مسرحها الأرض العربية والإسلامية، وبأموال المنطقة، وعلى حساب مصالحها، ومن آلاتها ووقودها وضحاياها إنسان هذه الأرض في الأكثر وهو المتضرر الأول بآثارها السلبية على المستوى البيئي والصحّي على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وهو الذي يحصد نتائجها المرّة على المستوى النفسي والاجتماعي والديني، ويخسر ترابطه وأخوّته وثقته بأخيه(10).
وتعمل الآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة مسندة من إعلام عربي للترويج لهذا النوع العدواني الظالم من الحروب والمعادي لمصالح الأمة، ودينها، وقيمها، وتعاليم شريعتها، وواجب الأخوّة الإسلامية المخاطبة به، وتبريره، وسوق الرأي العام العربي سوقا في اتجاه مباركة هذه الحروب الباغية الآثمة، ومناصرة أمريكا، والفرح بجرائمها التي تستهدف الجميع وتفتك بمصلحة الأمة وتعطل حركتها وتحرق منجزاتها وتبعثر نسيج وحدتها.
وهذا الواقع يضع الشعوب العربية والإسلامية أمام امتحان للوعي والإيمان والتمسك بقيم الدين الإلهي، والقدرة على تشخيص العدو الحقيقي والدائم، ومصدر الخطر المحقق.
وحين يذهب وهم الرأي العام العربي والإسلامي إلى أن المصلحة في الصداقة والوثوق والركون إلى العدو الإسرائيلي، والجبّار الغاشم الأمريكي، وأن الاحتراس الأكثر يجب أن يكون من بعضنا البعض، وأن يكون موقفنا الداعم لإسرائيل وأمريكا، وفرحنا بنصرهما فهذا آخر ما يمكن أن ينحط إليه مستوى الفهم عندنا، وأشد ما يمكن أن يصل إليه ضياع الدين على أيدينا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأطياب الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ردّ كيد أعدائك عن أوليائك، واحم حمى دينك، وانصر حزبك، وأعزّ جندك، واقمع المفسدين في بلادك وعبادك، وأظهر كلمة الحقّ واجعلها العليا، وأدحض كلمة الباطل واجعلها السفلى يا مالك الأمر كلّه، يا من لا يضاده مضاد، ولا ينازعه منازع يا قوي يا شديد.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ج2 ص205.
2 – بحار الأنوار ج16 ص341.
3 – الغارات ج2 ص524.
4 – بحار الأنوار ج74 ص400.
5 – من كان له عقل لابد أن يقوم على العقل عنده خلق كريم، والخلق الكريم علامة العقل، ولا يفترقان. نعم، يمكن أن يكون عنده عقل شيطنة بدون خلق أما عقل الحكمة، والعقل الهادي وهو المعنى فلا بد أن يتبعه الخلق الكريم.
6 – لك موقع، لك شأن، لك عظمة حقيقية.
7 – بحار الأنوار ج41 ص55.
8 – بحار الأنوار ج69 ص30.
9 – رسول الله صلى الله عليه وآله فيما يُرى مؤتمن على المال العام من قبل الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يستطيع رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتصرف أدنى تصرّف في المال العام إلا بإذن من ربه تبارك وتعالى، وتشريعه ربه.
10 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لأمريكا).