خطبة الجمعة (285) 8 جمادى الأول 1428هـ – 25 مايو 2007م

مواضيع الخطبة:

حديث في موضوع الفتنة + الإسلام والمسلمون وحدة وتعددية + الإسلام مراتب + من أوضاع الساحة

جاء في جواب الوزير أن كل المجنسين يتمتعون بوظائف وسكن وخدمات كافية، ولي سؤال قصير هنا: وماذا تقول أيها الأخ الوزير عن المواطنين؟ هل كل المواطنين أيضا يتمتعون بوظائف وسكن وخدمات كافية؟

الخطبة الأولى

الحمد لله الإله الحقّ المبين، لا ثاني معه، ولا جزء له ولا ولد. تنزَّه وتعالى عن حاجة التركيب، وإمكان الشريك والمثيل والشبيه والنِّد، لا يُضادّ ولا يُنازع ولا يُكابر، ولا مُقدِّم لما أخّر، ولا مؤخِّر لما قدَّم، وهو بكل شيء محيط، وعلى كل شيء قدير.
أشهد أ ن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بما أمر الله به من التقوى التي أكرم بها عباده الصالحين، وبها يرفع الدرجات وهو العليُّ العظيم الذي لا رافع لمن خفض، ولا خافض لمن رفع، ولا معزّّ لمن أذلَّ، ولا مذِلَّ لمن أعزّ.
عباد الله علينا أن نصون أنفسنا من النار، ولا نبيعها رخيصة على أحد من مشتري الأديان والشرف والكرامة، ولا نساوِم عليها من باذلي الشهوات، فنفسٌ أعزّها الله، ولم يرضَ لها ثمناً إلا الجنّة يظلمها ظلماً شديداً، ويبخسها حقها من اختار لها الهوان، وسلك بها طريق الشقاء والعذاب.
ومن طلب دنيا من أي لون؛ مالِها ورياشها وجاهها وشهرتها وملكها بشيء من دينه فقد رضي لنفسه أن تهون على خالقها، وهو هوان ليس بعده هوان.
أعذنا ربنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من سحر الدّنيا وفتنتها المضلّة، وارزقنا الكرامة عليك، والمنزلة الرفيعة عندك. اللهم اغفر لنا ولكل أهل الإيمان والإسلام وتب علينا يا تواب يا كريم وصلِّ على محمد وآله الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في موضوع الفتنة في ضوء نصوص من القرآن الكريم ونصوص عن المعصومين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(1).
الإيمان ليس كلمة يُطلقها اللسان لتكون فارغة بلا أن تستتبع سلوكاً والتزاماً بقضية يقتنع بها الفِكر، ويحتضنها القلب، الإيمان اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، ثلاثة مقوِّمات لقضية الإيمان، فكرة يحتضنها العقل والقلب، وتملك على النفس كلّ مشاعرها.
ومن بعد ذلك كلمة حقٍّ تُقال أمام الدنيا، أمام كلّ الناس، أمام الطغاة، أمام الطامعين في التفرعن والطاغوتية والألوهية الكاذبة. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وإعلان هذه الكلمة إعلان انتماء، وإعلان منهج، وإعلان نمط للحياة، إعلان مواقف، وإعلان علاقات، وإعلان حريّة أمام كل شيء إلا الله تبارك وتعالى، وهي كلمة صادقة يتبعها الموقف، ويقوم عليها السلوك في كل خطوة من خطوات حياة الإنسان، وتقوم عليها حياة الإنسان المؤمن في كل أبعادها وحيثياتها.
وهل من أطروحة في هذه الحياة، وهل من انتماء يعرفه الإنسان إلا ويفرض عليه فكراً معيّناً، ومشاعر خاصّة، وسلوكاً ينتسب إلى ذلك الخط من الانتماء، ويرجع إلى تلك الأطروحة؟!
ما من أطروحة في الحياة، ولا فكرة في الحياة يرضى أصحابها ممن يدّعي الانتماء إليها أن يقولها كلمة وتنتهي كل القضية.
فلينتمِ هذا الإنسان إلى أي خط، فإن ذلك الخطّ لن يرضى منه الانتماء اللفظي، وسيحاسبه على كل حياته، وأن هذه الحياة في سلوكياتها وفي مواقفها تنطلق من وعي ذلك الانتماء، ومن روح الإخلاص إلى ذلك الانتماء، ومن صدق هذا الانتماء أولاً. إن صدق الانتماء على المحك العملي، فهو الانتماء المرضي وإلا فهو انتماء مرفوض لأي خط من الخطوط الفاعلة في الأرض.
