خطبة الجمعة (323) 25 ربيع الثاني 1429هـ – 2 مايو 2008م
مواضيع الخطبة:
* متابعة لحديث ذكر الله *أولاً: ما كان متوّقّعاً *ثانياً: إصلاح وخمر ومجون وعُهر *ثالثاً: مجتمع ودين وسياسة *رابعاً: إسلام بلا مراجع، ومراجع بلا إسلام
يريد المناوئون لأمتنا، المعادون للإسلام من الخارج والداخل إسلاماً بلا فقهاء أفذاذ أمناء صالحين أتقياء ترجع إليهم الأمة في فهم الدين وفقه الشريعة، وتأخذ برأيهم في مسيرتها.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يصدر منه إلاَّ الجميل، والجميلُ كلُّه عائدٌ إليه، ولا مصدرَ أوَّلَ للخير غيرُه، رحيمٌ غفور، حليمٌ شكور، لا ينسى من ذكره، ولا يُخيّب من سأله، ولايَجزي بالقليل من شكره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله، والعمل على إصلاح النَّفس، وردعِها عن الشّر، وحملها على الخير بذكره، فمن ذكر الله سبحانه حقَّ ذكره نقت روحه، وزكت نفسه، وكان لها من خشيته ما يمنعها من القبيح، ومن الطّمع في ثوابه ما يحثُّها على الصّالحات، ومن حُبّه ما يسوقها للفضائل، ومن طلب قُربه ما يشدّها للمعالي، ويصل بها إلى بعيد المراقي، وجليل المراتب.
وإنَّ النّفس الذاكرة لله عزّ وجلّ لا تستهويها رذيلة، ولا تتخلّف عن فضيلة، ولا تأنسُ لشرٍّ، ولا يثقل عليها خير، ولا تقصرُ بها الخطى في صالح.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اعمر قلوبَنا بذكرك، واشغل أوقاتَنا بطاعتك، واستنفد مُدَّتنا في محبَّتك، والسعي إليك، والتذلّل بين يديك، وطلب مرضاتك، وأدِمْ جهادَنا في سبيلك، وخدمة دينك، ونصرة أوليائك، والمستضعفين من عبيدك وإمائك، ولك الحمد أجلُّه، والشكر أفضلُه يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
أما بعد فمع متابعة أخرى لحديث ذكر الله:
عن عليٍّ عليه السلام:”… وإنّ للذّكر لأهلاً أخذوه من الدّنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيّام الحياة…”(1).
إنّما كانوا أهل الذّكر بمداومتهم عليه، وصدقهم فيه، وتعلّقهم به؛ تعلّق شغف وشوق شديدين، وإذا كان للدّنيا -أهل وهو كذلك- فإنّ لذكر الله أهلاً كما هو حقّ.
أناسٌ يبيعون أنفسهم للدنيا، وأناس لا يبيعون أنفسهم إلا لله، أناس ينشدّون بكلّهم إلى أيّام قليلة في الدّنيا، ومتعٍ رخاص، أما نفوس أخرى هي كبيرة فلا تأنس إلا بالله، ولا تتجه إلا إليه، ولا ترضى إلا به.
أهل الذّكر تواجههم التجارة كما تواجه الآخرين، ويرون من زينة الدنيا ما يراه الآخرون، يسمعون عمّا في الدنيا كما يسمع الآخرون، ويرون منها ما يرى الآخرون. الآخرون إذا سمعوا ورأوا ما في الدنيا انجذبوا إليها، وكان لها من سحرها عليهم سلطان لا يُغلَب، أما الذين كبُرت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وشعّت بالإيمان أرواحهم فما يسمعونه عن الدّنيا وما يرونه لا يستقطب منهم همّاً، ولا يثير فيهم إرادة، ولا يجد له في داخلهم من حبٍّ وتعلّق، فقد شغلهم جمال الله وجلاله وكماله.
