خطبة الجمعة (279) 24 ربيع الأول 1428هـ – 13 أبريل 2007م

مواضيع الخطبة:

متابعة لموضوع العمل + لا يُظلمنّ عبّاس مرتين + تعليق قصير

إنه ليطلب من الحكومة والداخلية فيها أن تبذل جهدا في الاستقصاء والتحقيق والملاحقة يُوازي ما يُترقّب أن تبذله من جهد في هذا السبيل لو كان المغدور به رجلاً من رجالات الدولة الكبار، ومن أكبر رجالاتها

الخطبة الأولى

الحمد لله الداعي عباده إلى الخير، المحذِّر لهم من الشّرّ، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، المثيب على الجميل، المعاقب على القبيح، الذي وعد المحسنين صادقاً بالجنان، وتوعّد المسيئين قادراً عادلاً بالنيران.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، ومراعاة حقّه في عباده، فإن الله عزّ وجل قد كتب للعباد حقوقاً على بعضهم البعض، وحرّم عليهم أن ينال أحدهم من الآخر بغير حقّ، فمن راع حدود الله في عباده فقد وقّر حقّه وأطاعه، ومن ضيّعها فقد تنكّر لما لربّه عليه، ودخل في معصيته.
وإن حقّ المؤمن على أخيه المؤمن من أكبر الحق، وإن حرمته عند ربّه من أكبر الحرمات، حتّى أنها لتفوق حرمة الكعبة على عظمتها، فمن هدم حرمة لأخيه المؤمن، ونال منه بغير حق ولو بكلمة فقد استخفّ بحرمة الله، وتطاول على عظمته، وأوقع نفسه في سخطه، وتعرّض لعقوبته، فلنتّق الله في حرمة كل ذي حرمة، وفي حرمات المؤمنين خاصّة إن كنّا مؤمنين.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين لا نتخلّف عن طاعة لك، ولا نقتحم معصية من معاصيك، ولا نستخف بحرمة من حرماتك، ولا نضيّع حقا من حقوقك التي أوجبت، ولا نهمل فريضة من فرائضك التي كتبت، واجعلنا مسارعين في الخيرات، سبّاقين للحسنات يا ولي الباقيات الصالحات، وصل على محمد وآل محمد واغفر لنا جميعا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه متابعة للحديث في موضوع العمل تتمثل في وقفة مع بعض النصوص الهادية:
هناك رابطة بين العمل وجزائه؛ عمل خير كان أو عمل شرّ. في قوانين البشر وُضعت جزاءات على عدد من الأفعال؛ هذه الجزاءات لا تمتلك رابطة حقيقية خارجية واقعية بينها وبين ما صدر من فعل من المكلّف، إنما تقوم عملية تنسيب أي جزاء إلى أي فعل في القوانين البشرية على نوع من الاعتبار والجعل والتواضع بحيث يضع المجتمع جزاء سجن لسنة مثلاً على جريمة معيّنة، أو يضع جزاء مرتبة من المراتب المختلفة في الوظائف الرسمية على فعل حسن معيّن، وليس هناك ارتباط في الخارج بين قضية السجن وبين قضية ممارسة الفعل الممنوع، ليست هناك علاقة حقيقية بين الأمرين كما في علاقة الحرارة بالنار، وكما في علاقة الشعاع بالشمس، وكما في أيّ شيء الأشياء من الأمور الكونية، والأثر الذي يرتبط بذلك الشيء، إنما العملية عملية اتفاق بين أطراف المجتمع، أو عملية جعل واعتبار من حاكم معيّن أو هيئة تشريعية معيّنة.
قوانين الله عزّ وجل في الحياة الدنيا، في الجزاءات الدنيوية تختلف عن هذه القوانين الاعتبارية بفارق واحد: الجزاءات في القوانين الإلهية المرتبطة بحياة الاجتماع قوانين تقوم على العدل، تقوم على علم لا يخطئ، على تقدير لا يضلّ، على حكمة لا تتخلّف، وتنطلق هذه الأحكام من تقدير دقيق للموضوع، وما يُنسب إليه من حكم يتلاءم معه
لكن تبقى المسألة مسألة اعتبار، وجعل تشريعي بأن يُقتل الشخص إذا قتل، بأن تُقطع يده إذا سرق في ظروف معيّنة، وبشروط خاصّة، من دون أن يكون هناك ارتباط قائم في عالم الوجودالخارجي بين قطع اليد وبين السرقة، ولو كانت هناك علاقة حتمية خارجية تكوينية لما أمكن أن يتخلّف قطع اليد عن حادثة السرقة، بينما في الخارج قد تحدث السرقة ولا يحدث القطع، وقد يحدث القتل ولا يحصل جزاؤه بقتل القاتل، والنتائج الخارجية الملائمة لا تتخلف إذا حصل الملزوم، توجد إرادة بشرية قد تُعمل هذه الإرادة في تنفيذه.
أما بالنسبة للعلاقة بين الأفعال والجزاء الأخروي فهي علاقة تختلف عن هذا المستوى.
وكذلك العلاقة بين الفعل وما يخلّفه في النفس، وبنائها أو هدمها.
النصوص الكريمة تدل على أن هناك علاقة حقيقية تكوينية خارجيّة بين الفعل وأثره؛ فللخمر أثر في الخارج، وللصلاة أثر في الخارج، يعني في عالم الحقيقة، في عالم الحدوث، في عالم التحقق، فإذا حدثت الصلاة حدث بتبعها أثر حقيقي، وإذا حدثت السرقة حدث بتبعها أثر حقيقي، كما في إشعاع الشمس، وكما في حرق الحرارة لملامس النار وهكذا.
نقرأ في هذا المجال:
{مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}(1).
إنّه ليُجزى بنفس عمله، فإن لم يكن بنفس العمل وشخصه فبنتيجته، فهو لا يُجازى بجزاء موضوع معتبر من الله سبحانه وتعالى، إنما يُجازى بما ينتجه الفعل من نتيجة في عالم الحقيقة، في نفس هذا الفاعل أو خارجها.
تقول الأحاديث و بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وبعضها عن أمير المؤمنين عليه السلام، بما يفيد وجود هذه الرابطة:
“كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلكَ لا ينزل الفجّار منازل الأبرار، وهما طريقان(2)، فأيّهما أخذتم أدركتم إليه”(3).
فما ينتهي إليه طريق البرّ نتيجة خاصّة، وما ينتهي إليه طريق الفجور نتيجة خاصة أخرى. يستحيل أن ينتج طريق البر ما ينتجه طريق الفجور، وكذلك العكس.
هناك نتيجتان حتميتان إحداهما تترتب على طريق البر، والأخرى تترتّب على طريق الفجور، وهو ترتّبٌ تلقائيٌ بحسب الرابطة التكوينية بين الفعل وبين ثمرته.
فهل رأيت أن الشوك يُنتج عنبا؟ الشوك لا ينتج إلا شوكا، وشجرة العنب هي التي تنتج عنباً ، وكذلك فعل الخير يُنتج في الخارج خيرا، وفعل الشر يُنتج في الخارج وفي عالم الحقيقة شرّا، فعل الشرّ لا يبني إلا نفسا شريرة، وفعل الخير لا يقيم في النفس إلا بناء خيّرا. طهارة الضمير، وسموّ النفس نتيجتان حتميتان تترتبان على فعل الخيرات، أما فعل الشر فإنما يُنتج رجساً، ينتج قذارة، غفلة في النفس.
عل نسق هذا الحديث يأتي الحديث الآخر ليقول:”كما لا يجتنى من الشّوك العنب كذلكَ لا ينزل الفجّار منازل الأبرار فاسلكوا أيّ طريق شئتم، فأيّ طريق سلكتم وردتم على أهله”(4).
يقول عليّ عليه السلام:”ثمرة العمل الصّالح كأصله”(5) هي ثمرة، وثمرة حقيقية، هي نتاج فعل لا يأتي إلا من طبيعة ذلك الفعل.
“ثمرة العمل السّيء كأصله”(6) فما كان عملاً صالحاً لا تقبل طبيعته إلا أن تأتي النتيجة عنه صالحة، وما كان من العمل سيئاً يفرض بطبيعته أن تكون النتيجة له سيّئة، وهكذا نحن أمام نتائج هي دائماً من صنع أيدينا، هي من زرع أيدينا؛ إذا واجهنا مستقبلاً دنيوياً زاهراً فذلك من صنع أيدينا، وإذا واجهنا مستقبلاً بائساً فهو كذلك من صنع أيدينا، وهذا يتجلّى تماماً ولا يبقى فيه أدنى شك على صعيد الآخرة حيث إن المرء لا يواجه إلا النتائج الحقيقية لعمله، ولا يحصد هناك بحقّ إلا ما زرع.
هذه أحاديث أخرى تتكلم عن أن كل شيء في هذه الحياة لابد أن يطلّقنا أو نطلّقه. ستنتهي كلُّ الروابط بيننا وبين هذه الأرض، وهذه السماء التي نستظل، وكل شيء في الحياة الدنيا. نعم لا يبقى إلا شيء واحد يرتبط به مصيرنا النهائي.
“يتبع الميّت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله، ويبقى عمله”(7) ليسعد بهذا العمل أو يشقى. وليس هناك من مصدر بعد رحمة الله عزّ وجل لسعادته إلا العمل الصالح، وإذا كان سيشقى فإنّما سيشقى بعمله لا غير.
و هذا حديث يظهر منه أن العمل الصالح يتحوّل إلى وجود خارجي، وهو وإن كان ملازماً للنفس إلا أنه شيء غيرها، حيث يقول الحديث:”إنّ العمل الصّالح يذهب إلى الجنّة(8) فيمهّد لصاحبه كما يبعث الرّجل غلامه فيفرش له ثمّ قرأ {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلأنفسهم يمهدون}.
وكيف نبقى بعد موت؟ وهل من سبيل للبقاء بعد الموت؟ الحديث يقول: نعم.
ما هو قيمة البقاء، وما هو المطلوب الحقيقي من البقاء، وما هو المستهدف الأخير من البقاء؟ يمكن أن يكون لنا سعيٌ في سبيله في الحياة بعد فراق، وكيف؟
المستهدف من هذه الحياة أن تكتمل إنسانيتنا، أن يسمو مستوانا، أن تبلغ الروح مبلغ الطُّهر والقداسة التي يمكن للإنسان أن يبلغها بوجوده المحدود، وهذا إنما يكون باستمرار العمل الصالح، والعمل الصالح يمكن استمراره كما في هذا الحديث الشريف:
“سبعة أسباب يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته(9): رجل غرس نخلاً، أو حفر بئراً، أو أجرى نهراً(10)، أو بنى مسجداً(11)، أو كتب مصحفاً، أو أورث علماً، أو خلف ولداً صالحاً يستغفر له بعد وفاته”(12).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تسلبنا نعمة الإيمان، ولا شيئاً مما أنعمتَ به علينا، وزدنا من فضلك يا كريم. ربنا لا تجعلنا للفِتن والمصائب غرضاً، ولا تجعل للشيطان فينا مطمعاً، واحمنا من الضلال، وحصّنا من الضياع، ولا تفرق بيننا وبين الحق أبداً يا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله العدل الذي لا يجور، ولا يرضى بظلم أبدا، ولا يتجاوزه ظلم ظالم، ولا مظلمة مظلوم، ولا يعدل عدله عدل، ولا يحدُّ عدله حد. أشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، وما خاب من اتّقى، وما نجا من تكبّر وطغى، عباد الله ألا فلنعمل للآخرة التي خُلقنا لها، ولنزهد في الدنيا التي كُتب علينا مفارقتها، والزُّهد في الدنيا ليس في مقاطعتها، وإنما في إصلاحها، والأخذِ منها بمقدار ما يُبقي الدور الصحيحَ فيها، وما يُصلح شأن الإنسان في الآخرة ولا يصرف نظره عنها، ويُعينه على طاعة الرب، وإظهار الحق في الأرض، وإقامة العدل في الناس، والتمكين لكلمة الله في هذه الحياة، وقهر الشيطان الرجيم وجنده الغاوين، ورفع الأغلال المعوِّقة للسعادة والصلاح والكمال.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أعمل العاملين لك، وأنشط الساعين في سبيلك، وأخلص المخلصين على طريقك، وهب لنا عزماً ثابتاً، وتوفيقاً دائماً، وارزقنا خير الدارين، واكفنا شرّهما يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المطصفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، وعجّل ظهوره.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً.
