خطبة الجمعة (296) 26 رجب 1428هـ – 10 أغسطس 2007م
مواضيع الخطبة:
تتمة موضوع الخيانة – الإسلاميون والديموقراطية – حتى لاتضيع الحقيقة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا وجود ولا بقاء لشيء إلاَّ به، وهو الحيّ القيُّوم الذي لا يموت. مسبّب الأسباب ولا تناله الأسباب، وبه تقوم الكائنات فلا يطاله شيء منها، والملوك عبيده مقهورون لإرادته فلا سبيل لأحد منهم إليه، ولا حول ولا قوة لوجود على مغالبته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله التي أمر بها، وهو أهلها، والغنيُّ عنها، وقد جعلها معراجاً لرحمته، وسبيلاً إلى رضوانه، ومصعداً لجنته، وجُنَّةً من ناره، وهي سمة أوليائه وأهل الكرامة لديه، وأقرب عباده إليه. وهي غاية الطاعة الصادقة، والحياة الموفقة، لما تُعليه من الشّأن، وتورثه من الجنان، وتكسبه من الرضوان. وبعُد عن التقوى من لم يطلب معرفة ربّه ومعرفة نفسه، ولم يجاهد النفس الأمّارة بالسوء والشيطان الرجيم اللذين لا يزالان يكيدان به ما دام حيّاً.
نسألك اللهم لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين الهدى والتُّقى والعفاف والغنى والعمل بما تحب وترضى. اللهم اغفر لنا ولهم ولوالدينا ومن كان له حق خاص علينا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد فمع تتمة للحديث في موضوع الخيانة:
وهذا كلام في مصاديق من مصاديق الخيانة بعضها ظاهر، وبعضها قد يخفى.
“إفشاء سرّ أخيك خيانة فاجتنب ذلك”(1).
السر قد يكون أثمن من المال، وقد يكون في السرّ العمر والدين، فمن عظم عليه حرمة المال ولم تعظم عليه حرمة السّرّ فما أصاب. من أودعك سرّه قد يكون أودعدك دمه، وقد يكون أودعك عرضه، وقد يكون قد أودعك دينه، ولا شيء أغلى من دين وعرض ودم.
فالسر أمانة كبرى، وكم ذهبت من قضايا كبيرة، وكم تضررت مسيرة الإسلام، وكم أُجهضت من خطوات مباركة على يد رسلٍ وأئمة عليهم السلام لسبب إفشاء السر من مطلع عليه، وحفظة السر قليلون، والسر لا يوضع في يد ثقة مالم يُعلم أنه يمنعه عن ثقاته.
إن الشخص الذي تضع سرّك عنده لأنك تراه ثقة عنده ثقاة، ولن يكون الأمين على سرّك حتّى لا يُسرّب السر إلى أكبر ثقة من ثقاته، فهل تضمن؟
نعم، شكى الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من إفشاء سرّ الرسالة، وسرّ أمرهم عليهم السلام، وكانت العجلة وراء إفشاء السر أحياناً، والكثيرون من الناس يشتهون أن يحملوا أخباراً، ويشعرون بلون من القيمة والوزن حين يراهم الناس يتوفّرون على شيء من الأسرار وخاصّة إذا كانت تلك الأسرار من أسرار الكبار والقضايا الكبيرة.
“كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة”(2).
حفظ الأمانة واجب صريح، وحتّى جاء عن زين العابدين عليه السلام أنه كان يطرح هذا المضمون وهو لو أن قاتل أبيه عليه السلام أودعه السيف الذي قتل به أباه وقبله أمانة على هذا لما خانه. ولكن مع ذلك فإن تدبير قتل مؤمن تُعطى سرّه لا يجوز لك أن تحتفظ والسر، ومالاً يسرق يودعك إيّاه السارق عليك أن توصله إلى من سُرق منه. الأمانة جاءت للحفاظ على القيم وهي من بين القيم العالية، جاءت لتبني الحياة، وما جاءت لتفسد حياة الناس، وتكون خادمة للخيانة.
فالأمانة على الخيانات من أعظم الخيانة، والوفاء لأهل الخيانة بالأمانة من أعظم الخيانة.
