كلمة آية الله قاسم بمناسبة وفاة الزهراء – بمأتم الاثني عشرية / 2008م

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين والطاهرين واللعنة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

تحت عنوان “العظماء أحياء”

وهل نعني بذلك أن غيرهم موتى، بصورة نسيبة نعم، أن العظماء أحياء وأن غيرهم موتى، الحياة في الناس نسبية، قد أكون حيا بنوع من الحياة، حيا في جهة، ميت في جهة أخرى، وقد يكون غيري حيا من الجهة التي أن ميت فيها، وميت من الجهة التي أن حي فيها، درجة الحياة بشكل أولي، هذا حي من ناحية بدنية، وميت من ناحية روحية، أخرى خامل من ناحية بدنية ولكنه حي من ناحية روحية، وسيأتي مزيد من التوضيح.

درجة الحياة من الجهة الواحدة متفاوتة على مستوى حياة البدن نحن متفاوتون، هذا حي بحياة غزيرة وقوية من الناحية البدنية، وأخوه حي من الناحية البدنية ولكن بدرجة خفيفة، نشاط أقل، أنتاج أقل، حركة أقل. تجدون أن الشاب القوي البنية، المفتول العضل، المليء بالحيوية والنشاط، نطلق عليه بأنه حيَّ من ناحية بدنية. الشخص الذي في السرير ولسنوات عدة، ولا يتحرك، ويأكل بالطريقة الصناعية، ويتنفس بالطريقة الصناعية، أيضا نقول عنه حيَّ، لكن أليس من فرق كبير بين هاتين الحياتين، الكل منهما حي من الناحية البدنية، فهذا نطلق عليه حي بدنيا، وهذا أيضا نطلق عليه حي بدنيا، لكن أين حياة هذا من حيات ذاك؟ ذاك يركض كذا كيلو متر، يسبح المسافة الطويلة، يقوم بالأعمال الشاقة، وهذا نفس يروح ونفس يجيء ولا أكثر، فالحياة هنا ومن بعد واحد متفاوتة في الدرجة.

نستطيع أن نقول بأن العظمة تتبع الحياة، فكلما كانت الحياة أغزر، وكانت أعم جاءت العظمة، وكلما اضمحلت الحياة، ضئلت، ضعفت فقدت العظمة، مرة عظمة مادية، ومرة عظمة معنوية، العظمة المادية ستتبع درجة الحياة، الحيَّ بحياة مادية ضعيفة لا يمكن أن يكون عظيما من الناحية الحياة المادية، الحيَّ بحياة معنوية ضعيفة لا يمكن أن يكون عظيما من ناحية الحياة المعنوية، فدرجة العظمة تتبع درجة الحياة ، وعموم العظمة يتبع عموم الحياة، إذا كان حيا من بعد واحد فيمكن أن يكون على شيء من العظمة في ذلك البعد. أما إذا كان الإنسان حيا على أكثر من بعد، في كل أبعاد وجوده هو حيَّ فسيكون عظيما في كل أبعاد وجوده، ويبقى أن نفهم الحياة المادية والعظمة المادية أكبر شأن أو أن الحياة المعنوية والعظمة المعنوية هي الأكبر شأنا، ذاك أمر آخر، لكن أقول هذا عظيم من جهة واحدة، من حيثية واحدة؛ لأن حيَّ من هذه الجهة، ذاك عظيم من جهتين؛ لأنه حيَّ من الجهتين، ثالث عظيم من ثلاث جهات؛ لأنه حيَّ من ثلاث جهات، سيأتي.

لدينا قدوة، ولدينا عالِم، عالم يعني يحمل علما، يفهم الكثير من العلوم، يختزن علوما جمة، القدوة من هو؟ القدوة شخصية استطاعت أن تمثل الخير أو الشر، أن تكون مثالا ونموذجا للخير أو الشر، هناك قدوات شر، قدوات سوء، وهناك قدوات خير وفضيلة. قدوة على خط الفضيلة، وعلى خط السمو، ما معناه؟ ليس الشخص القدوة هو من حمل علوما فقط،وإنما هو من جسد القيم العظمى، وشخصيته صارت وسيلة إيضاح للآخرين على طريق الخير، وعلى طريق الهدى، وعلى طريق الصلاح، وعلى طريق السمو، شخصية تبلورت كشخصيات عظمى سامية من ناحية طريق تفكيره، من ناحية طريق سلوكه، من ناحية معاملاته، أخلاقه، لما تكون شخصيته مشعة من حيث الكلمة، من حيث نطق أو صمت، من ناحية سلوكه، مختلف علاقاته، من ناحية فاعليته، توجه إرادته، حين تكون هذه الشخصية مشعة، ومعلمة بسلوكها، وبأوصافها، تكون هنا قدوة ،أما مجرد أن يحمل علما، فطبيعي لا نستطيع أن نسميه قدوة.

القدوة تتبع العظمة، متى يكون الشخص قدوة، لا يكون قدوة إلا بأن يكون متوفرا على شيء من العظمة في جانب من الجوانب. مثلا البهلوان كما يسمونه، على مستوى الناحية المادية يمكن أن يكون قدرة في حمل الأثقال، في ممارسة أنشطة تتطلب جهدا كبيرا، تتطلب قوة عضلية هائلة، فالبهلوان هنا سيكون نموذجا، سيكون قدوة على مستوى الممارسة المادية.

الحليم الذي يمتلك ملكة الحلم بدرجة عالية جدا، من خلال مواقف الضبط النفسي، من خلال مواجهة غضب الآخرين، تعديات الآخرين، بدرجة من الحلم هائلة، سيكون قدوة في هذا الجانب. فالقدوة أيضا نسبية، وتتبع ما تغنى به هذه الشخصية أو تلك الشخصية من درجة عظمة في بعد أو أكثر من أبعاد هذه الشخصية الإنسانية.

