خطبة الجمعة (264) 30 ذي القعدة 1427هـ – 22 ديسمبر 2006م
مواضيع الخطبة:
موضوع الأخوة في ضوء الإسلام + رحيل مرّ + العلماء والجماهير المؤمنة + بين الوطن وأبنائه + قضية البندر
شيخنا ألجمري العزيز جعل الله رحيلك من دار الفناء إلى دار البقاء رحيلا إلى السعادة والحبور والرضا والهناء، عظم الله لك أجر جهادك الطويل، وصبرك المرير، ووفائك لدينك وشعبك وأمتك، وصدقك في المواطن التي يشحّ فيها الصادقون. وعظّم الله لك أجر معاناتك للمرض المضني، وآلامك التي أعقبها جهادك.
الخطبة الأولى
الحمدلله الذي خلق الأرض وقدّر فيها أقواتها، ووفـّر فيها أسباب الحياة، وسهّل سبل المعاش، وفتح على عباده أبواب الرزق، ووهبهم العقل والإرادة للاستفادة من كنوز الطبيعة وثرواتها، وتطوير أوضاعهم بمساعدة بركاتها.
أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله، واستعمال النعم الإلهية في موضعها، وموضعها الصحيح منفعة العباد، والاستعانة بها على طاعة الربّ الغنيّ الكريم، ومصبّ طاعته سبحانه تكميل الانسان واخراجه من الظلمات الى النور، ومن الضعة للرفعة، ومن الخسة للكرامة، ومن خسران الحياة الى ربح الأبد. ومن وضع النعمة في غير موضعها، وانحرف بها عن طاعة ربه العظيم واستعان بها على معصيته كان في ذلك هوانه وهلاكه وخسرانه.
نعوذ بالله من قبح الرأي، وسوء الاختيار، ونكران الحق، وتحريف النعم، والتسبب للنقم. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات اجمعين وتب علينا وعليهم انك انت التواب الرحيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا من أتباعهم والآخذين بطريقتهم، والمتخلقين بأخلاقهم يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيها الطيبون والطيبات من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في:
موضوع الأخوة في ضوء الاسلام:
ونقرأ في هذا المجال بعض النصوص:
يقول الله تبارك وتعالى” إنما المؤمنون إخوة”
هناك أخوة النسب والتحدر من والدين او من احدهما وهي علاقة دم ولحم وعصب، وهناك أخوة مكتسبة تقوم على تمتين العلائق الخارجية ورعايتها والارتباط الشديد بواحد او اكثر من الناس، وهي اخوة تدور في فلك الصداقة ولكنها أخصّ منها بان يكون ذلك الصديق صديقا بمنزلة الأخ من الام والاب او هو اكبر من ذلك، وهناك أخوة الايمان وأخوة الايمان- فيما يرى- اذا كان لها اعتبار في الاسلام فليست هي مجرد اعتبار. أخوة الايمان تعني روابط روحية متينة، ورؤية فكرية مشتركة، تعني قلبين التقيا على خط الله عزوجل واهتديا بهديه فتوحد منهما الهدف وهو اكبر هدف، واشترك عندهما المنطلق وهو اصدق منطلق أي منطلق التوحيد، وصارت حياتهما منشدة الى منهج واحد وهو منهج الرسالة والانبياء والرسل والاولياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. إنها أخوة قلبين تعارفا على طريق الله وتآلفا وقد يلتقي أحدهما وهو في المشرق بالآخر وهو في المغرب، أخوة تتجه بالاخوين الى الله سبحانه وتعالى وتوحد بينهما على مستوى العقل والارادة والنفس بكل مشاعرها، وعلى مستوى الارادة على مستوى السلوك. هذا الامر ليس مجرد اعتبار، انه واقع تكويني لا تراه العيون ولكن تشعر به الارواح تماما. وربما كان هناك اعتبار للأخوة الاسلامية بقصد ان تترتب أحكام شرعية على هذه الاخوة إن لم تكن مترتبة أصلا على ما هو الواقع منها. ونجد بعض النصوص التي يظهر منها اعتبار الاخوة الايمانية في الاسلام وان هناك اخوة مجعولة بقصد ان تكون أرضية احكام تثبت في حق الاخ لأخيه. فيما كتب العسكري عليه السلام الى اهل قم وآبة: يقول العالم سلام الله عليه اذ يقول: المؤمن أخو المؤمن لأمّه وأبيه”1.
