خطبة الجمعة (283) 23 ربيع الثاني 1428هـ – 11 مايو 2007م

مواضيع الخطبة:

موضوع العمل + الوفاق والمشاركة النيابية + الرأي العام الغربي وميزانه

ما كان ينبغي للحكومة أو غيرها أن تطمع في دور تمريري تبعيٍّ تمارسه الوفاق لسياساتٍ لا يوافق الشعب عليها ولا تتلاءم مع مصلحته. إنَّ من يطمع في مثل هذا الدور من الوفاق فإنه يخطئ الظن كثيراً. وستبطل الوفاق ظنّه، ولو لم تنجح في إبطال هذا الظن فإنها ستستحقّ منا المواجهة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا ضارَّ مع رحمته، ولا نافع مع نَقمَتِه، ولا ربحَ مع غضبه، ولا خسارة مع رضوانه، ولا يطلب الخيرُ إلا منه، ولا يُدرأ الشرُّ إلا به، وإذا نصر كفى، وإذا خذل لم يكف عنه ناصر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسّوء بتقوى الله، والرّضا بما رضي لعباده من الدِّين، وشرَّع لهم من الحُكم فلن يجد أحدٌ ديناً حقّاً قويماً كدينه، ولا شريعةً صادقةً عادلة كشريعته، وما شرّع الله من حُكمٍ إلا لمصلحة عباده، أو دفع مفسدة عنهم، وما أباح إلا طيّباً، وما نهى إلا عن خبيث.
عباد الله اطلبوا الاجتماع، ولا تطلبوا الفُرقة، ولا تجتمعوا إلا على هدىً من الله معتصمين بحبله المتين، وهو إسلامُه العظيم وأحكامُه العادلة، وكونوا من أهل التقوى تكونوا مفلحين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا جميعاً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجمع كلمة المسلمين على باطل، واجمع كلمتهم على التقوى، اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق، واسلك بنا سواء السَّبيل، واجعلنا مع الهدى، ولا تجعلنا مع الضلال يا رحمن يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزّاء فهذه مواصلة أخرى للحديث في موضوع العمل:
يقول تبارك وتعالى في كتابه المجيد:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ…}(1).
النّاس يبحثون عن تأمين على أنفسهم وعلى أولادهم من حياة، يطلبون الكفالة، وأن يطمئنوا على المستقبل لمن يُخلِّفون، لا بأس بأي تحفّظٍ مباحٍ على مستقبل الأولاد، ولكن لا تنبغي الغفلة من العبد حتّى يطمئن بوعد العباد، وبوثيقة من المخلوقين أكثر من اطمئنانه بوعد الخالق تبارك وتعالى، وليطلب كفالة من الله لأولاده وبناته قبل أن يطلب الكفالة من العبيد.
جدار يريد أن ينقضّ يأمر الله سبحانه وتعالى عبده الصالح الذي رافقه النبي موسى عليه السلام أن يقيم الجدار حتّى لا تمتد يدٌ لهدمه، لماذا؟ لأن هناك كنزاً ينتظر يتيمين كان أبوهما صالحاً. فلصالح ذلك الأب انصبّت عناية الله عزّ وجلّ ورأفته وكفالته على اليتيمين ليجدا من العمل الصالح لأبيهما ذخراً لهما في الحياة، وجزاءاً حسناً من الله سبحانه وتعالى إكراماً لذلك العبد المطيع.
فحيث يُحسن أحدنا تعامله مع الله؛ كفالة الله تشمله وتشمل أهله ومن خلّف.
من أحسن مع الله العمل، وأخلص النيّة فقد ادّخر عند الله سبحانه وتعالى رصيداً من عناية، ورصيداً من لطف ورحمة وكرامة لا لنفسه فقط وإنما لمن يعنيه أمره كذلك.
“عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبدالله عليه السّلام يقول: إنّ الله لَيفلِحُ بفلاح الرّجل المؤمن ولده(2)، وولد ولده، ويحفظه في دويرته(3)، ودويرات حوله، فلا يزالون(4) في حفظ الله لكرامته على الله، ثمّ ذكر الغلامين، فقال:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}(5) ألم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما”(6).