عندنا عنوان “الإنسان والحياة”، ما هو الإنسان؟ الحيثيات؟ الجهات؟ الأبعاد؟ المهمة الملحوظة في تركيبة الإنسان ما هي؟ في واقع الإنسان ما هي؟ أول ما يواجهنا من الإنسان أنه مخلوق، قبل أن تعرف دقائق التركيب الإنساني اعرف انه مخلوق وليس خالق، مملوك وليس مالك، إذا كان مخلوقا، وأي شيء يكون مخلوقا فهو خاضع، والخضوع يعني العبودية، هناك الإنسان الضعيف يمكن أو يفكر في مقاومة الإنسان القوي، بأن يعالج ضعفه، بأن سيتجمع شجاعته لأن يواجه الإنسان القوي، لكن هل من عبد؟ هل من إنسان يمكن أن يفكر بمقاومة الله عز وجلّ الذي يملك منه كل ذرة؟ طبيعي لا. فهنا خضوع حتمي موجود، هذا الخضوع يعني عبودية.

فأنا لمَّا أنظر إلى الإنسان، نفسي، غيري، أجده المخلوق المملوك العبد، رضيت أم لم أرضى، رضي الآخرون أم لم يرضوا، واقع الإنسان هو هذا، أنه مخلوق مملوك عبد، وإذا كان الإنسان عبدا فعليه أن يحيى عبودية، لا يفرض نفسه كرب، وقعي أن عبد، فرضي أني رب وأتعامل مع نفسي كالرب يعني أتعامل تعاملا وهميا، وهل الموهم يعطي نتائج خارجية صحيحة؟ طبيعي لا. فرضي نفسي ربا هو فرض خطأ بكل وضوح، هذا الفرض لمَّا أقيم عليه حياتي، ولمَّا أقيم عليه علاقاتي، ذاك أعاذنا الله منه فرعون ربا، واقع صدقه رب أمكن له أن يستمر على فرضية أن رب؟ لا في الأخير غرق الرجل، خسر ملكه، فهذا شيء من الوهم غير النافع أن نتنكر لعبوديتنا، وأن نحاول أن نقيم حياتنا على أساس غير أساس العبودية لغير الله سبحانه وتعالى.

هذا العبودية، ممارسة هذه العبودية، وإقرار هذه العبودية، وممارسة دور العبد أمام الرب تبارك وتعالى ماذا ينتج؟ هو في الحقيقة الطريق الوحيد بأن يجد الإنسان عزته وحريته، أنت لا تكون عزيزا في نفسك إلا بأن تذلَّ لله تبارك وتعالى، ولا تستطيع أن تستذوق الحرية، المساحة الكبيرة من الحياة إلا بأن تعيش حال العبودية لله عز وجل، والخضوع والذل بين يديه، بعد أن تذل لله، بعد أن تعبد الله، أنت تكون حرا أمام كل الآخرين، أمام كل الموجودات، أنت تكون عزيزا بارتباطك بالحق تبارك وتعالى وهو القوي العزيز الحكيم، هذا خط في الإنسان لا يستطيع أن يتنصل منه، وهو واقع أنه عبد وليس أنه رب.

أنا بدن، أنت بدن، فرضي نفسي أني ملك لا أحتاج إلى أشياء الأرض، لا أحتاج إلى ضروريات الأرض، لا أتعامل مع نفسي كبشر، هذا فرض خطأ، وهم سأصطدم بالواقع، أموت، سأنتهي، حين ما أظن نفسي ملكا، لا أحتاج إلى مأكل، لا أحتاج إلى مشرب، لا أحتاج إلى ملبس إلى مسكن، خطأ. هذا وهم، والوهم لا يمكن أن يعطي نتائج واقعية إيجابية.

معنى كوني بدني، لابد أن أعيش حياتي البدنية، حياتي البدنية هي حياة حسية، تتمثل في أن أنتج في أن أأكل، في أن أشرب، في أن أتنفس، في أن أحسن ظروف حياتي من أجل أن أستطيع أن أعيش، أحاول أن أكيف البيئة بقدر المستطاع بما يناسب حياتي، كل ذلك نتاج معرفتي أنب بدن، وأني ليست روحا فقط، هل أنا هكذا فقط؟ أو يأتي بعد آخر وهو بعد العقل، أنا لست بدنا فقط، فأنا مع كوني بدنا أنا عقل، وإذا كنت عقلا فلابد أن أعيش الحياة العقلية، يعني عندي حياة من لون آخر، أنا أشارك الحيوان في حياة المشي والقيام والقعود والتنفس، النمو البدني، الأكل، الشرب، الحاجات الأخرى البدنية، هذا معنى كوني بدن، يعني لابد أن أمارس حياتي البدنية كما يمارس الحيوان حياته البدنية مع فراق التطور في نوع الممارسة، والإنسان أكثر تطورا من الحياة في ممارسة حياته المادية البدنية، لكن أكتشف من نفسي أني عقل، والعقل لون آخر من الحياة، وحياة العقل بالتفكير وإدراك الحقائق، وأن أستطيع الترجيح بين أمر وأمر على المستوى النظري، وأن أستطيع الترجيح بين قضية وأخرى على المستوى العملي، حياة التفكير، حياة الإدراك كما يتفاوت الناس في حياة البدن، هذا ضعيف، هذا قوي، هذا قليل الحركة، هذا كثير الحركة كما مر، هذا يتنفس بصعوبة، هذا يتنفس براحة، حياة البدن عند الناس مختلفة، متفاوتة، حياة تمثل اللحظة الأخيرة من هذه الدنيا، فهي درجة هابطة جدا من الحياة المادية، وهناك حياة الشاب المقبل على الحياة بقوة وبنشاط، هذا الفرق.
أيضا الحياة العقلية درجات، فأنا لما أهتم بذاتي، أقول الإنسان أن يكتشف ذاته، وأن يتعامل مع ذاته كما هي، أنا ذاتي ماذا؟ ذات حيوان فقط؟ إذا كانت ذاتي ذات حيوان فقط، حتى أكون واقعيا، وحتى أكون ناجحا في حياتي، وحتى لا أضيع هذه الحياة، علي أن أتعامل مع ذاتي بواقعها، وهو واقع الحيوانية فأنصرف إلى الأكل، إلى الشرب، إلى الحاجات الدنيوية الأخرى، وعلي َّأن أنافس في هذه الحياة بكل ما أستطيع على مستوى هذه الضرورات والحاجات والكماليات وما إلى ذلك.