المؤمن قد لا تكون له أي صلة نسبية متعارفة بينه وبين أخيه المؤمن فكيف يكون أخاً له من أبيه وأمه لولا الاعتبار والتنزيل. يريد الحديث ان يقول أن أخاك المؤمن منزل ومعتبر اخا لك من أمك وأبيك فانظر الى حق أخيك من أمك وأبيك عليك فهو مترتب لأخيك المؤمن إلا ما استثني بالنص كالارث مثلا.
أيضا ” إنما المؤمنون إخوة ٌ بنو أب وأمّ، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون”2 وليس المعني بالاب والام هنا هو آدم لأن الأخوّة من آدم لا تقتصر على دائرة المؤمنين بل تعمّ كل الناس. فنجد في هذا الحديث عن الامام الصادق عليه السلام كذلك لغة الاعتبار للأخوة الايمانية.
وهذا الاعتبار كما سبق لا يأتي اعتباطا وانما يأتي بقصد ترتيب أحكام شرعية على موضوع الاخوة المعتبرة، فنجد في الحديث عن الكاظم عليه السلام شيئا من هذه الاحكام. ” المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله- كيف تخدمك عينك فتدرأ عنك مخاطر الطريق؟ المؤمن عينك يدرأ عنك مخاطر الطريق. وكلما عثر على خطورة في الطريق لم يترك لك ان تقع فيها- لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه- هي حقوق من حقوق الاخوة النسبية وكذلك هي حقوق من حقوق الاخوة الايمانية. ثم يقول الحديث- ولا يعده عدة فيخلفه”3
ونقرأ عن الصادق عليه السلام ايضا” المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد ان اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك منه في سائر الجسد وأرواحهما من روح واحد”4، هي روح الايمان، روح التوجه الى الله، هي نفخة الروح المتيقظة في داخل الاثنين والمتلألئة في عقلهما، وأقطار نفسهما. جسد واحد يتداعى بعض اعضائه لمشكلة البعض الاخر، وتسهر كل اعضائه من أجل سهر عضو واحد، المجتمع المؤمن لا يهدأ وفيه مؤمن مظلوم، المجتمع المؤمن لا يهدأ وفيه عضو فقير، المجتمع المؤمن لا يهدأ واحد اعضائه في مشكلة يمكن ان تزاح عنه.
انظروا الى العلاقة الواقعية بين قلبي المؤمنين، ” لكل شيء شيء يستريح اليه وان المؤمن ليستريح الى اخيه المؤمن كما يستريح الطير الى شكله”5، هذه ليست علاقة اعتبارية، هذا ليس امرا مجعولا بالجعل الشرعي انما هو امر مغروس في القلب، امر داخل في تكوين الروح، امر ينطوي عليه كيان الانسان المؤمن وهو ذلك الذي يجعله ينشد قلبه وتتهافت روحه على روح المؤمن الآخر.
يقول الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله” ان المؤمن ليسكن الى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن الى الماء البارد”6 ما آمن قلبان الا والتقيا وتآلفا، ما آمن قلبان الا واستراح أحدهما للآخر، ما آمن قلبان الا واطمأن واستأنس أحدهما للآخر، بحكم ذلك الوجود المعنويّ المشترك بينهما. “المؤمنون اخوة تتكافئ دماؤهم وهم يد على سواهم يسعى بذمتهم أدناهم”7، هذا الحكم أرضيته وموضوعه الاعتبار، ففي الاسلام أخوة شرعية تقتضي ان تتكافئ دماء المسلمين وتقتضي ان يكونوا يدا واحدة على من سواهم وان يسعى بذمتهم أدناهم.
وهناك اخوة ايمانية مشتركة بين كل المؤمنين، وهناك أخوة مضافة قوامها التعارف الشخصي وتمتين العلاقة الخارجية بالصلة والحضور الدائم في مشكلة الطرف الاخر والاقتراب الكبير من واقعه الفكري والنفسي والعملي ليكون التعاون والتناصر.
