خطبة الجمعة (268) 29 ذي الحجة 1427هـ – 19 يناير 2007م

مواضيع الخطبة:

تتمة الإخوَّة في الإسلام + الوحدة الوطنية والإسلامية الجامعة

يظهر لي أن من أقوى الأسباب لهذا الواقع المرير المهترئ والمستعر والمدمّر هو فتح باب الاجتهاد بصورة مبتسرة، ووجود اجتهادات قاصرة ومجتهدين صغار كثر.

الخطبة الأولى

الحمد لله العلي القدير، الجليل العظيم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا عديل، وليس لقوله تغيير ولا تبديل، لا ينقص علمه ناقص، ولا يجدُّ عليه جديد، ولا يفوته فائت وهو الله الحميد المجيد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والمبادرة بالتوبة، والإقلاع عن الحوبة، فربما باغتت المرء منيته، وسلبته فرصته، فوجد نفسه رهين ذنبه، وأسير خطيئته، فصار في آخرته لباسه العار، ومصيره النّار، وأهله زمر الأشرار.
أعاذنا الله من تسويف التوبة، والإقامة على الخطيئة، ومداومة الذنب، والإصرار على الإثم، والغفلة عن هول المعاد.
غفر الله لي ولكم ولوالدينا وأرحامنا وأصدقائنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا منهم وتاب علينا إنه غفور رحيم، تواب كريم وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فهذا حديث ربما اختتم به الكلام في موضوعنا السابق “الأخوَّة في الإسلام”:-
في وصف المؤمن:”يعطف على أخيه بزلّته، ويرعى ما مضى من قديم صحبته”(1) زلة القدم بالذنب ضعف، ومرض، والضعيف والمريض محل العطف والشفقة والرحمة، وليس محل الشماتة والهزء والسخرية والتشهير.
لا يكشف ذنب عن مؤمن إلا لحكم شرعي واضح، وفي موضع تقتضي مصلحة الشريعة أن يُفعل ذلك، وما استطاع المؤمن الستر على أخيه وجب عليه الستر.
ومن صدق الأخوّة أن يرعى قديم صحبته حتى في عقبه، فينتقل الودّ والبرّ للأخ المؤمن إلى عقبه من بعده. وتوقف الصداقة لا يلغي حقّ ما سبق منها.
“احتمل ما يمر عليك فإن الاحتمال ستر العيوب، وإن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل”(2) وإذا كان من الخلق الكريم أن يحتمل المؤمن أيّاً من المؤمنين، ويتحامل على نفسه صبراً أمام أخطاء هذا وذاك فإن احتمال ما يستر من المؤمن الأخ الصديق الودود الصادق ألزم وألزم.
الاحتمال يحفظ لك شخصيتك وودك في الناس، ويجنّبك المشاكل، ويزوّدك بالقوة النفسية بعد القوة حتى يصلب عود النفس ويكون التحمّل عليها أمرا يسيرا.
من الاحتمال ستر العيوب: النفس ميّالة في مستوياتها العادية أن تتحدث بما تعلم، وأن تبرز أن عندها أخباراً، الاحتفاظ بعيوب الآخرين يحتاج إلى مقاومة للنفس ومجاهدة، فمن الاحتمال ومن الصبر ومن المقاومة أن تصلك عيوب الكثيرين، ولا يظهر منها عيب واحد على لسانك لا توجب إظهاره الشريعة.
وإن العاقل الحكيم القادر على الضبط نصفه احتمال، ونصفه تغافل. يصلك من أخبار الناس ما لا تتكفل السعي له، وما لا تتطلبه على الطرقات وفي المحافل، وهذا الذي يصلك من عيوب الناس إذا كانت لك نفس كبيرة فإنها لا تكون ثرثارة تنشره هنا أو هناك وهذا احتمال، وهذا عقل، وهذه حكمة، ووراء هذا الموقف نفس قوية.
