خطبة الجمعة (267) 22 ذي الحجة 1427هـ – 12 يناير 2007م
مواضيع الخطبة:
الأخوّة في الإسلام. تتمة+ بين مناسبتين + أسوأ الظلم + إنسان لا قيمة له + مليون دينار يساوي فلساً
الخطبة الأولى
الحمد لله المبدئ والمعيد، والذي لا مبدئ ولا معيد غيره، ولو اجتمع كلّ من دونه على إرادة واحدة بأن يوجدوا ذرة واحدة مبتدَعة ما قدروا، أو على اعادة نفس بعد موتها ما فعلوا، بل لا فعل لأحد على الاطلاق في ما هو المقدور عادة إلا بإذنه، ولا حركة ولا سكون من شيء إلا بتقديره.
أشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيرا.
نحن عباد الله وأبناء عباده وإمائه علينا بتقوى الله، وأن نطلب السعادة بتقواه، والنجاح بطاعته، وإنما السعادة والنجاح بما تؤدي إليه حياة الدنيا من جنّة أو نار في الآخرة، ولا سعادة مطلقة لأحد في هذه الحياة. وكلما بعد الناس عن طاعة الله في حياتهم عاشوا فيها الشقاء وعُطاش المادة، والقلق، وزاد تمزّقهم، وآلت أمورهم إلى اقتتال.
اللّهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وقبح المصير.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وصلّ وسلم على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
أما بعد فمع هذه العودة إلى موضوع الأخوّة في الاسلام:
قلّة الأخ الموثوق به:-
تقول الكلمة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:” أقلّ ما يكون في آخر الزمان أخٌ يُوثق به، أو درهم من حلال1″
آخر الزمان هو زمن التفكير المادي، والعشق للدنيا، آخر الزمان هو زمن يحكم فيه الخط المادي في الأرض ويركز قيم الأرض، ويطارد قيم السماء. وفي ظل هيمنة المادة، وفكر المادة وشعورها وقيمها، ونظرتها القصيرة لابدّ أن يشحّ وجود الأخ الموثوق. حياة المادة تخرب الأوضاع الخارجية، وتفسد النفس، وتجفف منابع الرحمة ومنابع الخير في داخل الانسان، وفي ظل هذا الوضع لابدّ أن يصعب عليك أن تجد أخاً موثوقاً به لأن الثقة بالشخص إنما تنبع أول ما تنبع من ارتباطه بالله، من قيمه السماوية، من حسّه الأخروي، من انسانيته الغزيرة. وكل ذلك في جفاف، وكل ذلك في اضمحلال حين تحكم المادة وقيمها في الأرض.
ويأتي الحديث الآخر في هذا السياق فيقول: قال محمد بن هارون الجلاب: قلت لأبي الحسن الهادي عليه السلام: روينا عن آبائك أنه يأتي على الناس زمان لا يكون شيئ أعز من أخ أنيس أو كسب درهم من حلال. فقال: إن العزيز موجود، ولكنك في زمان ليس شيئ أعسر من درهم حلال وأخ في الله عزوجل”2
يقول الإمام عليه السلام في هذا الجواب، هناك تفاوت بين زمن وآخر، هناك زمن يعزّ فيه الصديق، وزمن آخر يعسر فيه الصديق، والعسر درجة أشدّ من درجة أن يعزّ الشيء. معنى أن يعزّ الشيء هو أن يغلا، ويكون طلبه بالثمن الكبير، أمّا أن يعسر فذلك أن الحصول على الصديق يتعب بدرجة أكبر، ويشحّ بدرجة أكبر ولا يكاد يحصل.
لا تواخ هؤلاء:-
نحن نعرف أن الاسلام يحرص على أخوة الإيمان، ويحرص على أن يتوسّع المسلم في الصحبة، وفي الصداقة، وحتى أن يتوسع في طلب التعرّف على الآخرين.