أما إذا كنت بالإضافة إلى حياة البدن، أنا عقل أيضا، فهل أطمر عقلي؟ هل أغيب عقلي؟ هل ألغي من وجودي عقلي؟ وأنصرف إلى حياة الحيوان، طبيعي أكون قد ظلمت النفس.

أنا عقل يفكر فقط؟ يدرك الحقائق فقط؟ و تقف حياتي، أو يوجد قوة أخرى، لا موجود درجة أخرى من الحياة، لون آخر من الحياة، لون آخر من الوجود لهذا الإنسان وهو الوجود الروحي، والوجود الروحي ما وظيفته؟ التعلق بالكمال، الفكر يقول لك هذا حق، هذا باطل، ربما يدرك أن هذا حق وهذا باطل، هذا صحيح وهذا غير صحيح، لكن الفكر ليس قوة دفع نحو الكمال، يدرك ما هو كمال وما هو نقص، ولكن -العقل النظري يسمونه- لا يدفع لما هو كمال، ما يتعلق في داخلنا بالكمال، هذه الشهية للكمال، هذا التطلع للكمال، هذا التعلق بالكمال، هذا مرجعه إلى جانب الروح، فموجود حياة روحية تبحث عن الجمال المعنوي، يعني موجود في داخلي شيء يبحث عن الجمال المعنوي، حتى يقطع مسافات ومسافات، وهذه الروح تنطلق باحثة عن الكمال والجمال، ثم لا تجده إلا في الله تبارك وتعالى، الجمال المطلق، والكمال المطلق.

أنا عبد من بدن، من عقل من روح، ما هي مظاهر الحياة الروحية؟ التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانت روحي حيَّة، نشطة، يقظة، قوية، حتما سيكون عندي توجه إلى الله سبحانه وتعالى، أيضا حياة الروح تتمثل في محاولة التخلق بأخلاق الله، من علم، من كرم، من رحمة، من لطف، من عطاء، بقدر ما تستطيع هذه الروح المحدودة في وجودها، من مظاهر الحياة الروحية الاستغناء بالله، تجاوز الأهداف الصغيرة، تبقى الأهداف المادية المحدودة كلها صغيرة، وكلها حقيرة في مقارنة بالوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، إذا كنت حيا بحياة روحية حقيقة، فالقصور ستصغر في نظري، الحقول ستصغر في نظري، الجمال الحسي سيصغر في نظري، كل شيء من هذا الذي يكبره الآخرون، يصغر وزنه، يصغر حجمه في أصحاب الأرواح الحية، اليقظة، النشطة، المتيقظة. حزن صاحب الروح الحية غير حزن صاحب الروح الميتة، هذا الذي يحيى بحياة بدن وفكر فقط، يحزن لأشياء لا يحزن لها كثيرا صاحب الروح الحية، يفرح بأشياء لا يفرح بها صاحب الروح الحية.

أعطيك مثالا: شخص مؤمن، روحه حية متبلورة حاضرة، تلك الليلة ليلة زواجه وزفافه بأجمل فتاة في العالم، ولكنه قبل خمس دقائق من دخوله بزوجه، حدث عنده معصية، هل تتصورون في ذلك الرجل أنه يفرح؟ أبدا لا يفرح، حياته ليلة حزن وكآبة، وحقارة، ودونية، تلك ليلة عذاب في حياته.

لكن آخر لا يملك حياة روحية، هو ارتكب ألف معصية في ذلك اليوم، يأبى؟ ستكون حياته تلك ليلة سعادة، ليلة رفاه، يرى نفسه أنه ارتقى المرتقى الأعظم.

رجل يصل إلى الحكم، إلى الملك وهو مؤمن، لكن يبحث أن في طريقه للملك أرتكب مقدمة خطأ لا ترضي الله سبحانه وتعالى، أتراه يهنأ بذاك الملك؟ لا والله لا يهنأ بذلك الملك ويراه عذاب، ما الفرق يا حبيبي؟ يد تمتد لإلى النار فتحس بالحرارة، ويد تمتد إلى النار فلا تحس بالحرارة يد شلاء، يد ميتة، اليد التي لا حياة فيها، لا تحس.

لمَّا الإنسان والمستجار بالله يصيبه شلل، الجانب الذي يصيبه شلل فيه هل يشعر فيه بألأم، لا يشعر فيه بأنس، لو لمس الحرير، يهنأ بملامسة الحرير، طبيعي لا ميت، أيضا هناك روح ميتة، هناك بدن ميت وبدن حيَّ، هناك فكر ميت وفكر حيَّ، هناك جانب روحي ميت، أو سابت، أو خامل، أو مريض، وهناك شخص آخر يتمتع بروح حيه، نشطة، قوية، متيقظة، فرق! فتجد أن الآلام ستختلف، آلام الروح الحية ستختلف عن آلام الإنسان ميت الروح. فنقول هذا أهدافه تكبر، هموم أصحاب الدنيا تصغر عنه، عنده هموم أخرى، عنده هدف آخر، عنده ما يؤذيه، ما يضره، ما يجزنه لون آخر.

نأتي لبعد آخر في الإنسان وهو جانب الإرادة، حياة الإرادة ماذا تعني؟ إذا وجدت نفسك قادرا على أن تعزل، وعلى أن تحزم وعلى أن تجزم وتقطع التردد والتلكؤ، وجدت نفسك قادرا على التحرك في ضوء قناعاتك الفكرية، وفي ضوء قناعاتك الفطرية، فأنت صاحب أرادة، أما إذا كنت على قناعة فكرية، وقناعة دينية بصحة هذا المسلك أو ذلك المسلك، وبقيت أتردد بين المسلكين، فأنا فاقد للإرادة، ضعيف الإرادة، مشلول الإرادة.