أهل الذّكر يقطعون به الحياة، ولا يُعوِّضهم عنه شيء منها، ولا يجدون الأُنس إلا فيه، ولا يشعرون بمعنىً لهم ولحياتهم إلا من خلاله. فهذه الحياة غابة، وهذه الحياة ظلمة موحشة عندهم إلا بذكر الله.
في كلمة أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام:”… وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله مارأوا من الزّينة…”(2).
من هم الفقهاء حقّاً؟ الفقهاء حقّا هم أهل فكرة وعبرة، كانوا على علم جمٍّ من فقه الشريعة، أم كان لهم حظّ أقل من ذلك، لكن ما دامت قلوبهم متعلّقة بالله، وما داموا أحياءً فكراً موصولاً بذكر الله، ما داموا يتلقّون دروس الحياة والموت والفقر والغنى وكل التقلّبات بوعي، ما داموا لا يمرّون على آيات الله صُمّاً وعمياناً فهم فقهاء. وفقهاء لا يتّقون الله إنما هم جهلة وأموات وليسوا بالفقهاء.
المؤمنون الفقهاء المفكِّرون المعتبِرون المطالعون لدروس الحياة بوعي، المستفيدون منها لن يصمّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم. الثروة العريضة، الرقم الكوني المالي المعيّن، جمال فلانة، منصب فلان، شهرة فلان، المكسب الاجتماعي الضخم، كلّ ذلك يسمعونه، ويرون جمالا، ويرون مالا، ويرون زينة، وأمامهم الفرص المتاحة، لكنّ شيئا من ذلك لم يغرهم، ولم يقفوا عنده ليقطع عليهم رحلتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
الطفل تستوقفه اللعبة البرّاقة، الطفل يستوقفه المنظر الذي لا يعبأ به الكبير، إن لعبة نارية صغيرة لتستحوذ على مشاعر الطفل وتستقطب منه نفسه كلّها، لكنك بوعيك، وفهمك، وخبرتك لا تعطي الاهتمام لتلك اللعبة النارية، ومن عرف الله كان أكبر الناس وعياً، وأصفاهم قلباً، وأشعّهم روحا، وأرقاهم ذاتا. فإذا تساقط الرجال والنساء ممن يُعدّون عظماء أمام زينة الدنيا؛ ومالها، حلالها، حرامها فإن نفراً ممن وعوا الحياة لا تستوقفهم الدنيا ولا تستقطبهم. نعم، يمرّون بها عابرين، وكل توجههم لله تبارك وتعالى.
أما أولئك ممن نُسمّيهم عظماء، وهم صغار، ممن لم يستفيدوا عبرة ولا عظة من دروس الحياة فتصمهم الدنيا عن سمع آيات الله؛ السمع المفيد، وتعميهم زينتها عن رؤية عظمته، فيتلهّون بالدنيا كما يتلهّى الأطفال بما بين أيديهم من لعب صغيرة.
وسنكتشف جميعاً في يوم من الأيام، يوم نلقى الله بالتحديد، ويوم النشور أن الدنيا صغيرة أمام الآخرة، وأن دنيانا إذا قيست بالآخرة بانت زيفا إلا ما أوصل منها إلى الله سبحانه وتعالى. سنكتشف عند ذاك أننا قد خسرنا كل شيء، لم نربح شيئا حين انفصلنا عن الله، وكان كل انشدادنا للدنيا.
هذا حديث آخر (في حديث المعراج في صفة أهل الخير)(3)”.. إذا كتب الناس من الغافلين كتبوا4 من الذَّاكرين… لا يشغلهم عن الله شيءٌ طرفة عين(5)… النّاس عندهم موتى، والله عندهم حيّ قيّوم كريم.. لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق”(6).
