خطبة الجمعة (311) 30 محرم الحرام 1429هـ – 8 فبراير 2008م
مواضيع الخطبة:
*حديث قصير في النّفس الدنيّة والنّفس العليا *الحياة الطيبة والدين *واشنطن وموسكو مستاءتان
أيها الأخوة والأخوات الكرام إن الانحسار عن صلاة الجماعة يحقق أملا، وإن الارتباط بصلاة الجماعة وكثافة هذا الارتباط يحقق أملا، الأول هو أمل الكفر والكفار، والثاني هو أمل الإسلام والمسلمين، أمل الأنبياء والمرسلين.
الخطبة الأولى
الحمد لله العظيم الأعظم، الأعزّ الأجلّ الأكرم، ذي القدرة التي لا قُدرةَ لشيء إلا منها، والعلم الذي لا علم لأحد إلاَّ به. هو الذي لا يحتاج من قدرته إلى وزير، ومن علمه إلى مُشير، القدير على كلِّ شيء، ولا يخرج عن علمه شيء، وهو على كل شيء شهيد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الظالمةَ لنفسها بتقوى الله، فإنَّها خير الزاد وأسترُ السِّتر، وأجمل الثياب، وهي مركب العباد إلى الرِّضوان والجنّة، وما نالها من داهن النّفس، واستسلم لما تمليه وتشتهيه. ومن راضَ النفس وجاهدها على طاعة المولى الحقِّ مخلصاً كان له من الله التوفيقُ لزاد التقوى أصلح زاد، وأطهر زاد، وأبقى زاد، ولَهُو الزاد الذي به صلاح النّاس في الدّنيا، وفوزهم في الآخرة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا هادي من لا هادي له اهدنا طريقك المستقيم، يا راحم من لا راحم له ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا من أهل كرامتك، والمنزلة الرفيعة لديك، ولا تُذْقنا ذلّ الدنيا وهوان الآخرة يا أكرم الأكرمين.
أما بعد فهذا حديث قصير في النّفس الدنيّة والنّفس العليا:
النّاس نفسان؛ نفسٌ عليا، ونفس دنيّة، والأمور أمران؛ أمرٌ عالٍ وأمرٌ دانٍ. من الممارسة ما هو دنيّة، ومن الممارسة ما هو أمرٌ كريمٌ رفيعٌ.
هناك هدفٌ قصيرٌ وهدف بعيد، هناك هدف سماء، وهناك هدف أرض.
“(قيل للإمام الحسن بن علي عليهما السّلام: ما الدنيّة(1)؟) قال: النظر في اليسير ومنع الحقير”(2).
بعد أن تكون المعاصي كلّها دنايا، وكلّها حقارات، وكلها سقوط وتسافل يأتي مما هو غير محرّم أمرٌ يسير حقير، وأمرٌ عالٍ ورفيع. المباحات ليست على المستوى الواحد، وما تتخذه النفس في هذه الحياة ليس بقامة واحدة، قد يكون الأمر مباحاً، لكنّه من الشيء اليسير القريب الذي لا يمثّل ارتباط النفس به شيئاً من الطموح الكبير، ولا علوّ الهمّة، ولا يكشف عن رفعة نفس، ولا سموّ هدف. حين يتركّز النّظر على هذا الأمر اليسير فليكن بيتاً من طرازٍ معيّن حيث يتركّز النظر على هذا الأمر للشيء القريب الذي لا يستحق عمر الإنسان، ولا يوازي ما وهبه الله سبحانه وتعالى من فكر عملاق، ومن مشاعر عالية، ومن روح كريمة شفّافة، ومن مستوى يستطيع أن يسابق به ملائكة الله، بيت ويوقف عليه العمر، ويُعطى العقل، وتُباع من أجله النّفس، وتندكّ على أعتابه المواهب!! أمر يسير، صغير، حقير. حقل، قصر، منصب دنيويّ، أن يكون ملكاً!! أن يكون رئيس جمهورية!! كل ذلك هو دون العمر، هو دون إنسانية الإنسان، هو دون ما أُهّل له، هو دون ما وعده الله تبارك وتعالى من جنّات عرضها عرض السماوات والأرض، هو دون حورية عين واحدة، هو دون الرّوح الملآ بنفخة روح من روح الله.
هنا قد تركّز النظر على شيء يسير، وانشدّت النفس إلى أمرٍ قصيري القامة، كلّ الأرض، كلّ ما في الأرض، كل متع الحياة، كلّ لذائذ المادّة، كل ملك الدنيا من الأمر اليسير بالقياس إلى ما هو نعيم الآخرة، إلى ما هو خير الآخرة، إلى ما هو مستوى الإنسان، إلى ما هي مواهب الله عز وجل عند هذا الإنسان.
“النظر في اليسير ومنع الحقير” المال وإن كان ضرورياً إلا أنه بالقياس إلى الحفاظ على شرف الإنسان، بالقياس إلى الاستجابة إلى الواجب الإلهي، بالقياس إلى الذود عن حرمة الدين، بالقياس إلى النهضة بالمجتمع المؤمن هو شيء حقير، فمن منع منع حقيراً، ودناءة النّفس أن ينظر المرء في اليسير تاركاً خلف ظهره الأهداف الكبيرة لا ينظر فيها، والغايات السامية لا يقف عندها، وكلّ الأهداف صغيرة، وكل الغايات قصيرة بالقياس إلى غاية الجنّة ورضوان الله سبحانه وتعالى.
“النّفس الدنيّة لا تنفكّ عن الدناءات”(3) كما في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام.
السلوك عند الإنسان وحتّى عند الحيوان إنما يترشّح عن الداخل (وكل إناء بالذي فيه ينضح)، الذّات العالية يبعد عليها بُعد السماء عن الأرض أن تلتصق بالأرض والدناءات، والنفس الدنيّة فكراً، مشاعر، هدفا، رؤية لا يأتي منها، ولايُتوقّع منها إلا أن تواقع ما هو دناءة، وما هو حقارة، وما هو وضيع.
فمن أين الإصلاح؟
الإصلاح إلى النفس، يبدأ بمحتواها، من تصحيح مضمونها، وأين المنطلق الأول في ذلك؟ هو الرؤية، كيف أرى الكون؟ كيف أرى نفسي؟ كيف أرى الله سبحانه وتعالى؟ النظر في الأمور الأساس، النظر في قيمة الحياة، في قيمة الآخرة، النظر فيما يتّصل بالعقيدة، وبالأمور الكبرى، والقضايا المركزية هو بداية الانطلاقة، فإما أن توفّر الإنسان في هذا المنطلق على رؤية سديدة فقامت عليها حياة رشيدة، وأما أن تختلّ رؤيته في أمر المنطلق فيسود الفساد حياته.
والفكر التفصيل، ومشاعر النفس، وهمتها، وهدفها، طهرها، لبسها، سلوك، كلّ ذلك يترشّح عن الرؤية الكونية لله، للإنسان، للأشياء، للدنيا، للآخرة.
فالنّفس الدنيّة لا تنفكّ عن الدناءات في فهم أمير المؤمنين عليه السلام كما في هذه الكلمة وهو فهمٌ لا يُناقش لأنّه فهم أمير المؤمنين عليه السلام.
“أعقل النّاس أبعدهم عن كل دنيّة”(4).
لماذا؟ لأنّ الدنايا انحطاط، لأن الدنايا اندكاك، لأن الدنايا دعة ذات، فمن رضي لنفسه الدعة، واسترخص نفسه، ونظر إليها قزماً منحطّاً فقد ضيّع كل شيء، وقد جُنّ.
ليس للإنسان من عقل رشيد وهو يتعامل مع نفسه وكأنّما يتعامل مع أحقر شيء في هذا الوجود، وليس أكثر احتقاراً للنفس من أن يبيعها الإنسان أو صاحبها بثمن من الأثمان دون ما رضي الله لها بثمن وهو الجنّة.