فئة تدبّر شرّاً ضد الأمة، حكومة تكيد بمصير الأمة، وزير، أي موقع من المواقع صار يكيد بمصلحة الأمّة، ويتعامل مع الأجنبي على للإضرار بالإسلام والمسلمين، حكومة ترسم الخطط لإفساد أخلاقيات الناس وعقيدتهم كلّ أولئك لا سرّ لهم في خياناتهم وليسوا مورداً في ما يمارسونه منها للأمانة. تحتجّ لي بأنّك أمين هذه الحكومة فلا بد أن تحافظ على أسرار التخريب والفساد والإفساد، والكيد بالأمة ومصلحة الدين إلا أني أقول لك هذا من أكبر الخيانة.
وهناك أمانة لما هو مصداق من الخيانة، وهذا واضح أنّه خيانة، بينما هناك محافظة على أمانة فئة خائنة، فيما هو صحيح في نفسه ولكن هذه الأمانة تقوّم وجود الخائن وتركّزه وتثبّته وتمكّن له، وهذا أيضا من الخيانة.
“كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة” في ما هو خيانة، وفي ما هو يركز ويساعد على تثبيت الخونة وتمكينهم كذلك.
“عن أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبوعبدالله عليه السّلام: يا هارون إنّ الله تبارك وتعالى آلى على نفسه أن لا يجاوره خائن(3)، قال: قلتُ: وما الخائن؟ قال: من ادّخر عن مؤمن درهماً أو حبس عنه شيئاً من أمر الدّنيا”(4).
أخوك المؤمن في حاجة وأنت تملك سدّ حاجته بما وفّر الله عليك من مال؛ منعك مالك عنه – والحال هذا – وتركك له تحت ضغط الحاجة خيانة لا يرضاها الله لك، والأمانات أوزان، والخيانات أوزان، وهذا وزن من أوزان الخيانة، ودرجة من درجاتها وهو سلوك مبغوض لله عز وجل. للمال دور، للنعمة في يد صاحبها وظيفة ومن دور المال أن يبني، أن يعالج، أن يهدي، أن يشبع، أن يصلح، أن تتحرك به عجلة الحياة في المسار الصحيح.
وأين أمانة الأخوّة من هذا السلوك؟ الأخوّة الإيمانية أمانة في أعناقنا، وحيث أتفرج على ضيق أخي ومعاناته فقد خنت الأمانة، خنت أمانة الحفاظ على المال، ووضع المال في موضعه، وخنت أمانة الأخوّة الإيمانية حيث أهملت حاجة أخ مضطر إلى الإنقاذ.
“أيّما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكلّ جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين”(5) عن الصادق عليه السلام.
وظيفة الحفاظ على الهوية الإيمانية للمجتمع المؤمن واللحمة الإيمانية له وظيفة ثابتة في عنق المسلم، أنت لست مسؤولا عن نفسك فقط، وإنما يتحمل كلنا مسؤولية أخرى وهي المسؤولية الاجتماعية، مسؤولية بناء المجتمع المؤمن، الحفاظ على قوّة المجتمع المؤمن، العمل على تقدم المجتمع المؤمن، السعي في حل مشكلات المجتمع المؤمن. هذه الأمانة نكون قد ارتكبنا خيانتها حين لا نسعى بجدٍّ في قضاء حاجات الإخوان. هذه مصاديق للأمانة غير ظاهرة لنا، ويجب أن نتنبه إليها.
“ألخائن من شغل نفسه بغير نفسه، وكان يومه شرّاً من أمسه”(6).
مطالعتي لعيوب الآخرين، ملاحقتي لنواقصهم، إغفالي لما عليه نفسي من قصور وتقصير فيه خيانة كبرى للنفس. لم يُعهد أمر نفسي إلى أحد من بعيد أو قريب كما عُهد لنفسي، أنا أول من يتحمل أمانة نفسي، فإذا أهملت أمانة نفسي وإصلاحها فمن لها يا ترى؟ فكم هي من خيانة كبرى أن أخون النفس التي لا راعي لها بعد الله قبلي؟!
وكلّ لحظة في هذه الحياة طُلب مني أن أعمل فيها على تطوير ذاتي، وعلى تكميلها، والانتقال بها من فعليّة كمال إلى فعليّة كمال أكبر، وحين يتساوى يومي وغدي فأنا مغبون، أي مظلوم، وهو ظلم من نفسي لنفسي، وخيانة ارتكبتها في حقّ نفسي، أما من كان يومه شرّاً من أمسه، وأمسه خيراً من يومه فقد جاء في الكلمة عن زين العابدين عليه السلام أنه ملعون، مطرود من رحمة الله.