النصف الآخر من العقل والحكمة والتدبر والضبط أن تتغافل عما يقال فيك من الناس. الأول احتمال لحفظ العيوب، واحتمال لما يقال عنك من عيب صادق أو كاذب بحيث تتصبر وتتصبر حتى لا تتسبب مواقفك المتشنّجة في إفساد علاقة كانت لله أو في التأثير على مصلحة اجتماعية تستطيع أن تساعد على حفظها، والتغافل خلق آخر كريم، وعقل آخر حصيف، فتتغافل حتى كأن الذي يتحدث فيك لا يتحدث فيك، وكأن الذي يشك فيك لا يشك فيك، وكأن الذي يكيد بك لا يكيد بك، وكأن الذي يبغضك لا يبغضك، تتعامل معه كمن يودّك، كمن يخلص لك، وكمن لا يكيد السعي لك، وليس معنى هذا أن تفرط بحقّ نفسك حتى الضرر، والسقوط في النّاس، وليس هذا من منطلق الضعف. أنت تكون القادر على الرد الكافي، وعلى الإفحام الكافي، وعلى المواجهة المسقطة للطرف الآخر لكنك تتعفف وتستعلي من أجل الله.
“خير إخوانك من عنّفك في طاعة الله سبحانه”(3) إخوّة الإيمان لا تقوم على المجاملات الكاذبة الضارّة؛ لابد من مداراة، ولابد من تنازلات، ولابد من تفافل، لكن أن ترى أخاك يسقط شيئا فشيئا في شخصيته، يسعى به الشيطان حثيثا إلى المعصية وأنت تتفرج، فإنها الإخوة الكاذبة، وإنها الخيانة الواضحة، فإذا كنت تخلص لأخيك فأوّل ما يجب عليك أن تفعله في حقّه أن تنقذه من النار، وأن تأخذ به بعيدا عن الانهيار.
وإذا كان على أخي أن يعنّفني ويشتد عليّ ويواجهني بالكلمة الثقيلة إذا اقتضى الأمر في طاعة الله من أجل مصلحتي فعليّ أن أرتفع بمستواي إلى حد التقبّل، وحد الترحيب وحد الشكر ولكن أنّى لي أن أفعل ذلك؟!
“خير إخوانك من دعاك إلى صدق المقال بصدق مقاله، وندبك إلى أفضل الأعمال بحسن أعماله” هذا صديق نموذج، هذا مثال خير، وداعية حق، وهادي طريق، ودليل جنة، أخ معلم، أخ مدرب، أخٌ نموذج للخلق للكريم، إنه من أفضل الإخوان، بل أفضل الإخوان.
“خير إخوانكم من أهدى إليكم عيوبكم”(4) هذا في الحق، هذا في الواقع، أما على النفس فالأمر قد يكون شيئا آخر، وذلك بحسب مستويات الناس في مواجهتهم لكلمة النقد وإن كانت صادقة. الصبر على النقد وإن كان من النقد الصادق يحتاج إلى مستوى نفسي، ويحتاج إلى عقل يغلب الهوى، وتدبر يتقدم على الارتجال.
من كلام طويل لأمير المؤمنين أمير البيان صلوات الله وسلامه عليه:”أيها الناس إنما أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني – ميزان أمير المؤمنين عليه السلام ميزان إلهي، ميزان أحكم حكيم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ميزان العقل الراجح، والنفس الطاهرة، والموضوعية التي لا غبار عليها، ميزان قلب لا يعرف الباطل – وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه” فلنبحث عن مثل هؤلاء الإخوان.
من صغرت الدنيا في عينه فهو عظيم، عظيم عقلا، وعظيم روحا، وعظيم نفسا، وعظيم خلقا، مأمون سلوكا، معلم كبير وإن لم يطلق عليه اسم المعلم، حكيم كبير وإن لم يطلق عليه اسم الحكيم.
