خطبة الجمعة (229) 19 ذو الحجة 1426هـ – 20 يناير 2006م
مواضيع الخطبة:
تكملة لموضوع العيب + الواحد واحدٌ أو عشرات؟ + موائد عاشوراء
قد يقولون أنّ أهل مذهبين لا بد بينهما من عدل وعلى مستوى المذهب، وذلك يقتضي الأخذ بنظام الحصص. لكنّ هذا لا يستقيم مع شعار الأسرة الواحدة. ولا يستقيم مع ما نؤكّد عليه ونتمسّك به، ونطالب به من وحدة الأخوّة الإسلامية.
الخطبة الأولى
الحمد لله الرَّحمن الذي وسعت رحمتُه كلَّ شيء، الرَّحيم الذي لا تبلغ رحمتَه رحمة، الغني الذي لا يُستغنى عنه، العزيز الذي لا عزَّ إلا به، العليم الذي علم كلّ شيء من عنده، المهيمن الذي مرجع كلّ شيء إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وخوض الحياة على هدى من دينه، والأخذ بمنهاج الحقّ الذي جاء به رسله من عنده، فإن الحياة كثيرة المسالك، متعدّدة المناهج، وليس منها ما يسلك بأهله إلى السعادة الحقَّة إلا مسلك الدين، ولا ما يؤمن من التّعثّر والخسار إلا منهجه. فتَمسُّكّاً بمنهج الله، والتزاماً شديداً به، وإعراضاً عن مناهج الأرض، وترفّعاً عليها.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا شرَّ ما قضيت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، سبحانك ربّ البيت، تبارك وتعاليت.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تشقنا في دنيانا، وأسعدنا في أخرانا، ولا تمنعنا سيبك يا رحمن يا رحيم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فهذا حديث فيه متابعة لموضوع العيب الذي تناولته خطبة العيد السابقة:
متابعة لهذا الموضوع نقرأ هذه الجملة من النصوص مع وقفة قصيرة:
“عن المسيح عليه السلام: يا عبيد السوء تلومون الناس على الظن ولا تلومون أنفسكم على اليقين؟!”(1).
ربّما ظن أحدنا بأخيه سوءاً على أنّه يعلم من نفسه هذا السوء، مع ذلك يلوم أخاه، يعيبه، ويُشهّر به، بينما ينظر إلى نفسه بنظر الرّضى.
عيبي متيقّن، عيب أخي مظنون، أُركّز على عيب أخي، وأترك عيبي، وأُصالح نفسي على ذلك العيب.
هذه عبودية سوء، عبودية للنفس، ونسيان لله تبارك وتعالى، واشتغال بما يُلحق الذنب، وانصراف عمّا يُصلح النفس.
وتقول الكلمة عن الرسول صلى الله عليه وآله:”كفى بالمرء عيباً أن يعرف من النّاس ما يجهل من نفسه، ويستحيي لهم ممّا هو فيه، ويؤذي جليسه بما لا يعنيه”(2).
الجملة الوسطى “ويستحيي لهم ممّا هو فيه” لو ارتكب ولدي ذنبي لما رضيت له أن يرتكبه، ولأخجلني أن يرتكبه، وكنتُ أودّ له التّرفّع عنه، وسلامة شرفه وسمعته مما يلحقها من ذلك العيب السوء. عجباً، وكيف لا أستحي لنفسي مما أستحي منه لغيري!!
قد أسمع الخبر السوء عن أجنبي فلا يدخل ذلك الأجنبي في نفسي، ولا يأخذ منها موقع الرّضا، وقد تنقبض النفس من سماع خبر السوء في إنسان بعيد، وهذا الشيء لا يمرّ بها وهي تقترف الذنب بعد الذنب، وتتلبّس بالعيب بعد العيب.
العمى عن الذات، والاشتغال بالغير ينتهي بصاحبه إلى خسار كبير. قد تمتد يد الإصلاح من أحدنا إلى غيره، يحاول أن يُرمِّم نفسية الآخرين، وأن يدخل بالخير على ضمير الآخرين، وأن يُشارك في إصلاح سريرة الآخرين وهو في سبات عميق، وغياب كامل عن ذاته وداخله، وربما عمرت الأشياء من حوله ونسيت نفسي، وربما عمر شخص الناس من حوله بمشاركة من جهده بينما تبقى عمارة نفسه على خراب.