أما بعد أيها الأكارم من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في بعض الشأن:
لا يُظلمنّ عبّاس مرتين:
ظُلِمَ الشاب عبَّاس عندما قُتِل عدواناً، فلا يُظلمنّ مرة أخرى بأن يذهب دمه هدراً، وتُدفن قضيته، أو يُتساهل فيها، وهذا أمرٌ من مسؤولية كلِّ غيورٍ على هذه الأرض.
وإنّ هناك جملةً من الحقوق مجتمعة كلّ منها يفرض التحقيق في مثل هذه الحوادث، والاستقصاء حتى الكشفِ عن الجاني، وخيوط الجناية وسرِّها، وحتى إنزالِ العقوبة الشَّرعية على مرتكبها إن لم يعفُ مَنْ بيده أمر الدَّم وهو ولي القتيل.
وهذا عدد من الحقوق التي يكفي واحدُها لتحتّم عدم التساهل في التحقيق والوصول إلى الجاني:
حق الشريعة الإسلامية المقدَّسة: وهو حقُّ الله الذي أنزل هذه الشريعة وأمر بتطبيقها، وعدم التّساهل أو التلاعب في أمرها. إن لله حقا على عباده بأن يطبّقوا دينه التطبيق الكامل الصحيح.
وإنه لحق رسول الله صلى الله عليه وآله المسؤول الأول في هذه الأمة، والذي تنزّلت عليه شريعة الله، والذي بلّغ عن ربّه، وصَنَعَ أمة الإسلام من أجل إقامة حدود الله وتطبيق دينه.
ويأتي في هذا السياق حق القتيل والنفس المحترمة التي أُزهقت بغير حق؛ و إنه كما يُطالب قاتلَه بدمه، فهو يطالب الحكومةَ القائمة، ويطالب المجتمع كلّه لو استطاع المجتمع أن يُنصفه ففرّط.
ومن هذه القائمة أصحاب الدم من أهل القتيل، فهم مفجوعون مكروثون، قد أُدميت قلوبُهم، ولا يشفي في مثل هذه الحالة إلا القَصاص إن لم تتجاوز النفسُ جراحاتِها من أجل الله تبارك وتعالى فتعفو.
حق الشعب الذي يهم كل أبنائه أن يأمنوا، ولا تهدد حياتهم، وحينما يتُجاوز عن قتلِ قاتل، ولا يُلاحقه التحقيق ولا القضاء، وحينما تدفن قضية المقتول ففي ذلك تهديد واضح لحياة كلِّ واحد من أبناء هذا الشعب، لأنه رَسْمُ خط لهدر الدم، وللتساهل في حقّ الدم، وإهماله حقّ الدم.
ولن يأمن شعب، ولن تأمن جماعة، ولن تأمن أمّة ما لم تُقم حدود الله عزّ وجل، ويجري القصاص على القاتل بغير حق.
وفي هذه القائمة حقّ الأمة المسلمة: لأن انتهاك الدم المسلم لأحد أبنائها فيه انتهاك لإسلامها، وفيه انتهاك لحرمة كل شخص مسلم قد حمى الإسلام حرمته.
هذه الحرمة الثابتة للإنسان المسلم بفرض الله عزّ وجل ودينه تكون مهدورة منتهكة حين لا يقتصّ لدم هذا الإنسان في فردمنأفراده؛ إذ لا فرق بين مسلم، فحيثما يُتساهل في دم مسلم يمكن جدّاً أن يُتساهل في دم كل مسلم.
يأتي في هذا السياق حق الإنسانية: حيث قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}(13).