هؤلاء النّاس أصحاب الحركة الدؤوبة الجادّة، وأصحاب الإنجازات الضخمة، وأصحاب القرار النافذ، وأصحاب السلطان العريض لا تراهم نفوسٌ تعلّقت بالله إلا أمواتا، لأنها لا ترى لأحد فاعليّة في هذا الكون ما لم تكن وراءها فاعليّة الله، فالحيّ القيّوم الواحد هو الله سبحانه وتعالى، وكلّ الآخرين إنّما حياتهم تتنزّل عليهم بمقدار، ولا إرادة لهم إلا من إرادة الله، فهم في أنفسهم أموات، وإذا رأيت في أحد حياة فهي من فيض حياة الله، وإذا رأيت عند إنسان إرادة فهي من عطاء الله، فالحيّ القيّوم المريد بالحق إنما هو الله وحده.
أما كل الممكنات فهي في حدّ ذاتها، ومن غير تنزّل فيوضات الله موت وضعف وفقر وعدم.
وهذه مجموعة أحاديث في مصبّ واحد من المعنى:
“عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجل:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}(7)” قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الذّكر أنا، والأئمّة عليهم السّلام أهل الذّكر”(8).
أيضاً “الكتاب الذّكر وأهله آل محمد صلى الله عليه وآله”.(9)
“عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(10) قال: الذكر القرآن ونحن قومه ونحن المسؤولون”(11).
“الذكر رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته أهل الذكر، وهم المسؤولون.”(12)
فالذكر الأول القرآن، الذكر الثاني هو الرسول صلى الله عليه وآله، المحتضنون للذكر، المنفعلون به، الحملة له، المتشبّعون به، المشتغلون به، الناشرون له، المرجع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فيه هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وهم أمناء الأمة وحفظتها، المسؤولون بين يدي الله عزّ وجلّ عنها. وإذا سُئل أحد عن الذكر سئل أهل البيت عليهم السلام، فلا ذكر بالحقّ والصدق مع الضمانة بأنّه لا ميل فيه عن خطّ الله عزّ وجل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى مستوى الإنسان إلا هم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل و سلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم يارحمن.
اللهم اجعلنا من الذّاكرين الشاكرين دائمي الذكر والشكر لا الناسين ولا الغافلين، واملأ قلوبنا بالحق، وأجرِ على ألسنتنا الصدق، وعلى أيدينا الخير، وأبعدنا عن الشر وأهله، وأصلح لنا ديننا ودنيانا يا حنّان يا منّان يا رؤوف يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا شيء إلا من خلقه، ولا حياة إلا من فيضه، ولا رزق إلاّ من فضله، ولا بداية ولا منتهى إلا بتقديره، ولا زيادة ولا نقص، ولا تغيير إلا بإذنه، ولا شيء فوق إرادته، ولا يتفلّت متفلِّتٌ عن مشيئته، ولا يُخلِّص من غضبه إلا رضاه ورحمته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولا يدْخُلَنَّ داخل في مضادّته ومعاندته ومكابرته. وكيف للمملوك أن يُضادّ المالك؟! ومن أين للمرزوق أن يعاند الرّازق؟! وهل للمدبَّر أن يكابر المدبِّر؟! وبأي وجه يناهاض المرفود الرافد؟! بِمَ ينازل العبدُ ربَّه بوجوده ووجوده من عنده؟! بحياته وحياته من فيضه؟! برزقه ورزقه من فضله؟! بقوّته وقوّته من مدده؟! بيد، برجل، بسمع، ببصر، بعلم، بفهم، بحيلة، بمكر، وهل شيء من ذلك إلا بيده سبحانه وتحت أمره وفي قبضته؟! نعم ولا وجود لشيء آناً ما إلا بإذنه ألا فليرحم أحدُنا نفسَه، ولا يدخل في معصيةِ ربِّه، ولا يُغرنّ غرور الطفل الذي لا يدري ما الأمر فيتطاول على ربّه.
