خطبة الجمعة (314) 21 صفر 1429هـ – 1 مارس 2008م

مواضيع الخطبة:

*متابعة لحديث الخوف *أولاً: ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام *ثانياً: قضية المعتقلين *ثالثاً: إصلاحان أو إصلاح واحد *رابعاً: مفارقات

الساحة يملؤها شعار الشفافية على المستوى الرسمي وصحافته، وتصريحاته، إذاعته، تلفازه، مؤتمراته، مقابلاته. شعار شفافية، لكن لا تذكروا اسم تقرير البندر؟! شفافية ولا يصح التحقيق في التمييز الطائفي ولا غيره!! شفافية ولا تبحثوا عن مسألة التجنيس ولا تنبسوا بشأنها ببنت شفه!! شفافية ولا كلام عن السواحل والأراضي المستولى عليها بلا حق لصالح بعض الأفراد!! شفافية والاستجواب للوزير خطّ أحمر!! هذا ما تقضي به الشفافية!!

وانتبه جداً إلى أن الخطوط الحمر أمام النيابي فضلاً عن غيره غير مربوطة بعدد واضح معيّن.

الخطبة الأولى

الحمد لله ربّ السماوات العُلى، والأرضين السّفلى، وكلّ ما في الكون من شيء، وهو البارئ الذي لا بارئ غيره، والربّ الذي لا ربَّ سواه، ولا يخفى عليه شيء من خلقه، ولا تغيب عنه غائبة مما بيده تدبيره، وكيف يكون التدبير بفيض الوجود والحياة على كلِّ شيء بقدره، وحسب موقعه ودوره في نظام الوجود والحياة وهو غائب عن مدبّره؟!
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الذي لا تزين نفس إلا بها، ولا تزكو هدىً ونوراً إلا بزادها، ولا تصير النّفس إلاّ إلى انحدار وعمى إذا لم تتحلَّ بها. ومن أراد من الله سبحانه مزيد رحمة فليتّق الله، ومن طمع في جنّته فسبيله إلى ذلك التقوى.
وهداية القلوب تتنزل عليها بقدر تقواها، ولا يعرف امرؤ من نفسه صدق التقوى حتّى لا يختلف سرُّه عن علنه في ملازمة الطّاعة لله، والبعد عن معصيته، والإقلاع عن الشّرّ كلّ الشر، وطلبِ مرضاة ربّه الكريم؛ وإلاّ فلا تقوى بحقّ وإنما هو خداع النفس لصاحبها، والتفافها على عقله ووعيه.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ونوّر قلوبنا بنور الإيمان، واهدنا سواء السبيل، وكن لنا عوناً على أنفسنا، وادرأ عنّا الشيطان الرجيم، وزدنا من خير التقوى، وطيّب زادها الكريم، وصل على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فهذه متابعة أخرى لـ حديث الخوف من الله تبارك وتعالى:
{… يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ …}(1).
تنتهي صياغة الإنسان المؤمن به إلى أنّ نفسه تعيش هذين البُعدين في تعادلٍ من غير إفراط ولا تفريط، نفسه تحذر عذاب الآخرة لا لظلم الربّ وإنّما بذنب العبد، وهو يرجو رحمة ربّه الواسعة، وتفضُّله وإحسانه. والحذر من العذاب يقف بالنّفس عن المعاطب والمزالق والمنحدرات، ورجاء رحمة الله عزّ وجلّ ينقذ النّفس من أن تيأس، فتقف حركته، فرحمة الله عزّ وجلّ تبقي للنّفس أملها، وتبقي لها فرصة العودة إلى الله سبحانه، والانطلاق على صراطه المستقيم تكميلاً لذاتها، وأخذاً جادّاً بدور خلافتها في الأرض.
“ارج الله رجاء لا يجرّئك على معاصيه وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته”(2).