الاسلام ينفتح على الأخوة الصادقة، على الصداقة الحقيقة، على أن تصاحب الآخرين، على ان تعاشر الآخرين، على أن تعرف الآخرين، وكل ذلك إنما يطلبه الانسان المسلم لصلاحه وصلاح مجتمعه، ولكي تتسع دائرة اشعاعه، وحتى يستفيد بدرجة أكبر لصالح انسانيته.
لكن مع هذا فإن الاسلام يحذر من نوع من الناس،” لا ترغبنّ فيمن زهد فيك، ولا تزهدنّ فيمن رغب فيك”3. انسان يقبل عليك وأنت تدبر عنه، فإذا لم يكن عندك سبب قويّ وراء ذلك، ففي هذا التصرف شيء من جفاء، ومن سفه وفقد حكمة. آخر في المقابل كلما أقبلت عليه كلما أدبر، أنت تطلبه وهو منك في فرار، لماذا هذه الملاحقة له؟ لماذا هذا التعلق به؟ في التوكل على الله ما يكفي. وكأنه من فقد الثقة في الله أو من قلة في التدبُّر أن تطلب إخواناً من هذا النوع، وتلحّ على طلبهم.
” لا تواخ أحداً حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا استطبت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة”4
الاسلام يرفض للانسان المسلم البساطة والسذاجة، والفجاجة، ومن كل ذلك ان ترتمي بكلك على واحد من الناس تعطيه كل ثقتك، وتدخل معه في مواخاة صادقة ضاربة في العمق من غير أن تختبره. الإختبار قبل الصداقة والأخوة، وتأتي الأخوة على قدر معرفتك بالآخرين. أما وقد عرفته، ودلّتك التجربة على أهليته للأخوة وعلى صلاحه، فلا تتتبّع منه كلّ عثرة، ولا تلاحق منه كلّ زلّة، وكن المخلص إليه كلّ الاخلاص.
احذر:-
عن الصادق عليه السلام:” احذر أن تواخيَ من أرادك لطمع أو خوف أو ميل أو للأكل والشرب، واطلب مواخاة الأتقياء وإن أفنيت عمرك في طلبهم”5
الأخوة القائمة على أغراض دنيوية أخوة سطحية كاذبة، وسريع ما يبيعك أخ طلبك لشيء من أشياء الدنيا وأمر من أمورها. يبيعك ويستغني عنك حال تنقضي حاجته، او حال ييئس من توفير ما طمع منك فيه. أمّا التقي العاقل الحكيم، فلك أن تطلبه كما في الحديث وإن أفنيت عمرك في طلبه.
فرق بين أخوين:-
أخ عشت أخوته ردحاً طويلا من الزمن، فخبرته وخبرك، ورضيت به ورضي بك، وبين أخ جديد، تجربتك معه لازالت طريّة، لم تتوغل في معرفة شخصيته إلى الحدّ المطلوب. هنا تقول الكلمة عن عليّ عليه السلام” اختر من كل شيء جديده، ومن الإخوان أقدمهم”6 طبعاً ممن عشت معهم الزمن الطويل، ورأيت منهم ما يطمع في صداقتهم من ناحية العقل، والحكمة، وطهارة النفس، وحسن السيرة.
تصل الكلمة عنه عليه السلام إلى أكثر من ذلك فتقول” من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحنينه إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه”7
البكاء على ما مضى من الزمن ليس بكاء السذج، وبكاء من يريد أن يبقى في الأرض طويلا بأيّ ثمن وعلى أيّ حال، هو بكاء على ما فرّط من زمن لم يستثمره بالكامل في طاعة الله تبارك وتعالى، على زمن سجّل عليه ما شاء الله من السيئات ولا يدري ما حفظ له من الحسنات.
يأتي بعد ذلك الحنين إلى الأوطان، الحنين إلى الاوطان، وأنه من شيمة الرجال، ومن كرم الرجال. والأوطان ليست حبّات رمل ولا شجرا أو أي شيء من جماد في قطعة محددة من الأرض تحنّ إليها، إنما الأوطان قبل ذلك وأهم من ذلك رجال صالحون، ونساء صالحات، وسجايا كريمة، وفكر قويم، وعدل اجتماعي، وصلاح وكمال انساني. وإلا فإن خير الأوطان ما حملك كما في كلمة أخرى له عليه السلام.