كانت الأمّة محفوظة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشأنه الكبير، وللمؤمن شأن عند الله سبحانه وتعالى، وربما رُفع العذاب أو أُجّل عن أمّة بصلاح رجل. وإن بركة المؤمن لا تقتصر عليه، ولا على أهله، وإنما تمتدّ إلى الآخرين. يوجد رجل مؤمن في محلّة فربما درأ وجوده من فضل الله عزّ وجل عن أهل تلك المحلّة ألواناً من العذاب.
يقول الحديث:”ويحفظه في دويرته، ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله” لكرامة ذلك المؤمن على الله.
يقول المثل: من أجل عين ألف عين تُكرم.
ثم إن كرم الله عزّ وجل لا يحد، ولماذا لا يكون للمؤمن شأن عند الله، وشفاعة عند الله عزّ وجل، وهل عبيد الله أكرم منه؟! ألا تجد أن المقرّب إلى أهل الدنيا، الموثوق عندهم، الساعي في خدمتهم يقضون له حوائج تخصّه في نفسه أو تمسّه من غيره؟ فكيف بالله سبحانه وتعالى؟!
ما أجمل بالإنسان أن يكون على فكر حصيف، وأن يُعمل عقله في كل موقف، و أن يرمي بنظره إلى بعيد، وأن لا يشغله حاضر عن مستقبل، وأن يوازن بين المصالح والمفاسد، فلا يُضحّي بمصلحة كبرى من أجل خطر يسير، ولا يبيع مصلحة عظمى بمصلحة لا تساوي منها شيئاً. ومصالح الدنيا كلّها لا شيء أمام مصلحة الآخرة، ومتاعب الدنيا كلّها لا شيء أمام متاعب الآخرة، والعقل الحصيف يدلّ أهله على أن يكون شغلهم للآخرة لا أن يكون شغلهم للدنيا، وإنما يأخذون من الدنيا ما يُصلح ذواتهم وآخرتهم.
تقول الكلمة عن حكيم لا يُشكّ في حكمته عليٍّ عليه السلام:”شتّان بين عملين: عمل تذهب لذّته، وتبقى تبعته(7)، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره”(8).
إذا كان في الصلاة، في الحج، في الصوم، في الجهاد، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤونة، فإن هذه المؤونة لا تبقى، أما أجرها فلا ينفد، وهو باقٍ ما بقيت السماوات والأرض في هذه الحياة، وما بقي فوق وتحت في الآخرة.
كمٌّ ضئيل من شهوات الحياة يطلبه صاحبه عن طريق الحرام يخلّده في النّار؟!
وحسناتٌ قلائل تصفو له من بعد حساب تخلّده في نعيم جنّة. منهج الله سبحانه علينا أن لا نزيده ولا ننقصه، منهج الله كامل، ولا خلل فيه ليأتي واحد من عبيد الله يسدّ ذلك الخلل، أو يُكمل ذلك النقص، أو يُعالج ذلك العيب.
“خطب رسول الله عليه السّلام في حجّة الوادع فقال: يا أيّها النّاس والله ما من شيءٍ يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيءٍ يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه…”(9) الحديث عن الباقر عليه السلام.
والعمل لا يمكن أن تكون له قيمة صالحة إلا من خلال المنهج الصالح. عمل خارج المنهج الصالح لا يأتي صالحاً، ولا يأتي حكيماً، ولتبحث الدنيا كلّها عن مصدر للتشريع كالله عزّ وجلّ فلن تجد. بلداننا كلّها تطلب التشريع من أمريكا ومن فرنسا، ومن عقول بشرية محدودة أيّاً كانت، وتشريع الله بين يدي هذه الأمّة.
الحديث عن علي عليه السلام:”من قصّر في العمل ابتلى بالهمّ”(10).
وهذه النتيجة صادقة في الدنيا، صادقة في الآخرة. فإن أي تكاسل عن العمل والإنتاج ليس له من عاقبة هنا في الدنيا إلا الحسرة والأسف على مستوى طلب الرزق، أو على مستوى طلب العلم، أو على مستوى طلب أي خير. أما همّ الآخرة فذلك ما لا يقدّر، وما لا يدركه عقل، وما لا يتصوّره المتصورون. ونتيجة التقصير في الطاعة لله عز وجل في هذه الحياة نتيجة حتميّة تتمثّل في همٍّ قاتل، وحسرة غائرة.
عرض الأعمال على الله سبحانه: لا نعيش على هذه الأرض بلا رقيب، رقابة الله تلاحقنا ليل نهار، وإننا في كل لحظة في علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
{وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ}(11).