إذا كانت رحمة الله واسعة، وعطفه عظيماً، وإحسانه لا يضيق بشيء، والتكرّم والتفضّل والعفو والتجاوز عن الذنب خلقه فلماذا لا يتجرأ العبد على المعصية وقد أمن من العذاب وهو من العبيد الذين لا يعبدون الله عزّ وجلّ إلا خوفاً من العقاب؟
العقاب بعفو الله ورحمته الواسعة، وتفضّله وإحسانه تأمنه هذه النفس التي لا تراقب من الله عزّ وجل إلا سطوته وعذابه على المعصية وهي نفس لا تعيش الاحترام لله عزّ وجلّ، ولا تنظر إلى عظمته وتفضّله وإحسانه فتعيش الحب له، وتوجب على نفسها الشّكر لنعمه؛ فلِمَ التوقّف عن المعصية، ولِمَ عدم الجرأة وقد أمنت العذاب؟
لا ينبغي لنفس أن تنسى عدل الله، وقدرة الله، وحق الله في العقاب، وحكمته التي قد تقتضي العقاب. وهذه نافذة تمنع من الجرأة بدافع الإيمان برحمة الله وسعة إحسانه.
ولماذا لا يستبدّ الخوف بالنّفس حتى اليأس نظراً للذنّب العظيم، وقبح الفعل من العبد؟ ذلك لأن النفس اعتادت الإحسان من الله، وعاشت كلّ حياتها وهي تتلقّى فيوضات من الرحمة، ودروساً من التسامح، والعفو والتفضّل الإلهي بمقابلة السيئة بالإحسان.
أكفر الكافرين يُرزق ويُعطى الصحّة ويكون له الجاه، ويُمدّ في عمره، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وكم عصى هذا العبد، وكم أسرف على نفسه، وهو يعلم أن الله على كل شيء قدير، إلا أنه يجد الإرجاء بعد الإرجاء، وإتاحة الفرصة للتوبة بعد الفرصة. إذاً لا يسع لنفس تلتفت إلى عفو الله وإحسانه أن تيأس من رحمته.
“(من وصايا لقمان لابنه) خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببرّ الثّقلين لعذّبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك”(3).
برّ الثقلين وتعذيب؟! نعم، من حقّ الله، ومن عدل الله أن يُعذّب من جاء ببرّ الثقلين لو أراد أن يُقاصّ العبد، وأن يحاسبه العبد حساباً دقيقاً دقيقاً بحيث، يكون عمله في كفّة، ونعم الله في كفّة أخرى، في هذا الحال من كان لعبد أياً كان أن ترجح أعماله أفضالَ الله تبارك وتعالى؛ فلا تعويل على العمل وإنما التعويل على رحمة الله وفضله وإحسانه.
النفس التي تغترّ بعملها نفسٌ لا تعيش حالة الإيمان اليقظ الواعي، ولا تعرف من حقّ الله الكثير، فالعارف بنعم الله وأفضاله لا يأخذه غرور من عمل صالح مهما كان كثرةً ومهما كان أخلاصاً وروعة.
“وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك” لأنه الغني عن عذابك، الذي لا حاجة له في تعذيب أي عبد، ولأنه الكريم. خلقك كرماً، ورزقك تفضّلاً، وسامحك في حياتك السماح الكثير تنزّهاً، وفي كل يوم يُعلّمك إحسانه وتفضّله أنه لا محسن كإحسانه، ولا تفضّل كتفضِّله.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(4).
الهوى شهوات في النفس، ودوافع ماديّة ونزوات، ورغبات طائشة، وعواطف بلا عقل، الهوى خلفيّة سلوك خالية من الحكمة، خالية من التأمّل والتمعّن، بعيدة كلّ البعد عن ضوابط العقل وحساب المصلحة.