هؤلاء تسميهم الاحاديث باخوان الصدق، ” عليك باخوان الصدق واكثر من اكتسابهم فإنهم عدة عند الرخاء وجنة عند البلاء”8 ان لم تكن لك عشيرة او كانت عشيرتك غير مستعدة لان تشاركك حمل أعباء حياتك، وأن تشاركك حمل همومك، وأن تقف معك في المواقف المرهقة فان هناك طريقا مفتوحا تكتسب من خلاله اخوان الصدق ليكونوا أصدق موقفا معك من كثير من ذوي العلاقة عن طريق النسب. هؤلاء لهم مواصفاتهم بأن يكونوا مؤمنين، بأن يكونوا اخلاقيين، بشكل مجمل بأن يتحلوا بأخلاق الاسلام، وان يتزينوا عملا بزينة الإيمان.
” من لم يرغب في الاستكثار من الإخوان ابتلي بالخسران”9 هذا مكسب كبير يعين على حمل ثقل الحياة ويعين على الوصول الى الجنة، ونيل رضوان الله عزوجل وهو ان تكتسب اخوانا من اخوان الصدق، فحين يفرط احدنا في طلب هؤلاء الاخوان وهم أعز من الكبريت الاحمر فانه يوقع نفسه في خسارة في دنيا ودين.
ثواب على طلب هذه الاخوة وتأسيسها
كما في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله” من جدد أخاً في الاسلام بنى له الله برجا في الجنة” وربما يكون معنى الحديث انه عمل على هداية انسان للاسلام وبذلك ينضاف اخ جديد من اخوة الاسلام الى هذا الشخص، وقد يذهب الحديث الى ان المسلم الذي يطلب الاخوة الخاصة المضافة بالنسبة الى مسلم اخر يبني الله له برجا في الجنة، والمعنى الثاني أظهر.
” أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم”10 انت اذا اكتسبت اخا كريما في الله فقد أعثرك الله على كنز ثمين، وعلى سراج يعينك على انارة الطريق، يعينك على مدافعة الشيطان، يقف معك عند الملمات، فليس من العقل أصلا ان يضيع احدنا كنزا ساقه الله اليه هو اغلى الكنوز في الارض.
تنافس على المودة:
تقول الكلمة عن علي عليه السلام” لا يكونن اخوك اقوى منك على مودته” هو يودك وانت تقصر في مودته، فأنت أقل الأخوين شأنا, واخوك اكبر منك في هذه الاخوة حظا، ومن التنافس على الخير ان تسابقه على المودة واخلاصها.
” من حُبِّ الرجل دينه حبّه اخاه”11 عن الصادق عليه السلام. حقا اذا كنت احب الدين فلابدّ ان أحب القلب المتلالأ بالدين، واذا وجدت نفسي لا أحب مثل تلك القلوب فان قلبي لم يتلالأ فيه نور الايمان بقدر ما يكفي.
أنجد هذا الاثر لنعرف من انفسنا صدق الاخوة في الايمان وصدق قضية الايمان في داخلنا؟ ولنستعرض النفس أمام مضمون هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله و سلم” الا وان المؤمنين اذا تحابا في الله عزوجل وتصافيا في الله كانا كالجسد الواحد اذا اشتكى احدهما من جسده وجد الاخر الم ذلك”12 هل آلامنا مشتركة على مستوى القلب؟ هل افراحنا مشتركة على مستوى القلب؟ هل آمالنا مشتركة على مستوى القلب؟ ان كان ذلك فنحن نعيش اخوة الايمان وإلا فلا.
حديث مفصل عن العسكري عليه السلام” حب الابرار للابرار ثواب للابرار- أنت برّ واخوك برّ، حبّ أحدكما للآخر ثواب لكل منكما، فهذه الاخوة يرتب عليها الاسلام العظيم ثوابا اخرويا- وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار- لجاذبية في الابرار، لأخلاقية في الابرار، لنورانية وهدى في الابرار قد ينجذب الفجار لحبّ للأبرار وفي هذا فضيلة للأبرار- وبغض الفجار للابرار زين للأبرار- على حد وإذا اتتك مذمتي من ناقص..