عجباه أنّ الموظّف في دائرة حكومية أو في مؤسسة أهلية يشتغل باله طوال ساعات عمله برقابة من يراقبه في العمل، وجزاءُ تقصيره لو سُجّل عليه تقصير أن يُنقص من راتبه أو أن يُفصل من هذه الوظيفة، بينما نتصرّف كما نشاء، ونخالف الله عزّ وجلّ في كل وقت مستخفّين برقابة الله سبحانه وتعالى، أو أننا نعيش في غفلة وسبات عن رقابته.
كيف تغفل قلوبنا عن رقابة الله عزّ وجل وهي به قائمة، فهي موجودة بمن؟ هي موجودة بالله عز وجل، وكيف ينسى الفكر رقابة الله عز وجلّ ولا وجود له إلا به؟! وكيف تمتد يد إلى حرام أو تسعى رجل إلى حرام وهي لا تقوى على شيء من ذلك إلا بما لله عز وجل من مدد لها؟!
كفى بالله رقيبا، وعميت عين لا ترى الله عليها رقيباً. ومن استخفّ برقابة الله عزّ وجلّ فإنما استخفّ بنفسه، ومن استحضر رقابة الله سبحانه استحيى واتّقى لأنه وهو يرى الله يرى عظمة غير محدودة، ويرى قدرة أخّاذة لا يحول بينها وبين ما تريد شيء على الإطلاق، فمن لا يهاب الله وهو يراه؟! ومن لا يستحي من الله وهو يراه؟! ومن لا يخشى من الله وهو يراه؟! المشكلة أننا ننسى، أننا نغفل، أننا نسقط في خداع الشيطان.
“إنّ الأعمال تعرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله أبرارها وفجارها”(12).
الأعمال أعمال أبرار أو أعمال فجّار، وكأن المضاف إليه أُقيم مقام المضاف، المعني أنّ الأعمال تُعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله أعمال الأبرار والفجَّار.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل حياتنا عامرة بالخير، بعيدة عن الشرّ، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ولا تخرجنا من الدنيا إلا وقد غفرت لنا مغفرة جزماً، ورضّيت عنا من ظلمنا، وعوَّضته من فضلك لا من حسناتنا، واكففنا في لطف وعافية عن أن نظلم أحداً، أو نتعدّى حقاً، أو نخالف لك حكماً يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }

الخطبة الثانية

الحمد لله العظيم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم. له العظمةُ والكبرياء، وكلّ النعم والآلاء، ولا خلقَ إلا منه، ولا رزقَ إلا من عنده، والفضل كله له، والمقاديرُ كلّها بيده، ولا مُعوَّل إلاّ عليه، ولا حول ولا قوة إلا به.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله المحكومين لأمره، الخاضعين لِقَدَرِه بتقوى الله، واستنفاد الأنفاس المعدودة المعلومة عنده سبحانه في رضاه، وهو الربح الكبير، والفوز العظيم.
وإن الاستقامة على الطريق لأمر صعب يحتاج إلى كثير من المجاهدة والمكابدة في السّرِّ والعلن، ولا تستقيم نفس على الصراط في الدنيا لتستقيم على الصراط في الآخرة إلا بتوفيقٍ من الله، فليكن لجأُنا إليه، واستعانتنا به، وتوكّلنا عليه، وهو خير المولى وخير النَّصير.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن علّمنا علماً نافعاً لنا في ديننا، ومن أحسن إلينا إحساناً خاصاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اعصمنا من الزلل، وأبعدنا عن الخَطَل، وأعنّا على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية، واجعل قلوبنا زادُها التّقوى، ونيّتُها الصلاح، واشغلها بذكرك، ولا تصرفها عنك أبداً يا رحيم يا كريم، يا منيل يا جواد يا عظيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وصلّ وسلّم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّدّيقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن عليٍّ الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً. اللهم لا تجعلنا ضُلاّلاً يا الله.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات فإلى عنوانين:
الوفاق والمشاركة النيابية:
ما كانت مشاركة الوفاق في التجربة النيابية عن تشهٍّ ولا جزاف ولا نيّة سوء، وما استهدفت ولن تستهدف أن يكون لها دور تخريبيّ مفسد، ثمّ لم تستهدف ولن تستهدف ولن ترضى بأن يكون دورها تبعيّاً للإمضاء والموافقة على رغبات الحكومة واتجاهاتها السياسية صواباً كانت أو خطأً. الموقف ليس موقفاً معانداً، وليس موقفاً تبعيّاً لا يُراعي مصلحة الشعب.