ما أريد من هذا الكلام ،أني لما أريد أن أكون الإنسان السوي، فلن يسمح لي هذا الهدف بأن أهمل جانب حياتي المادية، ولا جانب حياتي الفكرية، ولا جانب حياتي الروحية، ولا لن أستطيع إهمال تربية إرادتي، ولن أكون شيئا إلا بمراعاة هذه الجوانب، ويمكن أن يكون أحدنا عظيما في بدنه، ولكنه صغيرا جدا في فكره، ميت جدا في روحه، ويمكن أن يكون أحدنا تتركز عظمته في جانبه الفكري، دون جانب الروحي، دون جانب البدني، ويمكن لآخر أن تطغى على شخصيته المسحة الروحية، وجمال الروح، من غير أن يكون ذلك الفيلسوف، ومن دون أن يكون صاحب الفكر المعمق، تجد حتى الإنسان الواحد يمكن أن يحيى مدة من حياته بحياة مادية بدنية، وأخرى بحياة فكرية، وأخرى بحياة روحية، فضلا عن الشخصين المختلفين فقد تجد في هذا تركزا في الحياة المادية، وضحالة في الحياة الفكرية أو الروحية، وقد تجد العكس.

حينما نأتي فاطمة والحياة والعظمة، أين موقع فاطمة عليها السلام من الحياة؟ أين موقع فاطمة عليها السلام من العظمة؟ نحن عرفنا أن ليس لأحد مستو من القدوة إلا بعظمته، حين نقول فاطمة عليها السلام قدوة، فلابد أن نفرض وراء كونها قدوة أنها عظيمة، لا قدوة بلا عظمة، العظمة سر القدوة، لابد أن تكون القدوة أي قدوة متميزة عنا بكمال نفقده، وتطلبه نفوسنا، وتقتنع به عقولنا، حتى تأخذ موقع القدوة في أنفسنا، متى يأخذ الشخص موقع القدوة في نفسي؟ الشخص لا يأخذ موقع القدوة في نفسي إلا بأن يكون له جمال أن أفقده، جمال علم، جمال تقوى، جمال كرم، فلابد من عظمة وراء كون الشخص قدوة.
ففاطمة عليها السلام لابد أن نفرضها عظيمها حتى نفرضها قدوة، وهي كذلك صلواته وسلامه عليها، ثم لا عظمة لميت، لا عظمة لعدم، العظمة للوجود لا للعدم، والعظمة للحياة لا للموت، والعظمة للقوة لا للضعف، الشخصية الضعيفة بدنيا، المحدودة القوى، صاحب اليد التي لا تكاد ترتفع وهي محكومة بالرعشة، أنا أستطيع أن أعتبره قدوة على المستوى البدني؟ وأحاول أن أسير في اتجاه واقعه؟ طبعا لا. أنت تتعشق من ناحية مادية، من ناحية بدنية، واقع إنسان قوي، واقع إنسان قادر على بذل نشاط ممكن، هذا الذي يمكن أن تتعشقه نفسك، أنت في مستوى متوسط من الناحية البدنية، من الناحية الصحية، أمامك واحد يتمتع بصحة أكبر، بقوة أكبر، هنا في نفسك تقول: أقرر أن أسير في اتجاه هذا الواقع، للوصول إلى ذلك الواقع المتميز. ثم أنه إذا كان هو أضعف، أو بمستواك، هل يكون قدوة؟ أيضا من ناحية فكرية، من ناحية روحية، من ناحية عبادة، من ناحية كرم. طبعا القدوة شخصية تتمتع من الكمال الذي أطلبه، الذي أؤمن به ما أفقده، فأفرض على نفسي من خلال عشي للكمال، من خلال حبي للسمو، أتعشق هذه الشخصية وأحاول أ، أصل إليها؛ بذلك أتخذها قدوة.

ففاطمة عليها السلام لابد مع كونها قدوة، يعني هي عظيمة، وهي حية بحياة لا نتوفر عليها، فالمعصومون عليهم السلام القدوات العليا. قدوات عليا لماذا؟ لأن لهم حياة طيبة نحن لا نحياها، لأن لهم حياة راقية وسامية نحن لا نتوفر عليها.

فذلك العالم الكبير أنه أتعشقه لأنه يحيى حياة فكرية أرقى من حياتي، أسمى من حياتي، فلذلك تستقطبني شخصيته من حيث علمه، وفلان تستقطبني شخصيته من حيث حلمه، والآخر تستقطبني شخصيته من حيث شجاعته، رابع تستقطبني شخصيته من حيث عبادته، وهكذا. والناس على حظوظ، والناس على درجات، هذا له حظ من علم، ذاك له حظ من شجاعة.

والمعصومون عليهم السلام كل واحد منهم، فرقه عن الآخرين أنه مجمع الكمالات، وأن كانت كمالات كل مخلوق هي كمالات محدودة، ومستقاة من الصلة بالله تبارك وتعالى، أما الكمال الذاتي الذي ليس معطى من الغير، والكمال المطلق ليس إلا لله وحده تبارك وتعالى. فاطمة عليها السلام حية بحياة العقل، وفاطمة عليها السلام حية بحياة الروح.

أمامي بهلوان، وأمامي فيلسوف، وأمامي عابد، فيلسوف بلا خلق، وبلا شفافية روح، عقله كبير جدا، قادر على أن يفلسف الأمور، ولكن شخصيته فظة، غليظة، الوحش الكاسر، محتال، لا يمحل روح عادل، بطَّاش. وأمامي إنسان ليس ذاك المتعلم، دعني أفرضه فلاحا، دعني أفرضه ممن يدخلون البحر، ولكن أقرأ فيه طهر روح، أجد فيه الصدق، أجد فيه الإخلاص، أجد فيه الوفاء، أجد فيه الكرم، أجد فيه الشجاعة، أجد فيه الأمانة، أجد فيه حب الناس، أجد فيه روح الإيثار. أيهما أجمل وربك؟ أحكم. الفيلسوف أو الرياضي – عالم الرياضيات- القادر على حل المعضلات الرياضة مع أخلاق شرسة، مع ملكة ظلم، مع روح جافة، مع سوء خلق، مع خيانة، مع أثره –يعني سلب الآخرين الخير لنفسك-، هذا الرياضي هو الإنسان الكبير في نفسك، أو المثال الكبير ذاك الفلاح الذي تعطيه أي أمانه وأنت مطمئن، ترى فيه كما قلت لك، صفات الصدق والوفاء والأمانة، ماذا تقول لك فطرتك؟ أيهما الجميل؟ أيهما القدوة؟ لا شك أن الفلاح كما تقول الفطرة هو القدوة.

