خطبة الجمعة (312) 7 صفر 1429هـ – 15 فبراير 2008م
مواضيع الخطبة:
*حديث عن الخوف *ذكرى استشهاد الإمام الحسن الزكي *الشهيد عماد مغنية *الموقوفون
أولئك رجال لا يموتون إلا وقد أنجبوا أبطالاً ومجاهدين من أمثالهم، فهم يبقون من خلال موجهم العالي الإيجابي الذي لهم في الحياة، ويبقون من خلال النسل الكبير الممتد نسل الأبطال والمجاهدين من صناعة وعيهم وجهادهم وتضحياتهم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منه المبدأ، وإليه المعاد، وهو الربُّ المتفرّد لكل العباد، لا معبود بالحقّ سواه. كلّ شيء مغلوب لقضائه وقدره، ولا يقوم شيء لقهره، ولا تخلّف لإرادته، ولا مبطل لمشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله التي يتسابق فيها المتسابقون من الأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء والصالحين، وبها التفاوت في الأقدار، ومنازل الكرامة في دار القرار. وهي حصيلة الروح النقيّة، والعقل الرشيد، والتربية السديدة، والمجاهدة الحميدة، والقلب الزكي، والعمر الرضي.
وقد ظلم نفسه من اختار حياة الفجور على حياة التقوى، فالفجور طريق الشطيان ولا يؤدي إلاّ إلى ضياع وسقوط، وخسار، والتقوى طريق إلى الله وفي الطريق إليه سبحانه الهدى والرشد والسمو والفلاح.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنّا نعوذ بك من زيغ القلب، وضلال الرأي، وحياة الفجور، ومسالك الشيطان، وقبح العمل، وسوء المنقلب، وخبث المصير.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فإلى حديث في قضية الخوف:
الخوف خطٌّ من خطوط النّفس البشريّة، ودافع من دوافعها، ولا ينفكُّ عنها، وهو أساسٌ من أُسس تنبني عليها التربية الصالحة أو الفاسدة.
الحياة تحتاج إلى الخوف، فلولا الخوف لما استمرّت الحياة، من لا يخاف الأسد وهو يُقبل عليه، ولا يُعطيه أي اهتمام فمصيره إلى الموت، ومن رأى مبنى يتهاوى ثم لم يتحرّك منه فمصيره إلى الموت، ومن فاجأته سيارة مسرعة فلم يحاول الهروب فمآله إلى الموت، وما الذي يحرّك كل هؤلاء إلى النجاة؟ ليس هو إلا الخوف؛ خوف الموت، فالخوف ليس شرّاً كلّه.
ثمّ هو إذا انفصل عن التربية الصالحة كان فيه فساد عظيم، وكذلك هو حبّ الملك، وكل الدوافع الأخرى، فهي تحتاج في وضعها على الطريق الصحيح إلى خلفيّة فكريّة سديدة، وما يقوم على هذه الخلفية الفكريّة السديدة من تربية صالحة.
وكما يمكن توظيف الخوف على طريق التربية الصالحة يمكن توظيفه بيد التربية المنحرفة وهو محلّ الحاجة في التربية سواء منها الصالحة وغيرها.
وكما تحتاج الحياة إلى الخوف فكذلك الآخرة تحتاج إلى الخوف، فمن لم يخف من المستقبل، ومن عذاب الله، والنار فإنّه لا يتحرك في اتجاه إصلاح نفسه للنجاة من النار، وإذا كان الطمع في الجنّة محرّكاً في الاتجاه الصحيح فإنّ الخوف من النّار هو محرّك آخر أيضا في الاتجاه الصحيح.
ومن الخوف ما هو طبيعي، ومن الخوف ما هو مرضي، فحيث يتعاظم الخوف، ويأتي في غير محلّه، ولغير سبب عقلائي فهو خوف مرضي، وحيث يكون حسب المتعارف، وحسبما عليه طبيعة الإنسان نوعاً فهو خوف طبيعيّ وبنّاء.
ومن الخوف ما هو محرّك، ومن الخوف ما هو معطّل، ويشلّ حركة الإنسان، إذا كان الخوف مرضيّاً فهو يشلّ حركة الإنسان، وإذا كان وهميّا فهو يشل حركة الإنسان، وقد يدفع به في الاتجاه المميت. وإذا كان الخوف موضوعيّاً وعقلائياً ومن ورائه فكر سديد، ورؤية صحيحة فإنّه يحرّك في الاتجاه الصحيح فيباعد بين صاحبه وبين موارد الضرر، ويلاقي بينه وبين ما فيه خيره.
نعم، هناك استثمار حسن كما سبق للخوف، وهناك استغلال سيءٌّ له، حكم الطغاة في الأرض يستغلّ في الإنسان الخوف، ويوظّفه على الطريق غير الصحيح الذي يحوّل هذا الإنسان إلى عبد رخيص، وإلى سلعة رخيصة مستغلّة، والتربية الدينيّة تستثمر الخوف ولكن في بناء الذات، في تصحيح المسار، في الأخذ بالإنسان على الطريق إلى الله سبحانه وتعالى صاعداً مستكملاً ما يطيقه وجوده من كمال.
القرآن آيات كثيرة منه توظّف عامل الخوف في النفس، ولكن من أجل السموّ بهذا الإنسان، من أجل تجنيبه المزالق وموارد السقوط، من أجل الارتفاع بمستواه وتنزّه ذاته.
تربية الاستغلاليين والاستكباريين في الأرض لجماهير الناس تستغلّ الخوف في داخل الإنسان من أجل أن يفقد قدرته في المواجهة، من أجل أن يستكين، من أجل أن يتقبّل حياة الاستنزاف والاستغلال والاستعباد.
فالدين يتعامل مع دوافع الإنسان، وللإنسان دوافع مقيمة في ذاته، وهي جزء من ذاته، وخطّ من خطوطها، وهو يتعامل مع هذه الدوافع التعامل الذي يرتفع بمستوى الإنسان كما سبق، وكل التيارات الفاسدة تتعامل مع هذه الدوافع التعامل الذي يؤدي إلى أهدافها الخبيثة.
حين يكون الخوف من الله عزّ وجلّ فهو خوف من خسارة الإنسان كماله الذي إنما يلتقيه على خط الله، هو خوف من مفارقة الله التي تعني الانحطاط، التي تعني الانحراف عن الحقّ، التي تعني السقوط من المراتب الإنسانية الرفيعة إلى المراتب الحيوانية الهابطة، الخوف من الله عزّ وجلّ خوفٌ من أن أظلم فأواجه عدل الله، خوف من أن أسقط في ذاتي فيأتي جزاء الله عزّ وجلّ موافقا لسقوط الذات، الخوف من الله عزّ وجلّ خوف من خسارة الارتباط بمصدر القوّة، مصدر الخير كلّه، مصدر الرحمة واللطف والحنان، هو خوف من خسارة العناية الإلهية، من خسارة الرحمة الإلهية، من خسارة اللطف الإلهي، خوفٌ من خسارة الصفات العليا التي لا تنال النفس منها حظّاً إلا بمقدار ما تعلّقت بالله عزّ وجلّ وارتبطت به.
أما الخوف من الطغاة فهو خوف من أن أعدل فأُرفض، أُطارد، أُسجن، هو خوف من أن أعمل على تنزّه النفس، أعمل على رفعتها بينما لا يريد الطغاة لي إلا أن أخسر النّفس، إلا أن أهبط في نفسي، إلا أن أرضى بالدونية، إلا أن أرضى بحياة الانحراف والفساد، الخوف من الطغاة خوف من الأخذ بخطّ الصعود، فخط الصعود بالنفس البشرية شيء يرفضه الطغاة.
بينما الخوف من الله عزّ وجل خوف من الارتباط والانتماء بخطّ الانحدار، فصحيح أننا نخاف من الله عزّ وجل، ولكن لنكبر، أما إذا خفنا من الطغاة، واستبدَّ بنا هذا الخوف فتابعنا الطغاة فسنسقط.
نعم، هناك خوف من الله عزّ وجلّ وهو بنّاء، وخوف من الطغاة والمفسدين وهو يأتي على شرف النفس وكرامتها وعلوّها وسموّها.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}(1).
هذا الخوف بِمَ يُغذّي النفس؟ بمَ يحدّث النفس؟ أيحدّثها بالانحطاط، بالظلم، بالفحشاء، أم أنه ينقذها من كل ذلك، ويحدّثها بمعالي الأمور، ويدفع بها في اتجاه بناء الذّات البناء العالي السامي؟ كلّ المؤمنين يعيشون الحالة الثانية وجداناً كلّما خافوا الله.
والأوفر حظّاً في الإيمان وهم في المضاجع وهم قائمون وقاعدون، لهم مشاعر ترتبط بالله عزّ وجلّ خوفاً فيدفعهم هذا الخوف لتصحيح الذّات، تصحيح الفكر، وتصحيح المشاعر، وتصحيح السلوك، تصحيح العلاقات مع النّاس. إنه يجعل النفس ترجع إلى نفسها لعلّها ظلمت في يومها نملة، لعلّها سبقت على لسانها كلمة لا يرضاها الله عزّ وجلّ. إنهم يخافون من نار الله، ويخافون أكثر من ذلك من خسارة مرضاة الله والكرامة من عند الله سبحانه وتعالى.
خوفهم لا يسمح لهم بأن يستقرّ لهم جنب على مضجع حتى يطمئنّوا بأن الله غفر، والله إنما يغفر للمتّقين، إنما يغفر للصالحين، إنما يغفر لمن أقلع عن ذنبه ليس في الخارج فقط وإنما على مستوى داخل الذّات بأن تتغير المشاعر، بأن ينعكس الاتجاه، بأن يكون الاتجاه إلى الأعلى بعد أن كان إلى الأسفل.
عند ذلك تطمئن النفس، وتخلص من قلقها، فكلّ الخوف من الله عزّ وجلّ هو خوف من سخطه سبحانه لحال سوء النفس، قبح النفس، ذهاب صفائها، لانحدار مستواها وظلمتها، وأن تقطن نيّة السوء والعمل القبيح والظلم فيها.
فإذاً فالخوف من الله عزّ وجل يصفّي الذات، ينقّي الذات، يرتفع بالذّات، يخلّص الذات من كل الشوائب، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجمل الجمال، وأكمل الكمال، وكل نفس تشعر بنقصها لابد أن تخاف الله عزّ وجلّ لأن الكامل لا يرضى بنقص الناقص ما وسع هذا الناقص أن ينهض بمستواه.
“الخوف جلباب العارفين”(2).
من عرف الله عزّ وجلّ لم يبارحه الخوف، لماذا؟ من عرف الله عزّ وجل عرف جلالاً لا يحد، وكمالاً لا يُتصوّر، وعرف قدرة لا يعيش هذا العارف بدون مددها. عرف مصدر خير لا خير له من دونه، عرف من بيده نَفَسُه، من بيده نبض قلبه، من بيده شره، ولا يدفع عمن أراد به شرّاً كلّ الخلق وكيف يُخاف من غضب مَنْ هذا شأنه؟!
لو كان هناك مريض وفرضنا أنّه لا يعرف الله، ويتصور أن مصيره بيد الطبيب الذي يجري له عملية القلب، وأن الطبيب حرّ في إرادته بصورة مطلقة بحيث يملك مشاعر قلبه وتوجّهاته، وأنّ مصير هذا العبد متروك لإرادة ذلك الطبيب فكم يبلغ خوف هذا المريض من إغضاب ذلك الطبيب، وإلى أيّ مدىً يكون تعلّقه به؟ فمن عرف أن الله عزّ وجل بيده وجوده، بيده حياته، بيده كلّ شيء من ذاته كيف لا يخافه سبحانه وتعالى! من عرف أن إرادة الله لا تردّها إرادة، وأن الله عز وجل لا يُغش في علمه، ولا يحول بينه وبين ما يريد سبحانه وتعالى أي حاجة، فكيف لا يخافه؟ فحقّ أن “الخوف جلباب العارفين”.
نعم، إذا غابت معرفة الله عن قلوبنا صرنا لا نخافه. نسأل الله خوف العارفين، وطاعة العارفين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من صالحي العباد، وأهل السداد والرشاد، ومن يفرُّ من سخطك، ويطلب رضاك، ويختار طريق طاعتك على طريق معصيتك، وولايتك وولاية أوليائك ومعاداة أعدائك، ولا يرضى ربّاً سواك، ولا معبودا غيرك، ويذكرك ولا ينساك يا كريم يا رحيم. اللهم إنا نسألك خير الدارين وسعادتهما، وأن تجنّبنا شرّ الدارين وشقاءهما، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يؤيس من رحمته، ولا يُؤمن مكره، ولا يُخلِف وعدَه، ولا يَردُّه أحدٌ عن وعيده، ولا يُخاف منه ظلم، ولا تُطاق نقمته، ولا يُطمع في كرم ككرمه، ولا يؤمّل في جود كجوده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله وأهل الحاجة إليه، والمسكنة بين يديه علينا بتقوى الله فما فاز إلاَّ المتقون، وما خرج أحدٌ من الدنيا بخير ما لم تكن له تقوى؛ ذلك أن نفساً لا تقوى لها هي نفس بلا هدىً ونور، محكومة للجهل، مسكونة من الضلال، مأسورة للهوى، يعيث فيها الفساد. وما خرجت نفس من الدنيا على هذا الحال إلا وكانت في أهل النّار، والخسارة كلّ الخسارة أن يسعى ساعٍ في هذه الحياة بقدمه ليواقع النار يوم أجله.
أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من الأنس بالشيطان، ومتابعة الهوى، ومجانبة التقوى، وخسارة الهدى، والمصير إلى النار.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الهداة الميامين الأئمة المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة الكرام والأخوات الكريمات فإلى عدد من المحاور يستوفي منها الحديث ما وسع له الوقت إن شاء الله، ويبقى الباقي:
ذكرى استشهاد الإمام الحسن الزكي:
اليوم ذكرى وفاة الإمام الحسن الزكي سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبهذه المناسبة الأليمة نتقدم بالتعزية للإمام الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه ولفقهاء الأمة وعلمائها الصالحين، ولعموم المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
“الحسن والحسين عليهما السلام إمامان قاما أو قعدا”(3).
إمامتهما الشرعية عليهما السلام غير مرتبطة بقعود ولا قيام. من قام منهما فهو إمام لا تنثلم بقيامه إمامته الشرعية، ومن قعد منهما فهو إمام لا تنثلم بقعوده إمامته الشرعية، والمتخلّف عن الإمام إذا قام خارج على الإمام، والمتقدّم على الإمام إذا قعد خارج على الإمام.
ولماذا لا تتأثر الإمامة الشرعية – ولا نتحدث عن الإمامة العملية – للإمام بقعوده؟ ولا يمكن أن يتساوى قاعد عن الجهاد حيث تتوفر شروطه، وقائم بالجهاد حيث تتوفر شروطه.
هل الكلمة منه صل الله عليه وآله تساوي بين موقف القيام وموقف القعود من الإمام والظرف واحد؟ ليس الأمر كذلك فلو قعد الإمام عليه السلام في موضع القيام لكان وحاشاه مقصّراً، ولو قام في مورد القعود لكان وحاشاه مقصّرا، لكن الإمام لا يقوم في مورد القعود، ولا يقعد في مورد القيام، وإنّما القصد أن موقف الإمام عليه السلام كاشفٌ دائما عما يجب وعن الصحيح؛ فإن قام الإمام عليه السلام كشف ذلك عن أن المورد هو مورد قيام، وإن قعد عليه السلام كشف ذلك عن أن المورد مورد قعود، فلذلك هما إمامان سواء قاما أو قعدا، قعد أحدهما وقام الآخر، أو قام كل منهما في وقته، أو قعد كذلك؛ ذلك لأن أحدهما عليهما السلام لا يفعل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يُخطئ التشخيص في الموقف.
وهناك من يعدّ في أتباع الأئمة ولكنهم متعبون لهم عليهم السلام؛ فإن قام الإمام قعدوا، وأصروا على القعود، وإن قعد أصروا على القيام، هناك جماعة من الأتباع ظاهراً تخالف قيادتها وإن كانت معصومة، فتجدهم يصرون على القيام حيث يقعد الإمام عليه السلام، ويقعدون حيث يقوم.
ويحصل للبعض أنه من شفقة على الإسلام، ومن غيرة على الإسلام قد ينجرّ إلى التجرّأ على الإمام كما حدث في حياة الإمام الحسن عليه السلام. أمير المؤمنين عليه السلام يقرّع القوم ويحثهم على القيام وهم يقعدون، والحسن عليه السلام يستحث النّاس للجهاد، ويبذل الجهد الجهيد في تجميع صفوف الأمّة ثم يتخلّف متخلّفون، وعندما حارب خذله من خذله، وعندما صالح أنكر البعض عليه، وإن كان ذلك البعض ينطلق من أكثر من دافع، بعضهم ربما كان تنديده بالموقف مواجهة للإمام عليه السلام ومن منطلق إسقاط شخصيته صلوات الله وسلامه عليه، والبعض كان غيرة على الإسلام وإشفاقاً، ومن باب الحالة الانفعالية التي أفقدته التأدّب مع الإمام عليه السلام (يا مذلّ المؤمنين)!!
الشهيد عماد مغنية:
هي التعزية الثانية التي تُزفّ في هذا اليوم إلى إمام العصر صلوات الله وسلامه عليهم وإلى حزب الله – لبنان، وأمينه الشهم الكبير نصر الله، وإلى فقهاء الأمة، وكل المسلمين.
مغنية رجل من رجال الظلِّ الفاعل، وهؤلاء لا يريدون في العادة غير وجه الله سبحانه وتعالى. رجل الظلِّ يعيش حالة التحدي، هل يستقطبه الضوء، ويُخرج حركته إلى العلن ليكبر في عين الناس، وينصرف في جهاده بوجهه عن الله أو أن الضوء لا يؤثر عليه، ويبقى قلبه مشدودا إلى ربّه سبحانه وتعالى، لا إلى التصفيق والمديح وإنما إلى البارئ المالك؟ تحدٍّ كبير، فقد يستلفت الضوء نظره، ويصرفه عن الله فيخسر ثواب جهاده، ويكون مجاهداً في الله عزّ وجل في نظر الناس لأجل الشهرة، مجاهدا لأجل الظهور في الواقع.
رجال الظلِّ ممتحنون. النفس قد تحدّثهم بالظهور، قد تحدثهم بأن هذا اللون من الجهاد لو ظهر للناس لاستقطب، ولكنّهم قد يكبرون على ذلك لأنهم لا يعبدون إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يرون في المخلوق ما يجعله أهلاً للعبادة. ومغنية ممن اختار أن يبقى جهاده المرير ودوره الضخم في منطقة الظلم ستوراً لا تراه عيون الخلق الكثير فتكبره. ونحن لو تعقّلنا قليلا لما عبد بعضنا بعضا. ماذا يملك هذا المعبود حتى يُخاف؟ عماد مغنية كان مطلوبا لسنوات وسنوات، ومطلوبا كما تقول بعض التقارير من كثير من الدول وربما غير الواعي، ولكن له أجل وما استطاع أحد من المخلوقين أن يقدِّم أجله. وهناك رجال يعيشون في قلب المعركة فيكونون أو أطول الناس أعماراً، ورجال يعيشون في الأجواء المخملية الحريرية فيكونون أسبق إلى الموت من غيرهم.
كان مغنية شديداً على الباطل، وقد أسهر عيون الطغاة المستبكرين. كان يتربص به المال الأمريكي، والسياسة الأمريكية، والمكر الأمريكي، والعيون الأمريكية، والدسائس الأمريكية، وكل ذلك كان الرجل صابرا عليه، ومتحملاً مشقته. والمالُ الأمريكي، والسياسة الأمريكية، والعيون الأمريكية دائما مسخّرة لتصفية رجالات الإسلام التصفية الجسدية أو التصفية المعنوية(4).
ورجال كمغنية لا يموتون إلا وقد أنجبوا أبطالاً ومجاهدين من أمثالهم، فهم يبقون من خلال موجهم العالي الإيجابي الذي لهم في الحياة، ويبقون من خلال النسل الكبير الممتد نسل الأبطال والمجاهدين من صناعة وعيهم وجهادهم وتطلعاتهم.
الرجل الأمّة لا يموت لتفنى الأمّة، لأنه لا يموت إلا وقد ورّث الأمّة رجالاً كباراً مجاهدين صالحين.
وحزب الله حزبٌ كنزٌ يثرى بالمجاهدين، بالغيارى، بالأبطال، بقممٍ إيمانية واعية فلا يُخاف عليه، وإنه لحزب منجب، وإن الأمة التي منها هذا الحزب لأمة منجبة(5).
والجهاد قائم في تصميم هذا الحزب، وفي تصميم كل الأمة المؤمنة المسلمة حتى هزيمة الطغاة من بني صهيون.
وقالت أمريكا بأن الدنيا أكثر أمناً من دون عماد مغنية، وهي صادقة، ولكن هذا الصدق بالنسبة للطغاة الظلمة المفسدين في الأرض، فالطغاة الظلمة المفسدون في الأرض دنياهم أكثر أمناً لو خلت الدنيا من عماد مغنية وكل أمثال عماد مغنية، ولكن الشرط لا يتحقق، دين الله لا يُقبر، لله في كل جيل رجال، ولن يموت الإسلام، ولن تموت أبطاله في يوم من الأيام لتقرّ عين أمريكا(6).
ذلك أمن الظلمة المستكبرين، أما أمن الصلحاء والمستضعفين فهو محتاج دائما إلى عماد مغنية وأمثال عماد مغنية، وأهل رساليّة ذلك البطل وعزمه وإرادته وصلابته ووعيه وحكمته وفدائيته.
الموقوفون:
الموقوفون انتهت معهم التحقيقات وحملات التعذيب من أجل انتزاع الاعترافات غير الشرعية ولا القانونية، وبدأت معهم المحاكمات التي تدين المتّهم بمثل تلك الاعترافات، وهي إدانة جائرة منافية للعقل والعقلاء وللشريعة والقانون.
وبعد هذا كله يبقى عدد من الموقوفين يعامل – كما يُخبر أهاليهم – معاملة من يخضعون للتحقيق، ويعرّضون للأذى الجسدي، والإهانة النفسية، والتصرفات الشائنة غير الخلقية التي تمس الشرف والعرض – كما ينقل ذلك البعض -، والسؤال هنا: هل ينقسم تعذيب الموقوفين إلى نوعين: التعذيب لانتزاع الاعتراف بالذنب كرهاً، وهو لا يخلو من روح التشفّي، ثم التعذيب للتشفّي الخالص؟! فإذا كان للتعذيب في مرحلة التحقيق وجه وإن كان غير صحيح، فإن التعذيب بعد مرحلة التحقيق لا وجه له إلا روح التشفّي.
دعونا نأخذ هذا الكلام دعوى خالصة من أولئك الأهالي، لكن ماذا يرد هذه الدعوى؟ هل ترد جزافاً؟ وإذا لم يصح ردّها جزافاً فهل يُسمح بالتحقيق في هذا الأمر؟ هل يسمح لمحامين، لمنظمات حقوقية مستقلة، لجمعيات سياسية أهلية بالاشتراك في التحقيق، أم يكفي لرد قول الأهالي أن تنفي الداخلية وهي الطرف المدّعى عليه؟ أين الإنصاف؟
وغفر الله لي ولكم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أكرمنا بنور هدايتك، وسلوك طريق طاعتك وجنّتك، وملازمة صراطك، ومتابعة أهل ولايتك، ولا تنتهِ بنا إلا إلى رضاك، ولا تمنعنا سيبك، ولا تحرمنا من رحمتك، واجعلنا من أحسن عبيدك نصيبا في الدنيا والآخرة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 16/ السجدة.
2 – عيون الحكم والمواعظ ص24.
3 – بحار الأنوار ج 43 ص 291. عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
4 – هتاف جموع المصلين بـ (الموت لأمريكا) و(الموت لإسرائيل).
5 – هتاف جموع المصلين بـ (هل من ناصر حزب الله، لبيك يا نصر الله).
6 – هتاف جموع المصلين بـ (لبيك يا إسلام).