خطبة الجمعة (321) 11 ربيع الثاني 1429هـ – 18 ابريل 2008م
مواضيع الخطبة:
*متابعة ذكر الله *أولاً: الدم لا يتقادم. *ثانياً: بلغ السيل الزبا. *ثالثاً: إسلام بلا مذاهب
هل تحولت البلاد إلى غاب على يد رجال الرعب الذين يجلبون من كل واد للتنكيل بهذا الشعب؟!
الخطبة الأولى
الحمد لله الحافظ لكل نفس حياتها، والمقدِّر لها قوتها وما به بقاؤها، والمتوفي لها عند موتها، والمجازي لها على عملها، الذي لا يقوم شيء إلا بتدبيره، ولا مفر له من تقديره، ولا مناص له من حكمه، ولا خروج له من ملكه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بواجب تقوى الله، وأن نطلب العصمة في القول والعمل بذكره، والتوكل عليه واللجأ إليه، وتفهم مرادات دينه، وأحكام شريعته فإنه لابد من ذلك كله لمن طلب العصمة من كيد الشيطان، وغلبة النفس، وأسر الهوى، وتبعات الجهل، وقواتل الأخطاء، ومهالك الغرور، وكل ذلك عدوٌّ ماحق لا نجاة منه إلا بالله، وتفويض الأمر إليه، والتعلق بذيل كرمه.
وحق للعاقل أن يتهيب في مقام القول والعمل، وأن يلجأ إلى ربه طلباً للعصمة، فإنه لاحول ولا قوة إلا بالله، وإن كثرة الكلام لتجر إلى الهدر والخطأ، وإن العمل لكثير ما يعرضه الزلل، وإن من القول ما يسقط بقائله من شاهق عند الله وإن ارتفع به عند الناس، وإن من العمل لما يهوي بفاعله إلى النار.
نعوذ بالله من باطل القول والعمل وضارّهما، ونسأله حق القول والعمل ونافعهما، وأن يغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ويتوب علينا إنه هو التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأخيار الأطهار.
أما بعد فلا زال الحديث في موضوع ذكر الله:
الذاكر محل عناية الله، وتتنزل عليه العصمة من عنده، قال الله سبحانه:”إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بذكري نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حُلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً أولئك الأبطال حقاً…”(1).
على العبد المجاهدة، وأن يواجه النفس بأن يحاول تثبيتها دائما على خط الله، وأن يأخذ بقلبه ما استطاع إلى ذكره سبحانه، وحينئذ تتنزل عنايات وفيوضات خاصة من الله على هذا العبد، فبدل أن تكون شهوته في زينة الدنيا وزخرفها، ولذائذها الرخيصة الفانية يكبر الهم، وتعلو الهمّة، ويتّسع أفق التطلعات، ويرتفع كل ما في النفس من زاد قدراً حتى تنفر النفس من كلّ صغير لتنشدّ إلى أكبر كبير… إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تكون الرغبة في لذائذ فانية رخيصة زائلة، وإنما تشتد الرغبة في المسألة من الله ومناجاته “نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي”.
وفي هذه الحالة كلما كاد السهو أن يغلب آناً ما على العبد، وتوقع له أن تتجه مشاعره إلى الأرض، إلى المنحدرات، إلى حياة الطين، كلّما حال بينه وبين ذلك أمر الله، عنايته، فلا يسهو.
“أولئك أوليائي حقاً أولئك الأبطال حقاً”، إنهم دخلوا في مجالدة أكبر عدو، وأشد الأعداء كيداً، أب الأعداء كلهم الشيطان فصرعوه، إنهم أشداء في إرادتهم الإيمانية، أقوياء أمام كل مغرٍ باطل، لهم صلابة لا تلين أمام المعاصي، لا يئن كاهل إرادتهم من واجب، فهم أبطال بحقّ، وهم أشداء قحق. وما المواجهة في الحرب، وفي كل ميادين الصراع إلا لإرادة قوية فولاية لا تلين، وقد تتحمل النفس الكبيرة أضعاف ما يتحمله هيكل الجسم، ومادة اللحم والدّم العصب. والإرادة أقوى ما تتربّى وتشتد متانة وعنفواناً بمجالدة الشطيان، وطرده بذكر الله.