و متى يعرف أحدنا من نفسه أنه خاف الله، خاف مقام ربّه، وليس عقاب ربّه، وفرق بين أن أخاف عقاب ربي وأن أخاف مقام ربي، وهو مقام العظمة والجمال والجلال والكمال، مقام التفضّل والإحسان، ومقام الرقابة الدائمة التي لا تخفى عليها خافية، وذلك المقام لابد أن يُهاب، لا بد أن تعفّر الخدود والجباه أمام عظمته، إنّ جمالاً من الجمال الذي خلقه الله، كجمال علم، وجمال طهر ووحي وتقوى، وكرامة نفس ليعطي شخصية نموذجية رائعة تحتل مكانتها في القلوب وتستقطب الأرواح، أما الجلال المطلق، و الجمال المطلق، الكمال المطلق، فلا يملك أحد إلا أن يُصعق أمامه.
الخائفون من مقام الله لا يحكمهم الهوى ولا يجد له مكاناً في أنفسهم، وإنما يحكمهم حبّ الله، خوف الله، تقوى الله ويملأ أقطار نفوسهم النيّرة الطاهرة بما لها من هذا الخوف والحب والتقوى.
“من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه، وما أدري ما رجاء رجل(5) نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو”(6).
الرجاء الصادق يدفع، يحرِّك، ينشِّط، يعطي تصميماً، يعطي إقداماً، وكلّما كبر الهدف، وكلّما سمت الغاية، كلّما سهل الطريق وإن كان صعباً، ذلك لتضاعف تحمّل النفس. فلأنّها مجذوبة لهدفها الكبير، تتحمّل من الأتعاب أضعاف أضعاف ما يتحمّله الجسد، والخائف من شيء لابد أن تقف به رجله عن الإقدام على طريقه، ولابد أن يكون متراجعاً بدل أن يكون متقدماً على ذلك الطريق.
الرجاء الصادق يفعل الإقدام، والخوف الصادق يولد الاحجام، فيأتي تساؤل أمير المؤمنين عليه السلام التعجّبي ما أدري ما خوف رجل يدّعي الخوف من الله، ليبيّن لنا أن الخوف الذي لا تحرّك ولا يمسك إنما هو خوف ادّعائيٌّ كاذب، ولو كان صادقاً لأثّر.
“ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه” الشهوات قاتلات، يبني المرء لنفسه شرف سنين، وسمعة عمر، وثقة تهجم على قلوب المؤمنين، وتتغلغل في أفئدتهم، وإذا بلحظة من عمره تعصف بكل ما بنى في الأرض، وبكل ما بنى في السماء، وبعد أن يقطع الشوط الطويل على طريق الله تكون الانحدارة المروّعة فيهوي إلى المنحدر السحيق، لماذا؟ أمام بَشَرة بيضاء، أمام ملامح وجه فتاة، وكذلك الفتاة تُخدع، وزماننا زمان مغرٍ جدّاً والفتنة فيه في هذا الجانب بخصوصه فتنة كبرى، وكلّ واحد منّا مسؤول حين يرمي بنفسه في مواطن الفتنة ثم يأسف. ضعفك ليس عذراً، لماذا تقدمت برجلك إلى مثل هذه المستنقعات الموبوءة؟ ولماذا تصرّ على النظرة المحرّمة؟ ولماذا تهاتف الفتاة بسبب مرضيّ وغير مرضيّ؟ ولماذا تدخل معها في أحاديث مثيرة؟ ولماذا تسلّم نفسك إلى القنوات الشيطانية الموصّلة؟ لا زلت تملك إرادتك، وبرغم كل ما فيه هذه الأرض من مفاسد ومن مغريات لازال الإنسان يملك من نفسه ما يملك، ولن تسقط المسؤولية.
استحضر خوف الله عز وجل ينقذك، أمير المؤمنين عليه السلام يسأل، سؤال مقرِّر، مؤكِّد، مبيِّن، بأن لا خوف من الله عزّ وجل في نفس تستجيب للشهوة الاستجابة المحرّمة؛ فما كان لنفس أن تغلبها شهوة الحرام وهي تخاف الله سبحانه.
“ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه، وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو”.
ألا يخاف أحدنا النار فيحجزه هذا الخوف عن الارتماء في أحضان الرذيلة؟ ألا يرجو أحدنا ثواب الله تبارك وتعالى فيصبر على محنة جنس أو غير جنس؟!