يريد لنا الإسلام أن نلتفت إلى ذواتنا، وإذا اشتغلنا بشيء أن نشتغل أول ما نشتغل بأنفسنا.
“من حاسب نفسه على العيوب، وقف على عيوبه، وأحاط بذنوبه، واستقال الذنوب، وأصلح العيوب”.
رئيس دائرة قد يُفتّش أوضاع دائرته كل يوم، ويحاول أن يقف على دقائق أمور دائرته، وأن تشمل نظرته حال كل موظّف من موظّفيه، ماذا يريد من ذلك كله؟ أن يتقن عمل دائرته، أن تتخلّص دائرته من العيوب، أن تكون دائرته نموذجاً يُرتضى.
نفسُك أهمّ بملايين المرّات من دائرتك، ولن تصلح نفس أحد وهو غافل عنها. لا بد من مراقبة النفس، مطالعتها كلّ يوم، بل متابعتها كل لحظة، فإن لها ضعفاً يعتريها كل لحظة، وإنّ لها غفلة قد تأخذ بها بعيداً عن مسارها في كلّ حين. نعم لابد من مطالعة النفس ومراقبتها ومتابعتها المتابعة التي تقف بي على عيبي، والوقوف على العيب أول خطوة في إصلاح ذات.
وهذا تعليم آخر من تعاليم الاجتماع في الإسلام، وتعاليم الاجتماع في الإسلام تُقدّم نظاماً اجتماعيا فوق كل نظام، تقول الكلمة عن الرسول صلى الله عليه وآله:”من ستر على مؤمن فاحشةً فكأنّما أحيا مؤودةً”(3).
أحدنا يبذل الجهد، يمضي الساعات، يتلفّت هنا وهناك لعلّه يسمع كلمة، لعلّ عورة مؤمن تنكشف له ليشتغل بتشهير ذلك المؤمن ونسفِ شخصيته. الإسلام يقول “من ستر على مؤمن فاحشةً”. تقف على الفاحشة من المؤمن فتسترها، تطلب إصلاحه بمكاشفته، وإن توقّف الإصلاح على الاستعانة بآخر تستعين بذلك الآخر بهذا القصد، أمّا ما عدا ذلك فليس لك أن تكشف عن فاحشته.
تُطلب للشهادة فتشهد مراعياً الموازين الشرعية، ولكنَّك لو شهدت وحدك أو مع اثنين آخرين، مع عدالة الثلاثة على زنا مؤمن لكون حظّك وحظ الإثنين معك أن تُجلدوا، وتُحفظ كرامة المؤمن.
“من علم من أخيه سيئةً فسترها، ستر الله عليه يوم القيامة”(4).
وليس منّا إلا من يحتاج إلى ستر الله يوم القيامة، فليتقدّم أحدُنا ليقول لإخوانه أنّي نظيف مائة في المائة، وأن لم تحدث مني زلّة طوال الحياة، وأنّي لو انكشفت لكم بالكامل لما رأيتم منّي طوال السنين إلا ما يُعجب، هل من أحد يتقدّم للناس ليقول عن شخصيته كلّ هذا؟ إذاً ليس أحدنا منا إلا وهو يحتاج إلى ستر الله.
وليتصوّر أحدنا وهو مقدّر في قومه، مقدّر عند طبقة الفقهاء، عند طبقة العلماء، عند طبقة المثقّفين، عند طبقة السياسيين فيأتي عليه يوم القيامة ليُكشف عن خزيه أمام كلّ الملأ. إنّ أحدنا ليتستّر بعيبه عن ولده، وعن زوجه، وعن أخيه وأبيه، عن القريب وعن البعيد، هذا المتستّر يوم يُكشف بالكامل، وتظهر شخصيته على حقيقتها، وأنها شخصية ساقطة كم يسقط في نفسه، وكم يتعذّب في داخله؟!
لنسمع هذا الحديث وهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله:”كان بالمدينة أقوام لهم عيوب(5) فسكتوا عن عيوب النّاس فأسكت الله عن عيوبهم النّاس(6) فماتوا ولا عيوب لهم عند النّاس، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم فتكلّموا في عيوب النّاس(7)، فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا”(8).
أتسعى لهدم شخصية أخيك ولا ينتقم الله له؟!