أريد أن استنتج شيء، أيهما التفكير العقلي اكبر؟ أو الروح الشفافة أكبر؟ في تقدير الفطرة، في داخل ضمير الإنسان، يقول شفافية الروح أقدس، شفافية الروح أهم، يعني جانب الروح أرقى من جانب الفكر، البعد الروحي في داخلنا أرقى من البعد الفكري.

لك قصة سمعتها من أحد الأخوة العراقيين في قم، كانت قوافل الجمال لما تزور الإمام الرضا عليه السلام، تمر ببعض مناطق إيران حتى تعبر إلى مشهد، كانت قافلة حطت في مكان فيه ساحة، ورأوا أناس مجتمعين في ساحة، قالوا ما هذا؟ قالوا بهلوان مفتول العضل، قوي جدا، مغرور بقوته إلى حد الطيش. لشدة ما هو عليه من قوة بدينة، وأيضا سخافة عقل، يخاطب الله سبحانه وتعالى: إذا أردت أن تبارزني فأنا حاضر. رأوا هذا المنظر.

وقطعوا الطريق إلى مشهد، ثم رجعوا على نفس الطريق، فسألوا: أين البهلوان؟ قالوا مريض. فأصروا أن يروا هذا البهلوان، وإذا البهلوان مفتول العضل القوي الذي يحمل الأثقال العالية جدا، كانت مطروحا في مكان عادي، وكان لا يملك حراكا. هناك فأر، كان يخرج من غاره ويأكل من جلد البهلوان ثم يدخل في الغار وهذه مهمته، وهو لا يستطيع أن يمنعه. هكذا أذله الله تبارك وتعالى. هذه أنقلها لأنها معلومة ومشهودة.

أقول هذه القوة هل تمثل عظمة في نفس الإنسان؟ قارن بين هذا القوي، وبين قوة الفكر وبين قوة الروح، يبين حياة البدن، هذه حياة بدنية، يستطيع حمل الأثقال، والجمل يستطيع أن يأكل كثيرا، والفيل يستطيع أن يأكل أكثر منه، واللذات يمارسها بعض الحيوان أكثر مما نمارسها نحن. لذة بعض الحيوان، لذة أكله، واللذات الأخرى عند بعض الحيوان، أغزر من الإنسان بمئات المرات، أيهما أكبر الفيل أو الإنسان الذي يفكر تفكيرا رياضيا عاديا؟ أيهما أكبر، طبعا الإنسان، لماذا؟ لأن الحياة الفطرية حسب ما غرس في فطرتنا، وقناعاتنا الفطرية، أكبر وزن من الحياة المادية البدنية. ولما نأتي بالرياضي الذي وصفته لكم وأنه يحمل روح مظلمة لا تعرف الله، لا تعرف الهدىـ لا تعرف الخلق، الأمانة، الصدق، إنما يعرف أن يحل مسائل رياضية، يعرف أ، يفلسف الأمور، أقارنه بذلك الإنسان الفلاح، والذي يتمتع بروح مشعه، بحياة روحية عالية جدا تعرف جمال الله، تتصل بجمال الله، قلب مفتوح على الله، موصول بنور من نور الله تبارك وتعالى، تتجسد الخلق فيه أكبر تجسد، أعطي الجمال لمن؟ أيهما القدوة؟

فاطمة من ناحية بدنية، ليس البطل، ليست البهلوان، لكن الإنسان مقدر ببعدين، ببعده الفكري، وبعده الروحي، وبإرادته، إرادة الخير فيه، إرادة قوة تكون، على أن فاطمة عليها السلام تمارس دورها البدني بأكبر كافئه ممكنة، وكانت المرأة النشيطة جدا، في بيتها كما تعرفون صلوات الله وسلامه عليها.

ففاطمة عليها السلام لما نقول عنها قدوة، فهي قدوة في فكر، وقدوة في روح، والتحليق الروحي يا أبنائي أصحب جدا جدا، الآن الإنسان يدرس الفقه لعشرين، وخمس وعشرين سنة فيتوفر على فهم كبير في الفقه، لكن أن يطبق الفقه، أن يقف مع الحق دائما، ويجانب الباطل باطلا دائما، هذه المجاهدة مع النفس تستمر معه إلى آخر الحياة، وهو مهدد دائما بأن يتلكأ، يتوقف، ينحرف والعياذ بالله، طبيعي المشي على طريق الفكر، وتنمية الفكر، والوصول إلى مستوى فكري متقدم صعب جدا، وأنتم طلاب وتدرسون، وتجدون كيف هي المعاناة الفكرية، في أي حقل من الحقول الدراسة، والمعرفة، لكن هذه المعاناة، أنت بعد كم سنة يمكن أن تكون عالم رياضيات، يمكن أن تكون عالما في الفلسفة. لكن أن تكون الإنسان المشع، الإنسان القادر على أن يصرع الهوى ولا يصرعه الهوى، هذا أصعب بكثير.

فالبعد الروحي، تربية الذات أصعب، والبعد الروح أشرف، فالنتائج الروحية الوصول إليها أصعب بكثير من الوصول على النتائج الروحية، وكذلك النتائج الروحية أشرف وأسمى بكثير من النتائج الفكرية، وما هو المنقذ يوم القيامة؟ مستوانا الفكري؟ أم مستوانا الروحي؟ طبيعي المنقذ يوم القيامة هو ليس المستوى الفكري وإنما الفكر الروحي، المستوى الفكري إذا أنعكس على الروح يعني مكانة، لكن النمو الفكري، والتقدم الفكري إذا فارقه جانب الروح وكان الجانب الروحي منحطا، كان حجة على الإنسان ويمكن أن يزيد في ناره.