المستهدف هو إنجاح التجربة النيابية، ولا نجاح لهذه التجربة إلا بأن تُثبت جدارتها في خدمة الشعب، ولا تتم خدمة الشعب بتيسير لقمة العيش بصورة مؤقّتة. أكبر خدمة للشعب أن تكون هناك قوانين عادلة تقوم عليها علاقات متوازنة وعادلة، وأن تكون هناك رقابة وملاحقة للخطأ الإداري، والخطأ المالي، والخطأ السياسي، وكل الأخطاء من الحكومة.
والكتلة الانتخابية الضخمة من الشعب والتي انتخبت الوفاق لا ترضى لها أن تتخاذل، ولا ترضى لها أن تعيش حالة التبعية غير المسؤولة، وأيضاً لا تتطلّع منها أن تكون عنصر مشاكسة، ولم تنتخبها من أجل أن تتربّص بالحكومة الدوائر.
والوفاق لا تأخذ بهذا الخط؛ خطّ التربّص بالحكومة الدوائر، ثم لا ترضى لنفسها ولا نرضى لها جميعاً أن تعيش أيّ حالة من حالات التبعية اللا مسؤولة، وأن توافق على شيء مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يخدم هذا الشعب المخلص.
وما كان ينبغي للحكومة أو غيرها أن تطمع في دور تمريري تبعيٍّ تمارسه الوفاق لسياساتٍ لا يوافق الشعب عليها ولا تتلاءم مع مصلحته. إنّ من يطمع في مثل هذا الدور من الوفاق فإنه يخطئ الظن كثيراً. وستبطل الوفاق ظنّه، ولو لم تنجح في إبطال هذا الظن فإنها ستستحقّ منا المواجهة.
والمجلس في دوره الأصيل ليس عطايا مؤقّتة لتهدئة الخواطر، إنما دوره كما سبق بناء أساس دستوري وقانوني لعلاقات عادلة متوازنة بصورة ثابتة في كل المجالات، ويأتي الدور الرقابي الأمين، والمحاسبة الدقيقة دوراً رئيساً تُسأل عنه الوفاق وغيرها من نوّاب المجلس، ولا بد أن ينصبّ الجهد على هذين البُعدين؛ بُعد التشريع العادل، وبُعد الرقابة الأمينة والمحاسبة الدقيقة، ولا يكفي كما سلف أن يُعمل على تحسين الأوضاع المعيشية بصورة وأخرى مؤقَّتاً لإسكات صوت المطالبة.
وأيّ تحسين حقيقي للحالة المعيشية لا يمكن أن يتمّ وأن يستمرّ ما كان ذلك في ظلّ قانون فاسد، أو في حالة وضع مادي أو إداري يسوده الفساد.
لو خُصِّصت اليوم عشرة ملايين لتحسين الوضع المعيشي فإن هذا لن يصلح الوضع بصورة مقبولة، وبصورة دائمة ما دام القانون قانوناً فاسداً، وما دام الوضع الإداري والمالي وضعاً فاسداً. إنَّه لابد من إصلاح الأرضية، لابد من أساس متين تقوم عليه عملية الإصلاح الفوقية في كل المجالات.
وإن مجلساً يمكن أن يقنع الشعب باستمرار المشاركة فيه يحتاج إلى صلاحيات تشريعية بابها مفتوح لا مغلق تماماً، وإلى دور رقابي وقدرة على الاستجواب وإسقاط الثقة في موارد الضرورة، بل حتى في مورد الشكّ المبرّر في كفاءة أي وزير وأمانته، أو في كفاءة الحكومة كلّها وأمانتها.
والمجلس الذي رأي الأغلبية فيه جاهز للتخندق مع الحكومة في موارد الخلاف ذات الأهمية هو مجلس للحكومة لا للشعب، ولا ندري إلى أين تتجه إرادة الحكومة، ولكن الذي نستطيع أن نقرّره بجزم هو أن الحكومة إذا رغبت في استمرار المجلس لابد لها أن تعدل عن الموقف المتيبّس الذي تقفه، وعن ممارسة الضغط على عدد كبير من النوّاب الذين يستجيبون في العادة لضغطها، وإذا أرادت للمجلس أن لا يبقى بصيغته الحالية فستفعل غير ذلك.