قد لا تجده في إنسان أمضى جلّ عمره يطلب العلم، وقد تجده في فلاح في زاوية مهملة من زوايا المجتمع.
“… وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه”(5) إنه صاحب نظرة موضوعية علمية دقيقة، كل بهارج الدنيا وزخارفها لا تخدعها عن الحقيقة، وكل التسابق ممن يسمون كبارا على الدنيا لم يدخل على نظرته إليها بالخطأ اليسير، فبقيت صغيرة كما هي لا تتبدل في نظره.
“… وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه” وكم يكون للبطن من سلطان على الناس يلغي عقولهم، ويذهب بمصلحتهم، ويسقط شرفهم، ويذهب قيمة علمهم وجاههم؟! سلطان البطن سلطان قاس على إنسانية الإنسان “… إذا وجد، كان خارجا من سلطان فرجه” وكم صرعت الفروج من شخصيات، وكم نقلت الفروج من خلق من طريق الجنة إلى طريق النار، وكم أخرجت من رضا الله إلى سخطه.؟!!
“.. كان خارجا من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه” نعم الفرج قد يحول الإنسان إلى مجنون في لحظة فوران الشهوة” كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلا على ثقة لمنفعة”(6) هذا خير الإخوان، هذا الأخ العظيم القدر.
من هو شر الإخوان؟
“سئل أمير المؤمنين أي صاحب شر؟ – يعني أكثر شرا – قال: المزيّن لك معصية الله” يا فتى مؤمن، ويا فتاة مؤمنة أنتما ملاحقان ممن يزيّن لكم معصية الله، مستهدفان، هناك شبكات تخريبية لإفساد الشباب والشابات، وعلى فرض أن تكون الشابة غير موجّهة للإفساد، وأن يكون الشاب غير موجه للإفساد لكنهما واقعان في معصية الله، سفيهان لا يملكان النظرة الكونية الصحيحة، ويقدمان الشيطان على الرحمن، مع ذلك فإن عليكِ أيتها الفتاة وأيها الفتاة أن تهربا من شاب وشابة من هذا النوع هروبا أشد من الهروب من الأسد والأفعى.
إذا كانت علاقة الزواج علاقة مهمة وتؤثر على شخصية الإنسان وعلى مصلحة الإنسان وراحته ولابد في بناء هذه العلاقة من بحث وسؤال فإن الإخوّة أيضا لها كل الانعكاسات السلبية أو الإيجابية على الطرف الآخر.
لهذا جاء عن علي عليه السلام:”قدِّم الاختبار في اتخاذ الإخوان، فإنّه في الاختبار معيار تفرق به بين الأخيار والأشرار”.
لقاء سريع في طائرة، لقاء سريع في سفر، موقف كريم عابر من المواقف لا يكفي لبناء الإخوّة المعتمد عليها.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نور قلوبنا، وطهر نفوسنا، وزك أرواحنا، وأدم في الخير توفيقنا، وأصلح أحوالنا، وأطل في طاعتك وعافيتك أعمارنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعل الأرض محيا النّاس ومدفنهم، وزوَّدها بمطعمهم ومشربهم وملبسهم، وسخَّرها لحركتهم ومسكنهم، وهيأها لتكون أمّاً لهم، وخلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأمرهم بأن يجتمعوا على الحقّ والهدى، ويتناصروا في الخير والصلاح، ويتناهون عن الشر والفساد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله الذين برأ ورزق وهدى وأسبغ عليكم النعم علينا بتقوى الله الذي لا خالق ولا رازق ولا هادي ولا منعم غيرُه، ومن اتّقى الله نال رضاه، ومن رضي اللهُ عنه فقد أفلح، ودخل الحصن الأمين، ومن أسخط الله فلا قِبَل له بعذاب منه أليم، وليس أمامه إلا مصير مَهين.