فنحن لما نحتفل معا بفاطمة الزهراء ولادة، وفاة، صلواته وسلامه عليها، المعصومين عليهم السلام، علينا أن ننظر إلى البعد الفكري، والبعد العلمي يتمثل في الوصول إلى الحقائق، الحقائق القريبة، والحقائق البعيدة، وأكبر الحقائق هي حقائق الدين.

ثم الشيء الثاني وهو أنهم مراكز الإشعاع الروحي، كل منهم يمثل شمس مشرقة على الكون، على عالم الأرواح، على عالم النفوس، على علام الإرادات، ويمكن لعالم النفوس الأخرى أن تتغذى على الإمدادات الروحية صلواته وسلامه عليهم أجمعين، على العطاءات الروحية لأهل البيت صلواته وسلامه عليهم أجمعين.

فنحن محتاجون دائما إلى أن نضع خطوات أقدامنا على الطريق الروحي لأهل البيت عليهم السلام، علنا نقترب منهم بعض الشيء، تجدون أن الفقيه الكبير والعارف يعتبر نفسه تلميذا صغيرا أمام النماذج العليا من أهل البيت صلواته وسلامه عليهم أجمعين، فكرا وروحا. وقد نفهم من أخلاق أهل البيت على المستوى الفكري، من مفاهيم، روايات أهل البيت، من فقه أهل البيت، قد نفهم الشيء الكثير، ولكن أن نبلغ الاقتراب منهم بدرجة كبيرة من ناحية روحية، هذا هو الأكثر تحديا.

في حياة العقل يمكن أن تكتشف فاطمة عليها السلام، طبعا عندنا تصديق عام ومجمل لعصمة فاطمة عليها السلام، وهذا يعني أعلى درجات الكمال، وأن كان ما بعد درجة العصمة موجود تسابق عند المعصومين، يعين القرب إلى الله عز وجلّ ليس حده الأقصى العصمة، والتي هي الانتهاء عن المعاصي والقيام بكل الواجبات، موجود مجال للتسابق، وطبعا القرب من الله لا تنقطع مسافته، لأن الله عز وجلّ له الكمال المطلق، فمهما أقترب الإنسان مهما كان له من كمال كان كمالا محدود، فالمسافة إلى الله لا تقتطعها روح، لا يقطعها قلب.

فاطمة عليها السلام كإنسان معصوم، فطبيعي واضح أنه كامل، يبقى من ناحية خارجية لشخصية فاطمة عليها السلام، تستطيع أن تفهمها فكريا من خاطبتيها صلواته وسلامه عليها، طبعا هي تحمل بوعي حقائق الإسلام الكبرى، فقهه، رؤاه، سياسته، وتحمل رشد الترجيح، أنا كيف أرجح موقف على موقف، هذا يختلف فيه الناس، وهو محل امتحان عظيم، وهذا أعلى درجات الرشد فيه لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إدراك الواقع الخارجي، فاطمة عليها السلام لما تطالع حياتها وسيرتها، تدرك أنها تدرك الواقع الخارجي، الساحة السياسية، الساحة اجتماعية، الساحة الثقافية، عندها إلمام كامل بمختلف الساحات، وخطبتها صلواته وسلامه عليها خطبة معبرة جدا عن شخصية واقعية، تحمل فكرا نيرا، فكرا إسلاميا رصينا، تحمل فكر متقدما جدا، لا يبلى مع الزمن.

حياة الروح تنقل السيرة عن فاطمة عليها السلام كما تعرفون في أن قدميها تورمت من العبادة، العبادة الصادقة، ورائها روح عشاقة لله، روح حية، روح مستيقظة، يعني وجودها غالب على وجود الروح البدنية، همومهما، وهدفها وحيويتها، وألمها، وفرحها، وسرورها، وتطلعها، غالب على ما لحياة البدن من هذه الأمور، معنى الاتصال لله عز وجل، أنا إذا كانت روحي ميتة لا تكون عندي شهية عبادة، لا يكون عندي توجه لعبادة، الروح التوجه إلى الله، المداومة على عبادته، مستغرَقة في عبادته، يعني هي روح شفافة ومشعة، ووقادة.

فاطمة عليها السلام إذا كانت تأخذ بها العبادة ليلة جمعتها، حتى يتضح عمود الفجر، وهي مشتغلة بالصلاة داعية للجيران للمؤمنين دون نفسها، هذا من الحياة الروحية عند فاطمة عليها السلام. العشر الليالي الأخيرة من شهر رمضان جاء عنها أنها لا تنام، لا تأوي إلى فراش، كل العشر الأواخر من ليالي شهر رمضان المبارك، وأنها كانت ترش وجوه العيال الصغار بالماء ليالي القدر ليقووا على مقاومة السهر.
أدعيتها تستطيعون أن تراجعونها وهي مفعمة بحب الله والتوجه إليه تبارك وتعالى، تعال أنظرها روحها أين؟ إذا مات الجانب الروحي، التي هي نفخة الروح، التي هي هدايات الله، نور الله في فطرة الإنسان، حب الله، نداء الله في داخل الضمير الإنساني. إذا مات هذا الصوت، إذا خفت هذا النور، ماذا تصبح حياة البدن؟ ويكون الإنسان يبلغ الفراغ، يطلب الثقة دائما من خلال اللذائذ المادية وما إلى ذلك، يكبر في نظرنا المال، يكبر في نظرنا الجمال الدنيوي، تكبر في نظرنا المواقع السياسية، تكبر في نظرنا مواقع الشهرة، متى؟ حين يغيب جانب الروح. وإلا المستغني بالله يطلب رضا عبادة، لا. القلب الذي يعرف الله ويرتبط به، هو مرتبط بالغني الأغنى، مرتبط بالقوي الأقوى، فهل يطلب عزة، ويطب مكانة، ويطلب غنى من العبيد، من المخلوقين، هذا شأن الإنسان المفتقرة روحه، الإنسان الذي غنت روحه بذكر الله، و بالمعرفة بالله سبحانه وتعالى، فتجده يستخف بالدنيا، ولا يأبى أن الناس كانوا معه أو كانوا ضده.