نعوذ بالله من الجهل، ومن مكر الشيطان الغَرور، والنفس الأمّارة بالسوء، ونسأله تعالى العصمة من الذنب، وتسويف التوبة، والاستراحة إلى الحوبة، والتعرّض لسخطه، واستحقاق نقمته.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حجج الله على عباده: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، اللهم عجّل فرجه وظهوره، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمشاركين في بناء دولته.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فللحديث محطّات أربع:
أولاً: ما كان متوّقّعاً:
1. مقاما ومسجدا صعصعةَ والشيخ إبراهيم لا غبار على تبعيّتهما لدائرة الأوقاف الجعفرية، وعلى تبعيتهما للطائفة قبل تأسيس الدائرة المذكورة، ولا ينبغي أن يختلف اثنان على ذلك، ويد الدائرة المذكورة هي الموضوعة عليهما والمسؤولة عنهما قديماً وإلى الآن. والذي وصلنا أن الديوان الملكي لا يشكِّك في ذلك، بل يؤكّده.
2. وفي ظل هذا الواقع الواضح فيما يتّصل بالمسجدين جاء إعلان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية المتعلق بإعادة بناء مسجد صعصعة باسمه المحفوف بقرائن تدل على توجّه غريب مستنكَر لنقل تبعية المسجد إليه بدل الأوقاف الجعفرية؛ جاء ذلك ليكون مفاجئةً مذهلة، وتصرُّفاً بعيداً عن كل الأصول الدينية والعقلية والعقلائية والوطنية، وعلى خلاف موازين العدل والإنصاف واحترام الآخر. إنه لأمر نُكْرٌ ما كان متوقعاً، وما كان لِيَرِدَ في الحسبان.
3. واختار العلماء أن يوصلوا وجهة نظرهم المتعلقة بالموضوع بصورة واضحة إلى ملك البلاد عن طريق شخصية سياسية مقدَّرةً عند الطرفين، ومن خارج الصف العلمائي، وتتضمن وجهةُ النظر فيما تتضمنه أمرين صريحين: الأول أن يتخلّى المجلسُ الأعلى للشؤون الإسلامية عن خطوته وإعلانه المتعلّق بالموضوع نهائياً باعتباره لا يُمثّل الجهة ذات الاختصاص ولا ولاية له على المسجدين إطلاقاً. وكان المطلوب والمؤمّل أن تُعلن الشؤون الإسلامية عن ذلك صريحاً. والثاني أن يُتاح لعملية بناء المقامين والمسجدين الشريفين أن تنطلق من دون معوِّقات وعراقيل وبالإسم الصريح لدائرة الأوقاف الجعفرية بغضّ النظر عن الجهة المموِّلة حيث إن الدائرة المذكورة هي صاحبة الحق والمسؤولة عن المسجدين تاريخاً وواقعاً حاضراً، وديناً وقانوناً وبكل اللحاظات الأخرى المعتبرة.
واتجه خيار العلماء إلى أن تُسلّم وجهة نظرهم إلى الشخصية السياسية المشار إليها سابقاً مكتوبة لضمان دقة النقل على أنها لم تكن بصفة رسالة خطيَّة إلى الملك وإنما كانت ذات طابَعٍ شفهي.
4. والجواب الذي تلقَّاه العلماء من الأخ حامل الرسالة أنّ ملك البلاد قال بعد نظره في الموضوع والمراجعات التي ارتآها بأن تبعية المسجد تبقى راجعة إلى دائرة الأوقاف الجعفرية كما كانت من قبل وإلى الوقت الحاضر.
5. ويرى العلماء مع ذلك أن حسم المسألة حسماً نهائيّاً عادلاً ومطابقاً لما هو الحق الثابت واليقيني إنما يتمُّ بتيسير كل الأمور لإعادة بناء المسجدين باسم دائرة الأوقاف الجعفرية صاحبة الاختصاص والمسؤولة رسميّاً عن الصيانة والحفظ والإشراف والولاية عليهما وذلك بالسرعة المطمئنة والتي تكفي لدرء أي حالات من حالات الاحتقان والبلبلة.