وإذا كان الإيمان يفرض مشاعر رضى وغضب، وحب وكره، وولاء وعداء، ومشاعر أخرى، ويطلب من رافع شعار الإيمان أن تكون مواقفه كلّها ملتزمة بخطّه وطرحه، فإذاً هناك مقاومة، وهناك مجاهدة، وأن لابد من مواجهة للتحديات، ولا بد من ثبات على الخط وحتى حين الزلزال، فجاءت الفتنة، وبذا كان لابد من فتنة بمعنى الامتحان والاختبار لكل مدّعٍ للإيمان، وهو قانون ثابت يحكم هذه الحياة.
فمن حسب الإيمان قضية سهلة، وشربة باردة بلا متاعب، وبلا كدح، وبلا مواجهة وكفاح فهو واهم، وإنه سيصطدم بواقع كبير يُخاف عليه من تأثيره.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} افتتان لا يخص أ مة ولا جماعة، وإنما هو افتتان لكل من سبق على طريق الإيمان، ولكل من هو آت.

الأنبياء يُفتتنون ويُمتحنون {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ…}(2)، {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}(3).
الفتنة ألوان، ومن ألوان الفتنة ما يسوقه الله سبحانه وتعالى إيقاظاً للقلوب المستعدة لأن تستيقظ، بينما القلوب التي فقدت قابلية الاستيقاظ تمر عليها الفتنة الموقظة ولكنها تبقى هي في إدبارها وفي السبات {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(4) هي فتنة من أجل التوبة، يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين من أجل أن ينتبهوا، من أجل العودة إلى الله عز وجل، من أجل أن تتصحح حياتهم، من أجل أن يستيقظ ضمير، أن ينتبه قلب إلى فاعلية الله عز وجل، وإلى مالكيته وسلطانه غير المحدود. ولكنهم لا يتوبون. من هم؟ قال بعضهم بأن المنافقين كانوا يُفضحون في السنة مرة أو مرتين ليتأدبوا وليرجعوا إلى الخط، وقال آخرون أن المعنيين كانوا يُبتلون بالمرض في السنة المرة والمرتين لصالحهم ومن أجل أن يعودوا إلى بارئهم سبحانه وتعالى بعد عناد.
“عن معمّر بن خلاّد سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول:{الم (1) أَحَسِبَ(5)النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ثمّ قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الّذي عندنا الفتنة في الدّين(6)، فقال(7): يفتنون كما يفتن الذّهب، ثمّ قال: يخلصون كما يخلّص الذّهب”(8).
أقرّ الإمام عليه السلام فهم معمّر بن خلاّد ودقّقه بأن أعطى الفتنة في الدين صورتها الدقيقة البالغة بأن قال يُفتنون كما يفتن الذهب، ما هي درجة الافتتان؟ هي درجة عالية جداً، جادّة جداً، تقوم على اختبار بالغ دقيق. أرأيت كيف يُفتتن الذهب على النار، وهل أشد من ذلك؟ ليس من افتتان أشد في صورته من أن يُعرض الذهب على النار، وكأنما النفس في امتحاناتها الإيمانية ذهب يُعرض على النار، فكم هي درجة المقاومة المطلوبة، والصبر المطلوب؟ وهل تحتمل النفس هذا القدر من الامتحان والافتتان ما لم تُرعَ طوال حياة الإنسان رعاية إيمانية، وما لم يقم صاحبها عليها بالتأديب والتذكير، وتنفتح بصيرته على دروس الإيمان، ودروس الاعتبار، وبأن يخوض التجارب العملية التي تعطي لعود نفسه الصلابة، وتعطي لنفسه المقاومة والصمود؟! ما لم يفعل الإنسان هذا، وما قامت حياته على التراخي، وعلى الدلال، وما أعطى لنفسه القياد فإنه لن يقاوم امتحاناً أقل بدرجات من هذا الامتحان القاسي الذي تتحدث عنه الرواية. وإذا كان افتتان النفس على طريق الإيمان كفتنة الذهب المعروض على النار، فماذا سيُبقي فيها الافتتان بعد النجاح؟ وهل تبقي النار في الذهب من رداءة؟! إنها تفصل كل رديء، وإنما تبقي النقي الخالص.