“أعقل النّاس أبعدهم عن كل دنيّة”.
هذا الذي يقدم المال على نفسه، هذا الذي يقدم المنصب على نفسه، هذا الذي يقدم كلها على نفسه، هذا الذي يقدم صداقة الأصدقاء على نفسه، هذا الذي يقدم الخوف من الأعداء على نفسه، قد احتقر نفسه، ورآها دنيئة، وبذلك قد ارتكب أفحش الظلم في حقها لأن من هانت عليه نفسه لا يرتقب له أن يكرُم.
“المؤمن من طهر قلبه من الدّنيّة”(5).
ومن الدنية الحقد الأسود، ومن الدنية الحسد البغيض، ومن الدنية كل نية سوء، ومن الدنية أن يسعى وراء الأهداف الكبيرة والصغيرة باذلا من أجلها الهدف الأول الكبير رضوان الله والجنّة. أيّ مؤمن ذاك؟ هو المؤمن البالغ الإيمان، فالمؤمن البالغ الإيمان دليله أنّه طاهر القلب من كلّ دنيّة، ومن أول ما هو دنيّة أي معصية من معاصي الله سبحانه وتعالى.
“لا تلاحي الدّنيّ فيجترئ عليك”(6).
الدخول في النقاش هو اللجاج، والجدل العقيم مع أصحاب المستويات الدنيئة يستنطق نفساً لا تمدّ عن خير، لا تمد عن عقل، لا تمد عن حكمة، يستنطق نفسا محتواها محتوى رديء، وهنا تأتي اللغة بغير حق، ويأتي التطاول، ويأتي الجرح، ويأتي السباب والشتام مما لا يُناسب إنسانا يحسّ بشرف، فتأتي كلمة علي عليه السلام للمؤمن، لمن يحترم نفسه، لمن يشعر بشرفه “لا تلاح الدّنيّ فيجترئ عليك” ولذلك لا بد من ترفّع، ولا بد من نهي للنفس عن خوض كثير من الأمور، وعن الإجابة على كثير من الناس.
“نزّه عن كل دنيّة نفسك، وابذل في المكارم جهدك…”(7).
“ورع المرء ينزّهه من كلّ دنيّة”(8).
من كان له نصيب من إيمان، ومن كان له نصيب من تقوى كانت له نزاهة بقدر إيمانه، بقدر تقواه، وكان له نأيٌ وبعدٌ بالنفس وبكرامتها عن مقارفة الدنايا، وعن الوقوف عند صغير الأمور، وما أكثر الأمور التي تستهلك من أعمارنا الشيء الكثير، ولو كنّا على ورع وتقوى ودين قويّ لتجاوزناها غير مهتمّين بها.
إنه العمر، إما أن يأخذه هدف صغير، وإما أن يستقطبه هدف كبير، الساعة الواحدة يمكن أن تبذلها ثمناً على طريق الجنّة، ويمكن أن تبذلها ثمناً وراء دينار واحد لا تلتفت فيه إلى حق الله وحق عباده.
نعم، الساعة، اليوم، السنة رصيد يمكن أن يُنفق من أجل هدف طفولي، ويمكن أن يُنفق من أجل هدف كان يُسابق عليه الأنبياء والمرسلون والأولياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
يرقب السنة والسنتين والثلاث من أجل أن يصل إلى مطلوبته بأي ثمن من الأثمان عن طريق حرام أو حلال. هذه ثلاث سنوات اقتطعت من عمرك من أجل هدف لا يبقى، من أجل هدف لا يمكن أن يقاس إلى هدف الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى.
منصب يوظّف كثيراً من وقته، وكثيراً من فكره، وكثيراً من علاقاته، وكثيراً من شرفه من أجله، ولا يدري أيمكث فيه يوماً واحداً أو لا يمكث، هدف قريب جدّاً، واقتطع قطعة غالية من العمر، ومن الفكر، والجهد، والشعور.
“مباينة الدّنايا تكبت العدوّ”(9).
تدخل عليه السوء، فمن أراد أن يكبت عدوّه لا يتنزّل إلى الدنايا، وإنما يجب عليه أن يرتفّع عنها، ولماذا يُكبت العدو بترفّعك عن الدنايا؟ لأن الترفّع عن الدنايا يكشف عن جمال، ويشكف عن كمال، ويكشف عن قوة، ويكشف عن صمود، ويكشف عن رجولة، وكل ذلك ما تتمناها كثير من النفوس ولكنها تعجز عنه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أتنت التواب الرحيم.
اللهم اكتبنا عندك في السعداء، وارزقنا كرامة الشهداء، وهب لنا جنة المأوى، اللهم لا تحرمنا شكرك وذكرك والعمل لما تحب وترضى، ولا تفرق بيننا وبين محبتك وطاعتك طرفة عين، واسلكنا مسلك الأولياء الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعتريه غفلة، ولا تعرضه فترة، ولا يناله سهو، ولا يمسّه جهل، ولايصل قدرته ضعف، ولا يجوز عليه قصور، وهو منزّه عن التقصير. لا تغيب عنه حاجة أي مخلوق، ولا تخفى عليه شكوى، ولا تشتبه عليه الأحوال، ولا تختلط في علمه الأغيار.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله بكفّ كل جارحة عن معصيته، فما من معصية إلا وتحدث تخلفاً وعرقلة لسير النفس إلى الله الذي لا تجد نفسٌ هداها وصلاحها وخيرها إلاّ على طريقه، وما طريق المعاصي إلا طريق الانحدار إلى الحضيض وأسفل سافلين مع الشيطان الرجيم في ذاته الخبيثة، ومصيره المشؤوم، وشقائه المقيم، والنّاس في هذه الحياة فريقان: صاعد بذاته في اتجاه الله عزّ وجلّ ليستتم لها الكمال والسعادة بقدر ما تتقدم في ذلك الاتجاه، ونازل بذاته في اتجاه الشيطان الرجيم لتبلغ من النقص والشقاء والانحطاط بقدر ما يكون منها من تسافل في هذا الانحدار.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا ولا تضلَّنا فإنه لا مضلّ لمن هديت، ولا هادي لمن أضللت، وإنّك لتهدي تفضُّلا، ولا تُضلُّ إلاّ من أدبر وتولّى، وكفر وعصى. اللهم اجعلنا من أوليائك وجندك وحزبك الفائزين لا من حزب الشيطان وجنده وأوليائه المخزيين الخاسرين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فندخل هذا الحديث بمفرداته الثلاث إذا وسعنا الوقت:
الحياة الطيبة والدين:
كلّنا يطلب الحياة الطيبة، والحياة الطيبة ليست حياة مأكل ومشرب على حدّ ما هي حياة الحيوان، إنما الحياة الطيبة روح تشعر بقيمتها، بسموّ هدفها، بطمأنينتها، تشعر برضاها.
من أين نحصل على هذه الحياة؟
لا حياة من هذا المستوى وهذا النوع إلا في ظلّ الدين، وضوء الدين.
والدين يُتلقّى من الله سبحانه وتعالى، وفيه أوامر ونواهي، ومن طلب الحياة الطيبة كان عليه حفظ ما أمر الله عزّ وجلّ بحفظه، والنأيُ عما نهى الله عن الاقتراب منه.
وهناك مسؤوليتان؛ مسؤولية فرد ومسؤولية مجتمع، فالفرد الذي يطلب الحياة الطيبة من فضل الله يراعي حفظ ما أمر الله، ويبتعد عن ما نهى، والمجتمع الذي يطلب حياة طيبة من فضل الله لا يكفي لأن ينالها أن يتحرك بعض أفراده على هذا الخط.
مما أمر الله به أن يحفظ صلاة الجماعة، وهناك شكوى من بعض أئمة الجماعة حفظهم الله في بعض المناطق بتضييع حق المسجد والجماعة من كثير من المؤمنين.
والمسجد هو المؤسسة الاجتماعية المبكّرة والثابتة في الإسلام، وإليها ترجع كل مؤسسة تأخذ منها قيمها وهدفها وأخلاقيتها، وتسلك خطها.
ومؤسسة تخالف المسجد تكون مؤسسة يبرأ الإسلام من هويتها، المؤسسة الإسلامية هي مؤسسة لا تفارق خطّ المسجد وإنما تلازمه. والمسجد جاء عنهم “من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنّة” هذا ليس إعلاءاً لبناء الطين والحجر، وإنما هو إعلاء لوظيفة المسجد، هدف المسجد، دور المسجد، فاعلية المسجد.
وللمسجد حرمة خاصة كما تعرفون ليست لغيره منها عدم التنجيس، منها عدم رفع الصوت فيه، عدم الحذف بالحصى، لا تدخله حائض إلا أن تدخل من باب لتخرج من باب آخر وهكذا. بيت أحدنا قد يكون قصراً يسابق كل قصور الدنيا لكن لا تأتي في حقه هذه الأحكام، والمسجد قد يكون البناية المتداعية، المتقادمة ولكنه يمتلك كل هذه الأحكام.
وفضل الصلاة في المسجد فضل عظيم كما تعرفون، هناك مسجد السوق والصلاة فيه باثنتي عشرة صلاة، ومسجد القبيلة والصلاة فيه فضيلته أكثر من مسجد السوق خمسين صلاة كأنه، وصلاة الجامع وتبلغ مائة صلاة حتى يتعاظم الثواب بحيث يصل إلى عشرة آلاف، وأكثر في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله في مسجد الرسول عشرة آلاف وفي المسجد الأعظم بيت الله الحرام يتعاظم الأجر بصورة أكبر حتى يصل إلى عشرة آلاف أو مائة ألف، ضمّ إلى ذلك صلاة الجماعة، صلاة الجماعة أول شعائر الإسلام المتصلة بالبعد الاجتماعي، صلتها خديجة وعلي عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وصلاة الجماعة مقياس لحضور الإسلام في الساحة الاجتماعية، ومدى الاهتمام به عند المسلمين. فعين الآخر تنظر المساجد ملآ أم هي فارغة؟ لئن كانت المساجد ملآ والجماعات مكتظّة فالإسلام مُهاب، ولئن كانت المساجد شبه فارغة فالإسلام يمكن أن يتجاوز، ويمكن أن يُقزَّم أكثر، ويمكن أن يُداس. فاختاروا أيها المؤمنون.
نعم، الجماعة تعطي هيبة للإسلام في صدور الآخرين، ومراقبة أعداء الأمة للمسجد لا تتوقّف، أمريكا وروسيا وفرنسا وأنجلترا وكل العالم الآخر مشغول بمراقبة المساجد في المدينة وفي القرية، في القطر الصغير وفي القطر الكبير، وتتخذ من ذلك ما يشبه الترميتر لقياس الحالة الإسلامية. هو تجمّع عبادي في الأصل ويحمل معاني أخرى فيأتي تجمعا للتواصل والترابط والتجانس الفكري، وتفقّد المؤمن للمؤمن، وتبادل الرأي، والتعاون على الخير. في صلاة الجماعة تنشيط للإرادة الفردية على طريق الطاعة، وهذه الصلاة تدخل بالوعي الاجتماعي، والحس الاجتماعي، والهم الاجتماعي إلى نفوس الأفراد، وتخرج بالأفراد من قوقعة الذات والأنا، والحس الفردي، والفهم الفردي إلى الحس العام، الحس بالجماعة والأمة. وإن صلاة الجماعة للمثوبة العالية.
في الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال:”الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفرد بأربع وعشرين درجة تكون خمسا وعشرين صلاة”(10). فإذا كانت الصلاة عن خمس وعشرون صلاة اضربها في اثنتي عشر صلاة، في خمسين صلاة، في مائة صلاة، في عشرة آلاف صلاة، في مائة ألف صلاة كم تبلغ؟
وفي الصحيح كذلك “ولكنها سنة، – وليست فريضة – من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علة فلا صلاة له”(11). لا صلاة كاملة، لا صلاة معتبرة ذلك الاعتبار له، كأنه لم يصلِّ.
الإسلام له ساحتان؛ ساحة الفرد وساحة المجتمع، الإسلام كما يريد أفراد المسلمين يريد مجتمعا يعيش الإسلام ويطبّق الإسلام، الإسلام جاء ليبني لا ليبني أفرادا مسلمين فقط، وإنما ليبني مجتمعا مسلما كذلك.
من تركها رغبة عنها، وعن جماعة المؤمنين من غير علّة، لأنه إذا لم يكن سبب كاف للامتناع عن الجماعة فإن هذا الامتناع يكون زهدا في صلاة الجماعة، وهذا يعني استخفافاً بالإسلام، استخفافاً بهذه السنّة الكريمة التي تدخل في صناعة المجتمع المسلم.
ومن الصحيح كذلك ما عن رسول الله صلى الله عليه وآله “أما أنه ليس من صلاة أشد على المنافقين من هذه الصلاة – يعني الصبح – والعشاء ولو علموا أي فضل فيهما لأتوهما ولو حبوا..”(12). واستثقال العشاء لأنها منفصلة عن المغرب في الاستحباب، واستثقال الصبح معروف سببه.
أيها الأخوة والأخوات الكرام إن الانحسار عن صلاة الجماعة يحقق أملا، وإن الارتباط بصلاة الجماعة وكثافة هذا الارتباط يحقق أملا، الأول هو أمل الكفر والكفار والثاني هو أمل الإسلام والمسلمين، أمل الأنبياء والمرسلين.
وهذا كلّه لا يُلغي أهمية مراعاة الشروط في إمام الجماعة بلا إفراط ولا تفريط. والتهاون في إمامة الجماعة وفي شروطها يؤدي إلى التهاون في مواقع أكبر.
واشنطن وموسكو مستاءتان:
دشّنت إيران مركزا فضائيا خاصا بها وأرسلت صاروخا صُمّم بإطلاق أول قمر صناعي للأبحاث وهو إيراني الصنع، والإطلاق في العام المقبل. هذا هو الخبر.
وواشنطن وموسكو مستاءتان وطبعا معهما أوروبا وكل من لا يريد للإسلام والمسلمين خيراً. كان الإسلام أفيون الشعوب ورجعيّاً ومعطّلا قبل الثورة الإسلامية في إيران، قبل الدولة المباركة كانت الشيوعية تقول عن الإسلام بأنه أفيون الشعوب، فالدين عموماً والإسلام خصوصا أفيون الشعوب، والغرب يرمي الإسلام بأنه رجعيّ ومعطّل لحركة الإنسان، وهذا القول قد انساق وراءه خلق كثير من العرب والمسلمين بالإسم من مختلف الأجناس والأعراق.
حدثت الثورة، وأقام الإسلام نظاما إسلاميا جمهوريا في إيران، فاجتمعوا على عداوته والكيد به، اجتمع الغرب والشرق والعملاء الداخليون في البلاد الإسلامية على عداوته والكيد به. قلّلوا من شأن وشأن القائمين عليه فقالوا عنهم مجموعة ملالي لا تجيد التعامل والحياة، ولا تعرف سبيل التقدّم، وسترجع بالشعب الإيراني إلى الوراء بمدة قرون، سخروا منه كثيرا ومن القائمين على ذلك النظام، شنوا عليه حربا طاحنة عن طريق صدام فخابت الحرب وخاب مشعلوها.
مثّل ذلك النظام النظام المستقلّ الوحيد على مستوى أنظمة الحكم في الأمة فجدّوا في عزله وإضعافه، لو بحثت في إطار الأمّة كلّها عن نظام سياسي لا يرتبط بمحور الغرب ولا بمحور الشر، ولا يسجد على أعتاب الغرب ولا الشرق لما وجدت غير نظام واحد.
في زحمة الحروب والمؤامرات والحصار والمقاطعة والإعلام المكثف المضاد، وإثارة النعرات القومية والطائفية داخل الجمهورية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية والمتاعب من الداخل، وخلق الشكوك واستهداف علاقات الجوار بالتخريب يشقوا النظام الإسلامي الطريق بنجاح ليواصل رحلته الموفّقة بإنجاز علمي إلى إنجاز أكبر، حتى دخول نادي الفضاء لتُعلن كل من واشنطن وموسكو أسفهما واستياءهما من قوة الإسلام وتقدم الجمهورية الإسلامية والنظام الإسلامي، وربما أسف معهما كثير من جهلة هذه الأمة ومتغرّبيها.
ماذا يريدون لهذه الأمة؟
يريدونها ضعيفة ذليلة تعيش معتمدة عليهم حتى في المنجل والإبرة ليحكموا القبضة على عنقها، ويملكوا عليها أنفاسها ولتكون البقرة الحلوب فيما تغنى به أرضها من ثروات طبيعية، وسوقا رابحة لبضائعهم المغشوشة، وبحراً مفتوحا لأساطيلهم الظالمة والغازية، وأرضاً مستباحة على كل المستويات، وإنساناً مستعبداً لهم في كل الأبعاد.
ثماني سنوات معدودات لا تساوي شيئا في عمر الزمن والدول وتقيم التجربة الإسلامية شاهدها الصارخ على الأرض على عظمة الإسلام وقدرته على الصنع الخلاّق والتقدم بمستوى الأمة، وعن أي طريق؟ عن طريق حكومة الملالي كما قالوا وعن طريق ديكتاتورية ولاية الفقيه كما يزعمون، وزعمهم الكذب الصراح فإن ولاية الفقيه بعيدة كل البعد عن الديكتاتورية، إنها خاضعة في كل كبيرة وصغيرة إلى حكم الشريعة، خاضعة لأمر الله ونهيه، فاعلية بالعبودية المندكّة أمام الله، أمام عظمة الله عزّ وجلّ. وبهذا يكون التمهيد بقناعة الإنسان الحرّ في العالم الإسلامي والنموذج الجمهورية، وبهذا يكون التمهيد بقناعة الإنسان الحر في العالم الإسلامي وخارجه بعظمة يوم الظهور وقدرته على الإنقاذ الشامل. فدولة التمهيد صورة مصغّرة من دولة الظهور.
وإذا طلب طالب صلاحاً وإصلاحاً وطلب أن نخرج من شرنقة الأزمات، وكان من المؤمنين فلا يطلبه إلا على طريق الإسلام والتقيد بالحكم الشرعي.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. جئتك يا محسن وأنا المسيء أسألك مغفرتك وإحسانك وتفضُّلك عليَّ وعلى إخواني وأخواتي الحاضرين، وعلى جميع أهل الإيمان والإسلام. ارحم أحياءنا وأمواتنا، وانكشف كروبنا، واستر عيوبنا، وأذهب همومنا وغمومنا، وبارك لنا في ديننا ودنيانا، وباعد بيننا وبين ما يوجب غضبك، ويورث عقابك، ويضع أقدارنا عندك، ويهبط بمنزلتنا لديك. يا قضي الحاجات، ومجيب الدعوات اقض حاجاتنا بما لك فيه رضى ولنا فيه صلاح يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ما هي النفس الدنيّة، وما هو الموقف الدنيّ؟ والدناءة الحقارة، والدناءة الشيء الوضيع والأمر الوضيع.
2 – تحف العقول ص252.
3 – موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج3 ص466.
4 – المصدر نفسه.
5 – المصدر نفسه.
6 – عيون الحكم والمواعظ ص115.
7 – المصدر ص498
8 – موسوعة أهل البيت (ع) ج3 ص 467.
9 – عيون الحكم والمواعظ ص 485.
10 تذكرة الفقهاء (ط.ج) ج4 ص227.
11 – تذكرة الفقهاء (ط.ج) ج4 ص228.
12 – منتهى المطلب (ط.ق) ج1 ج363.