وبناء المسجدين باسم دائرة الأوقاف الجعفرية من دون تعطيل لضمان بقائهما تحت إشراف الدائرة بعنوانها الخاص كما هو الحق الثابت المفروغ منه هو العنصر الرئيس في وجهة نظر العلماء التي سُلِّمت مكتوبة إلى الأخ المشار إليه لحملها إلى حضرة الملك.
6. وواضح أن الاستيلاء على المسجدين من قبل أي جهة رسمية غير الأوقاف الجعفرية ظلم فاحش له دلالاته الخطيرة الحالية والقادمة، وآثاره السيئة البغيضة:
فهو عملية غصب محرّمة لا تصح بين شقيق وشقيقه. وهو مظهر من مظاهر الاستضعاف الدنيوي. ومظهر من مظاهر الاستضعاف الديني. ومظهر من مظاهر الفُرقة الجاهلية. ومظهر من مظاهر الإذلال المقيت. وشيء من هذا لا يكون مقبولاً على الإطلاق، ولا بد أن يُنكر ويُدرأ.
ثانياً: إصلاح وخمر ومجون وعُهر:
1. أيجتمع إصلاح وخمر ومجون فاحش وعُهر؟!! وهل إذا اجتمع ذلك كلّه في عُرف بعض الناس يجتمع كذلك في دين الله ومنهجه وشريعته؟!!
وهل يتحقق إصلاح للأرض، ولأوضاع الإنسان في الخارج في ظلّ استهداف مخطّط وجادّ لإفساد الإنسان نفسه، عقله، روحه، إرادته، أهدافه، دوره ووظيفته في هذه الحياة؟! أو إن إشاعة الخمر والمجون الفاحش، والتفسخ الخلقي، والتميّع، واللهو الذي نهى الله عنه، والعهر الذي حرّم هو الطريق الموصل لإصلاح الإنسان، ورقي عقله، وطهر نفسه، وسموّ روحه، وقوّة إرادته، ورفعة أخلاقه، وزيادة إنتاجه وجودته، وصحة سلوكه وإخلاص تعامله لتصلح على يده الأرض، وتتقدم الأوضاع، ويكون له السبق والعظمة والمجد؟! “ما هكذا تورد يا سعد الإبل”.
2. حفلات الرقص الساقطة الفاجرة، وحفلات الغناء المتهتكة المائعة، وجمع النساء والرجال في أجواء لاهبة مثيرة للجنس، واستيراد سافلة بعد سافلة، وساقط بعد ساقط لتسميم الأجواء الأخلاقية لهذا البلد الكريم إفساد. يا قوم للإنسان والأرض والأوضاع لا إصلاح، وسخرية بهذا الشعب وقيمه، واستفزاز من استفزاز الصبيان، وعداء للدين، وعبث بهُوية الأمة، وتخريب للأمن، وتحدٍّ للإرادة المؤمنة.
أتريدون أن تفسدوها أكثر مما أفسدتموها وتفسدون؟!
حفلاتكم الماجنة مصمّمة لإنهاك الحالة الأخلاقية في هذا البلد، وجرّ الناس إلى الباطل، وتخدير المشاعر، وتمييع الإرادة، وقتل الرجولة، والتغرير بالشباب والشابات، والإلهاء عن المطالبة بالحقوق، والقضاء على روح العزّة والكرامة والشموخ والإباء في هذه الأمة، وفي ذلك تحقيق لمطلب إسرائيل، لمطلب أمريكا، لمطلب كل الأعداء العالمين الاستكباريين، فإنهم لا تنام لهم عين قارّة إلا إذا قضوا على روح العزّة والكرامة والإباء والشموخ والإيمان في هذه الأمة(13)، وليس من طريق أقصر لتحقيق هذا المأرب الخبيث، وإسقاط قيمة الإنسان في داخله، وتحويله إلى لعبة بيد أهواء الاستكباريين من أن تُميّع البلاد، من أن تُسمم الأجواء، من أن نركض وراء الجنس الرخيص الحرام(14).