“ثمّ قال: يخلصون كما يخلّص الذّهب” الإنسان وبعد عمر من الإيمان، يبقى فيه ضعف، ويبقى لا يكتشف الغش الذي في ذاته، والشوائب التي تنطوي عليها نفسه، فإذا جاء الامتحان القاسي وصمد تخلصت النفس من الشوائب، وذهب الرديء، ولم يبق إلا الخالص الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، ثم يعود ليحتاج إلى تجربة جديدة يجتازها بنجاح.
وليست الفتنة متمثلة دائما في حرب، وفي جوع وخوف، إن ألوان الفتن لكثار، وإن الإنسان ليعيش فتنة مما يتحدى الإيمان في كل لحظة من لحظات حياته.
عن الإمام علي عليه السلام:”مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأُقاتلنّهم مفتونين”(9).
قد وقعوا في فتنة الانحراف، والتخلّف العملي عن الإسلام، والتخلّي عن وصايا ملزمة من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن أفكار واضحة جليّة تمثّل خطوطاً عريضة في الإسلام قد ركّز عليها القرآن.
“(ومن خطبة له عليه السّلام بعد انصرافه من صفّين يصف فيها النّاس حين البعثة)”:… والنّاس في فتن انجذم(10) فيها حبل الدّين، وتزعزعت سواري(11) اليقين… أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه، في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون، جاهلون مفتونون”(12).
إنها فتن الضلال، ومحن الانحراف والزيغ فإن الفتنة كما تأتي بمعنى الابتلاء والامتحان تأتي بمعنى المحنةوالمصيبة.
والفتن المضّلة جارفة، ويحتاج الثبات أمامها إلى نفوس بُنيت بنياناً مرصوصاً، وأُشيدت إشادة متينة. تيّار الفتن طاغ، وخيلُ الفتن شُمُسٌ تدوس كل نفس ضعيفة، تتجاوز كل الضعاف، وتتجاوز كل المترددين في قضية الإيمان، وتدوس وتتجاوز كل من لم يبن نفسه البناء المتين الرصين في حياة قضاها من حياته.
والافتتان قدر لابد منه، فلا بد من الاستعداد لهذا القدر المحتوم الذي ترتبط به قضية الثبات أو التراجع عن خط الإيمان.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وأعذنا من مضلات الفتن، ولا تحرمنا هداك، واجعلنا في كلاءتك، وأهّلنا لطاعتك برحمتك، وامنحنا من جميل فضلك وكرمك، وأذقنا حلاوة صنعك، وزيّنا بعافيتك، يا حنان يا منان، يا رحيم يا رحمن.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الخلائق وهو غنيٌّ عنها، ولا يخرج شيءٌ من خلقه عن قدرته، ولا يتبدّل فقره إليه إلى غنى عنه، ولا يجد له بقاء إلا من عنده، ولا مدداً إلا منه، ولا تعلُّق لموجود في وجوده، ولا لحيّ في حياته، ولا لمؤثّر في تأثيره إلا به.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة الخاطئة بتقوى الله، والتدبّر في آيات صنعه، وتذكر عظيم آلائه، وجليل قدرته، وإحاطة علمه، وعموم هيمنته، وشمول سلطانه، وشديد أخذه، وجزيل ثوابه تأديباً وتزكية للنفس، وأخذاً لها على طريق الهدى، وإنقاذاً لها من الغفلة، وترضية بالحق، وترويضاً لها على الصلاح، وبلوغاً بها إلى الغاية، فإنه ما انتفع بحياته غافل، وما خسر مستذكر، وما أصاب الرشد ذو ضلال، وما زاغ عن الصراط من كان على هدى من ربّه العظيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا، ومن أهمّنا أمره، ومن أحسن إلينا إحساناً خاصاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم و مسلمة. ربنا أنقذنا من الضلال، ولا تسلمنا إلى الغفلة، ولا تحرمنا الهدى، واسلك بنا أيسر السبل إليك، وأقرب الطرق إلى رضوانك، واجعلنا من الملأ الطيب الصالح من أوليائك وأحبائك يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المطصفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين. اللهم عجل ظهوره، واجعلنا من أنصاره وأعوانه يا أرحم الراحمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فهنا موضوعان:
الإسلام والمسلمون وحدة وتعددية، موضوع سبق الكلام فيه، والآن هذه عودة إليه.
الإسلام مراتب:
الإسلام مراتب، ومضمار السباق مفتوح، وهو سباق إلى الله تبارك وتعالى… إلى رحمته ورضوانه وكرامته.