علي بن أبي طالب عليه السلام هذا يكترث لو كل الدنيا وقفت ضده؟ إبراهيم عليه السلام كان وحده أمة، النبي إبراهيم اهتزت ثقته؟ ضعفت إرادته؟ هانت عليه نفسه أن وجده الناس ضده؟ لا، النبي إبراهيم عليه السلام كان كلهم ينهزمون، وإبراهيم عليه السلام وحده لا ينهزم؛ لأنه يستند إلى قوة الله عز وجلّ، قلبه مربوط بالله سبحانه وتعالى.

نأتي لفاطمة عليها السلام، تعال أنظرها ماذا تساوي الدنيا في نظرها؟ إذا أرادت أن ترى روحه أين، روحه حية أو ميتة، تعالى أنظر إليه في قيمة الدنيا في نفسه. هل للدنيا قيمة في نفسه؟ إذا وجدت للدنيا قيمة عالية في نفسه فهو ليس صاحب الروح المشعة، صاحب الروح المشعة الصادقة، لابد أن تهون الدنيا في نفسه.

فاطمة عليها السلام جاء الخبر أنها تصدقت بقميص زواجها ليلة زفافها، هذه زينة العرس، الدنيا لا تساوي شيئا لديها، هذا ثوب زائد، عندهم لباس التقوى هو خير زاد، عندهم حب الله، مستغنين بالجمال الروحي، بالجمال المعنوي.

فاطمة عليها السلام، ليس لديها شيئا تأكل، يأتي السائل ليس عندها شيئا تعطيه، تعطيه جلد الكبش الذي يفترشه الحسنان عليهما السلام، لا يكتفي به؛ لأنه جائع، عاري، جئت وحولني عليك أبوك، أتعطيني جلد كبش يا بنت رسول الله؟ ماذا تجد فاطمة؟ عندها قلادة من أحدى قريباتها، تخلع القلادة وتجعلها في تصرف الفقير المسكين؛ لتخرج من حطام الدنيا.

فاطمة عليها السلام هي ممن جاءت فيهم الآية الكريمة، “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً” الإنسان/8، أنا أريد أن أخاطب النساء، يا أخوات، أبنوا بيوت عزة، إيمان، شرف، تقوى، رضا، تفاهم، محبة، إخلاص، وفاء، هذا الجشع، الطمع، رجالنا ونسائنا نحتاج أن نقتدي بفاطمة عليها السلام في هذا الجانب.

ستر على بابها، يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سفره، وكانت آخر من يودع، وأول من يستقبل إذا جاء من سفره صلواته وسلامه عليه لمقام فاطمة عليها السلام عنده؛ لأنها المؤمنة التي يرضاها، يجد ستر جديدا، ويرى بعض الشيء، يتراجع كأنه، فهمت فاطمة عليها السلام أن هذا المنظر لا يريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لا يريحه أن يرى من زينة الدنيا ولو الشيء اليسير في بيت فاطمة، في وقت يحتاجه المسلمون، عن طريق حلال، الحلال الطيب جدا وليس فيه بذخ، ترسل الستر وأشياء أخرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقسم ذلك القماش أزر على المسلمين، كانوا أهل الصفرة يسمونهم في المسجد، وكان بعضهم ليس له أزر، أو إزار قصير، مطلوب أن الرجال يجلسون من السجود قبل النساء، لماذا؟ فالنساء خلفهم، لأن الرجل كان إذا سجد ربما لم يستر إزاره تمام عورته، فخوف أن النساء يرفعن رأسهن فتقع عين أحداهن على ما لا يحسن أن تقع عليه من مما يقرب من عورة الرجل، فكان الرجال يرفعون رؤوسهم قبل النساء. هكذا كان المسلمون الذين يصنعون الدولة الإسلامية الكبرى، الذين وضعوها في موقع القيادة والريادة، الذين أتعبوا العالم، كان هذا وضعهم المادي.

فاطمة عليها السلام لو أبقت الستر مآله إلى أين؟ مآل الستر إلى المزبلة، سيتقادم وسيكون مآله إلى المزبلة، ربما بعض الأشياء الأخرى أيضا كان مآلها أن تنتهي، لكن وعي أبيها ووعيها، وروحيتها الرسالية، قال لهذا المال أصنع عقولا مؤمنة، أصنع أرواحا شفافة، أصنع إرادات إيمانية قوية فولاذية، أكون جيلا إسلاميا ينقذ الدنيا، ما للستر وما للأشياء الآخر بدل أن يتحول إلى مزق على المزابل، شارك في صناعة جيل رائد، وجيل منقذ للدني، يضع الناس على طريق الله عز وجلّ، يوصلوهم إلى الله سبحانه وتعالى، هذه هي وظيفة المال الأساسية، حتى الشبع، لماذا نشبع؟ لماذا نلبس؟ لماذا نسكن؟ هو هدف أو ضرورة؟ نأكل، نشرب، نلبس، نركب سيارة، كل ذلك ضرورات، حاجات من أجل ماذا؟ من أجل أن نصنع عقولنا، من أجل أن نصنع أروحنا، من أجل أن ننقذ مجتمعنا، من أجل أن نصل إلى رضوان الله، من أجل أن ندخل الجنة، من أجل أ، نكون ذواتنا ذوات إنسانية راقية، ليس الهدف أن نبني بنايات مزينة ومزركشة، وسيارات فخمة، المشكلة الآن هكذا.

الآن جعلنا الوسيلة تقوم مقام الهدف، ووقفنا عند خطوة البيت، عند خطوة الموقع المادي، عند موقع السيارة الفخمة، لا أنها أدوات،آليات، هذه حين تفرغها من هدفها تتحول إلى لعب يصرف عن الجد، إذا تبقي عقلك وروحك ومشاعرك وطموحاتك مجمدة عند البيت والسيارة، فقد فرغت حياتك من محتواها الصحيح، قد وقفت عند الخطوات الطفولية، هذا مثل الطفل، فالحياة الدنيا تصير لعب، لهو.