الحياة للتقدّم وليست للتراجع، للكمال وليست للتسافل، وآهٍ لمصير إنسان يقضي جُلّ عمره في طاعة الله ثم يبدأ انحدارته إلى النار بعد الستّين أو السبعين، وقد يكون. أعاذنا الله من ذلك.
“غاية الخيانة(7)، خيانة الخلّ الودود ونقض العهود”(8).
وهذه الغائية، في عِظَم الخيانة نسبي، أي أن خيانتك للخلّ الودود أعظم بمرّات ومرّات من خيانتك لإنسان آخر عادي، ثمَّ أنْ تنقض العهد خيانة أكبر بكثير من تخلّف عن أمانة لم تأخذ على نفسك عهداً خاصّاً بها، وإلا فهناك خيانة أكبر من خيانة الخلّ الودود وهي خيانة العبد ربّه تبارك وتعالى، خيانته الميثاق الذي أخذه ربّه عليه، وإن كانت كلّ خيانة من الخيانات المعروفة وغير المعروفة راجعة إلى خيانة العبد ربّه الذي له حقّ الطاعة فيما أمر به من حفظ الأمانة وعدم الخيانة.
أخوك يناصحك، يخلص المودّة لك، يعيش حالة الوفاء الكامل بالنسبة لك، وأنت تخونه؟ شنيعة من أكبر الشنايع.
“تناصحوا في العلم فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله”(9).
فكم يرتكب هؤلاء المزوّرون للعلم، الخائنون لأمانة الكلمة، المحرّفون للكلم عن مواضعه، الذين يقدّمون الفكر الإسلامي على غير ما هو عليه قصداً وعمداً كم يرتكب هؤلاء من خيانة عظمى؟! إنهم يخونون عقولاً، يخونون أرواحاً، يخونون مصائر، يخونون بصائر، وهذا أكبر من خيانة المال. وإنه لجيش عرمرم من كتّاب التزوير، ومن مؤلّفي الكذب يعيشون حياتهم كلّها على التزوير والكذب على العلم والحقائق.
“إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأفظع الغشّ عشّ الأئمّة”(10).
إذا كانت خيانة الفرد كبيرة فخيانة الأمة أكبر، والذين يتعاونون على إفساد وضع هذه الأمة، وعلى خلخلة صفوفها، وزرع الفتن فيها، وسرقة أموالها، وتضليلها هم من أعظم الخونة، بل إن هذه الخيانة في الكلمة عن النهج أعظم الخيانة، وذلك بالقياس إلى خيانة الأفراد، وأفضح الغشّ غشّ الأئمة؛ التخلّف عن الإمام الحقّ، رميه بالباطل، التخذيل عنه، التقصير في نصرته، الكذب عليه، عدم تعظيمه وتوقيره، كلّ ذلك غشٌّ في حقّ الأئمة، وأئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أصحاب حقٍّ عظيم على الأمّة لا يستقيم أمرها إلا برعايته. حقّ التوقير والتعظيم والطاعة للأئمة عليهم السلام أمر لا يستقيم وضع الأمة ولا تصلح إلا به. إفشال مشاريع الإمام، التشكيك في خطاه، التخلّف عن تقديم ما تنجح به تلك الخطط، التعاون مع الجهات المضادة، عدم تقديم المعلومات التي تقلّل من خسائر المشاريع، عدم تقديم الرأي بعد تقليبه وفي الصورة المؤدّبة، عدم التنبيه على مواضع الخلل، النيل من شخصية الإمام، كل ذلك خيانات كبرى هي خيانات لله عز وجل ولرسوله وللأمة ومسيرتها الحضارية كلّها.
لا تأمن الزمان “من أمن الزّمان خانه”(11).
للزمان تقلّبات، ولأهله تحوّلات، فلابد من حساب كل ذلك، ولابد للعاقل من أن يواجه الزمان وأهله بعقل واحتراس.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يارحيم ارحم ذلّنا بين يديك، يا معافي عافنا، يا مشافي شافنا، يا كافي اكفنا شرّ الدنيا والآخرة، يا كريم تكرّم علينا بخير الدنيا والآخرة، يا متفضّل علينا بعالي جنّتك، وأسبغ علينا من جميل انعامك، وجليل اكرامك، وعظيم احسانك يا خير المحسنين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا حاجة به إلى ظهيراً، ومعاونة وزير، ولا ينال من ملكه نائل، ولا ينقص من سلطانه منقص، ولا يخرج على قهره خارج، ولا يقوم لجبروته جبّار. لا قويّ إلا وقوّته من عنده، وتحت أمره وفي تصرُّفه، ولا بمتمرد يملك أن يتمرد على ملكه وقبضته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله المربوبين له، المحكومين لقدره، المنتهين إلى الحساب بين يديه، وملاقاة ثوابه وعقابه بتقواه إذ لا شفيع عنده إلا بإذنه، ولا دافع للبلاء من دونه، ولا مصدر للخير سواه. وإنه لا يكفّ الشرَّ فيما بين النّاس كالدين الحقّ والتقوى، ولا يمكن أن تجد الأرض ولا بقعة منها طعم الأمن بلا دين قويم، وفهم له سليم، وعمل جادٍّ به، واستقامة على طريقه.
وستبقى أُمنيّة الاستقرار والأمن في حياة النّاس خيالاً كاذباً، وسراباً لا يُنال ما خفّ ميزان الدين عندهم، أو انحرفوا به عن جادّته، وخرجوا به عن حدّه، وحملوه على ما يريدون من سيء الفهم والعمل.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى الصادق الأمين، محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الكرام فإلى هذين الموضوعين:
الإسلاميون والديموقراطية:
الإسلاميون اليوم قسمان؛ قسم يرفض الديموقراطية رفضا تاما ويلجأ إلى خيار القوّة، ولا يختار على السيف الديموقراطية، ووراء ذلك خلفيّة من واقع موضوعي عاشه أولئك الإسلاميون، رأوا ظلما لا يكف، واستهتاراً بالإسلام لا يفتر، وتكالباً على محاربة الدين، وعدم إصغاءٍ للكلمة، واستكباراً فاحشاً على الله سبحانه وتعالى في الأرض، وانضم إلى ذلك ما انضم إليه فصاروا من وراء ذلك كلّه لا يختارون غير السيف. لا نصحح موقفهم، ولكن إسهام الوضع الاستكباري في الأرض في لجوئهم إلى الأرض والبطش والعنف الخارج عن الحدود والذي يتحمّلون مسؤوليته ووزره أقول: إسهام جهة الاستكبار وجهة الظلم في ذلك ربما كان أكبر.
القسم الآخر من الإسلاميين لا يرى الديموقراطية دينا، ولا مجسدة للحق دائماً، ولا كاشفة عن الواقع، لكنّه يراها آليّة لحسم النزاع في الشأن العام، ولهذا فهذا القسم يأخذ بالديموقراطية ويلتزم بنتيجتها ويقدمها على العنف.
القسم الأول يئس، والقسم الثاني لا زال يجرّب. وستكثر حركات العنف والإرهاب كلّما تفاقم الظلم، وكلّما أُهمل شأن الكلمة، وأُحبط الناس بالنسبة لفاعلية النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة السلمية الهادئة، هذا ليس في بقعة من الأرض وإنما في كل الأرض.
إذا اشتدّ الضغط ولم تنفع وسائل السلم فكثيرون هم الذين سيلجأون إلى العنف، إلى القوة، وربما قادتهم القوة إلى العنف غير المبرّر وغير الصحيح.
ذاك موقف الإسلاميين. فما هو موقف الآخرين؟
موقف الآخرين القهر للإسلاميين والشعوب، واللجأ دائماً إلى القوّة، وتكميم الأفواه، وترعى ذلك أنظمة متفرّدة، أنظمة باطشة، وفي الأنظمة العربية أمثلة لهذا النوع من الممارسة كثيرة.
الآخرون قد يتسترون بشعار الديموقراطية، ويتحايلون عليها، ويعملون على تزويرها، وقد يأخذون بالديموقراطية في مساحة جزئية مع تفريغها من محتواها، وإخضاعها للتزوير والكذب.
مرّت البحرين بالتجربة النيابية وانتخاباتها، وعانى الإعداد للانتخابات من عمليّات التحايل والتزوير بما أبرز نتيجة بعيدة كل البعد عمّا عليه عطاءات الواقع المرتقبة.
قد تخوض بعض الأنظمة التجربة الديموقراطية للضرورة ولأنها ملجأة إليها تحت الضغط، لكن ما أن تأتي النتائج على خلاف ما تشتهي حتى تنقلب على الديموقراطية وتُعمل السيف، وتفتح السجون، وتعلّق المشانق، ولك في الجزائر مثلاً.
الغرب والديموقراطية في بلاد الإسلام. هذه المواقف الغربية من الديموقراطية؛ مهاجمة لبلاد إسلامية هي أقرب للديموقراطية والحرية السياسية بصورة واضحة بالنسبة لدول إسلامية أخرى، هذا موقف، الموقف الآخر: الصداقة والمساندة لأنظمة بعيدة عن الديموقراطية والأمثلة لا تخفاكم.
ثالثاً: الإشادة بديموقراطية مكذوبة.
رابعاً: الانقلاب على تجارب ديموقراطية صادقة كتجربة الجزائر وتجربة حماس. والجيش التركي الذي يعد جيشاً غربيّاً في تربيته وفي توجّهاته وفي سلوكياته لا زال لحدّ الآن يضع شروطاً على الشعب التركي في اختياره لرئيس الجمهورية، وأنه لابد للرئيس أن يكون الراعي الأمين للعلمانية الأتاتوركية والذي لا يحمل شمّة إسلامية على الإطلاق.
هذا هو موقف الآخرين والغرب من الديموقراطية الذين يرفعون شعارها، ويتبجحون بها.
خيارات الشارع الإسلامي خيارات محرجة ومتحدية لغير الإسلاميين في الشأن الديموقراطي، كل غير الإسلاميين لا تسرهم الديموقراطية الحقيقية اليوم، ولا يصبرون على نتيجتها في البلاد الإسلامية، لأن نتيجة ديموقراطية حقيقية في الشارع الإسلامي هي الإسلام، وكل غير الإسلاميين ولا أفرق بينهم لا يصبرون على هذه النتيجة، ويواجهونها بكل الإمكانات.
الإسلاميون لا يخافون من الديموقراطية لا ابتداء ولا استمراراً، والذين يوهمون يوهم الناس بأن الإسلاميين لو وصلوا إلى الحكم عن طريق الديموقراطية لانقلبوا عليها كاذبون وهم يعرفون كذبهم. الإسلاميون إذا كانوا اليوم وهم محاربون ولم تعرف تجربتهم مؤهّلين لاكتساح أصوات الشارع الإسلامي لصالحهم فهم إذا أقاموا تجربتهم على مستوى بلديّة أو على مستوى مجلس نيابي أو على مستوى بعض الوزارات أو على مستوى حكومة وأُتيح لهم أن يعملوا بما يؤمنون به لصالح تجربتهم فإن هذه التجربة ستكون أعلى صوت إعلامي دعائي للإسلاميين. الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما أُعطيت فرصة البناء الداخلي، فلأول يوم نجحت فيه الثورة، ولأول يوم قامت فيه الدولة حاربها العالم، من أجل ماذا؟ من أجل أن لا تتحول منارة في الأرض تستقطب أفئدة المستضعفين في كل العالم. العالم الاستكباري خاف خوفا شديدا ولا يزال يخاف من قيام تجربة إسلامية على الإرض لأنها لن تبقي لكل التجارب الأخرى أي بريق، وستحوّل أصدقاء التجارب الأخرى والواثقين فيها إلى أعداء لتلك التجارب للفارق الكبير بين كفاءة وصدق التجربة الإسلامية الحقيقية وتصور وكذب تجارب الآخرين.
في إمكان التجربة الإسلامية إذا قامت على الأرض أن تُسقط بنموذجيتها وصدقها وإنجازاتها وعدلها وإنسانيتها وبدون حرب التجارب الأخرى وتفشلها، وستملك من الإشعاع ومن قوة الإقناع بواقعها ما يكفي للاستقطاب والتهافت عليها، فكيف إذا انضم إليها إلى صدق التجربة، وكفاءتها العالية كلمة حقٍّ، ونداء صدق؟!
أقول: الإسلاميون لا يخافون من الديموقراطية، ولا يحتاجون إلى أن ينقلبوا عليها لو وصلوا من خلالها إلى أي موقع من المواقع، بل ستعينهم تجربتهم من خلال الديموقراطية على أن يتقدموا كلّ الصفوف، وأن يكونوا رائد هذه الأمة في أعين كل أبنائها.
فحظوظ الإسلاميين تتنامى دائما مع التطبيق، ومن هذا المنطلق يخاف كل الآخرين أن تقوم تجربة إسلامية صادقة على الأرض.
وبالنسبة لعبد الله هذا المتكلّم فالنظر ومنذ السبعينات وإلى الآن وسيبقى فيما أرى ثابتاً في مسألة الديموقراطية: لا نرضى الإرهاب، نرفض العنف، نقدِّم الكلمة على القوّة، نختار الديموقراطية على المصادمات نرى الديموقراطية في صالحنا ونخاف جداً من أن تزوير الديموقراطية والاستغفال بشعار الديموقراطية والكذب على الديموقراطية ينتهي بالناس إلى العنف والمصادمة.
موقفنا مع الديموقراطية، ونتحدّى الآخرين في أن يأخذوا بالديموقراطية، وأن يصبروا على نتائجها. نعم نتحدّى كل الآخرين في القبول بنتائج ديموقراطية حقيقية في الشارع البحريني وفي أي شارع إسلامي آخر، والشارع في بلدان المسلمين اليوم إسلامي، وكفى بتركيا مثالاً في هذا المجال.
نعم، نقبل بالديموقراطيَّة، ونبقى عليها، لا لأننا نقدسها، وإنما لأننا نجد أنفسنا دائماً في ربح من خلال إعمال الديموقراطية، وقبول كل الأطراف بها، لا اليوم فقط، وإنما على طول الخط.
فأي بلد إسلامي تقوم به تجربة إسلامية الإسلاميون فيه لن يخسروا حين يستمرون على خط الديموقراطية، حماس لا تخسر لو بقت المسيرة الفلسطينية على خط الديموقراطية، إيران لا يخسر الإسلام فيها إذا بقيت ديموقراطية حقيقية، أي بلد إسلامي شيعيّاً كان أو سنيّاً لا يمكن أن يخسر الإسلام فيه من خلال الخيار الديموقراطي، فنحن مع الخيار الديموقراطي، ونتحدّى الآخرين في القبول به، والصدق معه، والصبر على نتائجه.
حتى لا تضيع الحقيقة:
نعارض جداً تغيير الإسم التاريخي لأي قرية من القرى، أو مدينة من المدن في هذا الوطن، لأن ذلك يتضمّن إخفاء تاريخ مشرق لوطننا العزيز، ويؤدّي وظيفة تزوير خطير لأمجاده. أرضنا – أي أرض البحرين – كانت مليئة بعمالقة من العلماء ممن يفتخر بهم، وترتبط عناوينهم بالقرى والمدن المختلفة. تقرأ هذه العناوين في تراجم الرجال، والعلماء الكبار: المقابي، البلادي، الغريفي، الجدحفصي، الدمستاني، الماحوزي، التوبلاني، الدرازي وعناوين أخرى مماثلة، وكل هؤلاء سيذهب تاريخهم أدراج الرياح، وستضيع شخصياتهم لتبديل أسماء القرى والمدن، فبعد حين سيكونون مجهولين، وأنهم من البحرين أم ليسوا منها، وسينكر أن تاريخ البحرين كان تاريخ أفذاذ من أمثالهم.
البلديون مسؤولون، النواب مسؤولون، أهل المناطق مسؤولون، الشعب كله مسؤول ومطالب بالوقوف في وجه التحريف عن قصد كان أو غير قصد.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللّهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على التقوى، وخذ بهم إلى الهدى، واهزم بهم الأعداء، وخلصهم من كيد أهل الكفر والنفاق والشقاق، اللّهم اجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد، ورد عنا كيد كل كائد يا قوي يا عزيز، يا من هو على كل شيء قدير.
اللهم أدخلنا في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأخرجنا من كل سوء أخرجت منه محمدا وآل محمد يا رحمن يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج 3 ص 197. (بحار الأنوار ج 77 ص 89).
2 – المصدر نفسه. (بحار ألأنوار ج 78 ص 364).
3 – يعني لا يقرب خائنا إلى رحمته وإلى ألطافه وكراماته.
4 – المصدر نفسه. (بحار الأنوار ج 75 ص 173.
5 – المصدر نفسه. (بحار الأنوار ج 75 ص 175.
6 – المصدر نفسه. (غرر الحكم).
7 – أي أكبر الخيانة.
8 – المصدر ص 198. (غرر الحكم).
9 – المصدر نفسه. (بحار الأنوار ج 2 ص 68).
10 – المصدر نفسه. (نهج البلاغة).
11 – المصدر نفسه. (النهج).