غفر الله لي ولكم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل خوفنا منك صادقاً، ورجاءنا فيك أكيداً، وثقتنا بك كبيرة، وتوكّلنا عليك لا على سواك، وقصدنا إليك لا إلى غيرك، وزدنا من فضلك، وبلّغنا رضاك، وأسكنّا في حياة الخلد جِنانَك، ولا تفرِّق بيننا وبين طاعتك ومحبَّتك ومحبّة أوليائك طرفة عين، ولا تطفئ نور الإيمان في قلوبنا، ولا تسلبنا هداية مننت بها علينا من فضلك، ولا كرامة خصصتنا بها من فيضك، ولا نعمةً في دين أو دنيا وهبتنا إياها من رحمتك يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى، يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي ليس لعطائه مانع، ولا لقدَره دافع، ولا لعلمه حاجب، ولا لمثل ثوابه باذل. لا أمر يسبق أمره، ولا قَدَر يقوم لِقَدره، ولا شيء يثبت لغضبه، ولا قوة تناهض قوّته. قاهر غير مقهور، وغالب غير مغلوب، له الملك ولا مُلك لغيره، وله الحكم ولا حكم لسواه. الملوك عبيده، والأقوياء ضعفاء بين يديه، والجبابرة أذلاء لقهره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله فهو أهل التقوى إذ إن له لا لغيره الجلال والجمال، والكمال، وله الخلق والرزق والتدبير، وهو ذو الفضل والإحسان والامتنان، وفي طاعته الجنة، وفي معصيته النار، ولا حامي يحمي من غضبه، ولا شفيع من دون إذنه، ولا راد لخير قدَّرَ، ولا دافع لشرّ قضى.
عباد الله علينا أن نُعمِل النّظر، ولا نستسلم للغفلة، ونتّبع الهوى، ويستوليَ علينا حبُّ الدنيا، فهي طريق سفر قصير، مُفضِبةٌ إلى دار قرار بلا آخِر ولا انقضاء، وهي تجدّ السيرَ بأهلها لا تكفّ مسرعة بهم إلى المنايا فلا يلبثون أن يجدوا أنفسهم صرعى قبور، وسُكّان حفر غطّاها التراب، لا أنس لهم بشيء من الدنيا، وقد وجدوا ما عملوا من خير حاضرا وما عملوا من سوء، وضاقت صدروهم من عتاب وحساب، وهم من مستقبل أمرهم فزعون، إلا من أحسن صنعاً في هذه الحياة، وعمل صالحاً وكان من المؤمنين فآمَن الله روعته، وأنعم عليه في آخرته تفضّلاً وإحساناً وكرماً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وأحينا ما أحيتنا خير حياة، وأمتنا إذا أمتّنا خير ممات، وابعثنا إذا بعثتنا خير مبعث واحشرنا مع الأبرار.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي مير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وأعزهم بعزك، وانصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز.
أما بعد فإلى عدد من الموضوعات يستوفي الحديث منها ما وسعه الوقت:
أولاً: ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام:
مرّت أمسِ ذكرى أربعينية استشهاد أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وأهل بيته وصحبه الكرام، والسؤال بهذه المناسبة لماذا خلود ثورته عليه السلام؟
ذلك أنها ثورة الإسلام منطلقا وهدفا ورسالة وأخلاقيّة، وهي ثورة الإسلام إمامة وقيادة، ووعياً ورشداً وسعة أفق، وتفوّق قيم، انفتاحا على المكان والزمان والإنسان انفتاح رحمة وعدل وسلام، والإسلام. فطرة عميقة ثابتة، وحاجة إنسانية دائمة، وهدى لا يُستغنى عنه، وصدق لا تجد صدقاً مثله، وحلٌّ لا حلّ يعدله، إسِلام يمشي في الأرض على قدميه لا يموت، والحسين عليه السلام وهو الإسلام لا يموت، وخطّ الصادقين مع الإسلام والحسين عليه السلام لا يموت.