وهذه صفحة أخرى في هذا الموضوع:”أحبُّ أخواني إليّ من أهدى عيوبي إليّ”(9).
في الوقت الذي يكون على أخي أن يستر عيبي، وعليّ أن أستر عيوب الآخرين، إلا أنه عليّ أن أستقبل العيب يُنبهّني عليه أخي استقبال ترحيب، استقبال هديّةٍ محبوبة. إذا أهدى لي أخي كتاباً قدّرتُ هديّته، وقد يهدي أحدنا لصاحبه مالاً فيفرح بهديته، إلا أن هدية العيب يجب أن تكون أكبر في النفس، لأنها ستصلح لك أغلى ما عندك وهي نفسك، وإذا سلمت نفسُك فليعطب الشيء الذي في يدك فليس ذلك مهما كل الأهمية.
“ليكن أحبّ النّاس إليك من هداك إلى مراشدك، وكشف لك عن معايبك”(10). لا تستثقل، بل اتخد من مُرشدك محبوباً.
“من أبان لك من عيبك فهو ودودك، من ساتر عيبك فهو عدوُّك”(11). من ساترك أنت، يعني من لم يكاشفك بعيبك، من لم يدلّك على عيبك فهو يريد بك مكر سوء، يريدك أن تسقط بالكامل، يريدك أن يصل بك أمر الانحدار إلى أنك لا تستطيع بعد ذلك قومة ولا نهوضاً.
والآية الكريمة تقول، وهي تفتح لنا باباً آخر من أبواب هذا الموضوع:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }(12).
الهمزة كثير الطعن على غيره بغير حق، العيّاب لغيره بما ليس بعيب، واللمز: العيب، فهذا كثير الطعن على الناس بغير حق، عيّاب لهم ومن غير سوء.
وقد يُقال بأن بينهما فرقا، وأن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، أما اللمزة فهو الذي يعيبك في وجهك.
هذا دور تخريبي، دور إفسادي، لا يهدم بنايات، لا يحرق مزارع، لا يسرق متاجر، وانّما يهدم نفوسا، يحطم شخصيات، ينسف كيانات شريفة، يسقط الثقة بين الناس.
كلما كان رمز وكلما كان قدوة ساءه أن تكون في المجتمع قدوة صالحة، وأن يكون في المجتمع رمز خير فحاول أن ينال منه وأن يحطّمه.
“من بحث عن أسرار غيره، أظهر الله سبحانه أسراره”(13).
“لاتتّبعوا عورات المؤمنين، فإنّه من تتبّع عورات المؤمنين تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته فضحه، ولو في جوف بيته”(14). ينفضح عند أعزائه، وأقرب المقربين إليه، وأكثرهم معايشة له.
عن المسيح عليه السلام:”أرأيتم لو أنّ أحداً مرّ بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن عورته أكان كاشفاً عنها(15)أم يردّ على ما انكشف منها؟(16)قالوا:بل يردّ على ما انكشف منها، قال: كلا بل تكشفون عنها!..”(17).
بداية الخيط لعيب أخينا تطمع في أن نتتبع الخبر والحادثة حتى تكتمل الصورة لنا لنفضحه. المسيح عليه السلام يقول هذا دأبكم، هذه سيرتكم الغالبة فعالجوا أنفسكم.
التفاتة أخرى في موضوع يعطيه لنا هذان الحديثان:
“أبعد ما يكون العبد من الله(18) أن يكون الرّجل يواخي الرّجل وهو يحفظ عليه زلاته ليعيّره بها يوماً ما(19)”(20) عن الصادق عليه السلام.
أُصادق فلاناً فيكون عندي الحرص الشديد على تسجيل قائمة عيوبه في قلبي، يكون لي همٌّ بأن أحفظ كل عيب من عيوبه وكل عورة من عوراته، فهذا رصيد أحتفظ به ليوم عداوتي معه.
وفي الحديث الآخر عن علي عليه السلام:”حسب المرء… من سلامته قلة حفظه لعيوب غيره”(21).
ويقول الحديث عن علي عليه السلام في درس آخر:”لاتفرح بسقطة غيرك فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان”(22).
فلانٌ لا أرتاح له كثيراً، بيني وبينه شيء، تحدث منه الزلّة التي تفضحه يكون في ذلك يوم عيد لي، وهنا تخاطبني كلمة علي عليه السلام:”لاتفرح بسقطة غيرك فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان”.