إذا كان وطني روسيا، وأعيش غربة الفكر، وغربة الإيمان، وأعيش مطارداً في أمني، وأعيش مهدداً في ديني، وأعيش على حساب انسانيتي، فلابدّ أن أبحث عن وطن آخر غيره.
صحيح أننا من خلال مرتكزاتنا الفطرية، بارتباط حياتنا بقطعة من الأرض نميل إليها ونحنّ إليها، لكنّ العقل فوق كل شيء، والدين فوق كل شيء.
“ما أكثر الإخوان عند الجفان- موائد الطعام- وأقلّهم عند حادثات الزمان”8 الغني يمتلئ مجلس استقباله بالناس، وتتدفق عليه فئات المجتمع ما دامت ولائمه عامرة، أما وأن زمانه قد تبدّل، وأصيب الرجل بظرف جديد فيه شحّ، ترى الناس تنساه، وتدبر عنه.
احفظ:-
صانع وجهاً واحداً يغنك عن بقية الوجوه، احرص على علاقة واحدة اكثر من حرصك على كل العلاقات. هناك طرف لا يبيعك، طرف لا ينساك، طرف يبقى مشفقاً عليك، رحيماً بك، قادراً على عطائك، هو الله تبارك وتعالى.
وإذا صادقت فصادق لله، وإذا أعطيت فاعط لله، وإذا حسن منك الخلق فليحسن منك الخلق لوجه الله تبارك وتعالى قبل كل شيء.
عاتب ولا تسرف:
“من حاسب الإخوان على كل ذنب قلّ أصدقاؤه”.9
سبق أن للمعاتبة وجهاً في بقاء الصداقة، وأن ترك المعاتبة بالكامل يزيد من تراكمات سوء الظن حتى يفقد الصاحب ثقته في صاحبه. يبقى الغموض يلفّ مواقف صاحبك وكلماته وتصرفاته التي ما استطعت أن تفسرها في وقتها، حتى إذا زاد ذلك، بلغ بك سوء الظن إلى أن تتهمه بكل ما يستوجب القطيعة. عاتب، لكن عتاباً خفيفاً جميلا، ولا تكثر من العتب ولا توغل في العتب حتى يصل بك الأمر إلى التقريع، وإلى أن تكون أثقل الناس على صاحبك لشدّة ما تعتب.
يأتي على الناس:-
عن الرسول صلى الله عليه وآله” يأتي على الناس زمان إذا سمعت باسم الرجل خير من أن تلقاه، فإذا لقيته خير من أن تجرّبه، ولو جرّبته أظهر لك أحوالا”10. إذا لقيته ولو لساعة اكتشفت منه ما يسوء، وانحدرت شخصيته في نفسك عمّا سمعت” فإذا لقيته خير من أن تجرّبه” والتجربة ستكشف لك فيه عورات وعورات، وذلك حين يقلّ الرجال، وحين تخفّ الأوزان، وحين تشحّ الانسانية وتجفّ، وكل ذلك يحصل في ظلّ سيادة القيم المادية والانكباب على الأرض والتعلق بالدنيا.” ولو جرّبته أظهر لك أحوالا” تنكير للتعظيم، فهو يظهر لك أحوالا عظيمة السوء مهولة.
اللّهم صلّ على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك انت التواب الرحيم.
اللهم اجعل أحباءك أحباءنا، واعداءك أعداءنا، وأهل طاعتك أصحابنا وإخواننا، وبصّرنا أمر ديننا ودنيانا، وارزقنا خيرهما، وجنّبنا شرهما يارحيم ياكريم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إنّا أَعطَينَاكَ الكَوثَر، فَصلِّ لِرَبِكَ وَانحَر، إِنَّ شَانِئكَ هُوَ الأبتَـَر }
الخطبة الثانية
الحمدلله الذي خلق الموت والحياة، وقدّرهما تقديراً، ولا يملك أحد من دونه لأحد ولا لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وهو الحيّ بلا إحياءـ والذي لا يموت، ولايدركه فوت. متقدّس عن العجز، متنزّه عن النقص، مستغن عن زيادة في كمال، حيث لا كمال وراء كماله، ولا جلال فوق جلاله، ولا جمال بعد جماله، فلكماله وجلاله وجماله الاطلاق، وكل ما عداه محدود، وهو عدم بلا عطائه.
أشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا كثيرا.
اللهم اغفر لنا ولأحياء المؤمنين والمؤمنات وأمواتهم يا رحيم يا كريم.
ربنا هب لنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار، وإذا توفيتنا فتوفنا مع الأبرار، وأسكنّا خير دار، واكفنا في دنيانا شرّ الأشرار، وكيد الكفار، وطوارق الليل، وحوادث النهار إلا طارقاً بخير من عندك يا ذا الجلال والإكرام
اللهم صل وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان فإلى أكثر من موضوع وكلمة:
أولاً: بين مناسبتين:-
مرّت ذكرى الغدير، وتأتي عشرة عاشوراء ولكل منهما كلمةٌ مختصرة:
أ- مناسبة الغدير: وقفة مع قوله تعالى:
“يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”(11)
1- في الآية الكريمة طاعة أصلية مطلقة شاملة، وهي لله وحده، ” أطيعوا الله” ولولا وجوب طاعته سبحانه لما وجبت لأحد سواه طاعة على الإطلاق. وفيها طاعة مطلقة شاملة كذلك لكنها تابعة لطاعة الله، ونابعة منها وهي الطاعة التي تثبتها الآية للرسول (ص) ولأولي الأمر “وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” والفارق بين طاعة الله الثابتة بالأصل، وطاعة الرسول (ص) وأولي الأمر الثابتة بالتبع، ولدخول الاوامر الاجرائية الحكومية في الثانية كُرِّر لفظ أطيعوا دون الاكتفاء بالعطف بالواو حيث لم تقل الآية: وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر فيكم. بينما جاءت طاعة الرسول (ص) وأولي الأمر بلفظ أطيعوا مرة واحدة من غير تكرار “وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم” وهذا يتناسب مع كون طاعة الرسول وأولي الأمر من جنس واحد وهي الطاعة التبعية، ومع اشتراك الطرفين في وجوب الطاعة بشقيها التبليغ والإجراء.
2- إذا ثبت الاطلاق لطاعة الرسول وأولي الأمر كما هو كذلك ثبتت العصمة لهم جميعاً، لأن الله عز وجل لا يأمر بباطل ولا اتباع باطل أبداً، ولا يجعل مرجعية عباده المطلقة في الأرض، ومن تنتهي عنده المنازعة، ولا يجوز أن ينازع فيما يأمر أو ينهي، وفيما يبلغ ويحكم ويقضي من أهل الضلال.
3- خاطبت الآية الكريمة المأمورين بالطاعة لله وللرسول وأولي الامر بأن يردوا منازعاتهم الجارية بينهم إلى الله والرسول، أما الرسول وأولي الأمر وهم أهل الطاعة المطلقة فلا يجوز النزاع معهم. والرجوع إلى الرسول (ص) هو الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، والرجوع إلى من يقوم مقامه عند الله بعده هو رجوع إليه وإلى الله عزوجل، ونعرف ذلك من كون طاعة أولي الأمر والرسول واحدة كما في الآية الكريمة.
حقا إنه مع مستوى الطاعة الذي قررته الآية لأولي الأمر، وهو بمرتبة واحدة مع طاعة الرسول (ص) لا يمكن فرض النزاع معه، كيف يكون ذلك وطاعتهم مطلقة؟! ولذلك لم تطرح الآية مرجعية للنزاع مع أولي الأمر، ولم تفرض نزاعاً معهم أصلا وإنما فرضته بين الذين أمرتهم بطاعتهم.
ولو أردنا جدلا أن نفرض مرجعية الكتاب الكريم للنزاع مع أولي الأمر فالنزاع قد يكون خلافا على الكتاب نفسه من حيث المضمون؟! وأما السُّنة فقد يجري الخلاف عليها سنداً ومضموناً، فأي الفهمين للكتاب يُحتكم إليه، وأي الرأيين في السنة من حيث السند والمعنى يصار إليه؟!
فلا الكتاب الكريم ولا السنة المطهّرة يمكن أن ينهيا النزاع بين الأمة وأولي الأمر لو فرضنا.
على أن المنازعة مع أولي الأمر قد لا تكون في حكم من أحكام الكتاب والسنة ليقال جدلاً بإمكان الرجوع إليهمان، فكثيراً ما يكون النزاع في تشخيص المعلومات، وتقديرات الخارج وموازناته والترجيح المتعلق بذلك مما ليس له تغطية من الكتاب ولا السنة. وشأن هذا الخلل- وحاشا الله- في التشريع بالنقص في هذه المسألة الأساس ألا تقوم للمسلمين دولة مستقرة، وأن يجعل حياتهم السياسية تحت رحمة الفوضى، ولا يحكمها غير منطق الحديد والنار.(12)
ب- عاشوراء: أقول عن عاشوراء كلمة مختصرة جداً:
يبدأ الإعداد لعاشوراء من هذه الأيام ويمكن أن يكون قد بدأ قبل ذلك، وهو اعداد على مستوى الأموال، والخطباء، وصيانة الحسينيات، والفرش، وصدور للطم، ودموع للسكب، إلى آخر القائمة من هذه الأشياء المادية.
أقول كل ذلك يساوي صفراً وربما إثماً وذنباً إذا لم تعدّ القلوب والنفوس، وتتخلص من حبّ الدنيا والتنافس عليها باسم الإمام الحسين عليه السلام؛ فإن في ذلك تشويهاً لثورته المباركة، وأهدافه الإلهية السامية. كل هذا لا يغرّ الحسين عليه السلام ولا يقبله ما لم يكن الإعداد على مستوى القرب الإلهي.
ثانياً: أسوأ الظلم:
1- كل الظلم سيء قبيح وأسود كالح. كان الظلم ظلماً في مال أو في نفس أو في أي حقّ من حقوق الدنيا، فإنه كله قبيح. ولكن الظلم في الدين أقبح وأسوأ وأشدّ خطراً وألماً.
2- حينما تسلب الناس إرادة أن يتعلموا دينهم وعقيدتهم وفقههم، وتجعل أمر ذلك بيدك، حين تأذن لهم يكون لهم ذلك، وحين لا تأذن لهم لا يكون لهم ذلك. حين تحرم الناس ان يتعلّموا أو يعلّموا دينهم الذي ارتضوه؛ ماذا يقال عن فعلك هذا؟ هو من أسوأ الاستبداد وأسوأ الظلم وأقساه وأقبحه وأفحشه.
3- هذا الأمر نفسه هو ما ترتكبه الحكومة عندنا وهي تطارد الحوزات النسويّة الدينية بحجة أنها بلا ترخيص رسمي. ونسأل: كيف تفرض الحكومة على الناس أن لا يُعلّموا دينهم لمن يحتاج إليه ويريد أن يتعلمه من خصوص أهله، وأن لا يتعلّمه أهله إلا حين تأذن؟! هذا تحكّم في دين الشعب، والغاء جائر لحرية الدين، واستبداد ليس فوقه استبداد.
4- وماذا تعلّم الحوزات غير العقيدة الاسلامية والفقه والمقدمات اللغوية والمنطقية المتعلّقة بذلك؟ أولا دين إلا ما رأته الحكومة أنّه دين، ولا فقه اسلامي إلا ما قررت انّه فقه اسلامي، ولا شريعة إلا ما امضته؟!
هذه المضايقات والمصادرات لدين الناس قائمة ومستمرة وشرسة بينما يستمرّ الحديث عن الحرية والديمقراطية والشفافية والأسرة الواحدة.