الإسلام ظاهريٌّ وحقيقيّ، أدنى المراتب في الإسلام هو الإسلام الظاهري، ولو نظرنا إلى واقع الأمر فإنه إسلام بنحو المجاز، ولكن رّتِبت عليه أثار وحقوق.
فالمعنيِ أن الإسلام في ما هو الأعم من الظاهر والواقع منقسم إلى ظاهريٍّ وواقعيٍّ حقيقي.
أدنى المراتب هو الإسلام الظاهري، وقوام هذه المرتبة التسليم الظاهري بالشهادتين، نطق الشهادتين، وعدم إنكار الضرورات من الدين لغير شبهة، مع الشهادتين الإعتراف باليوم الآخر وهو ضرورة من ضرورات العقيدة، وكل ضرورة من ضرورات الدين يضر بالإسلام الظاهري إنكارها، إلا أن يكون ذلك عن شبهة.
هذه المرتبة ما أثرها؟ تكسب صاحبها عضوية المجتمع المسلم، ويُعدُّع عضوا في الأمة المسلمة، وهذه المرتبة تكفل له احترام نفسه وعرضه وماله من المسلمين، وهي توفّر له حماية الدولة الإسلامية، وتكسبه حقّ الضمان والتكافل الاجتماعي، هذا من آثار هذه المرتبة.
والمرتبة الأخرى هي الإسلام الحقيقي، الإسلام المنقذ عند الله سبحانه وتعالى، وهو ما كان إقراراً بالجَنان أي القلب، واعترافاً باللسان، وعملاً بالأركان. وهذا الإسلام على درجات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(13).
” سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض…” (14) ” …وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”(15) ومن درجات هذا الإسلام أصحاب اليمين، السابقون السابقون.
ولنسأل عن الإسلام العادي في مراتبه العادية الواقعة ما بين المرتبة الأولى والمرتبة الأخيرة له؛ و ماذا يمكن أن يجامع هذا الإسلام؟
الإسلام الخالص الذي لا شوبه فيه من جهل ولا تقصير هو إسلام الدرجة العليا، إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلي وفاطمة والأئمة الهادين عليهم السلام، إنه إسلام خالص بلا خليط، وبلا تخلّف، وبلا قصور ولا تقصير، أما الإسلام في درجاته العادية فإنّه قد يجامعه الجهل البسيط، أنا أجهل هذه القضية من قضايا الإسلام أو تلك القضية، وكلّنا يجهل بالعديد العديد من قضايا الإسلام، ومفاهيمه ورؤاه، وهذا جهل بسيط، ويتفقّه الفقهاء، ويبحث العلماء من أجل أن يعالجوا أو يقللوا من درجة هذا الجهل الواسع في حياة المكلّف.
وهناك جهل مركّب وهو أن يجهل هذا الإنسان القضية من الإسلام بينما يتراءى له أنه يعلم بها بحيث يكون علمه بها كاذاتاً غير مطابق للواقع، فيترأى العلم المغشوش غير المطابق للواقع، يتراءى له أنه يعلم وهو لا يعلم وهذا هو الجهل المركّب، وحتى المجتهدون الكبار لا يسلمون من جهل مركّب في استنباط الأحكام، وإلا لاتفقت آراؤهم كلِّهم على المسألة الواحدة، وحين يختلفون فلابد أن قسما منهم لم يوافق الواقع، ولكن هذا الخطأ التفتت له الشريعة وأمرت بالتعبّد بقول المجتهد المستكمل للشروط لأن هذا ما تطيقه الحياة البشرية والعلم الاجتهادي الميسور في غياب المعصوم عليه السلام.
على أن العملية الاجتهادية عملية لها قواعدها وأسسها المتينة الرصينة التي تعطي احتياطاً كبيرا في تجنّب الخطأ. والفقهاء الأتقياء شديدو الاحتياط في أمر الدين، ولا يتسرّعون إلى قول بغير دليل، ولكن ليس لهم دائماً الفهم العاصم الذي يمنع من الخطأ ويؤدي إلى إصابة الواقع على ما هو عليه.
ويجامع الإسلامَ العادي الغفلة، كما يجامع الإسلام العادي ولا يخرج منه الفِسق. فلان الذي لم يصلّ اليوم، تركه الصلاة إثم كبير، وبذلك ارتكب كبيرة فاضحة، ولكن هل خرج من الإسلام بالمعنى الأعم وحُكم عليه بالكفر؟ الجواب: لا. نعم لو استُتيب ثلاث مرّات ولم يتُب عن نزك الصلاة فإنّه يحكم عليه بالارتداد لتركه هذه الفريضة، وهذا المكلّف نفسه لو أنكر الصلاة ولم تُحتمل في حقّه الشبهة التي تحول بينه وبين العلم بضرورة الصلاة في الإسلام لكان كافراً. فرق بين من أنكر الصلاة وبين من ترك ممارسة الصلاة، من أنكر الصلاة في حين لا يُحتمل في حقِّه الشبهة فإنه يُحكم، بخروجه عن الإسلام، أما من ترك الصلاة فهو فاسق مع اعترافه به، من ترك الصلاة مع اعترافه بها مع اعترافه بها فهو فاسق.
تجدون الآية الكريمة تقول:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}(16) هما طائفتان مؤمنتان، وتواجها في قتال فيه إزهاق الأرواح، هذا القتال الذي فيه إزهاق الأرواح لا يخرجهما عن الإسلام بالمعنى الأعم {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} تَحدَّدَ أن هذه الفئة ظالمة باغية لأختها، ومع ذلك فهي باقية على الإيمان بالمعنى الأعم، وإن استحقّت أن تُقاتَل من كل المسلمين حتى تفيء إلى أمر الله.
في طول هذه الآية التي لم أكملها يأتي قوله تعالى وفي السياق نفسه:{الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الفئتان المتقاتلتان مع كون إحداهما باغية تبقيان فئتين من فئات المسلمين بالمعنى الأعم.
من أوضاع الساحة:
كان نزع فتيل أزمة المحاكمة المعروفة من ملك البلاد خطوة موفّقة، وقد تداركت وضعاً سيئاً يمكن أن يترتب على المحاكمة، وهي خطوة مشكورة ومقدّرة.
من جهة أخرى فإن العنف الذي تمثّل في تفريق التجمع السلمي في النويدرات بلا سابق إنذار مع استعمال مسيلات الدموع والرصاص المطاطي بكثافة عمل مدان، وإذا أُدين مثل هذا العمل لو صدر من غير الدولة فلابد أن يكون أكثر إدانة حين يصدر من الدولة التي ترفع شعار القانون، ومع هذه الإدانة ندين حرق سيارة الشرطة، ونعتبره أسلوباً مرفوضاً كل الرفض، والرفض هنا ليس ذوقياً، إنما هو رفض شرعي، فهذا الحرق لا يوافق الحكم الشرعي الواضح.
ثمّ إن الكلمة قنبلة حارقة أو جهاز إطفاء ناجح، والكلمة الحارقة قد تصدر من الحكومة وما أكثر ما تصدر من صحافتها، وقد تصدر من الساحة العامة، والكلمة الحارقة صدرت من أي طرف هي كلمة مُدانة ومرفوضة.
الكلمة تُغرق أو تنقذ، تغرق مجتمعا وأمة، وتنقذ مجتمعا وأمة، البلد تكون على حافّة الحرب فتنقذها كلمة، والبلد تكون على مسافة بعيدة عن الحرب فتشعل الحرب كلمة.
نعم، هي تشعل حربا استنزافية طويلة المدى، أو تسد الطريق عليها، الكلمة تثير الفتنة أو تقطع الطريق عليها، الكلمة تفتح باب الظنّ السيء أو تغلقه، تهدم الثقة أو تبنيها، تزرع الأوهام والشكوك التي تدفع إلى مأساة أو تذهب بها لتسد باب الشر، والكل مسؤول عن الكلمة التي يتفوّه بها، وقد تُدان كلمة أكثر ما يُدان موقف، وقد يكون العكس، وإذا كانت الكلمة تهدم وتبني فإن الموقف هو كذلك يهدم ويبني.
سحب قضية المحاكمة وإلغاؤها موقف، وهذا الموقف هدّأ، وهذا الموقف وقى شرّاً، وهذا الموقف هيّأ لشيء من التفاهم، ويمكن أن يأتي موقف آخر يلهب الساحة كلّها ويدخلها في الأتون الحارق، ومرّت مواقف من الحكومة أشعلت الساحة وكاد اشتعال الساحة أن يعمّ بلا أن ينطفأ حتى يأتي عليها، ما الحل؟ الحل مصالحة وطنية شاملة واضحة تُفعّل ما عُطّل من المصالحة الأولى وتُعالج ما مثّل خروجاً عليها، وكذلك قصورها، وترفع من مستوى إيجابيات تلك المصالحة بدل التراجع عنها.
من جهة أخرى نقدّر موقف المجلس النيابي في رفضه أي تعاون، وأي إسناد من أي نوع للعدو الأمريكي الذي يعتزم شنّ حرب على بلد مسلم جار حقّه ثابت على الجميع. النيابي في رفضه لأي إسناد من الدولة وأي دعم للعدوان الأمريكي على إيران كان موفّقاً جداً، وقد قام بشيء من الواجب المحتّم.
وله موقف آخر مما يُسمّى بالفشوت وهو موقف كل الشعب. الموقف الأول موقف كل الشعب، والموقف الثاني هو كذلك موقف كل الشعب، الأرض عزيزة، والشبر منها مطلوب للعشرات إن لم يكن للمئات، والثروة في البحرين شحيحة، والشبر الواحد بل حبّة الرمل الواحدة ملك ليس لجيل واحد من أجيال هذا الشعب وإنما لكل أجيال الشعب، والتصرف في أي حبة تراب من تراب الوطن يحتاج إلى توقيع من كل هذا الشعب.
التجنيس فيه تجاوز لإرادة الشعب وإضرار بالغ بمصالحه، والمسألة في آثارها الروِعّة مشروحة في أكثر من مقال من المقالات المنشورة في الصحافة، وفي أكثر من خطاب من خطابات الخطباء وفي الكثير من المحاضرات والندوات والمقابلات. وقد ظهرت الأضرار فاضحة واضحة على الساحة بسبب التجنيس السياسي غير القانوني بما لا يدع مجالاً للشك في خطورته.
ولا أريد أن أقف مع جواب جاء لوزير الداخلية على سؤال لأحد النوّاب، ولكن تستوقفني منه نقطتان:
جاء في جواب الوزير أن كل المجنسين يتمتعون بوظائف وسكن وخدمات كافية، ولي سؤال قصير هنا: وماذا تقول أيها الأخ الوزير عن المواطنين؟ أكل المواطنين أيضا يمتعون بوظائف وسكن وخدمات كافية؟
المسألة الثانية: هي أن النيابية جزء من النظام أو لا؟ هذا المجلس النيابي الذي أقامته الدولة بإرادة مفروضة من الشعب وأقامته في تجربة أقصر من طموحات الشعب بكثير، هذا النيابي جزء من النظام، أو هو مؤسسة أجنبية عنه، متمردة عليه، خارجة عن تركيبته؟ جواب الدولة أنه جزء من النظام بلا أدنى إشكال.
فيأتي سؤال: كيف يخفي النظام معلوماته على مؤسسة أصيلة رئيسة في تركيبته؟ وأي مؤسسة هي؟! المؤسسة الرقابية المحاسبين والتي يجب تزويدها بكل المعلومات المطلوبة. وكيف يتم تقييم الأداء الحكومي ومدى مطابقته للمصلحة وتوافقه مع الدستور والقوانين في حين أن الدولة تتحفّظ على معلوماتها وتحجب أسرار القضايا التي يطلب المجلس الرقابة والمحاسبة عليها؟!
أقول كلمة قصيرة: مادامت الدولة قد اختارت مؤسسة النيابي فلابد أن تصبر على المقتضيات القانونية والحقوق الدستورية لهذه المؤسسة وإلا فلتقل كلمة صريحة قد ثقل عليّ الأمر.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم شافنا وشاف مرضانا والمرضى المؤمنين والمؤمنات، واقض حاجة كل محتاج منا ومنهم بما فيه صلاحه ورضاك، وآمنا جميعا من كل مخوف، وحصّنا من كل محذور، وادرأ عنا كل سوء، وأغنِ فقراءنا، وانصر المجاهدين بالحق، وزوّج كل أعزب وعزباء من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ولا تجعل للشيطان مكانا في قلوبنا، ولا قبولا منا، ولا مطمعا فينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 2، 3/ العنكبوت.
2 – 124/ البقرة.
3 – 34/ ص.
4 – 126/ التوبة.
5 – أيظنون، أيتوهمون، أيحلمون.
6 – يعني الذي نفهمه والواصل إلينا أن الفتنة في الدّين و أن الإنسان يفتتن في دينه، أي يمتحن ويختبر.
7 – وهو يقرّر فهم ابن خلاّد.
8 – ميزان الحكمة ج 7 ص382.
9 – المصدر ص 383.
10 – انقطع.
11 – السارية يقوم عليها البناء.
12 – المصدر ص 384.
13 – 13/ الحجرات.
14 – 21 الحديد.
15 – 78 المطففين.
16 – 9/ الحجرات.

زر الذهاب إلى الأعلى