حديثان أخيران:
“حسب ابن آدم من الإثم أن يرتع في عرض أخيه المسلم”(23).
يتّخذه كأنه حقل، ويقوم بدور الدّابّة في الأرض الخضراء، يرتع فيها، ويأكل منها، يقوم بعملية تصفية لعرض أخيه وشرفه وسمعته.
“مرّ عيسى عليه السلام مع الحواريّين على جيفة” فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا الكلب” فقال عيسى عليه السلام ما أشدّ بياض أسنانه”(24).
انظروا إلى الحسنات، انظروا بنظارة بيضاء للحياة، للأشخاص لا ينبغي أن يغلب عيب أحدنا على شخصيته في نظر الآخر. هذه الشخصية فيها حسنات، فيها أبعاد إيجابية، فلا تغفل الأبعاد الإيجابية لبعد واحد فيه نقص من أبعاد شخصية أخيك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
ربّنا أوسع علينا من رحمتك في الدنيا والآخرة، ولقّنا خيرهما، وادفع عنّا كلّ شر، وارفع عنا كل بلاء، وأنزلنا من كرامتك منازل الأولياء يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، ولا شريك يُعادله، ولا شبيه يُشاكله، ولا شيء يُضارعه، ولا أحد يضاده، ولا مَنْ يقاوم قدرته، ويناهض قضاءه، ويقف أمام مشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراًً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وتقديم مقتضاها(25) على مرضاة النفس ومشتهاها، وعلى راحتها ومبتغاها؛ فإن النفس لو عَقِلت لما فارقت وهي الحريصة على خيرها طريق التقوى، وما ركبت دون جادّتها طريقاً؛ فما من خير يُنال كما يُنال عن طريق التقوى، وما تُوقّي من شر عظيم كما يُتوقى منه بطريق التقوى، وما من نفس أحياها شيء كالتقوى، أو هدمها كغيابها عنها، وما من مجتمع يستقيم كما يستقيم بها، أو ينحرف كما ينحرف لتخلّفه عنها.
اللهم إنا نعوذ بك من نفسٍ لا تقوى لها، ومن قلب لا نور له، ومن روح لا معرفة لها، ومن شيطان مُضِلٍّ، وهوى جامح، وزيغٍ عن الحق، ونسيان للعاقبة.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولتك، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها المؤمنون فإلى هذه الكلمات:
الواحد واحدٌ أو عشرات؟
من حيث ذوات الأشياء لا نشك أن الواحد واحدٌ، والعشرة عشرة، ولا يكون الواحد عشرة، ولا العشرة واحداً.
لكن على طريقة رجل كألف يكون الواحد ألفاً والألف لا يساوي واحداً.
أسأل: نظام الانتخابات في البحرين مقياسه العدد، أو رجل كألف؟
مقياس أن الذات الواحدة تساوي ألف ذات في الواقع الخارجي ومن حيث العدد؟ قضيته مرفوضة عقلا تماماً.
إذا كان هناك مقياس مقبول بأن يكون الرجل عشرات فهو مقياس رجل كألف، لكن لماذا الرجل كألف في الدوائر الانتخابية والدين واحد، والقومية واحدة، والوطن واحد، والثقافة متقاربة؟ هناك مثقف وغير مثقف، وهنا مثقف وغير مثقّف، فنستطيع أن نقول بأن الثقافة أيضاً واحدة. على أن ما يسمى بالديموقراطية لا تُفرّق بين دين ودين، ولا بين قومية وأخرى، ولا بين مواطن ومواطن آخر. والقضية المطروحة هي قضية الديموقراطية.
وقد يقولون أنّ أهل مذهبين لا بد بينهما من عدل وعلى مستوى المذهب، وذلك يقتضي الأخذ بنظام الحصص. لكنّ هذا لا يستقيم مع شعار الأسرة الواحدة. ولا يستقيم مع ما نؤكّد عليه ونتمسّك به، ونطالب به من وحدة الأخوّة الإسلامية.