وعليه فإنه ليطلب من الحكومة والداخلية فيها أن تبذل جهدا في الاستقصاء والتحقيق والملاحقة يُوازي ما يُترقّب أن تبذله من جهد في هذا السبيل لو كان المغدور به رجلاً من رجالات الدولة الكبار، ومن أكبر رجالاتها، لأنّ المراكز الرسمية لا تُفاضل بين الناس، ولا بين مسلم ومسلم، والنفس المسلمة على حدٍّ واحد من الاحترام بغضِّ النظر عن مراكز الإدارة والوزارة، وحتّى التّفاضل بالتقوى لا يبرر في الإسلام أبدا أن يتساهل في أي دم مسلم سفح ظلما.
فكما يجب الطلب بحدّ بدم أكبر فقيه تقيّ يجب بذل كل الجهد في طلب دم أدنى مسلم عِلماً، وأدنى مسلمٍ تقوى مادام على الإسلام ولم يأت بما يوجب قتله.
وماذا كنا نتصور من إجراءات فورية ومستمرة، ومن تطويق صارم وتفتيش لمنطقة الحادث لو كان ذلك الحادث لشخصية كبيرة في نظر الدولة؟! أنا أتصور أن تقوم قيامة الدولة ولا تقعد، وأن استنفاراً ينشر الرعب في كل منطقة الحادث لو كان الحادث حادث رجلٍ كبير في نظر الدولة.
وتخصيص ثلاثين ألف دينار جائزةً لمن يقدّم معلومات موصلة للفاعل خطوةٌ لا ننكر قيمتها في حدِّ ذاتها، لكنَّها فاقدة لكل القيمة إذا لم تكن وراءها إرادة سياسية جادّة لتعقُّب الجاني، وليس لنا أن ننفي هذه الإرادة إنصافاً، لكن سيكون واقع الجهود المبذولة في تقصّي الحقيقة والإصرار على مواصلة البحث وشفافية الإجراءات، والنتيجة أو عدم ذلك هو الحكم.
ولا بد للتحقيق أن يكشف عن كون السلاح الذي استُخدم في جريمة القتل هو من سلاح الدولة أو غيره، وفي الفرض الأول تُطرح أسئلة كثيرة، وكيف قُتل هذا الشخص بسلاح من سلاح الدولة وبأيِّ طريق؟ وماهي الملابسات؟
وفي الفرض الثاني مصيبةٌ عظمى لأن السلاح بيد الشعب إن خُصَّ فخطر عظيم، وإن عمّ في ظل الظروف الجنونية الساقطة التي يعيشها عالم اليوم فالأمر كذلك.
والجريمة البشعة التي ذهب ضحيتها المرحوم عبّاس تقع ضمن مسلسل متواصل ومتّسع من الإجرام بألوان مختلفة من القتل والاختطاف المصحوب بالاعتداءات الجنسية ولأكثر من مرة، ومحاولات التصفية الجسدية، والمواجهات الدموية في المدارس، والسطو على المصارف، والسرقات المستمرة للبيوت ومحالّ التجارة، وضحايا المخدرات والانتحار، وهناك ألوان أخرى من الجريمة تترعرع في هذه الساحة التي كانت آمنة.
فمن مسؤولية مَنْ هذا المسلسل البشع الدامي والقذر؟ إنها مسؤولية سياسة، ومشاريع سياسية، ومشاريع تغريب وتدمير خُلُقي، وتربية عامة غير منضبطة، وإعلامٍ يُبعد الناس عن دين الله، وكل ذلك يشترك في تحطيم البنية الإنسانية داخل الإنسان، ويُفسد ضميره وروحه، ويقضي على القِيم في داخله، ويطارد حسّ الفضيلة، وحس التقوى، وكل القيم الإنسانية في كل الساحة، وفي كل بيت، وفي كل نفس، ويلاحق الشريعة وأحكامها حتى الإقصاء من كل الحياة.
إذا كانت تمثيلية (مجنون ليلى) مفردة واحدة من مفردات الإعلام والسياسة في هذا البلد فعلى هذا البلد السلام؛ على أمنه، واستقراره، وحرماته السلام، فإنه إذا غاب الدين وقيمه، وفسد الضمير فلا عدل، ولا أمن، ولا ثقة، ولا اطمئنان، ولا هناءة.