ثانياً: قضية المعتقلين:
المعتقلون مظلومون من ثلاث جهات:
أولاً: سد أبواب الحل للأزمات من قبل الحكومة، وتعطيل فاعلية المجلس النيابي مما يدفع الشارع إلى المظاهرات والمسيرات التي قد تستتبع لوناً من المصادمات والمضاعفات التي يذهب الشباب ضحية لها بالإعاقة والجراحة والقتل والتغييب في السجون.
ثانياً: الاعترافات التي تؤخذ بالإكراه وعن طريق أساليب التعذيب النفسي والجسدي.
ثالثاً: المحاكمات غير النزيهة التي لم يحدث أن سمعنا إدانتها لأي مسؤول ومقرّب من الجهة الرسمية في يوم من الأيام، وإدانتها وتبرئتها للمتهم تجدهما تابعتين للتوجه السياسي الرسمي وإرادته حتّى يصل الأمر إلى الكيل بمكيالين في القضايا المتماثلة.
والنتيجة أي أي حكم يدين الشباب المعتقلين سيُعدّ حكما سياسيا محضاً، وهو محكوم عليه بالظّلم، ومرفوض ابتداءً بطبيعته.
ثالثاً: إصلاحان أو إصلاح واحد:
ما يُسمّى بالإصلاح السياسي والإصلاح المعيشي هما إصلاحان فعلاً أو إصلاح واحد إما أن يكون أو لا يكون؟
في النظر هما روحاً إصلاح واحد امَّا أن يوجد أو لا يوجد، وليس يوجد أحدهما في غياب الآخر فيبقى الآخر مغيّباً كان هذا أو ذاك؛ فروح التسلط الظالم واحدة، وروح العدل واحدة، فإن تكن الأولى تجدها في السياسة والاقتصاد وغيرهما، وتشهدها عليها كل الأبعاد، وإن تكن الثانية تجدها حاضرة في السياسة والإقتصاد كذلك، وتشهد بها كل الأبعاد.
ومن هان عليه أن يظلم في السياسة هان عليه أن يظلم في الاقتصاد، ومن هان عليه أن يظلم الناس في لقمة العيش هان عليه أن يسوسهم بالخسف، ومن استقبح الظلم استقبحه في كلّ ساحاته، والنفس التي تأنس الظلم تأنسه في كل الميادين.
وإذا أبيت إلا أن تقول أنهم اثنان يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر ومن مصدر واحد فإني أقول لك على هذا أنهما لا يتعارضان، ويمكن اجتماعهما وتزامنهما فلا طوليّة بينهما ولا ترتّب ولا عذر للاشتغال بأحدهما عن الآخر كما تريد أن تدّعي الحكومة، ومن ينتصر لها في هذا الأمر.
بل إنهما يتساندان ويدعم كل منهما صاحبه، والعلاقة بين الظلم السياسي والاقتصادي علاقة صميمية ومتينة كذلك.
الظلم السياسي يفتح باب القدرة على الظلم الاقتصادي، ويغري به، ويتقوّى بمردوده، وهو مستهدف له؛ ولا يدوم بدونه، فلا تصدّق أنه ينفصل عنه كأن يقوم عدل اقتصادي في مناخ الظلم السياسي.
والاستئثار الاقتصادي والاستعلاء المالي، والتمدد المادي يغري ويمكّن من الطغيان السياسي وهو يحتاجه لحمايته والإبقاء عليه وتوسّعه.
وقد يحصل إصلاح معيشي محدود لا بقصد حل المشكلة الاقتصادية ومعالجتها جذريا، وإنما من باب تهدئة الخواطر المحتقنة، وذرأً لمقتضيات آنية، ولاحتواء الأوضاع حتى لاتتفجّر مما يمثّل خطوة سياسية لتثبيت الظلم الاقتصادي والسياسي معا على المدى الطويل.
المطلوب عدل شامل تفتقده علاقة الحكم مع الشعب في السياسة والاقتصاد والتعليم وفي كل الجوانب. والمعاناة التي يعيشها الشعب هي معاناة من فساد عام يمارسه الجانب الرسمي، ويهدد حياة أبناء الشعب، ويهدر كرامتهم، ويأكل إنسانيتهم.
والمشكلة واسعة وجدية ومتجذرة لا يجدي لحلها إلا إصلاح بسعتها وجديتها وتجذرها.
والحجم المتضخم للمشكلة وتشعبها وتجذرها وقساوتها كلّه واضح وتعلنه لغة الواقع اليومي على الأرض، ولغة الأرقام والحقائق المرصودة التي صارت تتحدث بها كتلة الوفاق داخل المجلس النيابي وإن وقفت بعض الكتل مانعاً من الاستفادة منها.
رابعاً: مفارقات:
هذا عدد من المفارقات التي تضحك وتبكي.
هناك أنظمة فردية تأسيسا وبقاء أنظمة حديدية فردية في تأسيسها وفي بقائها، تعتمد السيف والسوط، وهذه الأنظمة وهي تمارس ما يُسمّى بالدكتاتورية بأقبح وأسوأ صورها تظهر هلعها على مصير الديموقراطية من بروز الإسلاميين هنا أو هناك.
هؤلاء يمارسون الظلم، ويعيشون نزعة الحكم الفردي، ويقسون على الشعوب، ويُنكّلون بها، ويطاردون من يطالب بالحقوق من أبنائها، وهذا كله أمر واقع، لكنهم يهلعون على الشعوب لو جاء إسلاميون في موقع من المواقع إذ يحتمل عندهم أنهم يعادون الديموقراطية7، وهل أنت صديقها؟! وهل أنت داعيتها الحق؟! هذه مفارقة.
مفارقة أخرى: علمانية الغرب وتركيا ترفع شعار حماية الحرية الفردية، وهي تعيش مواجهة شرسة في تركيا لقرار ديموقراطي بفتح حرية الحجاب، وليس باب الإكراه على الحجاب، علمانية تركيا تُكره على السفور، وتقف سدّاً منيعاً وتنزل العقوبة على المتحجبات، وهي تدعي الديموقراطية،وتدعي الانفتاح، بينما تناهض قراراً نشأ في أحضان الديموقراطية، وبقرار ديمقراطي محض، وهذه المواجهه لا لأن القرار يكره على الحجاب وإنما لأنه يخيّر الناس في قضية الحجاب، فالإسلاميون في تركيا يعطون الحرية للمرأة أن تتحجب أو لاتتحجب، والعلمانية دعاة الحرية يكرهون المرأة على عدم الحجاب.
ومبادرة فردية على مستوى الحجاب في الغرب تستنفر دولة، فتاة في السادسة عشرة تختار لنفسها الحجاب في المدرسة تقيم الدولة ولا تقعدها، تقيم حرية الغرب ولا تقعدها، حتّى تنزع هذه الفتاة الحجاب، انظروا مدى المفارقة!!
السياسيون الدنيويون،8 وأتباعهم كثيرا ما يعظون الإسلاميين بأن عليهم أن يُبقوا على قداستهم، وعلى النأي عن السياسة لئلا يترجّسوا ويتنجّسوا، لكنك تعجب حين يتعاطون وبلا شروط وهم منغمرون في سياسة الظلم، وفي سياسة الأنا والمادة، والتبذخ على حساب الشعوب والأمم، والإساءة إلى الإنسان، هذه الألقاب الرفيعة: صاحب السعادة، صاحب السموّ، صاحب العظمة، صاحب الفخامة، صاحب الجلالة.. أيخشون على المتدينين من الرجس والنجاسة والقذارة والتمرغ في الوحل ولا يخشون على أنفسهم كل هذا؟! وكيف تعطي السياسة لأهل الدُّنيا عظمة وسموا وجلالة وقداسة، بينما لا تعطي للدينين الذين يتعاملون معها بالقيم الطاهرة إلا النجاسة والتسافل؟!!
نوابٌ يرون أنفسهم نواباً للشعب بكامله، ولكنهم يفسّرون هذه النيابة العامَّة بأن يتفرجوا على الظلم إذا لم يكن هذا الظلم مستغرقاً بكل فرد فرد من أبناء الشعب، أو بكلّ فئة فئة، وطائفة طائفة. يقولون لك إن الظلم إذ اختص بطائفة فليس من شأن النيابي ونيابتة عامة عنه أن يتدخل لرفعة. فليعم الظلم، إذا عمّ نصف الشعب وليعم أكثر من ذلك فإن النائب وإن كانت نيابته عامة لا يعنيه هذا الظلم الواسع، وليس عليه أن يبذل أي محاولة في رفعه. وهل سينقضي الفصل التشريعي بكامله وله خلفية من هذا الفهم؟ واويل هذا الشعب من نواب بهذا المستوى من الفهم، أو بهذا المستوى من القصد، وبهذا المستوى من التدين!!
نصرانيّة في أطراف الدولة الإسلامية التي يرعاها علي عليه السلام تصاب بأدنى سوء تدمي قلب علي عليه السلام، ويستحق حدثها في نظره أن يتحرك الجيش إذا لم يدفع عنها الظلم إلا بتحرك الجيش.
الساحة يملؤها شعار الشفافية على المستوى الرسمي وصحافته، وتصريحاته، إذاعته، تلفازه، مؤتمراته، مقابلاته. شعار شفافية، لكن لا تذكروا اسم تقرير البندر؟! شفافية ولا يصح التحقيق في التمييز الطائفي ولا غيره!! شفافية ولا تبحثوا عن مسألة التجنيس ولا تنبسوا بشأنها ببنت شفه!! شفافية ولا كلام عن السواحل والأراضي المستولى عليها بلا حق لصالح بعض الأفراد!! شفافية والاستجواب للوزير خطّ أحمر!! هذا ما تقضي به الشفافية!!
وانتبه جداً إلى أن الخطوط الحمر أمام النيابي فضلاً عن غيره غير مربوطة بعدد واضح معيّن.
غفر الله لي ولكم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا قلوبنا طاهرة، وأرواحنا زكية، ونياتنا مخلَصة، وإرادتنا في الخير قويّة، ولا تجعل لنا إرادة في الشر، ولا ميلا إلى المعصية، ولا شيئا من الرغبة في القبيح، وخلصنا من وساوس الصدور، ومكتوم السوء، وما تنطوي عليه الضمائر مما يُسرُّ له الشيطان الرجيم، واجعلنا أقوياء في الحق غير مترددين ولا ناكصين ولا متلكئين يا قوي يا عزيز، يا أكرم من كل كريم، ويا أرحم من كل رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

___________________________
1 – 9/ الزمر.
2 – بحار الأنوار ج70 ص384.
3 – بحار الأنوار ج78 ص259/ الكافي ج2 ص67.
4 – 40، 41/ النازعات.
5 – لا فرق بين رجل وامرأة في التكاليف وفيما يتصل بإنسانية الإنسان.
6 – بحار الأنوار ج78 ص51.
7 الإسلاميون بحقّ لا يحتاجون للانقلاب على الديموقراطية فيقظة الشعوب معهم، وعدلهم وخدمتهم للمجتمعات، وتنزههم عمّا في أيدي الناس يقدّمهم على غيرهم لو أعطي الناس الخيار الحدّ.
8 (وهل هناك سياسيون دنيويون وسياسيون أخرويون؟ نعم، السياسي من منطلق قيم الدنيا سياسي دنيوي، من منطلق المادة والحرص على المادة سياسي دنيوي، السياسي الذي ينطلق من قيم أخروية، ويخدم بها الدنيا ويعمرها هو سياسي تستطيع أن تصفه بأنه سياسي أخروي، لا يُجمّد الحياة، وإنما يحرّكها، يأخذ بها على طريق العدل والإنصاف والمساواة من خلال قيم الآخرة)

زر الذهاب إلى الأعلى