وإن الآثار التدميرية، والدور التخريبي لهذه الحفلات لا يقتصر على من يجمعهم الهوى تحت سقف واحد على موائد اللهو والفِسق والفجور، فإن الإعلان والترويج لهذه الحفلات الشيطانية، والنعوت المثيرة الكبرى التي تُعطى لها، والإكبار والتبجيل والاعتزاز بها، وبأدواتها من راقص وراقصة، ومغنٍّ ومغنّية، ومفتنٍ ومفتنة، وفاسق وفاسقة، ليُكبِر من قيمة المنكر، ويزيّن الباطل، ويصرف عن الحق ويسمم الأجواء العامة في الساحة الوطنية كلها.
ثالثاً: مجتمع ودين وسياسة:
بلحاظ الدين وعدمه ينقسم المجتمع إلى مجتمع متدين وغير متدين، وبلحاظ السياسة وعدمها ينقسم المجتمع إلى مجتمع سياسي، وغير سياسي وبلحاظهما معاً ينقسم المجتمع إلى مجتمع متديّن سياسي ومجتمع متدين غير سياسي، ومجتمع سياسي غير متدين.
والسياسة والدين متقابلان مع كون السياسة غير دينية، فإذا كانت السياسة غير دينية كانت السياسة مقابلة للدين، والدين مقابلاً للسياسة، هذا يرد ذاك، وذاك يرد هذا، هذا يجبه ذاك، وذاك يجبه هذا، ويعيشان حالة التناقض والتهافت بينهما.
أما وهي دينية فهي جزء من الدين، فلو كان دين المجتمع كاملاً، وتديّنه تامّاً وشاملاً لم يكن تقابل بين السياسة والدين، وعندئذ فرضك المجتمع متديّناً يعني أنك تفرضه سياسيّاً كذلك. وتربية المجتمع المسلم تربية دقيقة أمينة شاملة لابد فيها من الاهتمام بالمقوّمات الرئيسة للدين، وأبعاده المختلفة ومنها البعد السياسي، وتوفير رؤية سياسية إسلامية بمعنى أنها مطابقة للمذهب السياسي في الإسلام، وأن يحمل المجتمع الهمّ السياسي والحيوية السياسية الموظّفة لصالح الإسلام.
فلا تصدق التربية الإسلامية الشاملة للمجتمع في غياب الرؤية السياسية الإسلامية، والوعي والهمّ السياسي الذي يخدم الإسلام وعدالته العملية والهوية الإسلامية للمجتمع. فالإسلام على هذا الفرض موجود ولكن بصورة عملية ناقصة.
أما انفصال التربية السياسية عن الإسلام رؤية ومفاهيم ووعيا وهمّا، وأهدافا وأساليب فهو لا يقدم للمجتمع صورة ناقصة عن الإسلام فحسب، وإنما يتمانع مع وجود الإسلام، ويضاده، ويدخل معه في مواجهة، وينتهي إلى نقض مصالحه.
إذا كانت هناك تربية سياسية على غير الخط الإسلامي، واستخدمت في الوقت نفسه عنوان الإسلام، وحملة شعار الإسلام كان الخطر أكبر، وإذا استخدم هذا الفصل عنوان الإسلام، ورفع شعاره، وأقنع أبناءه به كان ذلك افتراءً على الإسلام، وخيانة له، وإضراراً بالغا به نظرية وتطبيقاً.
رابعاً: إسلام بلا مراجع، ومراجع بلا إسلام:
يريد المناوئون لأمتنا، المعادون للإسلام من الخارج والداخل إسلاماً بلا فقهاء أفذاذ أمناء صالحين أتقياء ترجع إليهم الأمة في فهم الدين وفقه الشريعة، وتأخذ برأيهم في مسيرتها.
وليس هذا فحسب، بل يريدون للأمة مراجع فاقدين للعلم والدين، أو للدين وحده، وهذا هو المفضل فيما يقصدون إليه، فإن العالم بلا دين أضرّ على الإسلام والأمّة ممن دونه، وهو أقدر على التغرير بالناس، وأملك لأدوات الهدم والتضليل باسم الإسلام.
وإذا وُجد مراجع لهم من العلم والتقوى ما لا يمكن للأمة أن تتغافله، واستحال على الأعداء أن ينكروه، وأن يسقطوا حملته، فليكن هؤلاء فيما يخطط له أهل المكر بالأمة والدين مراجع في المسائل العبادية الفردية البعيدة عن المساس بمصلحة الاستئثار والاستغلال والاستعباد التي يحرص المستكبرون وذيولهم على التمتع بها.
وهذا الفصل بيد الأمة وفقهائها المخلصين، وعلمائها العاملين، والتحجيم لدور هذه النخبة القيادية، ومحل الوصية المؤكّدة من رسل السماء، وأئمة الدين هدف خبيث ثابت عند المستكبرين العالميين وأذنابهم، وله الأهميَّة الكبرى فيما يخطّطون.
وعلى الأمة أن تعي ذلك وتعمل على إحباطه، الإنشداد إلى من أمر الله سبحانه بالاطمئنان إليهم، وأخذ الدين منهم، ومتابعتهم ومسايرتهم، والتخندق معهم في خندق الإسلام المنتصر بإذن الله(15).
إن انشداد جماهير الأمة وشبابها وشاباتها وناشئتها بالخصوص لفقهائها وعلمائها الواعين الصادقين المخلصين، وهم الحماة الحقيقيون لدينها واستقلالها ومصالحها لأشدّ إيلاماً لجبهة المستكبرين في الأرض والمفسدين فيها من كل أمر آخر.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم الطف بنا في كل الأحوال، واكفنا شرّ الأشرار، وكيد الكفّار، وطوارق الليل وحوادث النهار إلا طارقاً يطرق بخير من عندك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارزقنا كمال الإيمان، وإخلاص الطاعة، وتمام العافية والسلامة في الدين والدنيا، وجميل ربحهما يا كريم يا رحيم. اللهم ثبّتنا على الهدى فلا نضلَّ طرفة عين أبداً يا من هو على كل شيء قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج66 ص325.
2 – بحار الأنوار ج70 ص36.
3 – هذه المقدمة المقوّسة بقوسين جاءت في كتاب ميزان الحكمة لبيان مقام الحديث وموضوعه نضيفها للاستفادة.
4 – أي جماعة مؤمنة متميّزة، أولياء، الضمير عائد على مثل أولئك.
5 – لا الجمال الأخّاد، ولا المال الضخم، ولا المنصب الذي تتصاغر أمامه نفوس الكثيرين، ولا الجاه العريض، ولا السمعة الباذخة. كل ذلك شيء رخيص، يبقى الشيء كبيرا حتى يأتي ما هو أكبر منه، ويبقى الشيء جميلا حتى يظهر ما هو أجمل منه، والجميل يضيع جماله أمام الأجمل، والكبير تذوب عظمته أمام الأعظم، ولا عظمة كعظمة الله، ولا جلال كجلاله، ولا جمال كجماله.
6 – بحار الأنوار ج74 ص24.
7 – 43/ النحل، 7/ الأنبياء.
8 – تفسير نور الثقلين ج3 ص55.
9 – الكافي: 1 / 295 ح 3.
10 – 44/ الزخرف.
11 – تفسير نور الثقلين ج4 ص604.
12 – بحار الأنوار ج 23 ص 172
13 – هتناف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
14 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
15 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).