خطبة الجمعة (310) 23 محرم الحرام 1429هـ – 1 فبراير 2008م

مواضيع الخطبة:

خلق الغضب + قضايا لا تحتاج إلى توضيح – تتمة

الاختلاف في الرأي بين المذاهب الإسلامية الثابتة لا يُنكر؛ وهو لا يهز إيماننا مطلقاً بوجوب التقارب النظري بين المسلمين ما سمحت به المذاهب نفسها، ووجوب توحّدهم عملاً في ما يحمي الإسلام، ويحافظ على كيان المسلمين، ويدفع عنهم غائلة أعدائهم، ويحقق مصلحة أوطانهم، ويمتِّن العلاقات الإيجابية بينهم. والعمل على تقارب المسلمين، ووحدتهم واجب إسلامي لا فرار منه، ولا يثنينا عنه شيء.

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي لا يُستَدلُّ عليه إلاَّ به، ولا يُعرف إلا بمعرفةٍ من عنده، ولا يُطاع إلا بهدايته، ولا يُشكَر إلا بتوفيقه، ولا يُلاذ من عدله إلا برحمته، ولا يُفرُّ من عقابه إلاَّ إلى عفوه، ولا يُستجار من سخطهِ إلا بالتذلُّل إليه، ولا تُنال جنته إلا برضوانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله الذي لا شريك له في ملك ولا تدبير، ولا غنىً لأحد عنه، ولا مفرَّ له من ملكه علينا بتقوى الله التي تصفو بها الأرواحُ فتكونُ أعرف، وتطهرُ بها القلوب فتكونُ أفقه، وتزدادُ النفوسُ زكاة فتكونُ آنَس، وبها صلاح أوضاع الدنيا، وسلامة المصائر، وسعادة الأبد، وما اتَّقى اللهَ من حَادَ عن الحقِّ، وقد شطَّ من فرّط في حقوق العباد، ومن نال منهم ظُلماً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنَّا نعوذ بك من أن نظلم عبداً من عبيدك، أو أمةً من إمائك ممن قَرُب أو بَعُد، أحبّ أو أبغض، عَدَلَ أو ظَلَم، آمن أو كفر، ونعوذ بك من أن نُظلَم، أو أن تخذلَنا عنايتُك عند كيد الكائدين، وبغي الظالمين، أو تُسلَمنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين فنكون من الهالكين.
أما بعد فهذه وقفة حديث عند خلق بغيض ألا وهو خلق الغضب:
عن الصادق عليه السلام:”الغضب مفتاح كلّ شرّ”(1).
فهو لحظة لا تتفجّر في النفس في الكثير عنها عن خير، وإنما تفجّرها في لحظة الغضب في الغالب لا يكون إلا عن شرّ؛ شرٍّ من دنيا، أو شرٍّ من آخرة، أو شرٍّ منهما معاً.
“عن عبدالأعلى قال: قلت لأبي عبدالله عليه السّلام: علّمني عظة أتّعظ بها، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أتاه رجل فقال له: يا رسول الله علّمني عظة أتّعظ بها، فقال له: انطلق ولا تغضب، ثم أعاد إليه فقال له: انطلق ولا تغضب – ثلاث مرّات-“(2).
فكلّما طلب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وآله أن يعظه عظة يتّعظ بها قال له انطلق ولا تغضب، ذلك ما يشير بكلّ قوة إلى خطورة الغضب وأنّ من ضبط نفسه عند الغضب. ولحظةُ الغضب لحظة ثورة عارمة، ولحظة تشتعل فيها العواطف، ويغيب فيها العقل، ويضعف الدين. فإنّه يستطيع أن يضبط النّفس عند لحظات أخرى من ثورة شهوة، أو من خوف، أو من غير ذلك.
وهذا بيان فيه شيء من تفصيل لكون الغضب مفتاح كلّ شر، يتّجه ذلك البيان إلى التركيز على عدد من الأمثلة وموارد الضرر والشرّ التي تقوم على حالة الغضب.
“الغضب يثير كوامن الحِقد”(3).
والحِقدُ اختزانٌ لنيّة سوء، لبغضاء، لروح انتقام، والغضب هو مثير شعلة الانتقام، وشعلة البغضاء، وروح الانتقام. فإذا ما تفجّر الغضب ظهرت النفس على كل سوءاتها من حيث الحقد الأسود، وتكشّفت لحظة الغضب عن نفسٍ تضمر الشرّ في داخلها. وربما انعكست صورة المرء تماماً عمّا عليه من صورة وضّاءة عند معاشريه إلى صورة قبيحة في لحظة غضب واحدة، فسقط من أعين النّاس. ربّما كان يُرى ديّناً تقيّاً ضابطاً للنّفس فتفضحه لحظة واحدة من لحظات الغضب لتكشف عن شخصية أخرى فيه ليست بتلك المواصفات.
“الغضب مركب الطّيش”(4).
لحظة الغضب في الغالب ليست لحظة عقل وانما هي لحظة جنون ، وفي الغالب ليست لحظة دين وإنما هي لحظة فجور، وفي الغالب ليست لحظة اتّزان وإنما هي لحظة انفلات، ولحظة جنون وفجور وانفلات لا يندُّ عنها خير.
“الغضب يردي صاحبه ويبدي معايبه”(5).
وكما سبق فإنه ربما كشف الغضب عن نفس صغيرة كانت تتراءى عند الناس أنها كبيرة. ولحظة الغضب تبرز معايب النّفس حيث عدم القدرة على الضبط، وعلى الاحتفاظ بالعقل. فيوم أن تثور سورة الغضب يفلت الزمام من يد النفس، وربما أتت لحظة الغضب بشتائم تحطّ من قدر قائلها، وأبرزت أفكاراً ساقطة لا تتناسب وحجم ذلك القائل في نظر الناس. ربما جاء التصرّف تصرّف طفل، وجاءت الكلمات فاحشة، وجاءت النظرات والملامح من نظرات وملامح حيوان هائج، وحين يأتي كل ذلك من نفس كانت محفوظة السمعة عند الناس فذلك ما يعني أن تلك اللحظة لحظة انتكاس كبيرة في وزن شخصيّة كانت في أعين الناس مقدّرة وموقّرة.
“من أَطلق غضبه تعجّل حتفه”(6).
والحتف الموت، ولربما انطلقت كلمة في سورة الغضب فيها منيّة الشخص، وكيف تنطلق؟ تنطلق لأن العقل مغيَّب، ولأن الغضب لا يسمح بتقدير المصلحة وأن يكون الموقف متناسباً مع النظرة الموضوعية الدقيقة للخارج. وما الفرق بين إنسان يفقد عقله وبين حيوان لا عقل له؟! وحيث تتفاقم شهوة، أو يثور غضب، وتنغلب النّفس لغضبها وشهوتها فالإنسان حيوان.
“بئس القرين الغضب: يبدي المعائب، ويدني الشّرّ، ويباعد الخير”(7).
وكلمة واحدة تخرج من متعارضين كبيرين في الساحة السياسية كما كينيا اليوم يمكن أن تدمّر بلداً بكامله.
“الغضب ممحقة لقلب الحكيم”(8).
فالغضب يأتي على الحكمة في القلب، وكلّما وقع المرء في نوبات غضب عاصفة كلّما كان ذلك إلى أن تجفّ منابع الحكمة في قلبه، وأن يخسر مع خسارة حكمته وزنه ودينه.
“عقوبة الغضوب، والحسود، والحقود تُبدأ بأنفسهم”(9).
فالغضب قد يجرّ على صاحبه موتاً سريعاً لكلمة طائشة غير موزونة، و”الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله” كما عن علي عليه السلام، لأنه يحرق القلب حرقاً، وتتولّد منه أمراض نفسيّة قاتلة، والحقد مثله، فقبل أن يصيب الحقد المحقود عليه بسوء، وقبل أن يصيب الحسدُ المحسودَ بقبيح، وقبل أن ينال المغضوب عليه من غضب الغاضب محنة فإنّ كل ذلك يبدأ بالثلاثة المتصفين بهذه الأمراض النفسية الخبيثة.
“لا يقوم(10) عزّ الغضب بذل الاعتذار”(11).
قد يتراءى في الغضب عزّ ظاهريّ للغاضب برفع صوته و بطش يده، وكلمات الصراخ الجارحة منه، لكن ما أن يفيق هذا الغاضب ويتكشّف له في لحظة أن يعود إليه عقله وحكمته ورزانته أنّه قد سقط، وقد أخطأ، وقد ظلم لحظة غضبه حتّى يحتاج إلى الاعتذار إذا كان أهلاً لذلك. ولحظة الاعتذار لحظة ذلّ، لحظة انكسار، لحظة تراجع، لحظة تسجيل للسوء، للخطأ على الذّات، ولو قسنا العزّ الظاهريّ الذي كان للغاضب لحظة غضبه كما يتراءى للجاهل، أو كما يتراءى لنفس الغاضب حالة طيشها، لو قسنا ذلك العزّ الكاذب إلى الذلّ الذي سيعاني منه الواقع في الخطأ بغضبه لما ساوى عزّه شيئاً من ذلّه.
“الغضب نار موقدة من كظمه أطفاها، ومن أطلقه كان أوّل محترق بها”(12).
نار موقدة، وكم الذين يستطيعون أن يطفئوا ناراً موقدة في داخلهم؟ من بلغت به قدرة الانضباط، وقدرة المواجهة والمقاومة لنفسه أن يستطيع إسكات غضبه بمعنى أن تتوثّب نفسه للتعبير عن غضبه الداخلي لكنه لا يفعل، وتحدّثه نفسه بأن يتفجّر أمام من أخطأ عليه غضباً ونقمة، لكنّه لا يفعل ، إذا قدّر أن ليس في هذا الغضب مرضاة لله سبحانه فهو الرجل حق الرجل. ومثل هذا يكون قد استطاع أن يطفئ نار غضب في داخله تريد أن تنطلق، وتعبّر عن نفسها، وأن تتحرك في الخارج عن طريق صوت عالٍ أو يدٍ ضاربة، ولكنّه يمنعه من ذلك عقل ودين وحكمة وحساب مصلحة، وينتهي كل ذلك إلى مراعاة مرضاة الله سبحانه وتعالى وغضبه.
شخصٌ آخر لا يملك من نفسه أن يقف أمام لحظة من مثل هذه اللحظات الهائجة فيسقط في حمئة تلك اللحظة بأن يحترق بها قبل أن يحرق غيره.
“إيّاك والغضب فأوّله جنون وآخره ندم”(13).
فهكذا هي حالة الغضب تبدأ بفقد عقل، وبفقد حكمة، وتنتهي بأخطاء فادحة ليعتذر صاحبها إذا رجع إليه عقله، وإلا يقي أسير جنونه، رهن خطئه.
“من لم يملك غضبه، لم يملك عقله”(14). “شدة الغضب تغير المنطق، وتقطع مادة الحجّة، وتفرّق الفهم”15
شدّة الغضب تغيّر المنطق إذ تخرج به من منطق عقليّ يقوم على الموازنات والمعادلات الدقيقة وانضباط اللفظ، ومراعاة الأحوال إلى منطق جنونيّ وهذرٍ من هذر المجانين.
“وتقطع مادّة الحجّة، وتفرّق الفهم”، يفوت التركيز لحظة الغضب، وما يستطيع الإنسان أن يؤدّيه من حجّة، وما يتيسّر له من إقامة برهان لحظة الرزانة والوقار والهدوء لا يكون منه الكثير، ويفوت منه الكثير لحظة الغضب، فيأتي كلامه مبتسراً غير قائم على الحجة إنما هي العواطف الهائجة التي تعبّر عن نفسها من غير انضباط.
فالغضب يقطع مادة الحجة بأن لا يتيسر لصاحبه أن يستجمع أفكاره ليجيد إقامة الدليل على ما يريد، ويفوّت على الإنسان حالة التركيز، ويفرّق الفهم ويشتته فيفوّت على الانسان حالة التركير التي تتيح له انتاجا فكرياً دقيقاً منضبطاً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اعمر قلوبنا، وأطلق ألسنتا بذكرك وشكرك، واجعلنا لا نميل أبداً عن قصدك، واسلك بنا طرق الوصول إليك، ولا تُزلّ لنا قدماً عن صراطك، ولا تجعل لنا اشتغالاً بغير طاعتك، ولا هوى في معصيتك، وآتنا خير الدارين وسعادتهما، واكفنا شرّهما يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي المحامد أكملِها وأجملِها، وأجلِّها وأسناها، الذي لا يُحدّ حمدُه، ولا يُبلغ شكرُه، ولا ينال وصفُه، ولا يَعرفه حقّ معرفته إلاّ هو، ولا يُحصي نعماءه غيره، ولا نفاد لملكه، ولا انقضاء لسلطانه، ولا سبيل لأحد لنقض ما قضى، وردّ ما قدّر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وعدم المرور بحوادث الدّنيا، وتقلّب أحوالها، وما تحمله لياليها وأيامها من مألوف، أو مفاجئ يضيق به النّاس، أو ينشرحون، ويحزنون أو يفرحون مرورَ الغافل، أو العابث الهازل، فإنّ في كل من هذا درساً وعظة وعبرة وحُجّة.
وإن الحياة جدٌّ لا لعب، وما بعد الحياة حساب وثواب وعقاب. وكما في الدّنيا نعم في الآخرة نعم، وكما في الدنيا نقم في الآخرة نقم. والدّنيا تعلّمنا بكلّ وضوح أنّ فيها نعماً وفيها نقماً. ونعمُ الآخرة لا يعادلها شيء مما في دنيانا، ونقمها لا تدانيها نقم هذه الحياة، فليرحم امرؤ نفسه، ولا يسترسل مع الأماني الشيطانية ناسياً الغد الذي قد يكون قريباً، وكم فاجأت الدّنيا أهلها بأجل قريب غير محتسب، وبعيد عن التوقّعات.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وأصدقائنا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصاً من المؤمنين والمؤمنات وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا كفّر عنّا سيئاتنا، وضاعف لنا حسناتنا، وانصرنا على أنفسنا، وخذ بيدنا إليك، وأعلِ قدرنا بالخضوع لعظمتك، والتذلل الصادق بين يديك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا.
أما بعد أيها الكرام من إخوة وأخوات فإلى هذا الحديث:
قضايا لا تحتاج إلى توضيح – تتمة:
1. الفقهاء رأيهم في كثير من المساحة الفقهية رأي اجتهادي قد يصيب واقع الحكم الثابت عند الله سبحانه وقد يخطئه، ويجوز في حق أيّ فقيه آخر أن يؤدي به الاستدلال إلى رأي اجتهادي يخالف رأي صاحبه، والحجة في حق كلّ من الفقيهين هو ما أدَّى إليه اجتهاده، لا اجتهاد مقابله.
أمّا الرد على الفقيه إذا كان قائماً على التشهّي وبلا حجة شرعية فهو غير جائز، كما هو الاتفاق عند كل المسلمين. ويأتي ذلك من مثل غير المجتهد.
ولو ثبت أن غلق باب الاجتهاد هو الصحيح شرعاً لسقطت قيمة كل اجتهاد لاحق لمن أوقفت الشريعةُ حق الاجتهاد عليهم. ولكن باب الاجتهاد عندنا مفتوح.
2. لو استحقَّ أحد الإماميَّة الإثنى عشرية التكفير لقوله بعصمة أهل البيت (ع) لاستحق كل المنتمين لهذا المذهب أن يُكفّروا لأن القول بعصمتهم (ع) من المقوّمات الضرورية للمذهب.
3. من سلَّم بأن إطاعة الرسول (ص) إنما هي بأمر الله، وأن إطاعة الإمام بأمر الرسول (ص)، وإطاعة الفقيه بأمر الرسول (ص) أو الإمام لزمه حتماً أن يرى في الرد على المأمور بطاعته رداً على الآمر بتلك الطاعة. والنقاش كلُّ النقاش في ثبوت الأمر وعدمه. وكما يعبّر المناطقة النقاش صغروي لا كبروي. يعني هناك أمر من الرسول (ص) بإطاعة الإمام أو ليس هناك أمر، أما لو ثبت الأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله، أو من الله عز وجل مباشرة بإطاعة الامام كان لابد أن نعترف بأن الرد على الإمام هو رد على الرسول (ص)، وعلى الله سبحانه وتعالى.
والأمر لا يرتبط بالعصمة وإن كان كاشفاً عنها على بعض المستويات كما في أمر الله عزّ وجلّ بالطاعة المطلقة للرسول (ص)، وأمر الرسول بالطاعة المطلقة للإمام. فهذان الأمران كاشفان عن العصمة، ولكن إطاعة أمر الرسول (ص) أو إطاعة أمر الله عز وجل حين يأمر بإطاعة شخص لا تتوقف على عصمة ذلك الشخص دائما..
وقضية أن الردَّ على المأمور بطاعته هو ردٌّ على الآمر بهذه الطاعة قضية عقليّة وعقلائية. ولاستنطاق بعض النفوس حول هذه القضية نذكر مثالين:
ماذا يقول الناس في الراد على منصوب القيادة السياسية العليا أو العسكرية العليا في حدود الصلاحيات الممنوحة للمأمور بإطاعته؛ أهو راد على تلك القيادة أو لا؟ إذا نصّبت القيادة العسكرية العليا، أو القيادة السياسية العليا في أي بلد شخصاً وأمرت بإطاعته، الرد على ذلك الشخص ماذا يعد؟ واضح جدّاً أنه رد على القيادة العسكرية أو السياسية نفسها. هذا مع التنبيه على أن هذه القيادة أو تلك لا تتصف بالعصمة.
من رفض طاعة والديه في حدود ما أمر الله عز وجل به من طاعتهما ماذا يقال عنه؟ عاصٍ لله سبحانه وتعالى.
4. من لم يدرك منا – نحن المسلمين جميعاً – أن الأخذ للفقه من إمامه منتهٍٍ إلى إذن الله بنحو الجواز أو الوجوب سواء كان هذا الإمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام، أو الأئمة الأربعة مثلاً، ومع ذلك يأخذ منه فهو بعمله هذا لا يعبد الله عزّ وجلّ لأن الله إنما يُعبد بامتثال ما أمر به لا بما أمر به غيره. فأنا لو صلّيت الصلاة على رأي الإمام جعفر الصادق عليه السلام، مع كوني لا أعتقد بأن أمر الإمام الصادق عليه السلام منتهٍ إلى أمر الله، فإن عبادتي هذه ليست لله عز وجل، هذه عبادة لجعفر الصادق عليه السلام، والمعبود هو الله وحده.
ولو رد أحدنا على الإمام الذي يعتقد بإذن الله له في الفتوى والتصدي لإمامة الفقه وبوجوب أخذ الغير لدينه منه فقد ردّ على الله سبحانه سواء كان الرد للحجّيّة أو بالاستكبار على الفتوى التي يراها الرادّ حجة عند الله عزّ وجلّ يحاسب العبد عليها، ويعذبّه بها.
5. الاختلاف في الرأي بين المذاهب الإسلامية الثابتة لا يُنكر؛ وهو لا يهز إيماننا مطلقاً بوجوب التقارب النظري بين المسلمين ما سمحت به المذاهب نفسها، ووجوب توحّدهم عملاً في ما يحمي الإسلام، ويحافظ على كيان المسلمين، ويدفع عنهم غائلة أعدائهم، ويحقق مصلحة أوطانهم، ويمتِّن العلاقات الإيجابية بينهم. والعمل على تقارب المسلمين، ووحدتهم واجب إسلامي لا فرار منه، ولا يثنينا عنه شيء.
6. هناك مطالب سياسيَّة ملحّة وضرورية لصلاح هذا الوطن، ووحدة أبنائه يجب على الحكومة أن تعترف بضرورتها، والمبادرة للاستجابة العملية لها بدل تشويش أجواء الساحة السياسية بقضايا مفتعلة، وافتعالات لا أصل لها. فيجب على المؤسسات السياسية وعامة المؤسسات الأهلية والساحة الشعبية أن تسعى جاهدة للوصول إلى تلك المطالب مع استبعاد أساليب العنف والمواجهات الساخنة والاستفادة من كل الأساليب الأخرى القانونية والشرعية مع ملاحظة ضرورة الانتقاء المدروس، من غير الاستجابة لمحاولات الاستفزاز التي تثيرها الصحافة المغرضة إضراراً بالوطن والمواطنين، ووحدة الصف المسلم.
7. في أكثر من موسم من مواسم عاشوراء وبصورة ملفتة للنظر تثير الصحافة الرسمية مشكلة مفتعلة تربطها بالموسم ولنا شكوك وتساؤلات ترتبط بمثل هذه الإثارات المختلقة والمؤقّتة توقيتاً خاصّاً يرتبط بعاشوراء فهل هناك نية سوداء على المستوى الرسمي ترتبط بالموسم ذاته؟ ولماذا نُسيء الظن وإن كانت أسباب إساءة الظن متوافرة؟!

8. الكلام عن وجوب إطاعة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وإطاعة الفقهاء الذين ثبت الأمر عنهم عليهم السلام بوجوب إطاعتهم ليس من الحديث المستجد المرتبط باليوم أو الأمس القريب، إنه الحديث المرتبط بزمن الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله، وهو حديث اليوم والغد، ولا علاقة له بظرف خاص من الظروف التي تمر بها الأمة، أو منطقة من مناطقها، أو قطر من أقطارها.
والكلام في متابعة العلماء قديم قدم الإسلام، وقدم الرسالات الإلهية كلّها، وهو كلام القرآن الكريم، والسنة المطهّرة، وكلام كلّ فرق المسلمين، ولا يصح أن ينتهي هذا الكلام أو يُتوارى به لهواجس واهمة قد تعيشها بعض الأوساط السياسية، وهو كلام لا علاقة به بتوجّهات سياسية معيّنة، وطرح سياسي عملي خاص يرتبط بساحة سياسية محليّة أو إقليمية.
وعلى المستوى المحلي توجد قضية مطالب إصلاحية سياسية ومعيشية على مستوى ما هو مطروح بصورة وأخرى في كل البلاد العربية والإسلامية وغيرها، وستبقى هذه المطالب قائمة على كل التقادير حتى تحقّقها. وهي قضايا داخلية، ونختار أن تبقى داخلية مع الإصرار على معالجتها.
وقد رفع الجانب الرسمي شعار الإصلاح وربطه بالديموقراطية، وأكّد على ذلك الميثاق، وقد جاء ذلك استجابة لمطلب الانتفاضة في التسعينات، وهو مطالب اليوم بالالتزام بما أكّده الميثاق من الملكية الدستورية القائمة على الديموقراطية، ومن كون الدولة عربية إسلامية، ومن أن الإسلام مصدر رئيس من مصادر التشريع، ويلتفت إلى انه لا نصّ على هذه الخصوصية إلا للإسلام في الميثاق مما يجعله مقدّما على غيره عند التعارض.
وليس مطروحا في الساحة على الإطلاق وبكل تأكيد مسألة حكومة الفقهاء أو العلماء للبحرين، ولا حتّى التفكير في ذلك، والتهويلات السياسية التي تضرب على هذا الوتر إنما هي لإثارة الغبار، ومحاولة قطع الطريق على المطالب الوطنية المستندة إلى ما قرره الميثاق من حقوق والتزامات، ومنها الالتزام بدستور نابع من إرادة الشعب مصدر كل السلطات كما هو تقرير الميثاق نفسه.
والحقوق المقررة ميثاقا ليست خاصة بفئة من فئات هذا المجتمع، أو طائفة من طوائفه، ولا ترتبط بفهم دينيّ أو غير ديني، ولا بفهم ديني خاص في قبال آخر.
ونذكر بأن علماء البحرين من كان منهم داخل البلد أو خارجه أيام الانتفاضة، وأبّان الأحداث الصعبة، وحماقات الجهاز الأمني وكل سيئات الحقبة السابقة لم يطرح أحد منهم ولم يلوّح بمسألة حكومة الفقهاء والعلماء، وبقيت المطالب على ألسن العلماء كسائر فئات الشعب مطالب إصلاحية، ولم تتحدث عن أصل النظام. ونؤكد من جديد أن هذه المطالب لم تُبارح، ولن تُبارح حتى تتحقق.
9.أما وجود الفقه والفقهاء، والعلم الديني والعلماء فهو ضرورة من ضرورات هذه الأمة، وحاجة ملحّة من حاجات كل أقطارها، وهم صمّام أمان لحفظ هوية الأمة، وسلامة دينها.
ولست تجد فئة من فئات المجتمع أكثر وعياً، وأشد حرصا على تطبيق العدل ورعاية الواجبات والحقوق، والحفاظ على أمن الناس وسلامة الأوطان والمكتسبات الصالحة، وأبعد عن روح العدوانية وتجاوز القيم، والاستخفاف بإنسانية الإنسان، وأقرب إلى العقلانية والتعقّل من فئة الفقهاء وعلماء الإسلام الحقيقيين.
هناك تصوير للفقهاء وللعلماء وكأنهم أسد مفترس، أو كأنهم من مجانين الأمة، أو من أشرارها وسفلتها، وهذا من أكبر الظلم الذي تمارسه بعض الجهات.
10. وإذا كان هناك من يتوقّع من هذه الفئة أن تأخذ دور الشيطان الأخرس، وتقر أي ظالم على ظلمه، فضلا عن أن تسنده في بغيه أو تفرط بواجبها الديني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو واهم، وأمنياته باطلة.
ومن يتصوّر أن حملات الاتهام والتشويه والإسقاط والتهويل ستوقف العلماء عن النطق بكلمة الحق، ومناصرة المظلوم، وستجعلهم يتخلون عن الضعيف والمحروم، ويتراجعون إلى الوراء انهزاماً أمام هذه الحملات فرأيه ساقط، وظنّه خائب.
اللهم أصلح شأننا كله للدنيا والآخرة، وعافنا واعف عنا، وبارك لنا في أعمارنا وأرزاقنا، واحفظنا في أنفسنا وأهلينا، ومن يعنينا أمره، وأصح ديننا وأبداننا، وانصر الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين. اللهم زدنا من نعمك، وادفع عنا نقمك برحمتك يا أرحم الراحمين، وأكرم المعطين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
________________________
1 – ميزان الحكمة ج7 ص230. (المرجع الأصلي بحار الأنوار ج73 ص266).
2 – المصدر نفسه. المرجع الأصلي (الكافي ج2 ص303).
3 – المدصر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
4 – المصدر ص 231. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
5 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
6 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
7 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
8 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي بحار الأنوار ج 73 ص262).
9 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
10 – لا يقوم بمعنى لا يساوي، لا ينهض.
11 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
12 – المصدر ص 232. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
13 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي غرر الحكم).
14 – المصدر نفسه. (المرجع الأصلي بحار الأنوار ج77 ص381).
15 المصدر ص232 عن البحار ج 71ص428

زر الذهاب إلى الأعلى