ولو سلّمنا بهذه المقولة فهل هذا مأخوذ به في مجال مناهج التعليم؟ مأخوذ به في التوزير؟ مأخوذ به في التوظيف؟ مأخوذ به في المنح الدراسية؟ مأخوذ به في الخدمات المدنية؟ مأخوذ به في الإسكان؟
في رأيي أن القضية ليست قضية مذهبية، وعندي سؤال: هل لو كانت المحافظة المفضّلة انتخابياً ترفع شعار المطالب السياسية كانت ستُفضل لمذهبها؟
يقيني لا، ولو أن المحافظة الشمالية كانت مسايرة، ولا ترفع شعار المطالب السياسية أبداً لأمكن أن تفضّل على أي محافظة أخرى ترفع هذا الشعار بغض النظر عن المذهب.
أنا أقول: بأن المسألة سياسية قبل أن تكون مذهبية، ولا تتعادوا يا شيعة ويا سنة()26.
على أن النظام الانتخابي العادل طريق الدستور العادل الذي يُولد ولادة طبيعية ومن خلال الإرادة الشعبية.
هذا ومصادر شوروية وحكومية حسب جريدة الأيام تستبعد إجراء تعديلات على رسم الدوائر الانتخابية قبل العام 2006م. أهو العدل؟ أهو الإصلاح؟ أهو التقدّم؟ أهو من إنصاف المواطن؟ أهو تطييب الخواطر؟ أهو الاستقطاب حول السياسة القائمة؟
موائد عاشوراء:
والمعني من الموائد هنا ما يُقدّم من طعام وشراب في أيام عاشوراء.
هل نحن معها؟ أو ضدّها؟ أو موقفنا حياديٌّ منها؟
أرى أن هذا البذل والإطعام مقوِّمٌ من مقوّمات عملية الإحياء، وأنّه قد ساهم كثيراً في الحفاظ على عملية الإحياء في الطبقات العادية، وعلى مستوى الناشئة والصبية، وأنّه مقدّمة عملية تسهِّل أن يُفيق الناشئ من بعد حين على قضية الحسين عليه السلام في أبعادها المعنوية الكبيرة، وأن يتعلّم العطاء والبذل منذ نعومة أظفاره في هذا السبيل.
وليتفرغ أكبر عدد ممكن من الناس للمجالس الحسينية ولحضور المواكب، وللإسهام في التظاهرة الكبرى الإيمانية في عاشوراء، وعلينا أن نسهّل مسألة الطعام والشراب في الأماكن العزائية العامَّة.
إن هذه الموائد تجتذب بعض المستويات التي لم يتح لها العمر أن تتنضّج في ضميرها، وفي وعيها قضية الحسين عليه السلام بأبعادها الإيمانية والثورية والمعنوية الكبرى.
وبَذْلُكَ في هذا السبيل يختلف عن بذلك لفقير، فقد يكون في بذلك للفقير التفات إلى الأمر الشرعي، ولكن قد يكون للعاطفة العاديَّة موقع في هذا البذل، وهي عاطفة حميدة مشكورة، وهي ذات لون خاص، أما العاطفة التي تجعلك تبذل في سبيل عاشوراء، وتطعم فهي عاطفة ذات لون ولائي لأهل البيت عليهم السلام، وبعدها بعد رسالي.
قد يأتي اقتراح بوضع هذا المال المبذول في عاشوراء في بدائل اقتصادية تعالج بعض المشكلات المعيشية والاقتصادية والثقافية وغيرها، هذا الأمر يُناقش:
نحن لسنا أمام خيارين فحسب، إما أن نبذل في عاشوراء أو في في المجالات الأخرى، إذ لا يضيق المال على المستوى الشعبي العام عن أن يقوم بالوظيفتين.
المجالات الأخرى لا تعيش حالة شلل، وإن كانت تعاني من نقص بلا ريب، ولكن حالة الفراغ التي سيُخلّفها التخلّي عن البذل في عاشوراء ضارّة جدا، وربما أثرت سلباً على عملية الإحياء، بل هو المظنون جدّاً.
والذي يُحرّك عملية البذل في هذا الموسم هو العنصر الولائي لأهل البيت عليهم السلام وبالبذل من منطلق هذا العنصر يزداد سَعَةً، وتركّزاً، وحيوية، ونشاطاً.
أما الاعتذار بحالة الفقر فهو اعتذار في غير مكانه: العراق عاش ظروفا صعبة، إيران عاشت ظروفا صعبة في وقت الحرب، باكستان بلد فقير، الهند بلد فقير، وكل الشيعة في هذه الأقطار يرتفع مستوى بذلهم بشكل ملحوظ جداً وسخيٍّ جداً في موسم عاشوراء، والبحرين ليست الأفقر من تلك الشعوب.
فلنتحدث عن تمويل المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأموال الضائعة بالإسراف في الزواج، والحفلات الأخرى، والإسراف في اللباس، وفي مناح كثيرة من مناحي الحياة.
نُضيف إلى ذلك بأن مشكلة الفقر، والمشكلة الثقافية، ومشكلة البعثات، المشاريع الاجتماعية هذه نستطيع أن نحمِّلّ مسؤوليتها الحكومة. أما عاشوراء فهو من مسؤوليتنا، ولا نرضى أن يتحمّلها عنّا أحد.
ووصيتي أن يتجنّب الإسراف في الطعام والشراب الذي يتجاوز حاجة الإحياء، وأن يبقى البذل سخيّا، والطعام والشراب كافيا في هذا الموسم، وأن لا يتنازل عن ذلك على الإطلاق.
وموسم عاشوراء يجب أن نحترس له كثيراً، وأن نتجنب أي ثغرة تضعف هذا الموسم.
ونلتفت إلى قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(27) ترك البيع لساعتين أو ثلاث ساعات من الأمة الإسلامية بكاملها، وترك كل الأشغال غير الضرورية كم من مليون، كم من بليون يذهب بها، وتتنازل عنها الأمة من أجل صلاة الجمعة؟!
إلا أن صلاة الجمعة، إلا أن ذكر الله، إلا أن التربية الإسلامية، إلا أن تركّز القيم يحفظ على الأمة حتى من الناحية المادية أكثر مما بذلت بكثير.
يُخرّج لنا حكّاماً، وزراء، مدراء، موظّفين، عمّالاً بضمائر حية، وبروح جدّيّة، ويقدّم لنا أهل أمانة كبرى، والمجال ليس مجال شرح مستوف للنقطة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا قلوبنا مشدودة إليك، وأبصارنا ممدودة إلى رحمتك، وأكفّنا مرفوعة إلى عطائك، وكلّنا مسكنة وخضوع وضراعة بين يديك نرجو غوثك وفرجك ووقايتك وحمايتك وسيبك وكفايتك، وأن تكتب لنا العز والنصر في الدنيا، والفوز بالجنة والكرامة يوم نصير إليك يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج7 ص 142.
2 – ميزان الحكمة ج7 ص 143.
3 – ميزان الحكمة ج7 ص145.
4 – ميزان الحكمة ج7 ص145.
5 – لهم عيوب حقيقية يعلمها الله.
6 – أي ستر منهم هذه العيوب، ومن علم من الناس هذه العيوب أسكته الله عن إفشائها جزاء لسكوتهم عن عيوب الناس.
7 – يعني لا عيب لهم إلا هذا العيب وهو “فتكلّموا في عيوب النّاس”.
8 – ميزان الحكمة ج7 ص145.
9 – ميزان الحكمة ج7 ص146.
10 – ميزان الحكمة ج7 ص146.
11 – ميزان الحكمة ج7 ص146.
12 – 1/ الهُمَزَة
13 – ميزان الحكمة ج7 ص148.
14 – ميزان الحكمة ج7 ص148.
15 – يتمّم كشف عورة أخيه، وقد رآى منها جزءًا مكشوفاً.
16 -أم أن هذا الجزء الذي انكشف منه يغطّيه.
17 – ميزان الحكمة ج7 ص148.
18 – هذا يُبعّد عن الله بعداً بعيداً جدّاً جدّاً.
19 – يوم الغضب، يوم العداوة، يوم أن تنتهي المصلحة.
20 – ميزان الحكمة ج7 ص149
21 – ميزان الحكمة ج7 ص149.
22 – ميزان الحكمة ج7 ص149.
23 – ميزان الحكمة ج7 ص151.
24 – ميزان الحكمة ج7 ص152.
25 – مقتضى التقوى.
26 – في المسألة تفصيل، ولكن الممارسة الطائفية في مواردها لها منطلق سياسي كذلك على الأغلب. وعلى كل تقدير فالمسؤولية مسؤولية حكومية لا فئة من الشعب. وعلى المسلم أن يتمنى الخير لكل أخوانه المسلمين.
27 – 9/ الجمعة.