ربما كان الحديث عن الحريَّة صحيحاً، لكن في حقّ من يريد أن يعلّم المسيحية أو اليهودية أو المجوسية في هذا البلد. والحجر كل الحجر على من يريد أن يعلم الاسلام في بلد الاسلام.
لن نغلق حوزة واحدة بإرادتنا، وليشهد العالم على مصادرة الحرية الدينية وعلى إلغاء قيمة هذا الشعب، وعلى محاربة الاسلام حين تهجم الشرطة على حوزة من الحوزات.
ثالثاً: انسان لا قيمة له:
1- انسان لا قيمة له هو انسان هذا العصر، وذلك في نظر سياسة المادة القائمة في أكثر أقطار العالم.وكذلك دين لا قيمة له، هو الدين الصادق الذي لا يخدم السياسة الظالمة في هذا العصر المادي والذي تحكم فيه قيم الأرض.
2- هذه هي قيمة الانسان في سياسة اليوم، أن يقتل بمئات الألوف وبالملايين، ويشرد من أجل المادة. أدوية هذا الانسان وطبّه والمنتجات المستهلكة من قبله دخلها الغش من أجل المادة. الهواء الذي يتنفسه هذا الانسان على مستوى العالم يسمم لأجل المادة. أطفال ونساء يُتاجر بهم للجنس والمادة. تجهيل وتضليل وتخويف وارعاب للانسان من أجل المادة.
وفي بلد عربي عريق فنانات حسب التسمية الجاهلية المخادعة يوظفن للرقص المائع السخيف أيام عيد الفطر المبارك في الشارع أمام مراكز السينما المفسدة ترويجاً لبعض الأفلام الهدّامة، ليحدث هذا الرقص والأزياء المبتذلة في الشارع جنوناً للشباب المجوّع جنسياً من حيث الحلال بحيث يدفعه هذا الجنون في هياج حيواني شرس للتحرش الجنسي المكشوف بالنساء العفيفات ويصل الأمر لحدّ الظاهرة الواسعة الفاضحة المقيتة التي تشغل بال حتى الصحافة السافلة إلى حين. وفي البلد نفسه عطاءات سخيّة وتكريم للهو والمجون والرقص يجتذب إلى حدّ الظاهرة المتفشية عدداً كبيراً من الفتيات في الدراسات العلمية الجامعية للرقص وللمسرح الهابط.
من هي على طريقها للتخرج طبيبة أو مهندسة أو تمتلك اختصاصاً علمياً عالياً آخر، ومن صاحبات الدرجات الرفيعة في دراستهنّ يغادرن قاعات الدراسة إلى الملهى والمرقص لاختلاف الفرص. لأن هناك تكريماً وهنا إهمالاً إن لم يكن إهانة، لأنّ هناك عطاءات ماليّة وهنا يشحّ العطاء، ويضيّق على الكفاءات العلمية. وأنت تجد أن الفنانة في كل البلاد الاسلامية- إلا ما رحم الله- تعلو قدراً على كل فقهائها، وعلمائها، وفلاسفتها، وكتّابها الصادقين، وعلى كل الفئات المعطاءة.
والفنانة إنما يكرّم فيها فسقها، وإنما يكرّم في الراقصة إشباعها الجنسي لغرائز السافلين، وإنما يكرّم فيها دورها المفسد لفكر الناس وضميرهم.
والدين الحق تطارده السياسات المادية الظالمة وأنصارها من شبكات الفحشاء والمخدرات، وفنادق الجنس فكراً وأخلاقيّة، وممارسة تعليمية ومسجداً، ومؤسسات ثقافية في كل بلاد الأرض، وتخوض معه حرب تصفية نهائية من خلال تجفيف منابع التوعية، والمحاربة في الأرزاق الشريفة الحلال، ومن خلال نشر العهر والفحشاء والمتاجرة بالأعراض.
رابعاً: مليون دينار يساوي فلساً:
1- هذا الحساب واضح الخطأ، ولكنه صحيح في التعامل غير المسؤول مع المال العام.
2- يعاني المال العام من تسريبات غامضة، واختلاسات جائرة. ويكون للمدققين بشأنه لو وجدوا للدعاية أسئلة حائرة، وتواجههم في حساباته ضبابية وغموض، وموادر اجمال وسكوت عن التفاصيل، وكل ذلك في المفاصل المهمة من حركة هذا المال. قد يجدون ان عشرات الملايين قد طوي الكلام عنها، وعشرات أخرى أكثر منها لا تفسير لاختفائها، وأرقاماً هنا أو هناك يحتمل أن قد بلعها الاختلاس، أو ضيّعها الإهمال والتقصير.
3- يصحّ أن نقول بصدق في ضوء الفضائح والابهام والغموض مما يواجهه المهتمون والمدققون في حسابات المال العام بأنّ مليون دينار إنما تساوي فلساً واحداً أو أقلّ من فلس، فلا يبكي عليه باكٍ، ولا يتأسف عليه متأسف، ولا يندم ولا يتأثم. وكأن المبتلعين للملايين من المال العام من أمّة لا تعرف حلالاً ولا حراماً، ولا تشعر بقبح القبيح وجمال الجميل.
4- والمبتلعون للمال العام هم المتنفّذون، والمقدّمون، والمكرّمون، والوطنيون المخلصون الأوفياء، وهم عماد الوطن وعمّاره، وهم سرّ رخائه وأمانه وتقدمه ورقيِّه. أما الكادحون ليلاً ونهاراً من أجل لقمة الحلال فهم معادون للوطن، متآمرون عليه، ولابدّ من اقصائهم حماية له، وحفاظاً على مصالحه.
وهل الكشف عن حالات قليلة من الاختلاس مدروسة مقدّرة من أجل الشفافية والأخذ بالأمانة ومحاربة الفاسد، وللاصلاح؟
الحقيقة أن الإعلان عن الفساد جزئياً أوحتى كليّاً ثمّ السكوت عليه، ومواصلة النهب والسلب والاختلاس هو تطمين لمرتكبيه، وتشجيع لهم على الاستمرار في السلب، ومباركة لجرائمهم الشنيعة.
وإذا جاءت عقوبة فصل مثلاً لمختلس من المال العام لا لجهة الخيانة وإنما لجهة أخرى تمسّ مصلحة شخص أكبر منه أو غير ذلك مما لا يدخل في محاربة الفساد فهذا لا يؤدب ولا يردع أحداً وإنما يزيد الفساد فسادا.
وليرتقب الشعب مزيداً من الفساد والتلاعب والهدر للمال العام، وكرامة الانسان كلما طُورد الدين، وضُيّق عليه، وحُوربت كلمته، وخُنقت ثقافته.
5- يقال عن حكومة البعث في العراق أنها كانت لا توكل أمانة المال الذي تريد أن تهتمّ به في مورد تقتضي السياسة الاهتمام به إلا إلى رجل مؤمن يتقي الله ويخافه، ولا تسند هذه المهمة بالخصوص لأكبر بعثيّ لأن الحكومة تعرف من أصحابها ما تعرف في هذا المجال.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم عظّم في نفوسنا شأن الآخرة، وصغّر شأن الدنيا، ولا تجعلنا آسفين على ما فات منها، ولا فرحين بما آتيتنا من حطامها، واجعل نعمك علينا فيها آلة ننال بها جنتك، ونبلغ رضوانك، واكفنا شرّها، ولقّنا خيرها، واكتب لنا عاقبة المتّقين، واحشرنا مع الصالحين يا رحيم يا كريم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج1 ص52
2 – نفس المصدر السابق
3 – نفس المصدر السابق
4 – نفس المصدر السابق
5 – نفس المصدر السابق
6 – نفس المصدر السابق
7 – نفس المصدر السابق
8 – نفس المصدر السابق
9 – نفس المصدر السابق
10 – نفس المصدر السابق
11 – النساء 59
*- صيغ هذا الكلام في ضوء الآية الكريمة صوغاً جديداً بديلاً عما جاء في الخطبة ارتجالاً اجتناباً عن الغموض والتشويش.