تعليق قصير القول بالنسبة لما دار في المجلس النيابي حول التعويضات المتعلقة ببعض أحداث التسعينات هو ما يأتي:
هناك جلاّدون وقتلة معروفون ارتبطت أسماؤهم بتلك الأحداث، وقد مارسوا القتل تحت التعذيب، وأزهقوا نفوساً مسلمة مؤمنةً بريئة، هؤلاء لا يصح أن يتجاوزهم القانون، فضلا عن أن يُكافؤا عن جرائمهم بالترقيات والتكريمات كما هو الحال بالنسبة إلى الوضع الحاضر فيما يتعلق بشخصيات جلدت ظلماً، وعذّبت بغياً، وقتلت جورا، وكانت الضحايا لهذه الجرائم شباباً يعيش الإسلام والإيمان، ويدافع عن الحق، ويحامي عن الحرمات.
أولئك الجلادون المعذِّبون القتلة، والذين لا يزالون يتمتعون بمواقعهم المتقدمة وامتيازاتهم الكبيرة ما لم تجرِ محاكمتهم، وتنتهِ هذه المحاكمة إلى نتائج عادلة فهناك خللٌ، ويبقى هذا الخلل قائماً دائما، ويبقى يقض مضاجع من يتشوّف للعدالة، ومن يحرص على أمن هذا الوطن، ومن يريد له الأمن والعزّة والكرامة والأخوّة الصادقة.
وهناك عوائل شهداء، أمهات وآباء وأزواج وإخوان، وهناك معذَّبون بقوا أحياءاً ومعتدىً عليهم بألوان من الاعتداء والكل ينتظر إنصافا، وإنصاف هؤلاء وأولئك لا يكون إلا باعتذار رسمي واضح عن كل هذه المظالم والتجاوزات الخطيرة في حق الإنسان المواطن، ولا يكون إلا بإصلاحٍ يُعطي وضعاً جديداً يحقق المطالب العادلة التي حرّكت انتفاضة التسعينات التي انتهت إلى مصالحة على أساس تحقيق تلك المطالب من دستورٍ تعاقدي، ومساواة بين المواطنين، والقضاء على البطالة إلى آخر القائمة، على أنّ الطين زاد بلة، والوضع زاد سوءاً مما ضاعف المشكلات في ظل رفع شعار الإصلاح؛ فلا تنسى مستجدات الوضع قضية تقرير النبدر المرعب.
ثم إنه لا ينبغي أن يمانع أحد بأن يُعوَّض أي متضرر في ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة بسبب بعض الأحداث التي شهدها زمان الانتفاضة عن عمد كانت أو خطأ،والدولة التي كانت وراء الانتفاضة هي المسؤول الأول عن كل شيء.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم افتح علينا أبواب الخير، واغلق عنا أبواب الشر، واجعلنا من أهل رضوانك وجنّتك، ومن أنصار دينك وملّتك، ولا تستبدل عنا يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 123-124/ النساء.
2 – طريق للبر، وطريق للفجور.
3 – ميزان الحكمة ج7 ص 7.
4 – ميزان الحكمة ج7 ص 7.
5 – المصدر نفسه.
6 – المصدر نفسه.
7 – المصدر ص 14.
8 – فإذاً هو وجود مستقل عنّي.
9 – وكم يربط الإسلام بين بناء الحياة وبين السعادة في الآخرة، بين الإيثار، والعطاء، وإخلاص النية، والفعل البنّاء، وبين الجزاء الأخروي الموهوب من الله عزّ وجل لهذا العبد.
10 – يقولون بأن الإسلام آخرة وقد كذبوا، وهاهو الإسلام يهتمّ بجزئيات من جزئيات هذه الحياة لها دخالة في بناء الحياة، وفي تقدّمها، وفي نفع الناس، ورفع الحرج.
هذه للدنيا.
11 – والمسجد ليس للآخرة فقط وإنما كما هو للآخرة فهو للدنيا. وكذلك هو المصحف.
12 – المصدر نفسه.
13 – 32/ المائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى