المسجد بين الاستقلالية والتبعية ( آية الله قاسم )
استقلالية المسجد وإمام الجماعة والجمعة وتبعيتهما لجهة رسمية هل يستويان؟
لا أظنُّ أن يذهب ذاهبٌ إلى أن استقلاليتهما وتبعيتهما سواء، ولا أن التبعية أولى. وإن بين المسجد والمؤسسة الرسمية من حيث الوظيفة صوراً:
استقلال وظيفي: فالمسجد يتحدث في أمر، والسياسة تتحدث في أمر آخر. هذا مشغول بمساحة، وتلك مشغولة بمساحة. المسجد يتكلم عن الكفن والقبر والوضوء والغسل والحيض والنفاس، والسياسة تتحدث عن الحكم، عن المال، عن الإسكان، عن الاستيراد الحضاري، عن كل شيء يهمّ الحياة.
في هذه الحالة لا يكون شغل للسياسة بالمسجد، ولا تعيره اهتماما، ولا تتشاغل بشأنه أساساً. هذا النوع من المساجد لا يُبذل في مواجهته عليه فلس واحد من قبل السياسة.
صورة ثانية: تداخل وظيفي: تتحدث السياسة في الأحوال الشخصية، ويتحدث المسجد في الأحوال الشخصية، تتحدث السياسة في السياحة الحرّة، ويتحدث المسجد في السياحة الحرّة، السياسة تحتضن الربا، المسجد يرفض الربا، للسياسة طريقتها في تقسيم الثروة، وللمسجد رأيه واقتراحه في تقسيم آخر للثروة، إنه تداخل وظيفي واحتكاك بين المسجد والسياسة.
وهنا يسهل على السياسة بل يتوجّب على السياسة أن تبذل الكثير من أجل احتضان المسجد، توجيه المسجد، تعديل سياسة المسجد، السيطرة على المسجد.
مرة تتفق الرؤية بين الطرفين في الأحوال الشخصية، في السياحة الحرة، في الربا، في تقسيم الثروة، في كل مجال من المجالات، وهذا ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذه الحالة يكون تناصر وتكامل وتآزر بين المسجد وبين المؤسسة السياسية في كل مرافقها.
المسجد يدعم السياسة، والسياسة تدعم المسجد، المسجد يعمل على نجاح الدور السياسي في هذه الحالة، والسياسة تعمل على نجاح دور المسجد.
ومرة يكون اختلاف في الرؤية، وكل هذه المواضيع محل اختلاف في الرؤية بين السياسة وبين المسجد، وهذه حالة تقسم الأمة، تخلق الصراع في المجتمع، تجعل السياسة معادية كل المعاداة للمسجد، وتضطر المسجد لأن يقول الكلمة التي تضير السياسة. وفي هذا الفرض تأتي أهمية المسجد والسيطرة عليه من قبل السياسة.
ومنذ بدايات مفارقة الأمة خطّ إسلامها بدأت المفارقة بين المسجد والسياسة. وبدأ لونٌ من المواجهة بين المسجد والسياسة، وتكبر المواجهة كلما شطّت السياسة بعيداً عن طريق الدين، وكلّما حرص المسجد على أن يلتزم خطّ الرسالة.
عند اختلاف الرؤية إمّا أن يسكت المسجد على ظلم السياسة، ويتحول إلى شيطان أخرس، أو ينطق المسجد في صالح ظلم السياسة ويتحول إلى شيطان ناطق، والشيطان لا ينطق إلا بالباطل، والشيطان لا يسكت إلا عن الحق.
تنتهي مشكلة الصراع بين المسجد والسياسة عندما يتخذ المسجد للمسجد موقف الصمت من السياسة، ويكون الشيطان الأخرس عن النطق بالحق. ويكون التصالح، والتحاضن، والعلاقة الحميمة، والدعم الهائل للمسجد حين يتحول المسجد إلى شيطان ناطق، فينطق بما تريده السياسة، ويكون حقُّ السياسة حقاً عنده، وباطل السياسة باطلا عنده، وصديق السياسة صديقه، وعدو السياسة عدوّه. حينئذ يغنى المسجد، ويرتفع الشأن المادي للمسجد، ويأمن، وتصفّق السياسة للمسجد.
أما إذا اتّجه المسجد إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، فإن العلاقة ستكون مرهقة، وسيتعب المسجد، وإمام المسجد من أذى السياسة، وربما أغلق المسجد وطُرد إمام المسجد بقوّة السياسة.
إذا كانت الحكومة ستعطي رواتب بلا تبعية فذاك موضوع آخر، وإذا كانت ستعطي رواتب مع التبعية فهي الكارثة التي لا ريب فيها، وهو الموقف المحرج دينياً، والذي لا يمكن المساومة عليه، ولا اتخاذ موقف الصمت منه. نجح الموقف المعارض أو لم ينجح، فإنها الوظيفة الشرعية التي لا بدّ منها، والداخلة في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، والقول بالحق.
لا تردّد في أن رواتبَ مربوطة بالتعيين والفصل لإمام المسجد تمثِّل انعطافة خطيرة في تاريخ مذهبنا على الأقل، ومفارقةً لخطّ الأئمة عليهم السلام أقولها صراحة يلزمني الإسلام بها.
* هل التبعية مقرّرة أو ليست مقرّرة؟
كل الخلاف في هذه الجزئية، أما بعد أن تكون التبعية مقرّرة فلا أرى أحداً من المتشرّعة يقول بصحّتها.
التبعية قرّرها نظام الكادر في أكثر من مادة، وقُرأت المواد من على هذا المنبر في يوم من الأيام، والآن ارجع إلى أخبار الخليج يوم الثلاثاء يوم السادس عشر من الشهر الخامس من هذه السنة الميلادية فستجد تماماً أن المتابعة مقرّرة رسميّاً وأن لا فلس لأحدٍ لا يخضع لهذه المتابعة.
وأكتفي بقراءة بعض النصوص التي جاءت في المصدر الذي أشرتُ إليه:
“كما تختص الإدارتان – وهما تابعتان للشؤون الإسلامية – بتعيين الخطباء والأئمة والمؤذّنين في المساجد التابعة لهما وفصلهم وإنهاء خدماتهم” فليس للمؤمنين أن يختاروا إمام جماعتهم وجمعتهم، إنه الإمام الذي قد لا يرتضيه المؤمنون ولكن ترتضيه السلطة. التزكية ليست لكم التزكية للجهة الرسمية، وللجهة الرسمية حسب موازينها في التزكية التي قد تلتقي وقد تختلف عن موازين شرعية ثابتة تأخذون بها في هذا المجال.
وفي بندٍ آخر “وتتولّى إدارة الأوقاف تعيين الأئمة والمؤذّنين من خلال مجلسي إدارتيهما، ثم متابعة الأئمة للقيام بالمهام المنوطة بهم”، “وأن كادر الأئمة والمؤذنين الذي تمّ تفعيله من قبل الوزارة يُخضِع جميع الأئمة والمؤذنين إلى أنظمة الخدمة المدنية في المواظبة والانضباط، والعمل جارٍ على استصدار لائحة تتضمّن معايير ملائمة لمتباعة الأئمة والمؤذنين والتزامهم بعملهم بما يحفظ للمسجد هيبته ويحقق رسالته” لكن أي رسالة؟! ذاك لتقدير واضع النظام.
المدرّس يدخل وزارة التربية والتعليم تحت نظام معيّن ثم يتطوّر نظام التربية والتعليم يوما بعد يوم وتستجدّ تعاليم وتكاليف يُعفى منها أو هي ملزمة له؟ كل ما يجد من أنظمة ولوائح داخلية وتعليمات وتكاليف في أي وزارة تلتحق بها تثبت في حقك، فبعد الدخول في الوظيفة ستبقى خاضعا لكل مستجدّات هذه الوظيفة بكل تعاليمها وتكاليفها المستجدّة.
في فقرة أخرى في بند آخر “أمَّا الدروس فتتم ضمن برامج الوعظ والإرشاد التي تُعدّها وتنفذها الوزارة بوساطة وعّاظ معتمدين ومؤهّلين وهذه البرامج من أهم ما تقدّمه وزارة الشؤون الإسلامية لجميع شرائح المجتمع….” ثم في جملة أخرى “ويتم التنسيق بشأن البرامج المتعلّقة بالمساجد مع إدارتي الأوقاف والبرامج خارج نطاق المسجد مع الجهات التي ترعى المستفيدين أضف إلى ذلك أن هناك مجموعة من الوعّاظ المتطوّعين لإقامة الدروس في المساجد – انتبه إلى ما يأتي – يُسمح لهم بإلقاء الدروس في المساجد بعد اجتياز الامتحان من قبل لجنة شُكِّلت في ذلك وحصولهم على الترخيص اللازم” أسيطرة أكبر من هذه السيطرة على المسجد؟! أاستيلاء أكبر من هذا الاستيلاء، وأشمل من هذا الاستيلاء؟!
لقد جاء مثل عربي يصلح تطبيقه في هذا المورد “قطعت جهيزة قول كل خطيب” كل الجدل الدائر حول التبعية المشروطة في المشروع وعدم التبعية وأن الرواتب تُدفع تبرّعا وإحساناً أو تدفع قبال وظائف محددة وشروط معينة وتعيين وفصل وإنهاء خدمة، كل هذا النقاش يجب أن يتوقّف بعد صدور التوضيح في أخبار الخليج.
وبعد ثبوت التبعية والضرر هل يبقى تردّد في حرمة الدعم للمشروع؟ هنيئا لمن يأخذ مالاً ولا يُعطي قباله تنازلا عن دور المسجد، لكن هل هذا موجود؟ أيضيرنا أن توزّع الحكومة على الناس على كل فرد عشرة آلاف دينار؟ فلتوزّع على الناس عشرة آلاف دينار ولكن كل الكلام في السيطرة على الدين.
المسألة وكما ذكرت أكثر من مرة في تقديرنا وفي نقاشنا ليست مسألة رواتب كما قد يتصوّر، إنما المسألة مسألة التنازل عن دور المسجد أو عدم التنازل، المسألة مسألة تبعية المسجد للمؤسسة السياسية أو عدم تبعيته لها.
يبقى كلامٌ عن المعركة الوهمية المختلقة من السياسة، ويبقى موضوع آخر ولا وقت للموضوعين.
يبقى الكلام عن المجلس العلمائي واستهدافه وموقفه من هذا الاستهداف وأريد أن أؤكّد أن المجلس العلمائي غير مستعدٍّ نهائيّاً للدخول في المهاترات، ولا التنازل عن شخصيته المعنوية الدينية التي تجعله يسلك طريق الدين والحكمة والتعقّل والإخلاص للإسلام والمسلمين، والحرص على بقاء الصفّ الإسلامي موحّدا، وكذلك الصف الوطني.