وإذا كان الاستجواب الأخير الذي تقدّمت به الوفاق مقلقاً جداً ومفزعاً للحكومة بتصوّر أن فيه شيئاً من الملامسة الخفيفة أو الاقتراب من قضية التقرير الخطير تقرير البندر فإننا نؤكد أن من حقّ الشعب الذي أرعبه التقرير المعني بدرجة جدّية عالية، وأفقده الإحساس بأن الأرض التي يقف عليها آمنة، أن يقف على كل خفايا القضية، وعلى كل خيط في نسيجها الرهيب.
وكل شعارات الديموقراطية والعدل والشفافية وروح الأسرة الواحدة أمام امتحان عملي صعب قاسٍ يعتمد النجاح فيه والفشل على نوع التعامل مع الأسرار والخفايا التي تقف وراء تقرير البندر.
وتعجب من شعار المشاركة المجتمعية وماذا يراد بها وطاقات العمل والكفاءات العلمية معطّلة، وتبحث عن عمل، ودور فاعل يخدم الوطن؟ ماذا يراد بها ومجلس نيابي أراد الشعب أن يشارك من خلاله في العملية السياسية إنجاحاً لها بينما يواجه دوره بالتعطيل والكيد بحيث يفشل هذا الدور؟ هل يراد من الشراكة الاجتماعية أن يكون الشعب معينا على نفسه في تنفيذ السياسات والخطط المكّبلة له، المضادة لمصلحته؟! يوجد نموذج جاهز للشراكة الاجتماعية الصادقة يتمثّل في المجلس النيابي، فليبرهن من جانب الحكومة على أن هذه الشراكة يراد لها أن تكون شراكة خير وإصلاح وصلاح ناجحة، وأن تكون من أجل مصلحة الوطن حاضره ومستقبله، وذلك لا يمكن إلاَّ بتعاون الحكومة مع هذا المجلس على طريق الإصلاح الجدّي الفاعل.
أما وأن المجلس يُعطّل دوره فنحن نسيء الظنّ جداً في أي شعار من شعارات الشراكة الاجتماعية أو غيرها. كيف لا بينما القناة الرسمية التي اختارتها الحكومة لشراكة الشعب تفشل عملها المطلوب؟!
الرأي العام الغربي وميزانه:
لا تخلو أمريكا والغرب عموماً من أصوات تحترم قيمة العدل وإنسانية الإنسان، وتتنافى وسياسة الظلم والوحش الكاسر التي تهيج به ماديته وبهيميته ليبحث عن فريسة، والتي يؤمن بها ساسة كثيرون هناك، بل يتجاوزون في ذلك الكواسر التي لا تطلب الفريسة إلا عند جوعتها حيث يتحوّل البغي والعدوان في حياتهم إلى قاعدة عامّة وسلوك شائع ومن غير ضرورة.
نعم، في الغرب أصوات لا تستسيغ أن يتبذّخ شعب لتحكم المسغبة حياة كل الشعوب، وأن يحيا شعب لتموت شعوب.
لكن في الغرب ساسة لا تحرّكهم إلا المصالح المادية، والروح الطاغوتية، وجنون الزعامة، ولا يكادون يقفون موقفا أو يقولون كلمة مما ظاهره حقّ إلا وهم يريدون به الباطل، ويتّخذونه وسيلة للأغراض الخبيثة الدنيئة.
والانقسامات السياسية عند هؤلاء على اختلاف واجهاتها، وتباينات مواقفها منطلقها واحد، وهدفها الغلبة في صراع السياسة المادية في الداخل والخارج، والسبق إلى مواقفها وامتيازاتها، والتّمسّك بها.
بوش وهو يصرّ على عدم تحديد جدول زمني للانسحاب من العراق، وعلى الاستمرار في محاربة الإرهاب كما يدّعي، ودعم الديموقراطية في العراق، وتخليصه من حرب طائفية مدمّرة واضح جداً أنه لا يستهدف إلا تركيز الحالة الاستعمارية في العراق، وأن يخرج بطلاً من حربه هناك، وينتصر حزبه في انتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، أو يخرج غير ملعون بهزيمته المخزية من كل شعبه على الأقل.