وبغض الأبرار للفجار خزي على الفجار”13- الابرار لا يبغضون بغضا جاهليا، الابرار لا يبغضون عن حقد، عن تنافس على الدنيا، قلوب الابرار طاهرة متلألئة مضيئة فهي لا تبغض الا من بعد عن الله عزوجل، وفي ذلك شهادة على سقوط الفجار.
اللهم صل وسلم وزد بارك على محمد وآل محمد واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات اجمعين وتب علينا انك انت التواب الرحيم.
اللهم أصلح أمور المسلمين، واجمع قلوبنا على التقوى، واجعلنا عارفين بحقوق أخّوة الايمان، قائمين بها، ويدا واحدة على عدو دينك في الأرض, والكائدين بالمسلمين والمؤمنين من عبادك يا قوي يا عزيز يا من هو على كل شيء قدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
“إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا”
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا ينال منه الرضا، ويعفو به عن الكثير، ويعطي به الجزيل، ويرفع الدرجة عنده، ويكسب الكرامة لديه، أشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له. الجميل كله عائد اليه، والخير كله من عنده، والأشياء كلها منساقة لإرادته، ولا تقدير يخرج على تقديره، ولا قدرة لقادر الا من جهته، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله أرسله منقذا للناس من التيه والضلال، والتسافل والخسار، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
عباد الله أوصيكم ونفسي الامارة بالسوء بتقوى الله، والجد في طاعته، واستثمار العمر في رضاه، فليس بعد رضا المولى الحق مطلب، وليس فوقه سعادة، فمن كان الرضا الالهي هدفا اول له في الحياة لم يأتِ بقبيح خطير ولا محقور، ولم يفته جميل مقدور، وبذا يكون الكمال نصيبه. وهل السعادة الا في الكمال؟! وهل الشقاء الا في النقص؟! وأين يجد طالب كمال كمالا، وطالب سعادة سعادة الا على طريق الله، وفي العبودية الصادقة له؟! ولا كمال حقا وصدقا ولا سعادة الا من الكامل الحق المطلق والتعلق به.
اللهم اغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا انك انت التواب الرحيم، واجعلنا جميعا من أصدق عبيدك، وأخلص عبّادك، واقرب المقربين اليك، وأسعد السعداء بنيل جنتك والفوز بمرضاتك يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم على خاتم الانبياء والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الامين وصل وسلم على علي امير المؤمنين وامام المتقين وعلى الصديقة الزهراء فاطمة الطاهرة المعصومة وعلى الائمة الهادين المعصومين الحسن بن علي الزكي والحسين بن علي الشهيد وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي امرك القائم المنتظر وحفـّه بملائكتك المقربين وايده بروح القدس يا رب العالمين، عبدك وابن عبديك الموالي له المؤيد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات اجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الاخوة والأخوات في الايمان فهذه بعض وقفات قصيرة:
رحيل مرّ:
هو رحيل شيخنا العزيز أبي جميل الجمري رحمه الله وأجزل ثوابه، وهو مرّ ٌ في مذاق المؤمنين، مبارك عليه بفضل الله وكرمه.
شيخنا الجمري العزيز جعل الله رحيلك من دار الفناء الى دار البقاء رحيلا الى السعادة والحبور والرضا والهناء، عظم الله لك أجر جهادك الطويل، وصبرك المرير، ووفائك لدينك وشعبك وأمتك، وصدقك في المواطن التي يشحّ فيها الصادقون. وعظّم الله لك أجر معاناتك للمرض المضني، وآلامك التي أعقبها جهادك.
عظّم الله لكم أيها المؤمنون أجر فقدكم للرجل الصادق الذي عاش يذكركم وتذكرونه، ويخلص لكم وتخلصون له، ويضحي من أجلكم وتضحون من أجله، ويفديكم وتفدونه، ويقف معكم في مواطن المحنة وتقفون معه.
العلماء والجماهير المؤمنة:
هناك علاقة حميمة لا تنفصل ولا تنهدم قائمة بين العلماء وجماهير الامة المؤمنة، علاقة لا تقوم على التكلف، ولا تحتاج الى تلميع اعلامي، ولا يدخل في تقويمها بذل المال والمغريات المادية، ولا تتقيد بظروف الرخاء واللين بل قد يكون ظهورها الاشد في حال الازمات. ركائز هذه العلاقة حب الدين من الطرفين، وما ينبت في قلوب المؤمنين علماء وغير علماء من الخلق الديني القويم، ويدخل في هذه الركائز وبعمق توافي الضمير والفطرة، والاشتراك في الهم وارادة الخير والثقة المتبادلة.