عباد الله لا نكن النشطين المسارعين المسابقين إذا دُعينا لأمر الدُّنيا، المتكاسلين المتباطئين المتخلِّفين إذا دُعينا لأمر الآخرة، وكم يكون منا ذلك وهو مشهود عياناً، فإن خير الدنيا لزهيد بإزاء خير الآخرة، ولخير الدُّنيا ليس بخير إذا استتبع شر الآخرة، وإن شرّها ليحلو عاقبة إذا أعقب خير الآخرة.
هذا وإن للدُّنيا حقّاً، وللآخرة حقّاً، والرُّشد في أن تُعطى كلٌّ منهما حقَّها.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نلهو بأمر الدنيا عن أمر الآخرة، وأن نقنع بلذة زائلة عن نعيم مُقيم، وأن تصرفنا آمال دار الفناء عن آمال دار البقاء إنك رؤوف رحيم.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا جميعاً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين من ذرية علي وفاطمة عليهم السلام جميعا: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي لوليك والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان فموضوع اليوم هو الوحدة الوطنية والإسلامية الجامعة:
ويكون الحديث فيه بمقدار الوقت، والوقت ضيق.
ما هي الأمة المسلمة المؤمنة؟
أهي خصوص أهل المذهب الجعفري؟ أهي خصوص أهل المذهب الحنبلي؟ أهي خصوص أهل المذهب المالكي، غيرهم؟ أم هي أوسع من ذلك؟
الأمة التي خُوطبت بالوحدة، وخوطبت بالتعاون على الخير، وخوطبت بحقن الدماء، وحفظ الأعراض والأموال، فكان ذلك مسؤولية ملقاة على عاتقها، ما هي هذه الأمة؟
قل عني بحكمك الذي لا نفاذ له أني مذهبي من أهل النار، ولكن أبقى مع ذلك واحداً من الأمة الإسلامية التي عليك أن تراعي حقوقها العامة ما دمت على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وليس كل من فسق أو أخطأ تسقط حقوقه ويخرج عن الإسلام.
نقرأ على مستوى القرآن الكريم، هذا الخطاب للمؤمنين، للأمة المؤمنة:{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(7).
فئتان تتقاتلان بالسيف في العراق، فئتان تقاتلتا بالسيف: فئة علي عليه السلام وفئة معاوية، علي إمام الحق المعصوم، ومعاوية الباغي، الخارج عن الحق، لكن الفئتين في نظر الإسلام مسلمتان على مستوى وجوب حفظ الدم، وجوب حفظ العرض، وجوب حفظ المال خارج التقاتل الذي تسبَّب إليه الباغي وبدأ به.
الآية الثانية:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ… كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(8)، وفي خطاب آخر للذين آمنوا:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(9).
الآية الأولى تخاطب المؤمنين في قبال أهل الكتاب، فالناس فيهم فريقان: فريق أهل الكتاب وفريق المؤمنين الذين تأمرهم بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، فهي تتحدث عن أمة التوحيد بالصورة الإجمالية، وتشمل هذه الأمة أصحاب الآراء المتباينة، والمذاهب الفقهية المختلفة، وحتى أصحاب الخلافات التفصيلية في العقيدة التي لا تخرج بالقضية عن التوحيد بصورة عامة، وعن الإيمان بالرسالة والرسول (ص).
الأمة التي خوطبت بأنها أمة مسلمة ومؤمنة كانت تختلف في تصورها للتوحيد، كان تؤمن بوحدانية الله على وجه الإجمال، أما معنى التوحيد فيختلف في أذهانها اختلافا كبيرا جدا، وما كان يمكن أن يساوي التوحيد في صورته في نفس أعرابي أسلم اليوم مع صورة التوحيد في ذهن علي عليه السلام، في ذهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن النبي مسلم وذلك الأعرابي الذي أسلم اللحظة مسلم من ناحية الحقوق الدنيوية العامة المترتبة على أصل الإسلام.