ففاطمة عليها السلام فهذا المال أداة من أدوات الرسالة، الصحة أداة من أدوات الرسالة، من أجل الروح، من أجل الدين، من أجل الله تبارك وتعالى,

أيضا فاطمة عليها السلام بلغت رساليتها الحد الأعظم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه. فاطمة جاء عنها أنها “أم أبيها”، وهي مثلت قرة عين للإمام المتقين، قل لي قرة عين للإمام المتقين، من هي؟ أي شخصية تكون قرة عين للإمام المتقين؟ شخصية عادية، شخصية عندها سقم روحي؟ فاطمة عليها السلام لو لم نعرف عنها أنها قد أرضت علي عليه السلام لكفى؛ لأن عليا عليه السلام وهو العظيم لا يرضى إلا بعظيم.

“أم أبيها” أنا أخذ هذا التعبير الطافح “أم أبيها” رأفة، قامت بدور الحنان، وبور الاحتضان النفسي الذي يشعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدفء الحنان، وبدفء الاحتضان المعنوي، هذا الشخصية الكبرى العظمى التي تقود العالم أي بنت تلك تستطيع أن تشعره بهذا النوع من الطمأنينة؟ هذا النوع من الحنان؟ هذا النوع من الاحتضان؟ أي بنت؟ لابد أن تكون قمة، وإلا كيف يطمئن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

آية المباهلة تقدمها ونساءنا ونساءكم، أين النموذج الرسالي الكامل؟ قدم نفسه صلى الله عليه وآله وسلم الرجل الأول للإسلام في موقف المباهلة، وقدم أمير المؤمنين عليه السلام بمنزلة نفسه فهما الرجلان النموذجان الأكثر علوا، النموذجان الأول من نماذج الشخصية التي تصنعهما الإسلام، شخصيتان نموذجيتان عليتان تصنعهما الإسلام قدمهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقف المباهلة، وأنهما يجسدان الإسلام هو علي عليه السلام الذي جعله بمنزلة نفسه.

الجيل الثاني الإسلامي، جيل الشباب، وهما في العمر صبيان، وفي المعنى شابان ورجلان أي الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قدمهما كجيل ثان يحتل المنزلة الأولى في الشخصية الإسلامية.

ومن النساء هذا النموذج الفذ، يعني قدم فاطمة ليس كامرأة فقط، كامرأة رسالية من الدرجة الأولى، في مقام المباهلة كان التقديم للنماذج الرسالية، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم النماذج الرسولية -أي التابعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فالنموذج النسوي العالي في الإسلام، والشخصية الإنسانية الرسالية النموذجية التي أختارها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة كانت متجسدة في فاطمة عليها السلام.

آية التطهير تكفينا أيضا، فاطمة عليها السلام المرأة عاشت حسن التبعل حتى أرضت عليا عليه السلام، كزوجة أيضا، حسن التربية، خرجت الحسن، الحسين، زينب عليها السلام.

رعاية المنزل، تطحن، تكنس، تخبز، تغسل، علي عليه السلام كما في القسمة بينهما التي رضيتها وسرت لها، أن علي عليه السلام يتكفل ما خارج الباب، من المهمات التي تكون وراء الباب من كد الرزق وغيره، ومكافحة الحياة، وأن فاطمة عليها السلام يقع العبء الأكبر من مسئولية البيت عليها صلواته وسلامه عليها، وهل ثلم ذلك من شخصية فاطمة؟ وهل قلل من إنسانيتها؟ أنا أرجو أن لا يكون التفكير أنه لا شرف للمرأة، ولا مكان لها، ولا دور لها إلا بوظيفة بين عشرة رجال يتوجهون بنظراتهم الشرسة إلى هذه المرأة، وفي حال تبذل، وفي حال استرخاص لشرفها ولدينها وكرامتها،ولا ينظر منها إلا إلى الجسد، لا يكون هذا هو الشرف، يبقى عمل المرأة مباحا بشروطه وظروفه، والدين دائما هو الأهم، وأيضا نظرة الرجل، الرجل مخطأ كل الخطأ حين ينظر إلى زوجته حين لا تعمل، هذه التي تربي، هذه التي تشتغل في البيت، هذه قد تشارك في ندوات، لا ينظر إليها إلا بنظرة الإنسان الخامل، الإنسان فاقد الدور، يوجد سذاجة في المجتمع

أركز على هذه النقطة، وهي نقطة أن الرجل ينظر إلى زوجته، إلى أخته، التي لا تعمل نظرة سلبية، نظرة جاهلية. وكذلك نظر المرأة إلى نفسها أن كرامتها لا تتم، وأن شرفها لا يتم، وأن إنسانيتها لا يعترف بها، إلا من خلال الوظيفة المعروفة والمختلطة، طبعا نظرة خاطئة. العمل ليس ممنوعا على المرأة، ولكن كما أقول القضية مشروطة.

الستر وفاطمة عليها السلام، تعرفون أنها لما خطبت في المسجد ضرب ستار بينها وبين الرجال، كانت وهي تتحرك في اتجاه المسجد في مجموعة من نسائها التي يحففن بها. شيء آخر أنها حتى بعد الموت حافظت وهي في الحياة على أن لا ترى بتقاسيم جسدها بعد الموت صلواته وسلامه عليها من الأجانب، فأوصت بقبة الجريد الذي يغطى بها نعش المرأة، وفوقه رداء، حتى لا تظهر تقاسيم جسدها الشريف، لعين الناظر بعد الموت، هذه هي عفة فاطمة عليها السلام، وحفاظها على الستر، وإذا ادعينا أننا نقتدي بفاطمة، فلنرضى لنسائنا الستر، ولنربي بناتنا على الستر، ونطالب نسائنا بالستر، وليطلبن نسائنا راضيات مرضيات مسرورات الستر الذي التزمته فاطمة عليها السلام، والتزمته زينب عليها السلام، وربا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزواجه وبناته عليه صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله وعلى آلك الطيبين الطاهرين.

وفاة الزهراء عليها السلام
بني جمرة، 19-05-2008م، 13 جمادى الأولى 1429هـ
مأتم الأثني عشرية

زر الذهاب إلى الأعلى