يبذل الآخرون أمولاً طائلة وامكانات هائلة ويسعون السعي الحثيث لقطع هذه العلاقة بين جماهيرالامة المؤمنة وفقهائها وعلمائها ويرجعون بخيبة شديدة.
كثير من الاموال تبذل في هذا السبيل الا انها وكل المحاولات الاخرى تفشل بكل وضوح. التعبير عن هذه العلاقة يأتي عمليا وفي مواقف تضحوية وبعفوية ومن غير ثمن دنيوي. الأمة المؤمنة تبذل دمها رخيصا في سبيل الحفاظ على فقهائها طريقا الى الحفاظ على الدين، وفقهاء الأمة لا يرون لحياتهم وزناً اذا لم ينحفظ بها كيان الأمة. تتضح هذه العلاقة وترقى وتقوى وتشف كلما عاش العلماء للآخرة اكثر مما يعيشون للدنيا، وكلما حملوا وعي الرسالة بعمق وصدق، وكلما كانوا للأمة أكثر من كونهم لمصالحهم الضيقة الشخصية الدنيوية، وكلما سهروا على رعاية شؤون المستضعفين من ابناء الأمة، وجرى الحق على السنتهم، والبر على ايديهم. هؤلاء العلماء شحيحون وجودا، زاد الله فيهم، ويوم ان يزيدهم الله عددا وعدة تتحول كل اوضاع الارض، وليس ارضا خاصة وانما كل الارض ليتبدل الظلم عدلا، والخوف أمنا.
كل العلاقات تحتاج الى ترشيد ومنها علاقة جماهير الامة بعلمائها فهي بحاجة الى ترشيد ولن اقف مع هذه النقطة لانها قد تحتاج الى كلام طويل، وبصورة اجمالية:
تترشد هذه العلاقة: وتتعزز نتائجها الايجابية وانعكاستها الخيرة على كل الابعاد من حياة الأمة كلما قامت على الوعي وليس العاطفة فقط، وكلما تقاسم الطرفان الوظائف بالصورة الشرعية التي جاء بها الاسلام وكلما عبرت هذه العلاقة عن نفسها في شكل واقع متماسك وفاعل وموّجه في صورة دائمة ومنتظمة وعلى مستوى كل الايام وليس في المحطات الخاصة فحسب وعند الاحداث المفاجئة. وان كان يراد لهذه العلاقة ان تكون اكثر حضورا واشد فاعلية في المنعطفات الخطيرة، ومواقف الحسم ومواجهة التحديات الضخمة.
بين الوطن وأبنائه:
ابناء الوطن الذين خلقوا من تربته14، ونشأوا عليها، وتربوا فيها، واغتذوا منها، واعطوها من عرقهم وعرق الآباء والأمهات والاجداد، وهي مدفن أحبتهم وأهليهم منذ مئات السنين ولا يجدون بديلا عنها ولا وطن لهم آخر غير هذا الوطن. حبهم له لا يقتلع من القلوب، ولا مورد للتشكيك في ذلك، والمشكك يرتكب زيفا من الكلام، ويقف باطلا من الموقف. ومن كان وطنه هو مأواه ومرباه وليس له وطن غيره، وكذلك كان أمر آبائه وأمهاته، وحتى أجداده وأجداد أجدادهم ممن كانوا في أعماق الزمن المنصرم البعيد ونبت حبه لوطنه من أرضية هذا الواقع وفي ضوء عقيدة الايمان فلا يمكن ان يتمنى لهذا الوطن الا الخير والاعمار، ولأهله الا الأخوة والمودة والاحترام المتبادل والتراحم الصادق والعزة والحرية القويمة المسؤولة، والصلاح والاستقامة على طريق الانسانية الرفيعة والدين القويم.
وهل رأيت راشدا يهدم بيته خاصة وأن ليس له غيره، ويفسد مسكنه في حين لا مسكن ولا مأوى له دونه؟!
وإذا كان الناس يتفاوتون في الحب والوفاء فلا يعقل من حديث جنسية وله وطن آخر ان يكون أصدق حبّاً ووفاء للوطن ممن كان أصل وجوده ووجود أجداده الى مدى زمني بعيد قد مضى من هذه التربة، وما أعطته من طعام وشراب وما لها من نصيب هواء وشعاع.
فما لأناس ومنهم مجنسون حديثون يثيرون أسئلة غريبة حول محبة هذا الوطن ممن كان لحمهم ودمهم وكذلك سلسلة طويلة من آبائهم وأمهاتهم من منبت هذه التربة وأجوائها وقد أعطوا لإعمارها ما كان لهم من أيام وسنوات من عمر الانتاج الذي كان لهم على ظهر الارض؟!
وما لاناس يتولون شأن الحكم في هذه الأرض يصنّفون المواطنين أصنافا بعضهم يعطى وبعضهم يمنع، بعضهم يقرّب وبعضهم يقصى، حتى تصل الاخبار الى ان بعضهم يخطط ضده؟!
انها سياسة يخسر الجميع بها وحدتهم واخوّتهم وحريتهم، فهذا ما تفعله التفرقة- حسب النظر المتدبر- لأن التقريب والعطاء وان كان من حق المعطى اذا كان في ظل التفريق بالعطاء والمنع، والتقريب والتبعيد من غير نظر للكفاءة والامانة صار منّا، والمن يستعبد الاحرار، ويزداد ذلك اذا اشترط في العطاء والمنصب ثمن من غير نوع الولاء للوطن والاخلاص لقضاياه ومصالحه.
إن الحكم هنا مطالب بانتهاج سياسة جديدة تبني وحدة المواطنين ولا تفرقهم، وترص صفوفهم ولا تبعثرها، وتأخذ بالعدل، وتحتكم الى الكفاءة والأمانة، وأما الولاء للوطن فليس أحرص عليه ممن لا يجد وطنا غير هذا الوطن، ولم يعرف اجداده القريبون والبعيدون وطنا لهم دونه، وهذا واضح جلي.
حكـّموا الولاء للوطن لا للأشخاص، ومن كان من الاشخاص مخلصا للوطن وأناسه حقا فلن ينفصل الولاء للوطن عن ولائه ، على ان كل ولاء من بعد الولاء لله. ولا ثم ألف لا لأي ولاء لا يلتقي بولائه سبحانه وتعالى.
قضية البندر:
لا زال الشعب ومؤسساته وعلماؤه وكل أحراره ينتظرون كشف المغطى من هذه القضية، واتخاذ كل الاجراءات اللازمة في حق كل من يثبت دوره التآمري فيها، فهل يسمع للشعب، وينتصر للحق، ويحمى الوطن من مثل هذه المكائد، والفتن المحرقة؟!
كلمة اخيرة
نطالب باطلاق المعتقلين المغيبين الدكتور محمد سعيد وحسين حبشي بلا تأخير لأن الظاهر على دوافع التوقيف انها سياسية، والخطاب بهذه اللغة للشعب خطاب يتصف بالتشنج وعدم التناسب مع المرحلة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وآله واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات اجمعين وتب علينا انك انت التواب الرحيم.
اللهم لا سند الا أنت، ولا غوث الا منك، ولا انتصار الا بك، ولا مفر الا اليك، فأعنا وأغثنا وانصرنا، وأعذنا من كل شر نحذره أولا نحذره، واجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد، وارزقنا الخير يا خير الرازقين وأرحم الراحمين وأكرم الاكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج 1 ص42
2 – المصدر نفسه
3 – المصدر نفسه
4 – ميزان الحكمة ج 1 ص42
5 – المصدر ص43
6 – المصدر نفسه
7 – المصدر نفسه
8 – المصدر السابق
9 – نفس المصدر السابق
10 – المصدر ص44
11 – المصدر ص44
12 – المصدر ص44
13 – المصدر السابق
14 – نطفة هذا الانسان مصدرها ما أكل أبواه وشربا من أرض وطنهما وتنفسا من هوائه، واستفادا من أشعة الشمس المرسلة إليه.