وكم كان يختلف الناس في فهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيختلف بذلك فهم الحكم الشرعي عندهم، والناس في زمن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا على مذاهب في تفاصيل العقيدة، وكانوا على مذاهب في الفقه، وكانوا كلّهم أمة مسلمة مؤمنة من ناحية الحقوق المذكورة، ومن ناحية المصلحة المشتركة، ومن ناحية الواجبات الملقاة على عاتق الأمة في حماية الإسلام والذرأ عنه والحفاظ على مصالحه، والتقدم بالأمة المؤمنة، وفي اعتبار القرآن وفي اعتبار السنة أن كل هذه المستويات الإيمانية، وأصحاب هذا المحيط الواسع بما فيه من اختلافات، وبما فيه من رؤى تفصيلية قد تكون متعارضة يشكلون الأمة المؤمنة بالإيمان العام، والمخاطبة بحقوق ثابتة على كل عضو عضو بالنسبة للآخرين في هذه الأمة.
أقول لكم إخوتي: إن الفريقين الذين تقاتلا في صفين هم في الإسلام مسلمون، وأن الفريقين الذين تقاتلا في الجمل هم في الإسلام وفي نظر القائد المعصوم مسلمون، نعم، هناك إمام حق وإمام باطل، هناك أصحاب شرعية وهناك طغاة بغاة خارجون على الإمام الحق بغير حق.
على مستوى الحديث: “في الموثّقة في سند صحيح إلى ما قبل سماعة الراوي: عن أبي عبدالله عليه السلام – وهو الإمام جعفر الصادق عليه السلام – الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله صلى الله عليه وآله، به – أي بهذا الإسلام – حُقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس” جماعة الناس الذين يُطلق عليهم أنهم مسلمون، كل أولئك الناس. الإسلام درجات، وكذلك الإيمان درجات، هناك إيمان عام، وإيمان خاص، ونحن لا نتحدث عن المراتب العليا للإيمان والإسلام، إنما نتحدث عن مرتبة من الإسلام يكون لي عليك بها حق، ويكون لك بها علي حق، من أظهر هذا الحق حفظ الدماء والنفوس والأعراض، وأن علينا أن نتحدَ، وعلينا أن نتناصر ونتعاون في الحق، وعلينا أن نرتفع بمستوى الأمة، ونرعى مصالحها، وأن لا نبني مصالح دنيوية لهذه الفئة على حساب الفئة الأخرى تنقض حقَّها، وتضعف عموم الأمة.
“وفي صحيحة حمران بن أعين عن الإمام أبي جعفر بن محمد علي الباقر عليه السلام أنه قال: الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها – ما أكثر الفرق يوم أبي عبدالله عليه السلام – وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج فخرجوا بذلك من الكفر وأُضيفوا إلى الإيمان” هذا هو الإيمان العام، هذه هي الأمة المؤمنة في المعنى العام للإيمان، ويبقى التفاوت داخل المؤمنين واسعا جدا، فمن إيمان إنسان يفسق في كثير من أحكام الإسلام إلى إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن يبقى الإثنان داخلين في الأمة المؤمنة، المسلمة بالمعنى العام للإسلام والإيمان، وقد عدد الحديث الأخير بعضا من العلاقات الشرعية القائمة بين المؤمنين بهذا المعنى وبعض الحقوق.
في ضوء النصوص السابقة يمكن لنا أن نقول بأن الوحدة الإسلامية واجبة شرعاً وبكل وضوح واطمئنان، ومن ناحية عقلية فإن حفظ مصلحة الإسلام، وحفظ كيان الأمة، والرقيَّ بمستوى الأمة، والتقدم بها، وصون الإسلام من العدوان الخارجي كل ذلك واجب شرعي، وهو متوقّف على وحدتها فتكون الوحدة واجباً في العقل.