والديموقراطيون في مجلس الشيوخ والنواب في أمريكا لا تؤذيهم قذارة الحرب الظالمة على العراق، ولا الاقتتال الطائفي فيه، وحرق ثرواته، وتحطيم بنيته التحتية، وانتشار الرعب والهلع والرعب في كل ربوعه، ولا كل الخسائر البشرية الهائلة، والكوارث الإنسانية فيه، ولا حتّى تساقط القتلى في صفوف الأمريكيين الغزاة له، وإنما همّه الكبير أن يفشل الحزب الجمهوري، وتسقط شعبيته بدرجة أكبر ليحتلّوا مكانه في ما يُسمّى بالبيت الأبيض، وتكون لهم الجولة في الصراع على السلطة، وكل ذلك مكشوف معروف في شرق الدنيا وغربها، وليس محل بحث وتحقيق.
والمهم بدرجة أكبر من هذا أن الرأي العام الغربي في غالبيته إنما تحكمه القيم المادية وبطولة الانتصار العسكري الغاشم، وتحقيق أكبر عملية نهب ممكنة لثروات الشعوب وإن عاش على آلام الملايين من أبناء الأمم والبلاد الأخرى وعذاباتهم.
وإن نتائج من هذا النوع تفتح له أبواب حياة مادية أكبر رغداً ليبرّر عنده عمليات العدوان الشرسة التي تمارسها حكوماته في حق الشعوب الأخرى، وإن نجاح الحزب والحكومة والرئيس وفشلهم في نظر الغالبية من الرأي العام الغربي مقياسه إحراز النصر على الآخرين ولو كان بأقذر الوسائل وأشدها فتكاً بمصائر الشعوب بعيداً عن أي حساب للقيم المعنوية من حقّ وعدل ورحمة وأخوّة الإنسان للإنسان.
إنه خطر كبير يتهدد البشرية أن غالبية الرأي العام في أمة ملايينية كبيرة كالأمة العربيَّة هي مع منطق القوّة، مع منطق الغاب، مع منطق الغلبة بلا حساب لأي قيم، وبلا حساب لإنسانية الإنسان، وإن كان النصر والغلبة فيه سحق شعوب وأمم.
حين يسود هذا الرأي العام ويتركّز تخسر كل الدنيا أمنها واستقرارها وتقدمها. وهذا هو العطاء الحتمي، والنتيجة اللابديّة للحضارة المادية والمذهب الواقعي بمفهومه الأمريكي وهو مذهب اللذة المادية وما تتطلبه، وما ينبني عليها، وهو المذهب الذي قد حصل على تغلغل كبير في عقلية ونفسية وواقع كثير من المسلمين مما ينذر بانقلاب حضاري خطير داخل الأمة، وتحوّل جذري هائل عن خط انتمائها.
لقد دخلت روح المادية، والحسابات المادية، وطلب النصر ولو بالظّلم حتى في نفوس كثير ممن يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون ويخمّسون، وفي نجاح الجهود المقاومة، ومبادرة الفعل التوعوي على يد الإسلاميين المخلصين أمل كبير بعد توفيق الله وتسديده وتأييده.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا ضُلاّلاً ولا حسّاداً، ولا مغرورين ولا قانطين، ولا من أهل الدناءة ومن يرضى الهوان لنفسه، واجعل نطقنا بالحق، وصمتنا للحق، واهدنا سواء السبيل، وارزقنا سعادة الدارين يا أكرم الأكرمين، ويا أجود المعطين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(90/النحل).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 82/ الكهف.
2 – يعني يجعل الولد مفلحاً.
3 – المحيطين به عن قرب.
4 – أهل المنطقة.
5 – يريد أن يستشهد على المضمون السابق من الحديث.
6 – ميزان الحكمة ج 7 ص28.
7 – وهو عمل المعصية الذي نطلب به اللذائذ وكل لذة من لذات الحياة تذهب وتُنسى، ولذة أكلة قبل ساعة تكون قد غادرت تماماً. ولذات سنة من لذّات المادة لا يبقى لها طعم في فم الإنسان، ولذة معنوية واحدة جدتها يداك وأنت في أول شبابك تغذّيك راحةً، وتغذّيك انتعاشاً وأنت في أواخر العمر.
8 – ميزان الحكمة ج7 ص 29.
9 – المصدر ص 30.
10 – المصدر نفسه.
11 – 94/ التوبة.
12 – المصدر ص33.

زر الذهاب إلى الأعلى