والذكر يعصم، ويورث طمأنينة القلب، وسكينة النفس ولو اشتدت الأمور {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2) ألا استفتاحية تؤكد أن ذكر الله يطمئن القلوب، فإذا ما وجد أحدنا في قلبه اضطراباً في حال شدة من مرض، من فقر، من خوف، من أي ظرف آخر فالملجأ الحق له لكي يرتفع على الهموم، ولكي يتجاوز كل حالات الضعف هو الله، وأن يذكر ربه سبحانه وتعالى، وهو العليُّ الكبير.
هناك مواقف شديدة ضاغطة، تكسر إرادة الإنسان، وتحتاج إلى مزيد من ذكر الله لتثبت القدم، وحتّى لا يخسر المرء دينه ونفسه ومصيره الكبير. من هذه المواقف مواجهة العدو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً} زاد الثبات، والرصيد الضخم الذي تقوى به النفس أن يذكر العبد ربه في هذا الموقف المتصف بالعنف، بالعناد، بالمكابرة، بالعدوانية. وساحات الصراع متعددة، وكل ساحة من ساحات الصراع تحتاج إلى صبر، وثبات، ويقين، وذكر الله هو المثبّت، ويعطي الشجاعة، ويعطي قوة الجنان.
هناك موقف آخر يواجه الكثيرين كل يوم، وهذه ساحة من ساحات يستغلها الشيطان الرجيم لإغواء النفس، وتحتاج إلى مزيد من ذكر الله سبحانه وتعالى، وهي ساحة السوق؛ فالدُّنيا تعرض نفسها في الأسواق، وخاصة في هذه الأزمان. تعرض نفسها بكل فتنتها، بكل زينتها، بكل ما تملك من إغراءات، وكلما تحدت الدنيا النفس احتاجت النفس إلى مزيد من ذكر الله واللجأ إليه، ولا ثبات لنفس الثبات الذي يرضي الله عز وجل إلا باللجأ إليه ولطفه وعنايته.
“أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق، وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب، وزيادة في الحسنات ولا تكتبوا في الغافلين”(3) في السوق تنصرف القلوب للدنيا، للتجارة، للهو، يمتدُّ النظر للمحرمات، للأماني الدنيوية الساحرة.
وأنت هنا مقاتل، تخوض معركة، وقد ثّبُتَّ إذ تعلَّقَ قلبك بذكر الله وانصرف عن هموم الدنيا وتطلعاتها وملكت نفسك أمام المغريات.
“… ولا تكتب في الغافلين” وكم يغفل من خلق كثير عن ذكر الله، وأحكام شريعته، وقيم دينه بسبب ما في الأسواق؟!!
“من ذكر الله مخلصاً في السوق عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له ألف حسنة ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر”(4).
وأنت إذا ثبتَّ في السوق وثبت أمام فتنة الجنس، وثبت أمام فتنة المال فإنك ثابت وبقوة في الميادين الأخرى للصراع.
“اذكر الله عند همّك إذا هممت” على مقربة من المعصية، ومشارفة منها، واليد تكاد تمتد، وأي جارحة من الجوارح لم يبق بينها وبين مواقعة المعصية إلا حاجز ذكر الله، والذكر هنا منقذ من الهلكة يوقف الجارحة عن المعصية، يستعلي بالنفس، يعطيها القوة والصمود، ينجيها.
“اذكر الله عند همّك إذا هممت وعند لسانك إذا حكمت(5)، وعند يدك إذا قسمت”(6) وربما قسمت.
“أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: ابن آدم اذكرني عند غضبك(7) أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك في من أمحق…”(8).
لله غضب سبحانه وتعالى، وغضب الله ليس انفعالاً، وغضب الله عز وجل ليس شعورا يعتري جلاله وجماله وكماله، يعتري الذات المقدسة، غضب الله فعل حكمة، وفعل عدل، وعقوبة تنشأ عند الآخرين من حالة الانفعال الخاصة التي نسميها الغضب، أما عنده سبحانه فمنشؤها الحكمة والعدل والعلم والحق.
لحظة الغضب عند الله عز وجل لا ينجي منها شيء، لا عاصم من الله أبداً وحين يحل غضب الله على قوم فلا عاصم لهم من غضبه.
ذكر العبد ربه عند غضبه فيه نجاة العبد عند غضب ربّه على النّاس، أو عندما يحدث منه شذوذاً ما يغضب الرب.
ثم ماهو الذكر؟ “من أطاع الله عز وجل فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن”(9) كثرة الصلاة والصيام والتلاوة أمرٌ مرغوب في الإسلام، والحث عليه لا يحتاج إلى بحث، وهو مصعد للقلب للقرب من رحمة الله، ومعراج إلى مرضاته، ودليل نفس منشدة إليه الله عز وجل، ولكن قد لا يملك العبد أن يكثر من صلاة وصيام وتلاوة قرآن، فهل هو ذاكر؟ نعم، هو ذاكر إذا التزم خط طاعة الله عز وجل، ولولا ذكر لله في النفس وتعظيم وتوقير وخوف وخشية وحب في النفس لله لما التزم العبد بصدق خط الطاعة، وهل الذكر في حقيقته العميقة إلا خوف العبد ربّه إكباره وتعظيمه له سبحانه وانشداده إلى ذاته المتعالية، وقدسه وجلاله وجماله.
“من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع، ومن كان غافلا عنه فهو عاص، والطاعة علامة الهداية، والمعصية علامة الضلالة، وأصلهما الذكر والغفلة”(10) هذا أخ لنا مثلاً يكثر من تلاوة القرآن، ويكثر من صلاة نافلة، لكننا لا نجده والعياذ بالله على خط الطاعة في المنزلقات والمنحدرات، إذاً لهو غير ذاكر، لو كان ذاكرا حقا الذكر الذي يعمر به القلب، وتشرق به النفس، وتعلو به الروح لما فارق خط الطاعة، ولأعطت التلاوةُ الذاكرة، والعبادة الذاكرة أثرها في الوقوف عن القدوم عن المعصية، وشل اليد عنها، وحبس لنظر عن مواقع الفتن التي لا تُرضي الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل منافستنا على طاعتك، وسباقنا إلى رضاك، واجعلنا ممن يحبك ويخشاك ويعبدك حقا ولا يعبد سواك، اللهم لا حمى إلا حماك، ولا نصر إلا نصرك، ولا خير إلا من عندك، ولا دافع إلا أنت، ولا معز ولا مذل سواك، بك نعوذ، وبك نستجير، وإليك نرغب ياأرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاج، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رزقنا معرفته، ومنّ علينا بنعمته وفضل شكره، وشرف طاعته، وهو الإله الحق الذي لا إله بالحق سواه، ولا معبود بالصدق غيره، والرب الذي لارب معه ولا تعويل إلا عليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، ومجاهدة النفس على إخلاص العمل له، وقصر العبادة عليه، إذا لا أهلَ للعبادة إلا هو، ولا موجب للطاعة إلا أمره ونهيه، ولا يرجى الخير إلا من عنده، ولا يتقى الشر إلا به، ولا نعمة في أرض ولا سماء إلا من فضله، وما فيهما من شيء إلا في قبضته، ولا تصير نفس إلا إليه، ولا تقوم إلا بأمره، ولا تهتدي إلا بهداه، ولا تستقيم إلا على صراط دينه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا نور البصيرة، وإخلاص النية، وصدق العمل، والاستقامة على الطريق، والثبات على الحق، واجعلنا من أصلح عبادك، وأصدق عبّادك، يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم على عبدك وحبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريق، وانصرهم نصرا عزيزا مبيناً قريباً ثابتاً مقيماً.
أما بعد فهذه موضوعات خمسة يكون الحديث فيها حسب الوقت:
1. الدم لا يتقادم.
2. بلغ السيل الزبا.
3. إسلام بلا مذاهب.
4. إسلام بلا حديث.
5. إسلام بلا مرجعية.
أولاً: الدم لا يتقادم:
من أهرق قطرة دم من غير حق فأول خصم له في ذلك هو الله، ومن كان الله خصمه فلا مفر له في أرض ولا سماء، ولا يرخص الدم الحرام إلا إذا رخص الدين أو جهل، وهذا مما لا مراء فيه. وقد أُهرق دم كثير حرام من دماء أبناء هذا الشعب تحت طائلة التعذيب الظالم، أو الرصاص الغادر، والغاز الخانق، أو الاغتيال الغامض، وكل ذلك رفضت الحكومة أن تعاقب عليه، أو أن تكشف مستوره، وكل تلك الدماء لا زالت معلّقة في رقبة الحكومة.
ودم الشرطي المقتول أخيراً دم محترم كغيره من دماء كثيرة سبقته، ولكنه ليس أعز منها، والدم الحرام لا يتقادم. ودماء الانتفاضة، مر عليها زمن، ودماء أخرى قبلها مر عليها زمن، ولكن الدم الحرام لا يتقادم، ولا يُسقط طولُ الزمان كرامته وحرمته، ولا يذهب بحق المطالبة بالقَصاص ممن سفحه، والتحقيق الحق المحايد في كل دمٍ حرام أطل من غير وجه شرعي حقٌّ وواجب، كان هدره اليوم أو مضت عليه سنون، والتحقيق الحق لا يقوم على إكراه وضرب وتعذيب، وأي عقوبة منشؤها هذه الأساليب في الإثبات ظلم وجريمة تستحق العقاب.
وهناك جرائم دموية مكشوفة ارتكبت في حق أبناء الشعب من قبل رجال أمن في المظاهرات السابقة واللاحقة وغيرها، وعلى أيدي المعذبين في الغرف الخاصة لوزارة الداخلية السابقة، وهي لا تحتاج إلى تحقيق بعد أن كانت مكشوفة.
وما احتاج من جرائم إلى تحقيق فلابد أن يكون التحقيق فيه محايداً وشاملا وفي عرض واحد، وبصورة متزامنة بالنسبة لما تنسبه الحكومة إلى غيرها، وما هو منتسب بوضوح إليها.
وحادثة القتل الأخيرة هي إحدى الحوادث التي تحتاج إلى تحقيق موضوعي محايد، ولا يتحد فيها المحقق والشاهد والمدعي والقاضي، خاصة وقد ناقض قول ولي الدم قول الجهة الرسمية في كيفية الوفاة، وبعد أن أكد بعض من أهل النزاهة في قرية كرزكان أن ليلة الحادث كانت ليلة هادئة على مستوى المواجهات المعتادة.
الحق أن لا يضيع دم المقتول، وأن لا يفرق بين دم وآخر مما عصم الله سبحانه، وأن لا يُنال أحد عقوبة لمجرد الظن والتهمة، وتحت طائلة الإكراه وفنون التعذيب، والحق أن التعذيب للإثبات من أقبح الجرائم، وأظلم الظلم الذي يجب أن يُعاقب عليه.
ولنحذر جميعا حكومة وشعبا القتل بظلم، فإن القتل قتّال للشعوب والأمم ما لم يكن بحق، والحق ما شرعه الله عز وجل.
وقد تكرر كثيرا عند هذا القلم وهذا اللسان وعند الكثيرين من أن الأمن يتطلب الإصلاح، والإصلاح غير مستحيل ممن بيده القرار الذي يسنده المال والقوة والسلطة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثانياً: بلغ السيل الزبا:
نعم، بلغ السيل الزبا، وطفح الكيل، واهترأت الأخلاق، وأنذرت الأوضاع بكل شؤم وسوء. ليس ببعيد ما حدث لعلماء ثلاثة من علماء الدين من إهانة غير مبررة على يد رجال الداخلية في الشارع العام، وما كان من عدوان جسدي ومعنوي على سماحة الشيخ عبدالأمير الحوري وأهله الشريفة بصورة بشعة موغلة في الوحشية والاستخفاف بالحق والكرامة، فكان السب والشتم والضرب والإهانة(1).
ثم يعود الأمر ثانية وبصورة بالغة الخسَّة والمهانة والقبح وذلك أن شابة مؤمنة تُستوقف سيارتها عند السنابس من رجال الداخلية كذلك لتُضرب وتلطم وتدمى وتركل وذلك في وضح النهار بلا أدنى حياء، ولا وازع من ضمير، أو احترام لحرمة المواطن وكرامته…
ولماذا؟ لا شيء يبرر الحادث، وليست المعنية مطلوبة في قضية، ولو كان فهو غير مبرر – والأجواء هادئة وليست أجواء مظاهرات في ذلك الوقت – ولو كان فهو غير مبرر – والسيارة ليست فيها ممنوعات، ولو كان فهو غير مبرر. أين حرمة الإسلام، وأين حرمة المواطَنة، وأين حرمة الإنسانية، وأين الرعاية لخصوصية المرأة في مجتمع الإسلام والإيمان؟!
هل تحولت البلاد إلى غاب على يد رجال الرعب الذين يجلبون من كل واد للتنكيل بهذا الشعب؟
أبعد هذا الاستفزاز استفزاز أكبر؟ أين هذه التصرفات الجنونية المستهترة من التعقل الذي يطالبون به أبناء هذا الشعب؟! أين الأصوات التي مجتها الأسماع وهي تتباكى من عنف الأزواج والآباء والاخوان بالمرأة من هذا العنف والظلم والإهانة والإيغال في الوحشية في التعامل مع المرأة لا لذنب؟!
لو كان عدل في هذا البلد فالعدل أن تعاقب الداخلية رجل أمنها كما يحلو لها أن تطلق عليه في الشارع نفسه الذي ارتُكبت فيه جريمة الإهانة والضرب والركل للشابة المؤمنة، وعلى مرأى من الناس، وكما حدث للشابة المؤمنة التي نالها جرحان وألمان، ونال بجرحيها وألميها جرحان وألمان كلَّ قلب حي في هذا الشعب(2).
الجرحان هما جرح بدن وجرح نفس، ومن أجل أن تكفّ وحوش الغابات عن دماء وكرامات هذا الشعب على الداخلية أن تنزل العقوبة الكافية العلنية على مرتكب الجريمة.
ثالثاً: إسلام بلا مذاهب:
قرأت لكاتب سعودي لقبه المالكي دعوة إلى إسلام بلا مذاهب، والقول عنده يقسم أن دعوة “إسلام بلا مذاهب” على رأيين رأي يبقي على المذهبية والانتماء إلى أئمة خاصين، ويوجب التعبد على رأي هذا الإمام أو ذلك الإمام من الناس الذين اتخذهم المسلمون أئمة لهم في الدين. ولكن إذا سُئل الشخص عن انتمائه الديني قال أنا مسلم من غير أن يضيف إلى ذلك أنه حنبلي أو جعفري أو شافعي وما إلى ذلك.
وكأن شأن هذا الرأي شأن التقليد عند الإمامية في الوقت الحاضر، فإن المكلفين ينقسمون في التقليد ولكنهم في النسبة لا ينتسبون إلى هذا المقلد أو ذلك المقلد في مقام التعريف بانتمائهم وإنما ينتسبون إلى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
إذا كان هذا الرأي يعني مذهبية بلا عصبية تبقي على حق الآخر في التمذهب، وفي المشتركات الإسلامية والوطنية العامة، وعلى احترام الإنسان المسلم فهو، وإلا إذا كان إلغاء النسبة إلى المذاهب ليس لحفظ الحقوق، ودفع العصبيات وإلغائها، وإنما لتضييع الحقوق أو أنه يُتخذ مقدمة لرفع اليد عن الإسلام، وعن أخذ الرأي العبادي من مصادره ومراجعه الموثوقة فإنه يلتقي مع التفسير الآتي لمقولة إسلام بلا مذاهب.
المعنى الثاني والذي يطرحه الكاتب هو أن قولة “إسلام بلا مذاهب” تعني إلغاء المذاهب كليا وعلى مستوى الواقع، فلا يوجد أي مذهب في الإطار الإسلامي ولا مرجعية لأي من الأئمة الذين اتخذهم المسلمون أئمة.
هذا الرأي الأخير للتكليف معه بقاءاً وارتفاعاً أكثر من فرض:
أ. أن ينحصر التكليف في الضروريات، ومعنى ذلك أن نرفع يدنا عن المساحة الكبرى من الإسلام، وأن يتعطل الإسلام في أكبر مساحته، وتنفصل عنه الأمة، وتبحث عن قاعدة أخرى لها غير الدين في التعامل مع المساحة الكبرى من الحياة.
ب. أن يُستغنى عن الشريعة كليا بعد إلغاء المذاهب إذ يعسر الوصول إلى الحكم الشرعي على المكلفين أو على أغلبهم. فالعلاج لمسألة عدم الوصول إلى الأحكام عند سائر المكلفين بعد التخلي عن المذهبية بإلغاء الالتزام بالشريعة نهائياً، وهذه دعوى لنفي الإسلام.
ج. هناك فرض آخر: أن يعم التكليف بالأحكام وأن يعم التكليف بالاجتهاد، فصحيح لا مذاهب، ولكن تجب الأحكام الإسلامية على كل مكلف، ولأنه لا وصول إلى الأحكام بعد إلغاء المذهبية إلا بالاجتهاد في أغلب الأحكام فإذاً يجب الاجتهاد على جميع المكلفين، وهذا فرض غير عملي بتاتاً لأن الاجتهاد من أصعب الاختصاصات، ولا يمكن للأمة لو أُوتيت الذكاء الكافي، الفطنة الكافية أن تتوفر جميعها على الوقت الذي يتطلبه الاجتهاد، وهذا يعني أيضاً إلغاء الإسلام، ورفع اليد عنه بالنسبة للغالبية العظمى من المكلّفين.
د. فرض آخر: يأتي مع إلغاء المذهبية انتقائية الهوى للأحكام، أن يترك لكل مكلف أن ينتقي ما يشتهي من الأحكام من أقوال العلماء الماضين واللاحقين أو مما عنَّ له هو أن يعتبره حكما، وهذه الفوضى الضاربة والبعد الواضح عن دين الله تبارك وتعالى، فالمرجعية هنا لا تكون للرأي العلمي وإن أُخذ الحكم منه؛ إنما المرجعية للهوى، ومعنى ذلك أن نلغي العقل والدين ونأخذ بمرجعية الهوى.
ه. يأتي فرض التخيير بين الاجتهاد والتكليف وعدمهما، بأن إذا اجتهدت أمكن لك أن تصل إلى الحكم الشرعي وبذلك تكون مكلفا بما أوصلك إليه اجتهادك، أما إذا أردت أن لا تجتهد فلا تجتهد ولستَ مطالبا حينئذ بحكم شرعي، وهذا رجوع في الحقيقة إلى ربوبية العبد وليس إلى ربوبية الرب، فالعبد رب نفسه، أراد أن يكلّف نفسه فليكلّف نفسه، وإذا أراد أن لا يُكلّف نفسه فله أن لا يكلّف نفسه.
و. عموم التكليف مع بقاء الاجتهاد والتقليد، التكليف باقٍ، وأنت إما أن تجتهد أو تقلّد. وهنا نرجع في الحقيقة إلى تعددية المذاهب، فإذا كان طرحُنا أن على نفر من الأمة أن يجتهد، وعلى الآخرين غير القادرين أو الذين لم يجتهدوا فعلا أن يرجعوا إلى المجتهدين رجعنا إلى تعددية المذاهب.
فالرأي باطل، وفيه مواجهة للإسلام على كثير من فروضه، وهو على بعض فروضه غير عملي، أو يرجع بنا إلى ما حاولنا أن نهرب منه، وهو قضية تعددية المذاهب.
والنتيجة الأولى لهذا الرأي إلغاء الشريعة كليا أو بصورة شبه كلية، وولادة أمة غريبة على الإسلام، والإسلام غريب عليها.
النتيجة الأخرى إلغاء الإمامة والعصمة عند أهل البيت عليهم السلام، والمصادرة لهما.
ثم نتيجة أخرى لو بقيت صلاة وصوم وحج إلخ لكنا أمام صور من الإسلام بعدد من يصلي ومن يصوم على بعض فروض المسألة.
والخلاصة أن إذا وجد من ينادي بقضية إسلام بلا مذاهب بهذا المعنى فهو ينادي بقضية أن لا إسلام(3).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكفنا ظلم الظالمين، وكيد الكافرين والمنافقين، وجهل الجاهلين، وأن تزيغ قلوبنا عن الطريق، وتزل أقدامنا عن الصراط، وتستهوينا عن الدنيا فننسى الآخرة، ويعظم في نظرنا المخلوقون فنغفل عن الخالق، وأن نطيع من فيه طاعته معصيتك، وفي رضاه غضبك، وفي متابعته أليم نارك وشديد عقوبتك يا رحيم يا رؤوف يا علي يا قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج90 ص162.
2 – 28/ الرعد.
3 – بحار الأنوار ج100 ص96.
4 – المصدر السابق ص102.
5 – وما أصعبها من معركة مع اللسان.
6 – بحار الأنوار 74 ص171.
7 – أنت تحتاج إلى ذكر الله في لحظات الشدة، وعنفوان الضغط، وهذه لحظة من لحظات يكفر من خلالها أناس كثيرون. لحظة الغضب إذا استولت أخرجت من الدين، أخرجت من الوقار، أنست المصلحة، ومواجهتها تحتاج إلى ضابط ولا ضابط كضابط ذكر الله سبحانه وتعالى.
8 – بحار الأنوار ج72 ص321.
9 – بحار الأنوار ج77 ص86، ج71 ص177.
10 – بحار الأنوار ج93 ص158.
____
1 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
2 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
3 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).