ثمّ توجد الضرورة العملية. هناك عدوان شرس على الأمة بكل مذاهبها، هناك عملية سحق خارجي، هناك عملية تصفية، محو لوجود هذه الأمة، استيلاء عليها، استعباد، سلب لحريتها، هذا العدوان الشرس وهذه الهجمة الظالمة لا يردعها شيء كما هي الوحدة، فالضرورة قاضية بالوحدة بين المسلمين.
هذا كلام في ما هو الواجب، أمَّا في ما هو الواقع فتصوّراً يمكن للأمة أن تكون متّحدة، ويمكن لها أن تكون مفترقة، ويمكن لها أن تكون محتربة، والاتحاد قوّة، والافتراق ضعف، أما الاحتراب فانتحار.
وإذا كان هذا هو التصور فإن واقع الأمة خارجاً بين أمرين: بين الافتراق والاحتراب، الافتراق كاد يكون مستوليا على الساحة بكاملها؛ الافتراق على أساس المذهب، وعلى أساس القومية، وعلى أساس الطبقة، وعلى أساس حاكمين ومحكومين كاد أن يستولي على الساحة الإسلامية بكاملها، والاحتراب بدأ ينشط ويتحول إلى ظاهرة ممتدة؛ تتمدد وتتوسع لتستوعب المساحة الكبرى من واقع المسلمين وحياة المسلمين. هذا هو الواقع.
ما الأسباب؟
– يظهر لي أن من أقوى الأسباب لهذا الواقع المرير المهترئ والمستعر والمدمّر هو فتح باب الاجتهاد بصورة مبتسرة، ووجود اجتهادات قاصرة ومجتهدين صغار كثر، والإخوة السنة الذين كانوا يسدون باب الاجتهاد أصبح باب الاجتهاد عندهم مفتوحاً على مستوى طالب جامعي، على مستوى إنسان غيور عن الدين ليست له أية عقلية فقهية تؤهّله للاجتهاد، صار الاجتهاد من ناحية عملية حقّاً حتى للمثقفين العاديين وهذا منتشر عند الإخوة السنة وقد يمتد إلى المحيط الشيعي.
– قصر النظر العملي الموضوعي، هناك من يحمل شيئا من الفقه أو يعطي لنفسه حق الاجتهاد من غير أن تكون له بصيرة عملية ولا يعرف تشابكات الواقع، و ما تنتجه فتاواه من مخاطر مدمرة.
ولا بد أن ندخل في حسابنا هنا التربية السيئة، أصحاب المصالح السياسية التي يذهب بهم الجشع والطمع والدنيوية إلى حد التضحية بالأمة وبكل مقدّس وبكل غالٍ عليها حفاظاً على مصالحهم السياسية والمادية، وما أكثر حكومات العالم العربي والإسلامي من هذا النوع في هذا اليوم!!
– العملاء الأجراء للأجنبي على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات.
– الدور التخريبي المباشر للأجنبي وهيمنته السياسية على البلاد الإسلامية، وقدرته على فرض آرائه وسياسته على هذه الحكومة وتلك الحكومة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم وحّد كلمة المسلمين، واجمع قلوبهم على التقوى، واحقن دماءهم وأعراضهم وأموالهم بينهم، وادرأ عنهم أعداءهم وانصرهم نصرا عزيزا، اللهم اجعلنا مسارعين في ما دعوت إليه من وحدة أهل الإسلام، ورعاية حقوق أهل الإيمان، وأحينا خير حياة، وإذا توفّيتنا فتوفنا مسلمين راضين مرضيين، واختم لنا بخير ختام يا رحيم يا رحمن، يا كريم يا منان.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الحديث عن الرسول (ص). ميزان الحكمة ج1 ص55-56.
2 – المصدر السابق ص56.
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر ص 57.
5 – المصدر ص 58.
6 – المصدر السابق ص:58.
7 – 9/ الحجرات.
8 – 103/ آل عمران.
9 – 2/ المائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى